الجمعة، مايو 23

النافذة المفتوحة


النافذة المفتوحة

قصة: هكتور مونرو "ساكي"

ترجمة وتقديم: ايـاد نصار

عرف بين أدباء عصره باسم ساكي او بالاصح ساقي في اشارة الى الساقي الذي ورد في رباعيات الخيام. وقد وردت عدة إشارات في بعض القصص التي كتبها الى الرباعيات للدلالة على أصل هذا الاسم المستعار الذي اختاره. يقول احمد رامي في ترجمته للرباعيات:

عيشي مِن أجلِ الطلى مستحيل
فإنَّها تشفـي فــؤادي العليـــــــل
ما أعــذب السـاقــي إذا قالَ لي
تنـاول الكـأس ورأسـي يميــل

وقال الشاعر المصري بدر توفيق أيضا في ترجمته للرباعيات:
حين تمر أيها الساقي كهذا القمر،
بين الندامى المنتشرين فوق هذا العشب كالنجوم،
إذا وصلت في طوافك البهيج مجلسي القديم،
أدر إلى التراب كأسا فارغة!

عاش الاديب الانجليزي هيكتور مونرو في الفترة بين عامي 1870 و1916 وقد عرف عنه أنه كان شديد النقد والسخرية من نمط الحياة في المجتمع الانجليزي في عهد الملك ادوارد انذاك. وكان قد ولد في ما يعرف الان باسم ميانمار (بورما سابقا) حيث كان والده يخدم بمنصب المفتش العام للشرطة في بورما التي كانت تحت الانتداب البريطاني . كما ماتت أمه بعد ولادته بسنتين من ضربة بقرة هائجة تسببت باجهاضها وموتها لاحقا. وقد ترك ذلك تأثيرا عليه بدا واضحا في قصصه. وقد عاش في لندن في بيت جدته لامه حيث عملت خالاته غير المتزوجات على تربيته، وقد عكس ذلك أيضا في قصصه. وقد مات شابا خلال وجوده على الجبهة الفرنسية في الحرب العالمية الاولى برصاص قناص ألماني.

أتهمه بعض النقاد أنه كان لديه ميول لمعاداة السامية حينما ذكر في احدى قصصه على لسان احد الشخصيات انه كان يخطط لمؤامرة لقتل كل يهودي!! كان شديد النقد لاسلوب الحياة المليء بالنفاق والشكليات الزائفة بين الاسر في المجتمع الانجليزي الادواردي في تلك الفترة ، ولكثير من التصرفات والمفاهيم الاجتماعية النسائية كما يظهر في هذه القصة ، كما امتاز باسلوب النهايات المفاجئة.

القصة:

قالت شابة يبدو عليها الهدوء ورباطة الجأش في الخامسة عشر من عمرها: " خالتي سوف تنزل حالاً، سيد نتل. وفي اثناء ذلك عليك أن تحاول وتتحمل معي".

حاول فرامتون نتل أن يقول الشيء الملائم الذي يستطيع أن يتملق به ابنة أخت السيدة هذه اللحظة كما ينبغي، من غير أن ينتقص من أهمية الخالة التي ستأتي. كان ينتابه شك بينه وبين نفسه أكثر من اي وقت مضى بجدوى هذه الزيارت الشكلية المتتابعة للغرباء في المنطقة أن يكون لها أثر يذكر في علاج الاعصاب الذي يخضع له حاليا.

" أنا أعرف كيف ستكون الامور" هكذا قالت له أخته عندما كان يستعد للهجرة الى هذا المعتزل الريفي.. أنك سوف تدفن نفسك هناك. ولن تجد كائنا تكلمه.. ستصبح أعصابك اسوأ مما كانت عليه من الكآبة. ولكن على كل حال ساعطيك رسائل تقدمك الى كل الاشخاص الذي أعرفهم هناك. ان بعضهم ان لم تخني الذاكرة كانوا جد لطيفين".

تعجب فرامتون ان كانت السيدة (سابلتون) المرأة التي يقدم لها الان واحدة من رسائل التعريف التي معه تندرج ضمن المجموعة اللطيفة.
تساءلت ابنة اخت السيدة سابلتون بعدما شعرت أن فترة صمت طويلة قد خيمت على حديثهما:" هل تعرف أناسا كثيرين هنا؟"

- بالكاد أعرف واحدا.. واضاف:" أختي كانت تقيم هنا.. في بيت القسيس قبل حوالي أربع سنوات. وأعطتني رسائل تقديم الى بعض الناس هنا". قال فرامتون نتل جملته الاخيرة بنبرة تنم عن اسف بالغ.

- اذن عمليا انت لا تعرف شيئا عن خالتي؟؟ سألته الشابة الصغيرة المعتدة بنفسها

- قال معترفاً: "اسمها وعنوانها فقط"

كان نتل في غمرة من العجب.. هل السيدة سابلتون متزوجة؟ أم ارملة؟ شيء ما غير محدد في الغرفة يعطي احساسا بأن هذا مسكن للرجال.

قالت الشابة: "مأساتها الكبيرة حدثت منذ ثلاث سنوات خلت فقط .. وأردفت:" لا بد أن ذلك حدث ايام كانت أختك هنا".

- مأساتها؟؟؟ سأل نتل بدهشة. المآسي في هذه البقعة الريفية الهادئة تبدو عديمة الحدوث!

- "ربما تتعجب لماذا نبقي تلك النافذة مفتوحة على مصراعيها دائما بعد الظهر في اكتوبر" قالت الفتاة وهي تشير باصبعها الى شباك فرنسي ضخم [من النوع الذي يستخدم كشباك وباب في آن معا] يطل على مرج أخضر.

أجاب فرامتون: الجو دافئ تماما في مثل هذا الوقت من السنة، لكن هل لتلك النافذة علاقة بالمأساة؟؟
- "الى الخارج عبر تلك النافذة رحل زوجها واخواها الشابان لعدة أيام للصيد كعادتهم قبل ثلاث سنوات في مثل هذا اليوم تماما ... لكنهم لم يرجعوا أبدا.. لقد غاص ثلاثتهم في جزء غادر من المستنقع بينما كانوا يقطعونه الى بقعة الارض المفضلة لديهم حيث طيور البكاسين الصغيرة الجميلة .. لقد كان صيفا رطبا ومروعا .. والاماكن التي كانت دائما آمنة في السنوات الاخرى تغيرت فجأة دون تحذير .. لقد ابتلعت أجسادهم فغابوا فيها الى الابد.. كان ذلك الجزء المروع منها".

وفقدت الفتاة نبرة الصوت الواثق، وتحول الى صوت متلعثم مضطرب: " مسكينة خالتي.. تعتقد أنهم سيرجعون يوما.. هم والكلب البني الصغير الذي ضاع معهم، وسيمرون عائدين عبر تلك النافذة كما فعلوا دائما. لهذا السبب تبقى النافذة مفتوحة كل مساء حتى تغرق الدنيا في الظلام .. مسكينة خالتي العزيزة .. لقد أخبرتني مرارا كيف رحلوا. كان زوجها يحمل معطفه الابيض المقاوم للماء فوق ذراعه، وأخوها الاصغر رونيه يغني: (بيرتي، لماذا تقفزين)*؟؟ كلما أراد أن يضايقها ويعذبها لأنها قالت ذات مرة أن هذه الكلمات تثير أعصابها. هل تعلم أنه ينتابني احساس داخلي مخيف أحيانا في الامسيات الهادئة الساكنة كهذه يقول أنهم جميعا سوف يرجعون عبر تلك النافذة".

وتوقفت فجأة عن الكلام، وانتابتها رعدة خفيفة ..

كان شيئا يبعث على الارتياح بالنسبة لفرامتون عندما دخلت الخالة الى الغرفة باستعجال وجلبة وهي تكيل الاعتذار عن تأخرها في ترتيب مظهرها.

قالت: " أرجو أنك تسليت بعض الشيء بحديث فيرا"

- لقد كانت ممتعة جدا.

-أتمنى أنك لا تكترث او تمانع لهذه النافذة المفتوحة. واضافت السيدة سابلتون برشاقة: سيعود زوجي واخواني الى البيت مباشرة من الصيد، وهم يأتون عادة من هذه الطريق .. لقد خرجوا لصيد طيور البكاسين في المستنقعات اليوم .. وبالتأكيد سيرسمون خطى جميلة بأقدامهم فوق السجاد المسكين!! مثلما تحبون أن تفعلوا ذلك ايها الرجال، اليس كذلك؟!

وراحت تثرثر بمرح وابتهاج عن الصيد وندرة الطيور، وامكانية العثور على البط في الشتاء.. بالنسبة لفرامتون كان كل ذلك رعبا محضا. وبذل جهدا مستميتا في تحويل الحديث الى موضوع آخر اقل اثارة وترويعا، ولكنه لم ينجح تماما. أحس أن مضيفته توليه جزءا يسيرا من انتباهها، وأن عيونها تتجاوزه لتبقى تحدق في التافذة المفتوحة والمرج الأخضر خلفها. كانت بالتأكيد مصادفة تعيسة الحظ تلك التي جعلته يقوم بزيارته هذه في يوم الذكرى المأساوية.

- "وافق الأطباء على اعطائي استراحة تامة، والابتعاد عن أي نشاط ذهني، وتجنب أي تمرين بدني ذي طبيعة عنيفة" صرح فرامتون الذي احتمل الوهم الشائع على نحو كبير بأن المعارف العابرين والغرباء على السواء تواقون الى معرفة الحد الادنى من التفاصيل عن علة أحدهم اذا مرض أو ضعفه في كبر السن: السبب والعلاج فقط. وتابع قائلا:" أما بشأن الحمية فان الاطباء غير متفقين تماما".

- كلا؟ قالت السيدة سابلتون بصوت أعقب تثاؤبا في اللحظة الاخيرة. ثم أشرقت ملامحها فجأة في انتباه يقظ، ولكن ليس الى ما كان يقوله فرامتون. وصاحت:" هاهم عادوا أخيرا .. في موعد تناول الشاي.. ولا يبدو عليهم أنهم كانوا غارقين في الطين حتى آذانهم"!

ارتعش فرامتون قليلا، واتجه نحو ابنة الاخت بنظرة تحمل مشاعر التعاطف واستيعاب الموقف.. كانت الفتاة تحملق هي الاخرى النظر الى الخارج عبر النافذة المفتوحة والرعب العميق باد في عينيها. وانتابت فرامتون قشعريرة مفاجئة من خوف غامض، فاذا به يستدير في مقعده وينظر في نفس الاتجاه.. كانت تبدو في حمرة الافق التي تغطي الكون، والشمس في آخر لحظات الوداع مع الدنيا ثلاثة خيالات تمشي .. تقطع المرج الاخضر نحو النافذة.. كانوا جميعهم يحملون بنادق تحت أذرعهم.. وواحد منهم يحمل معطفا أبيض على كتفه.. وكلب بني صغير يمشي متعبا في أعقابهم.. اقتربوا من المنزل بدون اي صوت أو ازعاج.. ثم دوى صوت قوي أجش يغني عند الغسق:" أنا قلت ..(بيرتي.. لماذا تقفزين؟)"

شد فرامتون قبضته بعصبية على عصاه، وتفحص قبعته وخرج مسرعا هائجا عبر باب حجرة الجلوس والممر المرصوف بالحصى والبوابة الخارجية التي أصبحت معتمة قليلا.. فاضطر راكب دراجة كان يسير في الشارع أن يقتحم بها السياج ليتجنب اصطداما كان وشيكاً... " ها نحن هنا يا عزيزتي" قال الذي يحمل معطفا أبيض واق من المطر، وهو يدخل من النافذة الكبيرة... وأردف:" الطين يغطينا تماما.. لكن معظمه قد جف.. من كان ذاك الذي اندفع خارجا عندما وصلنا؟؟

أجابت السيدة سابلتون: "رجل غير عادي جدا.. السيد نتل". واضافت قائلة: "لايتكلم الا عن مرضه فقط .. وانطلق خارجا بعنف دون أن يقول كلمة وداع واحدة أو يعتذر لك عندما وصلت. يكاد المرء يظن أنه رأى شبحاً".

قالت ابنة الاخت بهدوء: "أنا أتوقع أنه الكلب الصغير.. لقد أخبرني أنه يخاف من الكلاب .. فقد حاصرته ذات مرة مجموعة من الكلاب المتشردة في مقبرة في مكان ما على ضفاف نهر الجانج بالهند .. فلم يكن أمامه سوى أن يمضي الليل بطوله في قبر فارغ يبدو أنه قد حفر حديثا بينما بقيت الكلاب تعوي وتزمجر وتكشر عن أنيابها وتزبد فوقه، وهذا كاف لأي انسان كي يفقد أعصابه"!

كان ابتداع المغامرات الخيالية في وقت قصير لعبتها!
* بيرتي، لماذا تقفزين؟: كان عنوان أغنية شائعة في مطلع القرن العشرين. ولكن هناك تلاعب مقصود بالالفاظ . فالمقصود ليس تقفزين ولكن لماذا تسيئين ادب التصرف مع الاخرين!

هناك تعليقان (2):

  1. أشكرك سيدي شكراً جزيلاً ، قضيت الساعات وأنا أبحث عن ترجمة لهذه القصة .. فكان أن وجدتها هنا ..

    ممتنة لك جداً :)

    .
    .

    ردحذف
  2. غير معرف4:22 م

    السلام عليكم
    سلمت يداك استاذ اياد عمل ممتاز فعلا منتهى الدقة والتفوق امضى قدما نحو التالق كما عودتنا يا رمز الاجتهاد والتالق مع تحيات عفاف

    ردحذف