الخميس، مايو 28

القوارير


القوارير
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

ظننت أنه أدرك كلامي القاسي الجمعة الماضية. قلت في نفسي ساعتها لن يعيدها مرة أخرى. لكن يبدو أنني كنت واهماً. يظهر أنني لم أفهم طينته بعد! جلست أنتظر قدومه بعد العصر. مرت أكثر من ساعة ولم يحضر.


- أين ذهب هذه المرة يا تُرى؟


تأخر كثيراً. طال انتظاري وتململي. مرّ وقت طويل وأنا أذرع البيت والحديقة داخلاً خارجاً. بان على وجهي الغيظ، وازدادت زفراتي حدةً كلما أمعن النهار في المغيب واقترب الليل. ليس عندي وقت لهذا العمل سوى اليوم. مرّت ساعات المساء ولم يحضر. هذه ليست أول مرة يتغيّب فيها عندما أريده. الى متى سأحتمل تهرّبَه من واجباته؟ أيظنني غافلاً عنه وعن ألاعيبه؟ لا يعرف أنني لا يمكن خداعه بهذه الاساليب. لكن هذه نتيجة طيبتي. شعرت بالكآبة من المرارة والانتظار. لم يعد عندي صبر على أكاذيبه. إزددت حنقاً عليه. حلّ الليل فيئست من حضوره. إنشغلت بعد قليل ونسيت التفكير في أمره. لم أتذكره الا في الصباح.


إستيقظت مبكراً على غير عادة. الجو بارد والريح تنخر مسامات جلدي. أتى الخريف قبل موعده هذه السنة. السماء رمادية ملبّدة بالغيوم، والشمس تطل من بعيد على استحياء وتغيب، مثل عروس تنوء بخفرها في ليلة زفافها. ريح باردة تلسعني، فأشعر أن لها دبيباً في مفاصلي. يداي متيبستان باردتان من حمل الحجارة. لا أريد أن أظلّ تحت رحمة قدومه. القيت بكاهلي على المقعد الحجري البارد، وصدري يعلو وينخفض من بقايا أنفاسي اللاهثة. إحمرّت راحتا يدي وصارتا كقطعة ثلج. وريقات مصفرّة تدور من حولي، وتقطع عليّ تركيزي، فأسرح معها. أتامل حركاتها المجنونة، قبل أن تتقصّف وتستقر في الزوايا. أفكر أننا يمكن أن نصير مثلها ذات يوم. تلقي بنا الاقدار في زوايا الحياة المنسية ننتظر النهاية في صمت وعزلة. إرتعشت من الفكرة.


أتجول حول البيت في الحديقة. ما يزال الندى على أوراق شجرة التفاح، وعلى الازهار في الاحواض. تأخر سليم. تشاغلت بنقل حجارة الحوض الكبير، الذي ماتت أزهاره الى خلف السور. رأيت القطة جاثمة تحت قوس المدخل في سكونٍ، مغمضةَ العينين، مقرورةً من البرد. جلست على المقعد الحجري المعتاد. كان فنجان القهوة ينتظرني! لا بد أنه أحضره خلال جولتي لينفد بجلده من نوبة غضبي! لكنه واهمٌ، فقلبي مليء عليه!


أشعلت سيجارة وأخذت أرتشف القهوة. تباً للحامدي! انها مرّةٌ باردةٌ ثقيلةٌ مثل ظلّه. عاد سليم الحامدي لعادته القديمة. نبهت عليه أكثر من مرة أن يحضرها ساخنة. ألا يكفي غيابه أمس؟ أخيراً لمحته قادماً نحوي بقامته الطويلة، ونظراته التي لا تجعلني أصدقه. حاولت مراراً أن أقنع نفسي بأنه يقول الحقيقة، لكن عينيه تلتمعان خبثاً كعيني ثعلب.


- أين كنت؟ منذ الصباح وأنا أبحث عنك؟


- كنت أحضّر القهوة


- وأين كنت يوم أمس؟


- في المستشفى. أنت تعرف أنه لا راحة لي إلا يوم الجمعة


- ألم أقل لك أن تنقّبَ الارض، وترتّبَ الاحواض، وترفعَ الحجارة؟ لا أطيق منظرها هذا.


- بلى، لكن يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي أبقى فيه الى جانبها


- ولماذا تأخرت بإحضار القهوة؟


- لم يبق لدي سجائر، فذهبت لشرائها، لكن البقالة كانت مغلقةً فانتظرتُ حتى ُفتحَ الباب. خشيت أن تطلب مني سيجارة، عندما تنقطع أحياناً منها، فلم أحبْ أن أخيّبَ أملك.


تسكتني إجاباته دائماً، وتحرجني، لكني لا أصدقه. كلما سألته أين كان يقول لي في المستشفى. أفكر أحيانا بطرده، لكن من أين لي أن أجد مثله. لقد تعودت عليه. رغم أنه يزوغ عندما أريده، إلا أن ما يشفع له أنه ينفذ ما أطلبه منه دون جدال. أصرخ أحياناً عليه، لكن إجاباتِه وأيمانَه التي يحلفها، ووقوفَه كالمسكين أمامي تجعلني أصمت. أعرف في قرارة نفسي أنه يكذب. عيونه الثعلبية تشي بذلك.


أطل وليد من البوابة الخارجية ومعه قوارير الماء. قلت لسليم بصوت خفيض: "لماذا لا تتعلم منه؟ كلما اتصلت به، يأتي فوراً. ألا تعرف أن تكون مثله؟". إبتسم سليم من غير أن يقول شيئاً، فأحسست في عينيه عدم رضى عن المقارنة! كان وليد يبتسم كعادته. شاب في بداية الاربعينات من العمر. مهذب للغاية. لا تدل ملابسه الرثة ولحيته النابته وشعره الاجعد عليه. عندما رأيته أول مرة، تفاجأت به. لم يكن كلامه اللطيف الذي كنت أسمعه عبر الهاتف يتناسب مع مظهره. يوحي صوته بأنه رجل أرستقراطي! كنت دائما أتعامل مع صاحب المكتب مباشرة. راعني مظهره عندما رأيته أول مرة بعد عدة أسابيع. إزددت إعجاباً به لأنه عصامي مكافح. ليت سليم يتعلم منه بدلاً من بلادته. كلما اتصلت به يقول: حاضر. وخلال ساعة تكون القوارير في البيت.


اتصلت به ذات يوم في الصباح كالمعتاد. صارت الدنيا عند العصر ولم يحضر. إتصلت بالمكتب شاكياً متذمراً. إقترب موعد وصول الضيوف، ولم يكن لدينا في البيت قطرة ماء! شعرت أنني في ورطة! ماذا سيكون موقفي إذا لم يجدوا ماءً يبلون به ريقهم! إتصلت به غاضباً. أسمعته كلاماً قاسياً، لكنه بقي هادئاً. قال إنه سيوصلها مهما كلف الامر. حضر الضيوف ولم يحضر، فاتصلت به، صائحاً مقهوراً من الغيظ: ماذا جرى لك؟ هل لك أن تتخيل الورطة التي وضعتني فيها؟ يبدو أنني حسدتك! لم يرد كلامي. ولم أكد أقفل الخط حتى سمعت الجرس. ضحكت من الموقف! قال إن السيارة تعطلت منذ الصباح، وهو يحاول تصليحها في ورشة السيارات. لكنها لم تعمل. فاضطر لتوصيل القوارير في سيارة أجرة حسب وعده. أحسست يومها بالندم.


وضع وليد القوارير، وأخذ قسائم الماء، وذهب. قلت لسليم: "إهتم بتنقيب الارض وإزالة باقي الاحجار ورش المبيدات ريثما أعود". كنت أراود نفسي على الذهاب الى الحلاق منذ أيام. ليس سهلاً أن تقضي نصف ساعة بلا حراك تحصي أنفاسك وأنت تتأمل المرآة أمامك أو الشعر المتساقط في حجرك. الحلاقة، مثل النوم، وقت ضائع بلا طائل. غير أنك في النوم تنسى مشاهد الرتابة اليومية وسيريالية البشر، أما في الحلاقة فتظل تتململ كالمسافر الذي ينظر الى ساعته أكثر من عدد دقائق رحلته الطويلة!


عندما رجعت، لم أجد سليم. تطاير الشرر من عيني. قالت لي زوجتي منى إنه ذهب الى المستشفى لأمر طاريء. أدركت أن سليم مصرٌّ على اللف والدوران ولن يستقيم. عجزت أن أجعل منه شخصاً مثل وليد في انضباطه. فكرت أن أطرده ساعتها. ولكن منى هدّأت من إنفعالي. قالت إن إبنته مريضة في المستشفى منذ شهر لاصابتها بفقر الدم. قلت لها لا أصدقه. هذه حجة يستغلها كلما أراد الخروج. أنا أعرف أنه يذهب لكي يعمل في مكان آخر. كيف يبقى هنا مقابل دنانير معدودة في الشهر، بينما يكسب مثلها في أسبوع؟! سليم آخر إنسان يرضى بالقناعة.


كنت في البيت عندما رنّ جرس الهاتف. إنه وليد. بادر بالاعتذار عن الازعاج. كانت نبراته تدل على خطب ما ألمّ به، وقد بدا عليه التأثر. قال إن إبنه الصغير انسكب عليه ماء ساخن واحترق ساقه. كان في حالة صدمة، وقد بدا الحزن والاضطراب في كلامه. شعرت بالاسى نحوه. قال إن المستشفى يريدون إجراء عملية له ولا بد أن يدفع مبلغاً تأميناً لنفقاتها. أخبرني أنه ينتظر حوالة مستعجلة من أخيه في دبي، وأنه بحاجة الى المبلغ ريثما تصل الحوالة. إستغربت من جرأته، فهذه أول مرة يفعل ذلك. لم أفكر بالامر كثيراً، فالملهوف يفعل أي شيء. شعرت أنه قد حان الوقت لأرد له جزءاً من طيبته. قلت له لا عليك. تعال الى البيت. حينما جاء بعد ربع ساعة، كان منظره يدل على البؤس. كان شعره منفوشاً، أشعث، ولحيته متموجة السواد بالبياض، وملابسه عليها بقع مصفرّة.


روى لي ما حدث، وعيناه تدمعان من التأثر. غبت قليلا وعدت والمبلغ في يدي وأعطيته اياه. لاح بصيص أمل في عينيه، وبوادر ابتسامة على شفتيه. تغير وجهه وأصبح أكثر إشراقاً. قلت له إذهب للمستشفى وطمني عنه. قال إنه سيتصل بي بعد عدة أيام لاعادة المبلغ.


في المساء رجعت الى البيت، وأنا ما زلت أفكر في وليد وابنه. شعرت بالألم. بعض الحوادث تصبح ذكرى مريرة مثل وشم لا يزول، يترك أثاره في زوايا القلب والذاكرة. عندما دخلت البيت كان الجو متوتراً. لم تخبرني منى شيئاً، لكنني رأيت في عينيها أمراً. سألتها فأخبرتني إن سليم جاء الى البيت وقد بدا عليه الخوف، وطلب مساعدة لأن إبنته في حالة خطرة. قالت: "لاحظ سليم ترددي في إعطائه شيئاً، لعلمي بما تقوله عنه، فاعتذر وخرج". حاولت تبديد حرجها مما حصل وقلقها: "لا تصدقي كلامه كثيراً. هذه حيلة أخرى من حيله".


صدقت توقعاتي. فلم يعد سليم منذ ذلك اليوم الى البيت. وأدركت أنه كان يحاول استغلال غيابي ليأخذ نقوداً قبل أن يختفي. شعرت بالحنق من تصرفاته. مرت أيام وأصبحت الحديقة مهملة. شعرنا بالضيق والحاجة الى من يعتني بها. وأخيراً ساعدني صديق في العثور على عامل آخر بدلا من سليم، فنسيت التفكير في أمره. مرت عدة أسابيع. تذكرت وليد. واستبد بي الانزعاج وخيبة الامل، فإتصلت به. وقبل أن أنبس ببنت شفة، بادر الى القول أن المبلغ كان لديه، وفي اليوم الذي كان يريد الحضور لاعادته، فقد صدم فتاة صغيرة وتسبب لها بعاهة، ووضعته الشرطة في الحجز نتيجة ذلك. شعرت بالتأثر الشديد والتعاطف معه، وحاولت التخفيف عنه.


في صباح اليوم التالي وانا أشرب فنجان القهوة وأقرأ الجريدة. رن جهاز هاتفي. كان المتصل صاحب مكتب المياه. سألني إن كان قد بقي لدينا قسائم لشراء قوارير المياه. قلت له نحن ندفع الاشتراك ونسجل على ورقة من غير قسائم. وتساءلت متعجباً: "ألم تتوقفوا منذ عدة أشهر عن إصدار القسائم"؟ تنهد بحسرة وقال: "هذا ما توقعته". قلت له: "أخبرني. يبدو أن في الامر شيئاً يثير الريبة". فقال إنه اكتشف أن وليد يستغل معرفته بالزبائن ويأخذ منهم نقوداً. صدمت من وقع كلماته. ثار بداخلي احساس بأنني واحد من ضحاياه، بيد أنني تذكرت ما قاله المرة الماضية من أنه كان قادماً لدفع المبلغ لولا الحادثة التي حصلت له. ضحك صاحب المحل وقال: "لقد مضى على هذه الحادثة أربع سنوات، وهو يستعملها ذريعة في كل مرة"! شعرت بالغضب. إعتمل الغيظ في داخلي. وقعت عيناي وأنا أستمع اليه على الخبر في الصفحة أمامي. غريب أنني لم أنتبه له. كنت مشدوداً للمفاجأة أفكر بوليد، فلم أنتبه طيلة الوقت الذي كنا نتحدث فيه الى الاعلان. كان نعياً عن "زهرة تذبل" وتحته إسم وفاء سليم الحامدي.

* اللوحة أعلاه للفنان المصري مكرم حنين بعنوان "عودة حورس"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق