الجمعة، نوفمبر 12

رسالة


رسالة

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار
* نشرت في صحيفة قاب قوسين الالكترونية بتاريخ 10/11/2010

هل تذكر هل تذكر شقيقتي التي حدثتك عنها؟ عادت يوم أمس من السفر بعد غياب طويل. لا أعرف كيف مضى واحد وعشرون عاماً ولم أرها.

حفرت سنوات الشوق الطويلة عميقاً في القلب، وحينما أطلت بوجهها الباسم نسيتُ كل تلك السنوات الضائعة، واكتشفتُ لدي نبعاً لا ينضب من الحنين اليها. حينما تفتحت عيناي على وجوه البشر من حولي، لم تكن بينهم. صورتها مسنودة على طاولتي في إطار فضي منذ أن عرفت قيمة الصور. أراها تنظر الي دائماً.. ابتسامة وبقية من كلمات على شفتيها، وشعر كستنائي طويل منسدل على كتفيها. بين حين وآخر أمسك الإطار وأمسح الغبار الذي تراكم على الزجاج، فتشرق صورتها من جديد. كنت أسمع صوتها بين حين وآخر يأتي من وراء القارات، دافئاً، حنوناً، ورقيقاً كأنوثتها التي تفيض بها نظراتها. صارت صورتها رفيقتي منذ أن رحلت أمي. أتأملها في بعض الليالي لأعاين الشبه بيني وبينها. لطالما قالت أمي إنني أشبهها. حدسي ينبئني أننا نتوافق في أمور كثيرة، رغم أننا لم ننشأ معاً. كلامها (الصامت) وصورتها يوحيان بذلك.

بالأمس زارتنا أم صفوان للسلام على سناء. كان اللقاء حاراً دامعاً. عانقت سناء وهي تترحّم على أمي. لطالما حملت سناء وهي طفلة بين يديها. ذكرتني الزائرة بتلك الظهيرة الشتوية. كانت أمي مشغولة بإعداد الغداء. ملأت الطنجرة بالماء ووضعتها فوق الموقد، ثم وضعت فوقها مصفاة حديدية مشبّكة، وألصقت لباناً حول المصفاة لتسد منافذ البخار. يتصاعد البخار من الطنجرة، فينضج المفتول. سهت أم صفوان عني.. مددت يدي، أحسست بلسعة. مزقت صرخة مفاجئة من الالم هالة السكون. أخذت أبكي وأصرخ دون توقف. غضبت أمي. خرجت أم صفوان مغضبة ولم تعد. لم تدخل بيتنا طيلة سنة كاملة، وحينما عادت بعدئذ إستقبلتها أمي بالأحضان. أقول لأم صفوان باستمرار: عندما أنظر الى الوشم في يدي أتذكرك.

فرح أبي بعودة سناء. كعادته حينما يأتي غائب، نزل الى السوق وإشترى فوارغ ومقادم. بقيت طيلة النهار منشغلةً في تنظيفها وتحضيرها وطهيها. أكره هذه الاكلة وأعجب كيف كانت تستهوي أمي. لكن أمي كانت صبورة. تذوب كالشمعة في صمت دون أن يحس بها أحد. في كل مرة كان زوج سناء يتصل بنا من أوهايو، كان يقول إنه يحنّ الى تلك الايام التي كانت تصنع أمي لهم تلك الأكلة. بعد أن رحلت أمي لم يعد يأتي على ذكرها. لا أظن أنه كان يفعل ذلك بدافع الذكرى، فأنا أعرفه جيداً. لا ذكريات لديه سوى ذكريات محلاته هناك، أراح واستراح!

حبيبي جابر، هل سأقدر، يا ترى، أن أرحل عن البيت مثل سناء؟ أفكر كثيراً بالامر. لقد نشأتُ في هذا البيت، وصار عالمي الذي لا أعرف سواه. مرت بي أيام طويلة شعرت بها بالوحدة فيه، وتمنيت الخروج منه، لكنني لم أعد أجرؤ حتى على التفكير بذلك. صار حريتي وسجني، جنتي وناري. هل سأطيق سنوات الغربة مثل سناء؟ ذهبتُ مرة الى بيت خالتي في العقبة، لأمضي عندها الصيف، بت هناك ليلتين. أحسست بالاختناق والحنين. لم أستطع المكوث بعيداً، فعدت.

صارت غرفتي عالمي الصغير. فيها كل شيء. سأصف لك بعض ما فيها، لتعرف كم تعني بالنسبة لي. أمامي مكتبتي التي صارت نافذتي على الدنيا. والى جانبي تلفاز يؤنس وحدتي في أمسيات الشتاء القارسة. تطل نافذتي على الحي الصاخب الذي لا يهدأ. منظر كئيب يصيبني بالإحباط. في أمسيات كثيرة أقف أمام النافذة وأسرّح بصري بعيداً، وأتخيل زرقة البحر أمامي، تتكسر أمواجها عند الشاطيء. ستائر غرفتي شفافة سكرية اللون ذات ثنيات جميلة. وخلفي على الحائط لوحة زيتية شرقية ذات إطار أزرق، وتحتها سريري بأغطيته ووسائده الزرقاء الزاهية. أحببت اللون الأزرق منذ كنت صغيرة. يتلاءم مع إحساسي الفطري بالحزن. ومن حولي تُحَف خشبية من صنع يدوي. بجانب الباب درسوار له مرآة صغيرة طويلة، وعلى سطحه اللامع صورة أمي وأبي في يوم زواجهما. أرى فيها عالماً مفقوداً لم أعد أحس أنه بقي منه شيء في زماننا. تمتزج الألوان والفنون والصور في كل زواية فيها، كما لو كنت معي الآن لتراها. لترى لوحاتي التي رسمتها وألواني وفراشي الرسم. على طاولتي لوحة عباد الشمس التي صارت جزءاً مني. وهنا أزهار الخزامى التي أحتفظ بها في كيس ملون، وهناك مكتبي الصغير وفوقه صورة سناء وزرافتي التي تؤنس وحدتي، والى اليسار ألعابي التي أحتفظ بها منذ صغري. وهذه هنا سفينتنا الخشبية بأشرعتها التي سنسافر فيها!.

تصور أني اشتريت تحفاً لأسطورة صينية. أحب عالم الاساطير. جابر، هذا هو عالمي. لا أحتاج الدنيا خارج غرفتي، هل كان الناس هكذا في الماضي أم أنها مجرد أوهام للتعويض عن التعاسة؟ قد يبدو عالمي صامتاً، لكنه يزخر بأحلامي وخيالي وتاريخي، لا عليك من شطحاتي!

جاءت أمك وأختك هدى يوم أمس لتسلم على سناء وأولادها. لم تجلس هدى الى جانبي طيلة الزيارة، كما اعتادت أن تفعل دائماً. رمقتني أمك بنظرات باردة بطرف عينيها من غير أن أعرف سبباً لذلك. شعرت بالتوتر. استعرضت شريط الذكريات لعلني أعرف السبب. بقيت تائهة في لجة أفكاري. شعرت باضطراب داخلي وانقباض. ماذا فعلتُ حتى ترميني بنظراتها الباردة، وتجافيني هدى على غير العادة؟ شعرت كأنني ارتكبت ذنبا عظيماً ..أجهله. قالت لسناء وهي تغمز بطرف حديثها: "أليست الحياة هناك أفضل من هنا؟ كيف ترفض من تأتيها فرصة للإقامة هناك وتبقى هنا؟" لم تتوقف طيلة الوقت عن تلميحات تحمل في طياتها اللوم. مزق كلامها سكينة نفسي. لكني احتفظت بصمتي، أتظاهر بأن ليس هناك شيء. رسمتُ ابتسامة ً باهتة على وجهي كلما تلاقت نظراتنا. كنت إحترق في داخلي. بقيت بين حين وآخر تثير أسئلة تعرف إجاباتها. كانت تتعمد أن أسمعها. "كيف هو بيت جابر؟ هل هو كبير وواسع؟ هل شاهدتيه؟ أخبرني أنه يمتد على قطعة أرض فسيحة وأمامه بستان من الأشجار؟ دعاني أن أذهب عنده للزيارة والاقامة لمدة شهر. كم أتمنى أن أذهب هناك، ولكني أنتظر نتيجة سهام في الثانوية، لا أريد أن أتركها وحدها. هذه سنة مهمة يجب أن أقف الى جانبها".

هدى الاخرى فظة ومتعالية. تقول إنها ما كانت لتبقى هنا لولا أمك. لكنها مستعدة للتضحية لأجلها. كانت تتباهى بزياراتها وجولاتها وحفلات الاستقبال التي لقيتها عندكم في الصيف الماضي. وجّهت نظراتها اليّ وقالت: "لو كنت مكانك لما بقيت هنا يوماً. لماذا تدفنين نفسك هنا؟ والدك تزوج، وأمك توفيت، فماذا بقي لك هنا؟" شعرت كم هي مختلفة عني. لم يكن عالمي الصغير بذكرياته وكائناته يعني لها شيئاً، وكأن وجودي ليس له قيمة بحد ذاته.

لا أريد أن أشغل بالك بقلقي أو أثير هواجسك بحساسيتي. ما يزعجني أنني لا أجد أحدا يفهم شخصيتي وعالمي سواي. وحدها أمي كانت تتقبلني كما أنا، وتدرك "صوفية" تفكيري. لست صعبة المزاج أو معقدة، لكن نظرتي للحياة تختلف عن كل النساء هنا. أحس باضطراب قلبي، وأبوح لك لترتاح نفسي. قد لا تدرك سبب خوفي من الغربة، أخاف إن غادرت عالمي أن تضيع ذاتي.

نسيت أن أخبرك أنني ذهبت في صباح يوم أول أمس الى محل أزهار، واشتريت باقة من أزهاري المفضلة التي تعرفها.. لتبدو هدية رائعة. خرجت سميحة الأسبوع الماضي من المستشفى. كنا نحس بها وهي تحترق في وحدتها وبؤسها. لم يكن يشعر بتراجع مساحة روحها القابلة للحياة، ظل يضغط عليها حتى لم تعد ترى أفقاً لحياتها معه. كم أثّر فيَّ ما جرى لسميحة. زرع في قلبي الرعب والخوف من المستقبل. هل يمكن أن يقع لي ما جرى لها؟ أرجو ألا تفهم كلامي خطأ. أنت مختلف وأدرك كم تتفهم طبيعتي. لكنها هواجس تبقى تلحُّ على أعصابي.

أحببت أن أكتب لك وأشاركك في كل شيء يؤرقني. أعرف أنك تتفهمني. ربما كدَّرتُ صفاءك بهمومي، ولكني أنشد وقوفك الى جانبي. كم أنا محتاجة اليك. أتمنى عودتك. طالت غيبتك عني، وقلبي ميت خوفاً من الغربة. لا أظن أنني سأتجرأ وأفعلها كما فعلتها سناء. أرجوك أن تتفهم خوفي. أنا كالسمكة إن خرجت من بحرها ماتت. أرجو أن تجد لي ساعة فراغ لتفكر بكلماتي وتجيبني. كتبت لك عدة مرات ولم يصلني منك شيء.

المشتاقة لك

غادة

في اليوم التالي حملت غادة الرسالة، احتضنتها بكل حرص، وأخذت تتأمل في العنوان الذي خطته أناملها الى البريد وأودعتها. نظرت اليها الموظفة وفي عينيها إبتسامة غامضة. موظفات في المكتب يعرفنها. كل شهر تأتي ومعها رسالة بغلافٍ ملونٍ عليه عنوان مكتوب بخط جميل. صرن يعرفن لمن ترسل الرسائل فلا يسألنها عنها. بل يلصقن الطوابع مباشرة. وضعت غادة الرسالة وخرجت ونظرات الموظفة تلاحقها. بعد أسبوعين قصدت صندوق البريد لترى إن كان قد وصل ردٌّ منه. لمحت شيئاً من ثقوب الصندوق الحديدية. فتحت الصندوق بسرعة واضطراب. أخرجت الرسالة. كانت مليئة بالأختام على وجهي المظروف. لم تعد العبارة غريبة عليها.. "المرسل اليه ترك هذا العنوان". شعرت بانكسار وترقرقت دمعة في جفنها من غير أن تهمي. عادت تجر الخطى متثاقلة حزينة. فتحت دولابها، استخرجت صندوقها الصغير وفتحته ووضعت فيه الرسالة. كانت هناك في الصندوق سبع رسائل مشابهة.

* اللوحة أعلاه بعنوان رسائل حب للفنانة الامريكية مولي بروز

رابط القصة بموقع صحيفة قاب قوسين




الجمعة، نوفمبر 5

مبادرات مفقودة


مبادرات مفقودة
إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم 5/11/2010

تتولى جهات عدة في الغرب، من مثل: كبريات دور النشر، والجامعات، ومراكز الدراسات، نشر مجلدات توثيقية بصفة منتظمة، سنوياً، تشتمل على مختارات من أفضل القصص القصيرة، والقصائد الشعرية، والمسرحيات، بحسب اختيار النقاد القائمين على جمع تلك المختارات، ونشرها، في كتب متسلسلة، بحيث تصبح مرجعاً في قراءة الاصوات الابداعية، في تلك السنة، ودراستها، من خلال ما تضمه من نماذج أعمالها، وملاحظة الاساليب السردية، والقضايا المطروقة ـ في كتاباتها ـ في إطارها الادبي التاريخي. ومن أشهر تلك المختارات، على سبيل المثال، سلسلة "أفضل مجموعات القصص القصيرة الامريكية"، التي تتولاها دار هيوتون ميفلن، في بوسطن، وتنشرها، سنوياً، وبشكل منتظم، منذ عام 1915، أو مختارات نورتون في الادب الانجليزي، سواء من القصة الانجليزية القصيرة، أو الشعر، أو المسرحيات، التي تنشرها دار نورتون للنشر، منذ عام 1962، أو قائمة أفضل مئة رواية باللغة الانجليزية، في القرن العشرين، التي أصدرتها دار النشر المعروفة باسم المكتبة الحديثة، وغيرها كثير من مثل هذه المختارات، والقوائم الانتقائية.


كما تتولى الجمعيات الادبية والهيئات، التي ترعى الجوائز الادبية، في كثير من الدول الاوروبية، والولايات المتحدة، وأستراليا، وكندا، واليابان، وبعض دول شرق آسيا نشر مجلدات، سنوياً، أو كل عقد، تضم أشهر الأعمال التي صدرت خلال تلك الفترة، كالقصص، أو المختارات الشعرية. وهناك قوائم دورية تصدرها كبريات الصحف، من مثل: اللوموند الفرنسية، أو نيويورك تايمز، بالتعاون مع دور النشر، تتضمن عناوين أهم الكتب التي صدرت خلال العام، أو العقد، أو القرن، ومنها ـ على سبيل المثال ـ قائمة اللوموند، التي اشتملت على أهم مئة كتاب صدر في القرن العشرين. وهناك مبادرات وسائل الاعلام الجماهيرية، كالتي نظمتها هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي، عندما أجرت دراسة مسحية شارك فيها زهاء ثلاثة أرباع مليون شخص لاختيار أكثر الكتب المقروءة، ومن كل العصور، من قبل الشعب الانجليزي.


وبالطبع، واجهت هذه المبادرات سيلاً من النقد، في بادىء الامر، من القراء والنقاد والمؤلفين، ولكن ذلك لم يوقفها، رغم بعض الاخطاء التي انطوت عليها، من مثل: عدم وضوح معيار التراتبية، أو غموض منهجية التصويت والاختيار، أو غياب معايير محددة لدى النقاد، أو القراء، للاختيار بناء عليها، أو قلة بروز الاصوات النسوية، أو غياب أعمال مشهورة من القائمة، أو وقوع هذه الأعمال في مراكز متأخرة. رغم كل هذه الانتقادات، إلا أن هذه المبادرات لم تتوقف، بل طوّرت أساليبها ومنهجيتها حتى استقرت في الثقافة الغربية. وما يلفت الانتباه، في جلّ هذه المبادرات، التي أعلنت نتائجها على الملأ، أنها اتسمت بالجرأة، في اختياراتها، وفي البعد عن الاسترضاء، أو مراعاة العوامل الجغرافية، أو المكانة المكرّسة لبعض المؤلفين.


أما على صعيد الساحة الثقافية العربية، فهناك غياب شبه كامل لهذه المبادرات. أقول: "شبه"، لأننا لم نر من هذا النوع سوى مبادرات قليلة، تكاد لا تذكر، حتى إن تلك التي ظهرت منها، ثم اختفت، كانت تتسم بالفجائية، والانقطاع، وقلة التوثيق، وارتجالية المنهج، وغياب التراكم التاريخي. أذكر أن اتحاد الكتاب العرب، في دمشق، قام بمبادرة يتيمة، في عام 2001 ، حين أصدر قائمة بأفضل 105 روايات عربية. وأنا أعرف أن كلمة "أفضل"، وسواها، هي موضوع خلاف نقدي، لكن لا بد ـ في النهاية ـ من وجود معايير للاختيار، مثلما يحدث في العالم أجمع، ثم أنني أشير الى المعايير نفسها، التي وضعها الاتحاد؛ كان واضحاً في ديباجة الاعلان أن الاتحاد راعى مجموعة من العوامل، من بينها التوزيع الجغرافي، فكانت هناك روايات من كل دول الوطن العربي: من الامارات الى موريتانيا. وربما يفسر ذلك ما تم إعلانه وهو 105 من الروايات، وليس مئة، حيث فرضت هذه العوامل نفسها. كما لا أفهم أن يكون من بين العوامل "مراعاة تمثيل التيارات والاجيال كافة"، كما جاء في نص الاعلان، كما لو أن الهدف عدم استثناء أحد.


كانت هناك، أيضاً، مبادرة يتيمة أخرى، قبل سنوات عدة، نظمتها جريدة الحياة اللندنية في استطلاع آراء 22 كاتباً، وناقداً عربياً، لاختيار خمسة من الكتب، التي يرشحها كل واحد منهم، بوصفها أحسن ما صدر من نتاج عربي في الابداع والتأليف، في السنوات العشر الاخيرة (عشر سنوات قبل تلك السنة)، ومرة أخرى، سيطرت الرواية على الاختيارات.


أعتقد أن المسألة ليست مجرد طباعة مجلد دوري، بالمختارات، ونشره، رغم أنه غير موجود، وليس قائمة بالعناوين لمجرد التنافس والتباهي، وإنما هي مؤشر على حيوية مؤسساتنا الثقافية العربية، ومن ضمنها اتحاد الكتاب العرب، في متابعة الاصدارات، ومعرفة مدى تأثيرها في ثقافة القارىء العادي، ومدى تلقيه لها وتعلقه بها، واستعداد هذه الجهات لتحمل نتيجة مبادراتها والدفاع عنها، حتى تتكرس ثقافة المتابعة والنشر والتوثيق، وكذلك منهجية التصنيف والاختيار، وتنال هذه الاعمال المنتقاة شعبيةً لدى القارىء العادي، واهتماماً من الدارسين.


ونحن نقترب من نهاية العشرية الاولى في القرن الحادي والعشرين، أرجو أن تكون هناك مبادرات عربية تتبع وتتلمس، بأسلوب جماهيري واسع، بعيداً عن الابحاث المحصورة في لقاءات لا يحضرها سوى نقاد وكتّاب، مدى تأثير الكتب العربية التي صدرت خلال هذه الفترة في فكر المواطن العربي، وثقافته، وتوجهاته، ومواقفه، وقناعاته، وربما نمط حياته، ومدى تأثير الاعمال الابداعية العربية، خاصة في الشعر والقصة والرواية، التي صدرت خلال هذا العقد، في تغيير نظرة الانسان العربي الى واقعه. لا أريد أن يظل القارىء العادي، ونحن في نهاية هذه العشرية، يقول نجيب محفوظ، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، في عصر تغير كثيراً. أعتقد أنه من الضروري رصد ما يصبغ كل مرحلة، من تطورات، حيث تتسم كل فترة، وإن يكن التقسيم الزمني اعتباطياً، تقريباً، بمزايا معينة، وتسيطر عليها ظواهر مهمة وحاسمة، لا بد أن يعكسها الادب، وفي المقابل، لا بد من معرفة كيف تؤثر الاصدارات، خلال الفترة نفسها، في تفكير الانسان العربي العادي، ونظرته الى الحياة.

رابط المقال في جريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)




الخميس، نوفمبر 4

رسّام من كوكب آخر


رسّام من كوكب آخر

قصة قصيرة

بقلم اياد نصار

* نشرت في مجلة أفكار الاردنية الصادرة عن وزارة الثقافة العدد 261 لشهر 10/2010


 رأيته جالساً في مكاني العتيد. ترددت قليلاً. فكرت أن أجلس في زاوية أخرى. أخذت أتلفت حولي باحثاً عن مكان آخر. شعرت باستياء. هذا مكاني المفضل الذي أجلس فيه كل مساء. مَنْ هذا ومن الذي أتى به؟ منظره ليس مألوفاً. كأنه مخلوق غريب قادم من كوكبٍ آخر. ألم يعجبه سوى مكاني؟ إنه متنفسي الوحيد. أهرب اليه من صخب الحياة في بيتنا، الذي صار كالسجن، وبؤس الحي الذي يذكرني دائماً بالكآبة. لا أظن أني أعرفه أو رأيته من قبل. يجلس مكاني على العشب الجاف، بجانب النافورة في منتصف الدوار، الذي يتوسط الطريق. ملابسه غريبة فضية لامعة تشبه ملابس رواد الفضاء. يلبس صدرية متقاطعة عريضة ذات أطراف مدببة، تخرج كثيراً عن نهاية كتفيه، ويضع فوق ذراعيه وساعديه أكماماً، تنتهي بقفازات سوداء تغطي نصف أصابعه، وفي ساقيه سراويل فضية كثيرة الثنيات. يلبس في قدميه حذاء رياضياً فضياً أنيقاً، وعلى عينيه نظارت سوداء ذات عدسات لامعة ورفيعة. شعره أبيض متموج، يميل الى الفضي، مصفف في خصلات متباعدة عن بعضها، ومرفوعة للاعلى والخلف. له شاربان أشقران عريضان تحت أنفه، ويمتدان على ذقنه حتى يصلان أسفل أذنيه. إقتربت منه وسلّمت عليه، وأنا أتأمل في منظره الغريب. نظر اليّ وابتسم. قلت له: "إنك تجلس في مكاني المعتاد". بدا عليه التأثر. أخذ يتمتم بكلمات لم أفهمها. لم أنتظر أن يشير اليّ بالجلوس، وجلست على العشب قريباً منه.


خرجت عند المساء الى الشارع العلوي، لأجلس على العشب بجانب النافورة على الدوار. كنت أشعر بالملل والحر الذي لا يطاق. بيتنا مثل صندوق من الاسمنت، الذي يصبح كالفرن في الصيف. بيت صغير معلق في منتصف سفح الجبل. درج طويل يمر من جانبه حتى يصل الى آخر الحي في الاسفل، ويصعد حتى يصل الى الشارع العلوي. عشرات من البيوت والطوابق الاسمنتية العشوائية المعلقة، تحيط بنا من فوقنا، ومن تحتنا، ومن كل جانب. يخالجني دائما خوف داخلي من مجرد التفكير بالامر. ماذا سيحصل لو تململت الارض من تحتنا، مثلما تفعل أحيانا حين تضجر من الصمت الابدي، أو تضج من تصرفات البشر فوقها؟! يتملكني احساس بالرعب، قبل أن أستطيع أن أطرد الفكرة من رأسي.هنا عشت طفولتي في منتصف السفح، وعرفت الحياة بين الادراج والجدران والبيوت المعلقة في الهواء. هنا عرفت أن البيت ليس سوى للمنام وممارسة رتابة الحياة اليومية. هنا النوافذ تطل على بيوت الاخرين، وترى وأنت في غرفتك أسطح منازلهم، وتسمع أصواتهم. ليس للبيوت أسرار هنا. حين قدمنا لأول مرة كنت صغيراً، ولكنني رأيت أن كل الساكنين على الادراج، من أمامنا، وخلفنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، وعن يميننا وعن يسارنا، قد أصبحوا جيراننا، وصارت حكاياتهم حكاياتنا، وهمومهم همومنا، خلال فترة قصيرة. يجمع بين الناس خيط واهٍ من الود، الذي أثقلته مصاعب الحياة وقلة الحيلة، حتى كاد أن ينقطع أحياناً. هنا مرّ الموت على حيّنا باستمرار دون أن يسمع به أو يراه العالم.


أبو راجي رجل وحيد عجوز ضخم الجثة، أقعده المرض. عندما كان يتحدث، كان يتصبب عرقاً، فيظل يمسح بمحرمته جبينه ورأسه الاصلع. إعتاد أن يزورنا كثيراً، ويروي بطولاته أيام الشباب. ولكن السكري أقعده طريح البيت. أرسلني أبي ذات يوم اليه، فبقي يروي لي سيرته. كان مع المقاتلين في جيش الانقاذ. لقد استبسل في الدفاع عن مدينته قبل أن تسقط. أحسست أنه لم يبق له في الدنيا سوى أن يعد الايام، قبل أن تأتي النهاية، التي لم تعد بعيدة. لا أظن أن المرض قتله ، بل النسيان.


وفي بيت جيراننا، الذين يسكنون خلفنا، كان هناك المسكين طلال. كم كنت أشعر بالأسى له. رأيته يسير ذات يوم على سطح بيت الجيران أمامنا. ليس هناك مكان يلعب فيه سوى الدرج وأسطح البيوت. كان يمشي تحت أوراق الدالية العالية، التي ارتفعت فوق الارض، حتى وصلت سطح الطابق الثاني. رأيته يلعب بالكرة، ويتعلق بالاوراق والاغصان. وقفت أراقبه وهو يلعب. لكنه ظل يمشي الى الطرف حتى أختفى من أمامي. يا الهي. سمعت صوت ارتطام بالارض. شعرت بهول الحدث، وركضت الى الشارع السفلي. هجم الناس عليه، ونقلوه الى المستشفى، وهو مضرج بدمائه، وقد انكسرت عدسات نظارته، وتهشم وجهه. توقع الناس في حيّنا ألا يفيق من غيبوبته. سقط من ارتفاع ثمانية أمتار، لكنه لم يمت. كان طلال مريضاً .. يظل يصرخ على النازلين والصاعدين الادراج. إعتاد أهله أن يحبسوه في غرفة، أو يشدون وثاقه الى حديد الشبابيك، حتى لا يخرج من البيت. قاسوا الامرّين لأجله، لكن ظرفهم كان سيئاً، فلم يستطيعوا تأمين ثمن علاجه. بعد أشهر افتقدته، فلم أعد أراه أو أسمع صوته. قالوا تعهدته جمعية لرعاية المعاقين، فأراحوا الحي منه وأراحوه من سقطة أخرى، كان يمكن أن تكون فيها نهايته. لا أظن أن السقوط قتله، بل النسيان.


كم مررت أسفل الجبل في حيّنا، فلم يستوقفني المشهد في يوم ما. كنت أرى البيوت معلقة في الهواء كالصناديق متراكبة فوق بعضها، فأبحث عن بيتنا من بينها، فلا أستطيع تمييزه في كثير من المرات. أقف وأدقق النظر، وأنا أبحث عنه فلا أراه. كم تبدو متشابهة ومتلاصقة ومتراتبة فوق بعضها كمدن الصفيح. هنا كانت البداية، وهنا ولدت المدينة ذات يوم. لا أعرف في أية سنة سكن الناس في هذا الحي، ولكنه أقدم أحياء المدينة، ومن أكثرها فقراً. في كل صندوق إسمنتي يوجد قصة تثير الحزن، يمرّ عليها الموت بكل صمت.


نظرت الى الرجل الفضي، وأنا أتعجب من منظره. لاحظ استغرابي، فابتسم وقال بلكنة ثقيلة: "لا تخف أنا إنسان مثلك". قلت له بانجليزتي الركيكة: "لست خائفاً ولكني لم أرَ إنسانا يلبس هكذا من قبل". قال: "أنا فنان أحب الرسم والسفر. أحب أن أرسم كل المدن التي أسافر اليها". سألته: "ومن أي البلاد أنت"؟ "من ألمانيا. أعيش في برلين. هل تعرفها"؟ "سمعت بها، لكني لم أعرف في حياتي سوى هذا الحي". قال: "أعجبني الحي كثيراً وقررت أن أقيم هنا عدة أيام لأرسم بيوته في لوحاتي". وسحب حقيبته الجلدية التي كانت الى جانبه واستخرج دفتراً كبيراً. فتحه وأعطاني إياه. أخذت أقلب أوراقه. كان فيه استكشات ورسومات بالفحم الاسود لبعض بيوت حيّنا وطرقاته وأدراجه، وكانت هناك رسومات للحي وعماراته عند سفح الجبل. قال: "غداً سأضع منصباً ولوحة وفراشي الرسم والالوان، قرب الشارع عند أسفل سفح الجبل، وسأرسم واجهة الحي. لماذا لا تأتي وتساعدني وتتعلم الرسم"؟ قلت له: "ربما، ولكنك لم تخبرني سبب إرتداء هذه الملابس والالوان". قال: "إذا أتيت غداً سأخبرك".


في تلك الليلة لم أستطع النوم من شدة الحر، وبقيت أفكر في ملابسه وألوانها وأشكالها، وأنا أضحك في سري من غرابتها، وأتعجب ما الذي أعجبه في حيّنا حتى يتوقف ليرسمه. وقلت في نفسي إن هولاء الغربيين لهم عادات غريبة. ما الذي يفعله هذا الرجل الغريب في حياته؟ يدور على البلدان ليرسم مدنها؟! وهل هناك ما هو جميل في حيّنا ليستحق رسمه؟ لم أفهم كيف أعجبته واجهات بيوتنا، وعماراتنا، التي تعطي شعوراً بالكآبه والبؤس وضنك الحياة، التي تقتل الانسان قبل أن يأتيه الموت! ربما أعجبته لأنه لم ير مثلها في بلدته؟ ولكنه لو عاش فيها لربما غير رأيه؟ لو مرّ في طرقات الحي، وشمّ رائحة المياه، ومساحيق الغسيل وأكوام النفايات فوق الحاويات وتحتها .. لو رأى السيارات القديمة، التي عفا عليها الزمن، وعلى حوافها من الخلف عبارات تدفع الحسد، لربما لم يفكر في رسمها؟! لو رأى كيف أصعد الادراج لاهثاً، أو رأى كم هي متهالكة ومعتمة البقالة التي ما زالت على حالها، وأبو جميل ينهر الصغار، حتى يدفع أهلهم له الحساب.. لا أذكر متى توقف ذهني عن التفكير في الامر تلك الليلة، ولكن تراءت في خيالي صور عن مدينته، التي حدّثني عنها ووصفها لي. في الصباح، حين فتحت عيني، سمعت صوت أبي منادياً عليّ، فعرفت أنني ما زلت هنا!


لم أستطع أن أنسى التفكير في ذلك الزائر الغريب. بقيت ملابسه ورسوماته تلح عليّ كي أذهب وأراه. لقد أثار فضولي، ولم استطع أن أفهم لمَ يهتمُّ بحيّنا الى هذه الدرجة؟ هل هناك أشياء يراها ولا نراها نحن؟ نزلت الادراج الطويلة حتى وصلت أسفل السفح. كانت الدنيا قبيل الظهر. كان قد نصب اللوحة وأعد الفراشي والالوان، وجلس على حافة السور، وقد تجمع بعض الناس حوله وهم يضحكون. كان هناك رجل يحاول أن يلتقط صورة للجالسين. جلس الرسام في الوسط، ومن حوله الى اليمين جلس رجل عجوز يلبس ثوباً وحطة وعقالاً، وهو يبتسم، وقد بدت عليه آثار الزمن القاسي، والى اليسار جلس رجل أصلع الرأس، وقد اسمرّت بشرته، وتشققت يداه، واخشوشنت. وفي الجانب الاخر جلس رجل بدين يلبس ملابس رثّة، ومن خلفهم كانت صورة الحي تثير الأسى. تقف بنايات الحي كناطحات سحاب توشك أن تتداعى. أعدت عليه سؤالي عن سبب إرتداء ملابسه الغريبة فلم يجب. بعد هنيهة نبس ببضع كلمات: "سأخبرك عندما أنتهي من رسم اللوحة". كان بارعاً في نقل المشهد الى لوحته. ولأول مرة في حياتي أخذت اتأمل تفاصيل مآسي المشهد أمامي. بقيت طيلة الوقت أتأمل في لوحته، وهي تتشكل لحظة بعد أخرى، وأساعده أحيانا في خلط الالوان. كان يتجمّع بعض الناس حولنا أحياناً، يتأملون في اللوحات، ثم يذهبون. بعد أربع ساعات إنتهى من رسم اللوحة. ابتعد قليلاً، وراح يتأملها، ويضيف بعض الرتوش هنا وهناك. ثم وضع توقيعه على اللوحة. لم أصدق ما رأيته وفغرت فمي دهشة. نظرت اليه كأنما أبحث عن إجابة، فأومأ اليّ برأسه كمن يقول نعم. فتحت ذراعي، وعانقت (طلال) والدموع تنهمر من عيني.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الاردني سلام كنعان