الأحد، أبريل 6

الأرق

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أصابني أرق شديد في تلك الليلة وتمنيت لو طلعَ عليّ الصباح! حاولت النوم بكل جهد ومرارة فلم استطع. بقيت أتقلب في فراشي، وصرت من شدة الأرق أنهض حيناً، فأشغل نفسي بأي شيء من غير رغبة او داع ، وحيناً أعود للنوم من غير طائل. فقد كان الذهن متوترا لا يهدأ والعيون قد جافاها النعاس .. أخذت أتحايل على الأرق لعله ينساني لحظة فأغرق في نوم لن يكون مريحاً .. فقد إقترب الليل من آخره، وإذا بدت تباشير الفجر فأنني سأعاني من الارهاق وإحمرار العيون والدوار طوال اليوم .. كان يخيل الي أن كل الافكار البعيدة والقريبة جاءتني في تلك الليلة وازدحمت في رأسي.

كانت الدنيا ربيعاً بحسب ما وقعت عليه عيني على التقويم! ولكن النفس أخذت تضطرب من هذه الحرارة واغبرار الجو الكالح كأنما الدنيا صارت صيفاً حاراً قائظاً .. والنوم لا يطاق .. كنت أحس نفسي أغرق في بركة من العرق من شدة الحر والرطوبة. لم تكن هناك نسمة هواء تلطف الشعور بقسوة الحر. كان الجو ساكناً ومثقلاً بالرطوبة. كانت أصوات سمّار الليل وسهارى الفجر تنبعث من الاسفل .. ومعها تخرج رائحة القهوة المحروقة الزكية ورائحة الشاي والنعناع تملأ أنفي . كانت الاحاديث عالية متداخلة في بعضها يتخللها أصوات ضحكات وقهقهات عالية تنطلق بين الحين والاخر ولكن لم أكن اتبين منها شيئاً رغم إرتفاعها. تعودت على هذه الروائح والاحاديث التي لم تكن سوى لوحة فسيفساء من الاصوات تتحول الى ضجة تقلق راحتي. كانت أم كلثوم بكل مصادفة تغني حرمت عيني الليل من النوم لاجل النهار ما يطمني. لا تتوقف الحياة في هذا المقهى. فالطاولات تبقى عامرة بالرواد يحتسون القهوة أو يلعبون الزهر أو الطاولة. وتستمر نداءات العاملين لبعضهم لخدمة الزبائن، ويستمر كلام السمّار في إرتفاع مستمر.

يبدو أن الحظ قد واتى صاحبه أخيراً! فكم شهد هذا المكان طموحات تعثرت وكلفت أصحابها مبالغ باهظة. كنت أشعر أن المكان نحس أو مسكون بأرواح شريرة. فكم من المشاريع التي فشلت في ذات المكان. صرت في كل مرة أشاهد مستأجراً جديداً يغير من معالمه ويجدد الديكور ويضع لوحة كبيرة مكتوباً عليها بكل أناقة إسم المحل الجديد، أشعر بالأسى له. كنت أقول كم سيمضي من الوقت حتى يرحل ويأتي غيره؟! كنت أحس بالحزن وأنا أرى مشاريع كبيرة يحدو أصحابها الامل والتفاؤل ولا يدرون ما ينتظرهم! حدثتني نفسي أن أتكلم معهم لأخبرهم عن لعنة المكان! ولكني كنت أتراجع .. أوفر على نفسي مشقة الفكرة لانها لن تلقى آذاناً صاغية! وفكرت ماذا سيقول أصحاب المحل عن جارهم؟ سيعتبرون ذلك تدخلاً في مصلحتهم وتطفيشاً للمستأجرين الحالمين! وربما تتوتر الامور بيني وبينهم بسبب ذلك ويعتبرونه تطفلاً أو حسداً أو تدخلاً بأعمالهم. وربما تصل حد الشكوى رسمياً! فكنت أشعر بمزيد من الحزن والاسى لانني لا أجد غير الصمت سلواناً، وانا أرى المشاريع تتحطم الواحد تلو الاخر على أرض هذه البقعة الشريرة!

أخذت أتقلب على سريري من شدة الارق والحر الذي داهمنا خلال اليومين الماضيين على حين غرّة. فلم نكد نودع الشتاء ببرده القارس وأمطاره وثلوجه التي تساقطت بغزارة هذه السنة وحيّرت معها التوقعات الرصدية الجوية حتى داهمنا الحر! شعرنا أن الربيع خُطف من بين أيدينا. فلم نكد نحس بقليل من الدفء ونشعر بالانطلاق لرؤية الزهر يملأ الحقول والحدائق والمساحات الخضراء على جانبي الطرق، حتى داهمنا الحر كأنما الدنيا صيف قائظ.

لا أنسى ذلك الرجل الذي عاد بعد سنوات من الغربة والهجرة وهو يحمل تفاؤلاً ببدء المشروع الذي يحلم به. كان حوله صبية صغار يبدو أنهم أولاده يساعدونه في ترتيب المكان وتغيير الديكور. لقد مكثوا فترة طويلة في اجراء التغييرات واضافة لمسات فنية جمالية هنا وهناك. وأنفق مبالغ طائلة في تغيير معالم المكان. شعرت ان الرجل عاد من كندا فقد كان الاسم الذي إختاره يدل على ذلك بشكل واضح. يبدو أنه إختار أن يفتح مطعماً يقدم الطعام على الطريقة الكندية كما يوحي الاسم! كنت أشعر بخيبة الامل كلما رأيت مدى إنفاقه على تحويل المكان الى شيء رائع وجذاب. كانت تخامرني الفكرة أن أروي له ما حدث مع سابقيه الذين ماتت أحلامهم خلال فترة وجيزة! ولكنني خفت من ردة فعله! فقد فات الأوان الآن . فبعد أن دفع كل هذه المبالغ الطائلة في إستئجار المكان وتحويله الى مطعم كندي فاخر، هل أفسد عليه أمله وبهجته بما ينوي فعله؟! لا ، فمن غير المعقول أن أفعل ذلك. سيحزنه ذلك ويزرع في نفسه خوفاً وإحباطاً خفياً، وربما إعتبر المحاولة حسداً أو عدم رغبة في رؤيته بالجوار. ولهذا عدلت عن الفكرة.

كنت أفكر كم سيجذب المطعم زبائناً ؟ ربما أنني أرى العالم بعيوني. قلت في داخلي لعلّ الرجل يعرف أكثر، وربما عنده برنامج للعمل يقدر أن يستطيع جعل الناس تترك مطاعمها الشرقية وتأتي اليه. فكما نجحت المطاعم الفرنسية والايطالية والصينية، لماذا لا ينجح هو؟! غير أنني تذكرت المكان. كم هو خادع للعين من بعيد. بالنسبة لمن لا يعرف المكان جيداً، يظن أن موقعه استراتيجي على مفترق طرق رئيسية وهناك بشر رائحون قادمون! مثل هذه الامور يجب أن تؤخذ بعمق. وجدت نفسي أحلل الامر وأطلق لنفسي العنان في البحث عن السبب كما لو كنت محللاً إقتصادياً أو مفكراً معروفاً! ربما كانت الفكرة جيدة والهدف كبير ولكن خصوصية المكان تحتاج الى دراسة كي لا تفشل مشاريعنا!! ندت عني إبتسامة تنم عن الشعور بالرضى وأنا أصل الى هذه النتيجة. بقيت أفكر بالامر. هل يعقل أن الناس الذين يقطنون في هذا الحي صاروا يعرفون أن ليس كل ما هو جديد وغريب وجذاب سينجح لمجرد كونه مختلفاً؟! شعرت بالتردد عند هذه النتيجة. لم أحس أنهم وصلوا الى هذا الحد! بل إن فشل الافكار السابقة قد ولدت عندهم قناعات زائفة بأن هذا المكان لن ينجح فيه مشروع أو عمل تجاري! وخاصة إذا كان له إمتداد أو إرتباط بأسماء أو مناطق أجنبية!

بقيت أشعر بالأرق والارهاق النفسي وأنا معلق أندب حظي بين الليل والنهار. لا الليل يوفر لي مناماً أنسى به التفكير من الهموم ومتطلبات الحياة، ولا النهار سيرفق بي ويقدر معاناتي في الليلة السابقة. وسأعاني التعب والدوار وربما أقع من شدة الاضطراب أو أسقط في سبات عميق! كنت أسمع الاصوات العالية القادمة من المقهى ممزوجة برائحة القهوة اللذيذة وأصوات طاولات الزهر ولعب الورق وفقاعات الماء في الاراجيل والدخان يخرج منها كالضباب يملأ المكان فينتشي الجالسون كأنما تخدرت اجسامهم وغابت أذهانهم عن الواقع، وصاروا يعيشون في عالم آخر من الاحلام وغياب الحس والوعي بما يجري والعيش في الخيال الذي تعبر عنه ابتساماتهم الخاملة وهم يستنشقون الدخان ويرمون بحجر النرد بكل إنبساط!

على غير عادة كنت مبتهجاً أول الامر بقدوم هذا الوليد الجديد وأنا أرى التغيير يجري على قدم وساق لدفن الحلم السابق وتطهير المنطقة من آثاره وإحلال شيء آخر محله! شبهت الامر بالعروس التي يأتيها خطّاب كثيرون. وهي تحتار بأي مظهر تقدم نفسها لهم كي ترضي غرورهم أو قناعاتهم التي تعبد الشكل الخارجي وتقدس مظاهره. وقد تلبس الشيء وضده في سبيل ذلك! فلعل المشروع هذه المرة ينجح في إستقطاب الزبائن ويعطي الشارع إحساساً جميلاً أخيراً عبر تحويل هذه البقعة الى مصدر حياة. كنت كلما مررت من أمامه أشعر بالرضا والسعادة وأنا أرى أن التجهيزات قد اكتملت والتي ستضفي على المكان لمسة فنية حديثة. كان عدد الذين أراهم في المطعم الجديد يومياً قليلاً، وقلت لا بد أن هذا شيء طبيعي في باديء الامر، فكل البدايات صعبة ومضنية. مرت أيام وأيام وأسابيع وأشهر طويلة وأنا أرى عزوف الناس عنه. بدأت أشعر بالحزن والاسى وأنا أرى التعب المضني قد ضاع هباءاً. وبدأت أرى الانسحاب التدريجي حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه أطلالاً ينتظر مغامراً آخر!

تناولت كتاباص أقرأ فيه كي أنسى أرقي. لم أستطع أن أتحرر من التفكير به أو من الاحساس بالالم. كنت أفكر كيف نجح المشروع الاخير؟ المقهى لا يخلو من الرواد ليلاً نهاراً والاصوات والروائح والدخان تملأ المكان. تغني أم كلثوم للسهارى من مذياع كبير ضخم من النوع الذي كنت أراه في بيت جدي وأنا صغير وصوتها يغطي على كل الاصوات. لم أفهم كيف يستطيع هولاء أن يتحدثوا في موضوع بوجود صوتها العالي. الاراجيل تملأ المكان برائحة المعسل والتنباك وصوت فقاعات الماء تعلو كلما سحب أحدهم نفساً للداخل. ثم لا يلبث أن ينفث ضباباً كثيفاً من السحب البيضاء. عندما تمر من المكان مساء يكون عامراً عن بكرة أبيه. وأغلب السامرين يلعبون الورق او النرد ويضحكون ويتمازحون كأنهم في عالم اخر من الخدر والانبساط! كنت افكر لماذا فشلت كل الافكار السابقة ونجح المقهى؟

بدأت خيوط الصباح تتسلل من نافذتي الى السرير، فشعرت بحنق كبير وإحباط شديد، فقد ضاعت آمالي بالعودة للنوم، ونجح الارق في تحويل ليلتي الى معاناة لا تنتهي. طلع الصباح وأنا أفرك عيوني من الاحمرار والارهاق وأحس بصداع شديد في رأسي كانه سينفجر من التوتر. فاجأتني أشعة الشمس فلم أكن مستعداً لرؤيتها! نظرت من خارج النافذة كان السهارى ما يزال عدد منهم يجلس الى الطاولات يرتشف الشاي والقهوة ويلعب الورق. أحسست بشيء مبهم يمر في خاطري. بقيت أفكار التغيير الفاشلة وأحلام النجاح التي تحطمت على صخرة الواقع المرير تلح على رأسي حتى تهيأ لي أنني أدركت سبب نجاح المقهى!

جهزت نفسي للذهاب للعمل بتثاقل، كنت أشعر بألم وصداع شديد وانا أحلق ذقني وأنظر في المرآة والضوء يبعث الحرارة في وجهي. تمنيت لو كان هذا اليوم إجازة. لبست ملابسي وحاولت أن أنعش نفسي بالعطر الذي أفرطت منه على وجهي ويدي وحول رقبتي! نزلت من البيت الى الشارع. التفت الى المقهى وانا أشم رائحة القهوة الزكية. زاد شعوري بالتعب ، فقررت ألاّ أذهب للعمل. سيجنّ خالد كثيرا فقد أوصاني بكتابة التقرير وإعداده ليكون جاهزاً اليوم. ولكني لم أفكر به كثيراً. تناولت كرسياً ووجدت نفسي أجلس في ركن معزول وأريح نفسي من عناء ليلة مريرة. شعرت بارتخاء جسمي وفكري مع إرتشاف القهوة الساخنة. عندما أردت دفع الحساب أخبرني النادل أنني قد نمت على الطاولة فترة طويلة ولم يرغب بإزعاجي فقد غادر قسم من السهارى مع بدايات الصباح ولم يكن هناك حاجة لايقاظي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق