الجمعة، أغسطس 17

مراوغة الحبكة وانزياح اللغة

مراوغة الحبكة وانزياح اللغة

قراءة في مجموعة "لم يعد لي إلا.. أنا" لمحاسن الحمصي

إياد نصار

* نشرت في ملحق الثقافة بجريدة الرأي الاردنية يوم 17/8/2012


هواجس المرأة المتمثلة في الانتظار، وغياب التواصل الانساني، وقلة التقدير الحقيقي من الرجل، ومحاذير سوء القصد، والاحساس بالعزلة تسيطر على مجموعة القاصة محاسن الحمصي "لم يعد لي إلا أنا". ويغلب على المجموعة إحساس الأنثى بالخوف من الموت ومواجهة الحياة وحيدةً. تفتتح المجموعة بمشهد امرأة تستعيد تاريخها المليء بالمعاناة والامال المنكسرة بعد رحيل شريك الحياة منتحراً، وهي تجلس في خشوع باكية أمام قبر والدها لترى أملاً في نهاية النفق، وتختتم المجموعة بقصة قصيرة جدا عن امرأة تهيء نفسها لعالم الموت، وما بينهما جاءت قصص المجموعة حاملةً همومَ المرأة وتطلعاتها وخوفها من أن تضيعَ ذاتُها في السائد الاعتيادي.

تنقسم المجموعة الى جزأين في مئتين وعشر صفحات من القطع المتوسط. اشتمل الجزء الاول على خمس عشرة قصة قصيرة تضم بين جوانبها عدة قصص قصيرة جدا، بينما اشتمل الجزء الثاني كله على تسع وعشرين قصة قصيرة جداً.

تنم المجموعة عن مقدرة قصصية تتمثل في الجملة الحركية القصيرة المتتابعة، واللجوء الى التداعيات والمناجاة التي تضمّنها ومضات فلسفية حول معاني الحياة، ومعاناة المرأة التي تحس نفسها وحيدة في هذا العالم. وتنتهج قصص المجموعة في كثير من الاحيان خطاً آخر يبتعد عن النمط المعروف بتوظيف حبكة مأزومة الذروة تختتمها دهشة النهايات والمفارقات الى قصة تقوم على توظيف مشاهد الحياة المألوفة في إطار تأملي لا يخلو من إشارات رمزية، توظفها الكاتبة لتقفل النهايات المفتوحة لصور الحياة اليومية. وباستثناء عدة قصص محدودة يرويها صوت بضمير الغائب، فإن صوت الراوي بضمير المتكلم يسيطر على المجموعة، ما يوحي بميل المؤلفة الى توظيف التجارب الذاتية في بناء عالمها القصصي. وإن كان من خصائص هذا الصوت صدقية التعبير المكثف، إلا أنه يقيد الكاتب في تطوير شخصيات أخرى خارج ذاته، أو توظيف رؤية كلية عن بعد ليعطي شخوصه حرية أكبر في إدارة أزماتها خارج قناعاته.

في قصة "لم يعد لي إلا أنا" التي أعطت المجموعة عنوانها، توظف محاسن الحمصي المعاني الرمزية للرحلة الى شرق عمان للدلالة على رحلة اكتشاف الذات في عالم غريب واسترداد الامل بالقدرة على مواجهة الحياة لتطرح مأساة المرأة من جديد. وتبدو المؤلفة مشغولة بهمّ الانثى التي تنتقل من دفء البيت الى وحشة قسوة الحياة بعد موت الزوج الذي خلف رحيله المرارة ومواجهة ذئاب الحياة الانتهازية. وبين المخيم الذي يضم الآف قصص المعاناة وبين المقبرة التي تضم قصص الوحدة والحزن، يبدو أن البطلة قد استوعبت درس النمل في الصبر الدؤوب وقررت أن تحيا. "أراقب المشهد، أشرد بأفكاري، أحرك مخيلتي، يا الله.. كم استغرقني الوقت لآخذ درساً من هذا النمل الدؤوب".

يبدو واضحاً ميل الكاتبة الى توظيف الحوار ذي الجمل الطويلة على نحو لافت، كما في قصة "سماء تنذر بشتاء قاسٍ"، حيث يغدو الحوار وسيلة للتعبير عن الهواجس وتداعيات الافكار أكثر من كونه جسراً للتواصل. إنها قصة المرأة التي تعيش لهفة الانتظار وقسوة الغياب أمام شاشة الحاسوب وعلى ايقاع انتظار رنة الهاتف من غير أن يبدو أن الانتظار له نهاية قريبة، بينما يعيش هو صعوبة التأقلم وضغوطات العمل في الغربة، إنها قصة امرأة تبحث عن دور لها مع شريك الحياة، وعن دفء مفقود وصدى لمشاعر تؤمن بالحب، أمام رفيق درب بعيد عنها يعيش بايقاع قاسٍ يتركها تنتظر ولا يجد الوقت لعاطفة امرأة أمضها الشوق. ويعود الصوت المتكلم مرة أخرى الى تضمين التأملات من واقع رتابة قصص الحياة "أيعقل أن يأخذ الانتقال القسري والمفاجيء العواطف المتأججة، ويحيلها الى برود ونسيان نصفه الآخر؟" وتتساءل لماذا يتعمد اقصاءها عن خوض تجربة الغربة معه.

تميل قصة محاسن الحمصي الى المناورة بغلالة من الغموض الايحائي الذي يتكشف على نحو بطيء للقارىء، وتزداد الرغبة في الغموض حين تفتح بدايات القصص على محاور مختلفة من أحاديث الناس وحواراتهم قبل أن تجري في سير حبكتها الاصلية مثل قصة "رسالة من امرأة". وفيها نقرأ قصة امرأة تشعر بالضياع من فقدان الأمل في حب حقيقي، ولا تطيق أن تقتات على قصص النساء التي تطفح ثرثرة بلا طائل. إنها قصة امرأة لا تمنحها الحياة ولا المدينة ولا الغرباء سوى مزيد من سوء الفهم والتقليل من شأنها. إنها قصة معاناة المرأة التي تخرج منكسرة القلب من تجربة اعترتها الخيانة، لتضع قلبها في ثلاجة الزمن كي لا ينبض مرة أخرى، غير أن أحلام الحب تظل تراودها كأحلام اليقظة.

معظم أبطال قصص الحمصي نساء يبحثن عن حب غير انتهازي، ويقبلن فكرة الحب الشرقي الذي تصور فيه المقولات الاجتماعية الرجل كملاكها الحارس، ويقبلن الضعف الذي يعني البحث عن الدفء، لا الذي يعني الخضوع، لكنهن غير مستعدات لذبح الحب على مذبح الشهوة أو الانتهاك او اللذة التي تختزل المرأة في مشروع غنيمة، بل هنّ نموذج امرأة "لا تحمل آلة تحسب أين ومتى، كيف وقلبك مع من يطوف، أخنق غيرتي كرمى لعينيك"، إنها نموذج امرأة تبذل نفسها أمام قوة الرجل، لكنها لا تتنازل عن دورها في المجتمع.

تبدو نساء محاسن الحمصي حالمات.. نساء يجدن توصيف الحب الحقيقي كما في قصة "بي رغبة في البكاء" ولكن لا يتقن الاحتفاظ به، بل يشقين في انتظاره ويصلن حد حافة الجنون، ورجالها أنواع عدة لكنهم يتحينون الفرص لاستغلال المرأة باظهار الانفتاح والرقة ودعم المرأة في حين يخفون حقيقتهم المرة خلف أقنعة.

تتخذ بطلاتها، وكما تقول في إحدى قصصها، "من الصمت حرفة، والعزلة رفيقاً، من الوحدة صديقاً، والحزن أنيساً". بطلات تجبرهن الأيام على وضع الاقنعة، التي تتهشم في النهاية كالمرايا، فلا يبقى غير صورة الحزن والاستسلام والتشظي كما في قصة "من جيب قلبي". تعكس المشاهد المتشظية مدى الاضطراب الذي يسيطر على تفكير شخصياتها القليلة.

يطل المكان في قصص محاسن الحمصي على استحياء بلا معالم واضحة، ويتلاشى الزمن في الحاضر من غير أن يحفل بتفاصيل الماضي، وتجدها تميل الى التجريد وإحالة التجربة الانسانية في الحب والوحدة وانكسار الاحلام الى موضوعة، ليس مهما الانشغال في نقل تفاصيلها، بقدر ما يشغلها نقل خلاصة التجربة الانسانية بعيداً عن تفاصيل المكان والزمان. ورغم أن طبيعة قصص الحمصي تستدعي حاجة ماسة لتفاصيل المكان، إلا أنها سرعان ما تحلق في عالم التجريد بعيداً عن تفاصيله المحلية، فلا تحفل به كثيراً بقدر ما تهتم بمعاني مواقف الحياة المختلفة.

أغلب قصص الحمصي لوحات مشهدية تركز على تقديم مواقف انسانية تنتصر فيها المرأة على ما تتعرض له من تهميش أو حرمان، لكن ليس من غير ثمن تدفعه من استقرارها النفسي ومن أحلامها، أكثر من كونها قصة بالمفهوم الكلاسيكي للقصة التي تعتمد على تقدم الحبكة وتطور الشخصية في إطار زمني ينتهي بعنصر الدهشة التي تفتح الباب على إدراك مفارقات الحياة.

يتسم أسلوب الحمصي بالوصف الذي تغلب عليه اللغة الشاعرية: "يسكن فوق سحابة الكلمة، يهطل الحرف من فمه كاللؤلؤ المكنون.. قطرة.. قطرة، تروي جفاف العمر، تردم تشقق النفس، لتخضرّ أرض الجدب، وتزهر حدائق الأمل الصدئة".

وتبدو جملتها القصصية وكأنها تنسرب أحيانا من بين يديها، فتحاذي تخوم التعبير المباشر الذي ينم عن حجم الاحباط الداخلي والافكار السوداوية التي تعتمل في صدر الراوي تجاه معاناة الانسان في مجتمع فقد قلبه وسيطرت عليه الانانية والانشغالات المادية، غير أنها سرعان ما تعود للابحار بلغتها الرشيقة وايحاءاتها التي تخلو من التفاصيل معتمدة على ذكاء القارىء في لملمة أجزاء الصورة.

تتوزع مواضيع القصص على طيف متعدد الالوان والقضايا لكن ما يجمعها هو ميلها الى ابراز المعاناة الفردية، فأبطالها دائما إما امرأة احترفت الانتظار أو التهميش، أو اشتاقت لغزل يعيد الى قلبها نبض الحياة، أو شارفت الموت بعد خيانة من تحب، أو كاتب لا يجد من يشتري كتابه أو يكتب عنه.

في قصة "نصف ساعة ونصف" نرى امرأة تفتقد للحب والحنان الذي يعيد المياه الى أنهار روحها الذابلة. وتعيش صراعاً بين إخلاص لرجل منشغل عنها لا يعرف من الدنيا سوى أعماله، وبين رجال غرباء يتقنون فن دغدغة عواطف الانثى. وتبقى بطلتها حائرة بين دهر من الجفاف العاطفي ونصف ساعة من التعبير عن الحب الذي يرحل سريعاً. وفي قصة "يطول الدوار" نرى المرأة التي يتحول إخلاصها وجمالها ووفاؤها الى نقمة عليها في حين يظل الرجل يخون مرة تلو أخرى. وفي قصة "على سفر" امرأة تصارع لاثبات ذاتها بين أثرياء ما بين أحاديث العمل وأحاديث الغرام، لكنها تجد نفسها منجذبة الى لغة الجسد، وتبحث عن حب سريع خاطف بلا أمل وقد ضاع منها الرقم، في توظيف رمزي الى ضياع الحب والأمل لتبقى المرأة تكابد جفاف القلب.

نلمح في بعض قصصها توظيف اسلوب السخرية والكوميديا بشكل شفيف كما في قصة "خط الأحلام". إنها قصة الأحلام المقتولة الحزينة لامرأة يعتقد الجميع أن لديها مهارات خارقة في قراءة الطالع والتنبوء به، لكن كل مهاراتها وتحديها لإرادة أسرتها في اختيار شريك حياتها لم تستطع أن تنقذها من بؤس زوج رحل ولم يكن قادراً على التعبير عن حبه كما كانت تتمنى، وفقدت طفلها لحظة الولادة، فصارت أرملة في عز شبابها.

تجيد القصص القصيرة جداً التي اشتملت عليها المجموعة مرواغة الحبكة بأقل قدر من التفاصيل الضرورية. وتبدو اللغة أكثر انزياحاً وشاعرية والفكرة أشد غموضاً لكنها أعمق، والجملة تراوح بين قنص مظهر مادي ضروري لسرد مختزل، وبين تحليق فلسفي في ما وراء الحدث. كتبت في قصة "صداقة": "دخلت بيتنا منكمشة، تشكو غدر الزمان:

- صدر البيتِ لكِ ..! لاذت بدفء القلوب، جففت الدمع، خلعت رداء الحجل، مدّت ذراعيها عبر الغرف.. ووجدتني أجلس على العتبة".