الجمعة، فبراير 19

سالينجر.. الموت يعيد روائي التمرد الاجتماعي الى الحياة




سالينجر: لم أمتلك الشجاعة لأقرر أنني لا أحد.
سالينجر.. الموت يعيد روائي التمرد الاجتماعي الى الحياة!


اياد ع. نصار
لن يبقى الستار مسدلاً على حياته كما أراد، ولن يُطوى فصل مملوء بالتمرد والاغتراب والعزلة وممارسة المعتقدات الشرقية الى الابد كما تمنّى، بل ستزداد وتيرة الكشف عن تفاصيل حياته وأعماله منذ الان بعد أن كافح طويلا في منع "الدخلاء" من انتهاك عزلته، وخاض نزاعات في سبيل إبعاد الاعلام والشهرة عن الطريق الى بابه في أروقة المحاكم. وربما يصبح أيقونة للتكهنات وافكار الدارسين المدفوعة بحب الفضول، وشهوة الباحثين عن الاسرار الخفية في حياة أديب ملأ الدنيا وشغل الناس برواية يتيمة حتى صارت من أشهر روايات القرن العشرين. ومما يثير الفضول فعلا أنه، برغم مضي ما يزيد على أربعة عقود منذ آخر عمل نشره والى لحظة وفاته، بقي حياً في ذاكرة الادب والصحافة رغم سعيه الذي لم يكلّ يوماً في أن يطويه النسيان.


توفي في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني لهذا العام الكاتب الذي توقف قلمه عند رواية واحدة وعدة مجموعات قصصية قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً. عاش سالنجر ومات في عزلة مثل البطل الذي صنعه، لكنه بقي على الدوام رمزاً للتمرد والغموض، وألهب خيال أجيال من الشباب في سعيهم للوقوف بوجه المجتمع وازدرائه، وصارت روايته رمزاً للإغتراب والتمسك بالبراءة بعيداً عن عالم الكبار وزيفه المقنّع. لقد ارتبط اسم جيرومي ديفيد سالينجر المعروف اختصاراً باسم جي دي سالينجر بأدب التمرد الاجتماعي ولغة رجل الشارع العادي دون تشذيب، التي طالما أثارت الكثيرين ضد روايته "الحارس في حقل الشوفان".


ولد في مستهل العام 1919 في مدينة نيويورك لأب يهودي وأم مسيحية. كانت دراسته المتقطعة في جامعتي نيويورك وكولومبيا انعكاساً لحياة بطل روايته كما جسدها هولدن كولفيلد. كرس سالينجر شبابه للكتابة حيث نشر مع مطلع العام 1940 العديد من القصص القصيرة. ولم يقطع حماسته للكتابة سوى نشوب الحرب العالمية الثانية التي التحق بها مجنداً، ولما انتهت عاد مجدداً للكتابة، بخاصة في مجلة النيويوركر. أثار انتباه النقاد والقراء، مثلما أثار سخط الكثيرين من المحافظين بروايته التي نشرت في العام 1951. تسرد الرواية قصة طالب مدرسة داخلية متمرد يحاول الهرب من عالم الكبار "الزائف". تستمد الرواية أحداثها وشخصياتها من شخصيات قصتين من قصصه القصيرة اللتين نشرهما ما بين عامي 1945 و 1946 وهما "هذه الشطيرة ليس بها مايونيز"، و"أنا مجنون".


وعلى إثر انتشار موجة الرفض الاجتماعي التي جسدها الشباب في الغرب، والتي ظهرت، منذ النصف الثاني للقرن العشرين، بشكل جلي في صورة الاهتمام بالمعتقدات والاديان الاسيوية الشرقية، اعتنق سالينجر البوذية، كما صار بعد ذلك تلميذا مخلصاً لتعاليم سري راما كريشنا وهي نوع من التعاليم التأملية الهندوسية. وتحفل قصصه بالكثير من الاشارات الى هذه المعتقدات مثل مجموعته "تسع قصص" في العام 1953.


أصدر سالينجر مجموعة قصصية بعنوان "فراني وزوي" في العام 1961، كما أصدر في العام 1963 مجموعة أخرى بعنوان "ارفعوا عارضة السقف عالياً أيها النجارون". ومنذ ذلك الحين اختفى عن الساحة الادبية، وأسهمت عاداته في العزلة، والابتعاد عن الاضواء، ورفض المقابلات الصحفية، والتوقف عن النشر.. أسهمت في إحاطة حياته بالغموض الذي صار يغري بعض الباحثين والناشرين بالبحث عنه من أجل تقديم سيرة حياته أو أعماله. ولهذا فقد بيعت مؤخرا رسائل كتبها سالينجر الى فتاة أحبها في العام 1972 بمبلغ 156 ألف دولار في قاعة سوذبي للمزادات العلنية. كانت الفتاة التي تدعى جويس ماينارد آنذاك طالبة في الثامنة عشر في جامعة ييل (Yale) وقد تركت الجامعة وعاشت معه مدة تسعة أشهر.


تبرز الرسائل تعلق سالينجر المتزايد بالمرأة ورغبته الملحة في حماية مصدر ابداعه من وهج العالم الخارجي. وقد أصبحت هذه المرأة، في ما بعد، كاتبة،ً ونشرت رواية ساخرة بعنوان "الموت لأجله"، كما نشرت مذكرات أثارت الكثير من الجدل لكشفها عن علاقتها بسالينجر، وذكرت فيها أن سبب طلب سالينجر للعزلة قد نبع من رغبته في الخصوصية نتيجة علاقاته النسائية المتعددة، والتي قد يؤدي الكشف عنها الى تلطيخ سمعته الادبية. وذكر سالينجر في رسالة مؤرخة في العام 1974 الى مجلة نيويورك تايمز أنه مستمر في الكتابة لنفسه فقط، ولن يسمح لأحد إطلاقاً بالاطلاع على ما يكتب. ولعل جملته الشهيرة تلخص هذا الموقف: "لقد سئمت من حقيقة أنني لا أمتلك الشجاعة لأكون لا أحد مطلقاً"!


خاض سالينجر نزاعات قانونية عديدة للحفاظ على عزلته؛ فقد استطاع، ومن خلال القضاء، إجبار كاتب سيرته الادبية غير المصرح بها إيان هاملتون أن يعيد صياغتها ويسقط منها اقتباس الكثير مما أخذه من رسائله الشخصية. وفي العام 2009 خاض مع محاميه معركة قضائية ضد كاتب سويدي شاب ألف كتابا بعنوان "الخروج من الشوفان بعد ستين عاماً" ونشره في بريطانيا. لقد وجدت عبارة بطله هولدن: "إياك أن تخبر أحداً أي شيء. اذا فعلت ذلك، فإنك تبدأ ساعتها بفقدان الاخرين" تطبيقها العملي في حياة مؤلفها!


رواية الجنس والوهم والهذيان
لعل هذه الفقرة التالية من الرواية، والتي أعطت العمل اسمه، هي الاكثر شهرة فيها، وتعكس رمزية العنوان وقيمته الدلالية، حيث ينشد البطل هولدن كولفيلد أغنية حول حارس يراقب الاطفال في حقل شوفان. وكلمات الاغنية مأخوذة من قصيدة للشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز. ويتضح من النص رغبة البطل في أن يلعب دور المنقذ للاطفال، كأنما لسان حاله يقول أن بإمكانهم أن يستمروا في فعل ما يريدون ببراءة، ولكنه سيكون دائماً هناك ليتأكد أن لا أحد سيجتاز الحدود الخطرة:


"أبقى أتخيل كل هولاء الصبيان الصغار يلعبون لعبة ما في حقل الشوفان الواسع. الآلاف من الصبيان الصغار ولا أحد حولهم ، أقصد من الكبار، سواي. وأنا أقف على حافة المنحدر المجنون. ما ينبغي علي فعله أن أمسك بكل واحد منهم اذا اقترب من الحافة. أقصد إن بدأ بالركض ولم ينتبهوا الى أين يتحركون، فعلي أن أخرج من مكان ما وأمسك بهم. هذا كل ما ينبغي علي فعله. علي أن أكون حارساً في حقل الشوفان وكل مكان. أعرف أنه جنون، ولكن هذا هو الشيء الوحيد الذي أرغب فعلا في القيام به".


يفتتح الراوي هولدن كولفيلد الرواية بالتأكيد أنها ليست قصة حياته. تبدأ الرواية من نهايتها حيث نراه في مركز للرعاية النفسية يتذكر ما حصل معه العام الماضي في فترة الاحتفال بعيد الميلاد. هولدن طالب داخلي في مدرسة اعدادية، يبدو للآخرين غير مسؤول أو ناضج، وقد طرد من المدرسة لأنه رسب في أربع مواد من أصل خمس. ولم تكن هذه أول مرة؛ فقد سبق أن طرد من أربع مدارس قبلها. يخبره مدرس التاريخ بأن الحياة لعبة وعليه أن يلعبها وفقاً للقواعد. وفي ليلة خروجه يكتشف هولدن بأن زميله سترادليتر قد أقام علاقة جنسية مع صديقته جين غلاهر، فيؤدي ذلك الى عراك بينهما، ويترك هولدن المدرسة ويعود الى نيويورك، وفي الطريق وأثناء ركوبه القطار ينتحل اسم رودلف شميت. يقيم هولدن في فندق، وهناك يرى بعض الاشياء التي تثير فيه الرغبة في ممارسة الحب. ولكن النوادي التي يذهب اليها والنساء اللواتي يلتقيهنّ يثرن اشمئزازه بسبب سلوكهن المزيف.


بعد أن ترك الفندق، أخذ يبيت في محطة القطار حيث يلتقي راهبات ويتحدث معهن عن روميو وجولييت، ثم يلتقي صديقته سالي هيز، ومن دون مقدمات يعرض عليها الزواج. لكن سالي تخبره أنها تحب شخصا آخر، وعندما يسمعهما يشعر بالاشمئزاز من الاسلوب المصطنع الزائف للحوار. يدعو هولدن صديقته للهرب والعيش معه، ولكنها ترفض فيرد بطريقة جارحة تدفعها للبكاء.


يسيطر موضوع الجنس على تفكير هولدن الى درجة أن صديقه في جامعة كولومبيا يدعوه ان يراجع طبيبا نفسياً، ولكنه يشرب حتى يثمل في الحانة ويظن أنه مصاب بذات الرئة. يعود الى البيت ويخبر شقيقته فويبي أنه طرد من المدرسة وأنه ينوي السفر الى مزرعة في كولورادو، فتعنفه على هذه الافكار، ولكنه يقول لها إنه يريد أن يصبح حارساً في حقل شوفان لينقذ الاطفال من السقوط من منحدر. وعندما يعود والداه للبيت يهرب للاقامة في بيت أستاذه السابق السيد أنتوليني، الذي يقول له أن مصيره محتوم للسقوط، وأنه سيموت بنبلٍ في سبيل قضية لا تستحق. وعندما يستيقظ هولدن يحس بيد انتوليني تلمس رأسه، فيرتاب من أن في الامر تحرشاً فيسارع الى ترك المنزل. وبالطبع فإن فكرة التحرش الجنسي واغتيال براءة الطفولة تتردد كثيراً، حيث لا يفتأ البطل يمر بمثل هذه المواقف. يعود هولدن للنوم في محطة القطارات، وفي اليوم التالي يلتقي شقيقته ويصاب بحالة شديدة من الوهم والهذيان ويظن أنه سيموت. لكنه يرفض العودة للبيت مع أخته، ويأخذ في البكاء حيث تنتهي الرواية.


دلالة الاسماء وترميزاتها
ترمز الاسماء في الرواية الى معان عميقة. فعلى سبيل المثال يمكن تجزئة اسم البطل الى هولد ون كول فيلد والتي تعني التمسك بحقل البراءة. وكول الذي يظهر في اسم هولدن أو أخيه آيلي أو أخته فويبي يدل على البرنس أو الغشاء الذي يغطي رأس الجنين في الرحم، ليرمز الى براءة الطفولة العمياء التي لا تستطيع أن ترى تعقيدات عالم الكبار.


محاور الرواية
تطرح الرواية عدة محاور رئيسة مثل تجربة الالم، والتمرد والهروب، وفقدان البراءة، والزيف، والعزلة، والموت كما رأينا من خلال سرد موجز أحداثها. ولكني أود الاشارة الى موضوع الزيف والتمرد، إذ تتردد كلمة زائف كثيرا على لسان بطله. بل إنه يصف كل شخص آخر تقريباً بأنه زائف. وبنظره، فإن الشخص الزائف هو الذي يستجيب لكل متطلبات العالم الكثيرة، ويحاول أن يصنع شيئاً من لا شيء، مثل كل واحد يدرس في المدرسة، أو يتظاهر من أجل القيام بوظيفة أو تحقيق هدف.


تذكرنا رواية سالينجر برواية الاديب الامريكي من القرن التاسع عشر مارك توين "مغامرات هكلبري فَن" التي أثارت تعاطف القراء مع بطلها المتشرد الهارب من المجتمع، وكلا الروايتين عن الطفولة المغلفة بالبراءة وكراهية زيف المجتمع، لكن شخصياتها ليست بدائية او منفلتة كما يظن كثيرون، بل تعيش حقائق الحياة كما تفهمها بوعيها الذي لم يتلوث بعد.


مشكلات فنية في الرواية
لقد اثارت الرواية اهتماما واسعا بين الشباب والكبار بفضل مغامرات بطلها. وتطرقت الى الكثير من الافكار التي سبق أن أوردها المؤلف متناثرة في قصصه القصيرة قبل صدور الرواية. أما على صعيد الشكل الفني، فإن الرواية قد ولدت في الاساس فكرتها من رحم عدد من القصص القصيرة غير المترابطة. حيث سبق أن قدم الكاتب شخصيات عائلة كولفيلد في اثنتين من قصصه، كما أن عشق سالينجر للقصة يظهر واضحاً في سرعة السرد في الرواية، وفي غياب تتابع السرد واستمراريته في بعض الاحيان. كما لا يستمر المشهد الزمكاني أو الشخصيات اكثر من فصلين متتاليين عدا البطل هولدن الذي يستمر في الرواية لكونه الراوي. بل إن هناك شخصيات تظهر مرة واحدة في موضع واحد ثم تختفي مثل السيد انتوليني، أستاذ هولدن السابق للغة الانجليزية في المدرسة. كما أن كثرة ترديد القضايا نفسها في كل فصل، مثل شكوى هولدن من المزيفيين تدل على أن سالينجر عمل على كتابة فصولها بشكل منفصل كأنها قصص قصيرة.


تاريخ طويل من المنع
تعد الرواية واحدة من أكثر الامثلة الكلاسيكية في الولايات المتحدة خاصة، وفي الغرب عموماً، في موضوع العلاقة الشائكة المتوترة بين الرقابة والابداع، وتحديدا الاعمال الادبية، ومدى أحقية جهات ما في المجتمع في المطالبة بمنع او محاربة عمل أدبي بدعوى حماية المجتمع من عبث المؤلف أو صون الاخلاق العامة من الخدش! بل والانتقال من المطالبة الى تنفيذها وفرض عقوبات على الكاتب والكتاب بصور شتى تفيد كلها في نهاية المطاف اعلان الحرب على التعبير المتمرد عن المألوف والسائد، رغم أن الامر ينطوي على سخرية في أغلب الاحيان حيث تمضي الايام وتصبح هذه الاعمال من أبجديات الاعمال الابداعية، ولنا في رواية (عوليس) لجيمس جويس، وفي روايات الكاتب الانجليزي دي اتش لورنس ، مثلما لنا في رواية "أنا أحيا" لليلى بعلبكي و"الخبز الحافي" لمحمد شكري أكبر الامثلة.


لقد كانت الرواية أكثر الكتب منعا في المدارس الامريكية خلال الفترة بين 1966 و1975. بل وصل الامر الى طرد مدرسين لأنهم أوصوا تلاميذهم بقراءتها. كما فرضت كثير من المدارس حظراً على وصول الرواية الى غرفة الصف. وفي العام 1976 رفعت جماعة تؤيد حظر الرواية قضية في مدينة اوكلاهوما، واقاموا هاتفا ساخنا لتوجيه المطالبات الى الناشر الذي تنازل عن الكتاب خوفا من العواقب. وبعدها بعشر سنوات تجدد الجدل مرة أخرى حينما تم تدريس الرواية في احد الصفوف في مدرسة بولاية بنسلفانيا، مما أدى الى احتجاج الاهالي وتصويت مجلس المدرسة على حظر الكتاب. وتكرر الامر ذاته مرة أخرى في نيوجرسي تحت مسميات اللغة البذيئة والفاضحة وتشجيع الدعوة الى ممارسة الجنس والشذوذ والانحراف. بل إن بعض الاهالي قدم احصائية بكل مواضع "البذاءة" في الرواية! وآخرون اعتبروها مؤامرة شيوعية! ولا يزال المنع مستمرا حتى اليوم في عدد من الولايات! بل أن عددا ممن اغتالوا شخصيات عامة معروفة وُجد أنهم اقتنوا الكتاب وتأثروا به مثل قاتل الفنان الاسطورة جون لينون مؤسس فرقة البيتلز، والشخص الذي حاول اغتيال رونالد ريجان، وغيرهم الى حد اعتبر بعض الكتاب أن الرواية كتاب ضد المجتمع!

* اللوحة أعلاه بعنوان وعي مضطرب لعميد الفنانين التشكليين الجزائريين علي خوجة (1923 - 2010) الذي رحل قبل أيام قليلة
** نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية ليوم الجمعة الموافق 19/2/2010.

رابط المقالة في جريدة الدستور
 
الصفحة الكاملة - جريدة الدستور

هناك تعليق واحد: