الأربعاء، يوليو 9

مستشرقون


محطات استشراقية

بقلم اياد نصار

تأخذ الدراسات المتعلقة بأعمال وكتابات ورحلات ولوحات ومغامرات المستشرقين جانبا كبيرا من اهتمام الدوائر الاكاديمية والجامعية في كافة أنحاء العالم ، مثلما تأخذ نصيباً من اهتمام المثقفين بتحليل الدوافع التي كانت وراء رحلات المستشرقين والدراسات التي قدموها إثر رحلاتهم تلك الى الشرق، سواء أكان الشرق الاوسط أو الاقصى أو الادنى، أو في أعماق القارتين الافريقية والاسيوية. كما حظيت المؤلفات التي تضمنت مشاهداتهم وانطباعاتهم والاسهامات اللغوية او الفكرية أو الفنية أو الادبية وغيرها التي قدموها لتراث الشرق وتاريخه وأدابه وكل ما يتصل به باهتمام ودراسة العديد من الباحثين العرب والاجانب كونها تتناول فترة مهمة من تاريخ الشرق حيث كان هناك فقر شديد أو غياب في المصنفات والمؤلفات من جانب كتاب ومؤرخين من أبناء الشرق ذاته والتي تغطي الفترة من القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. ففي غياب الكتب والدراسات الموثقة النابعة من الشرق ذاته والتي تتناول تلك الفترة التي شهدت اتصال الشرق بالغرب في بداية عصر الاستعمار الغربي منذ انطلاق الحملات الاسبانية والبرتغالية للاستكشاف والاستعمار ، فقد سدت اعمال المستشرقين فراغاً فكرياً . وللدلالة على ذلك فإن كتاب عبدالرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والاخبار) يكاد يكون الوحيد باللغة العربية الذي أرّخ لحملة نابليون بونابرت على مصر ضمن سياق فترة تاريخية مهمة من تاريخ مصر والتي غطاها هذا الكتاب والتي امتدت مئة سنة بين بداية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ولكن طبيعة الخدمات التي قدمها المستشرقون للدوائر الغربية نتيجة ارتباط بعضهم بالجيوش الاوروبية أو الشركات الاستعمارية الكبرى وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أو بأجهزة الاستخبارات الغربية أو عملهم كدبلوماسيين وجواسيس او مبعوثين القت بظلال الشك على اسهاماتهم. كما ان الكثير من دراسات المستشرقين أثارت حولها ردود فعل متباينة بين مشكك فيها لأنها قدمت الشرق بصورة رومانسية حسية ترتبط بالغموض والمرأة والجنس أو بصورة فيها تشويه للشخصية العربية من حيث اظهار التخلف والجمود ، وبين مرحب بها لأنها كشفت اللثام عن الكثير من المخطوطات العربية وساهمت في ترجمتها أو تحقيقها أوحفظها في المتاحف ، أو في تقديم دراسات أدبية ولغوية عن المجتمعات الشرقية أو الادب العربي وتعريف الغرب به، او المساهمة في طباعة ونشر المصادر العربية والكشف عن الكثير من الاثار والمعالم التاريخية التي كانت طي النسيان.

نماذج مختصرة مختارة من حياة وأعمال بعض المستشرقين:

- يوهان لودفيغ بركهارت Johann Ludwig Burkhardt :

رحالة ومستكشف سويسري قضى عدة سنوات يتعلم اللغة العربية والاسلام. كان يقدم نفسه على أنه مسلم من الهند. قام برحلة بدعم من جمعية في لندن من أجل اكتشاف الاجزاء الداخلية من افريقيا. وفي طريقه الى القاهرة فقد مرّ بشرق الاردن وهناك سمع عن مدينة عجيبة منحوتة في الصخر. فأثاره الفضول لرؤيتها والتعرف عليها. ولكي لا يثير شك السكان المحليين من البدو بنواياه فقد إدعى أنه جاء لكي يقدم قرباناً عند قبر النبي هارون على قمة أحد الجبال في مدينة البتراء. وقد تقرب من السكان المحليين من خلال تعلم وملاحظة عاداتهم ولغتهم لكي يعرف عن تلك المدينة التي يتحدث الجميع عنها ولم يرها. وهكذا تمكن من رؤية جانب من مدينة البتراء التي كان أغلب معالمها مدفوناً تحت الرمال ومنسية لسنوات طويلة قبله. وأدرك أنه اكتشف كنزاً ثمينا فقام برسم لوحات اسكتشات للمدينة وأرسلها للنشر في اوروبا، فكان بذلك أول من أعاد اكتشافها عام 1812 بعد ان كادت تنسى وتضيع تحت الرمال.

- ريتشارد فرانسيس بيرتون Richard Frances Burton :

رحالة وعسكري أنجليزي كان يدعى الكابتن . كانت له مواهب كثيرة فقد قيل أنه كان جندياً وجاسوساً وكاتباً وشاعراً ومترجما حيث ترجم جانبا من كتاب الف ليلة وليلة وكتاب كاما سوترا وهو أول كتاب هندي قديم حول أدب الحب والجنس بالسنسكريتية . كما كان مستكشفاً جغرافياً ودارساً للمجتمعات العرقية والاثنية وعالما لغوياً. وقد قيل أنه كان يتكلم 29 لغة. ومع ذلك فقد قيل أنه رسب في امتحان الجيش البريطاني اللغوي حول اللغة العربية. كان يعمل مع الجيش الانجليزي في الهند من خلال عمله لدى شركة الهند الشرقية الاستعمارية البريطانية . وقد تمكن من خلال اقامته لسبع سنوات بالهند من التعرف على نمط حياة المسلمين في الهند وعاداتهم ، كما درس الاسلام ونجح بدخول مكة متخفياً وأداء الحج. وقد ذهب بعد ذلك الى عدن في اليمن ثم الى سواحل افريقيا بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية وقد كاد أن يموت من العطش في الصحراء في اثيوبيا، ولكنه أوشك أن يقتل في الصومال حينما هاجم مخيمهم مجموعة من رجال القبائل وقد قتل بعض رفاقه وأصيب في سهم اخترق خده وقد ترك ذلك أثرا بارزا في وجهه طوال حياته وكان واضحا في صوره التي رسمت له بعد ذلك. ولكنه تمكن من اكتشاف منابع النيل حيث تمكن من الوصول الى بحيرة تنجانيقا ومن ثم اكتشاف بحيرة فكتوريا برفقة صديقه المستكشف جون سبيك برغم الصعوبات التي لقياها في الرحلة كالامراض الاستوائية وضياع المؤن والعدة التي كانا يستعينان بها وقد عمل في اواخر حياته كقنصل بريطاني في دمشق في سوريا. وهناك التقى بالامير عبدالقادر الجزائري الذي كان منفياً ويقيم في دمشق.

- لورنس العرب Lawrence of Arabia :

توماس ادوارد لورنس ولكنه عرف باسمه الاكثر شهرة وهو لورنس العرب. ولد عام 1888 وتوفي عام 1935 وقد ذاعت شهرته كثيرا ، وكتب عنه الكثير من الكتب . كما تم تقديم سيرة حياته في فيلم سينمائي مشهور شارك في بطولته الفنان عمر الشريف الى جانب أليك جينيس وأنطوني كوين وبيتر توول. خدم لورنس العرب كضابط ارتباط بريطاني في صفوف قوات الثورة العربية الكبرى التي قام بها الشريف حسين بن علي أمير مكة خلال الحرب العالمية الاولى للتخلص من حكم الاتراك العثمانيين. وقد حكيت حوله الكثير من القصص والاساطير حول أدواره كرجل عسكري وخبير متفجرات وجاسوس وكاتب وسياسي وخبير بطبيعة حياة وعادات المجتمع العربي البدوي. وقد قيل أنه كان أكثر واحد بين المستشرقين الذي تمكن من اتقان اللغة العربية باللهجة البدوية واللباس وعادات البدو وتقاليدهم وممارستها. كان يعمل في مكتب الاستخبارات البريطاني في القاهرة ، وعند قيام الثورة العربية عام 1916 فقد أنتدب للعمل مع الثوار في مكة وسار مع طلائع القوات العربية شمالاً نحو الاردن وسوريا. وكان له دور كبير في تفجير الحاميات التركية بفضل خبرته في المتفجرات. وقد تعرض دوره الى تفسيرات متناقضة بين من يقول أنه كان يحاول املاء الدور البريطاني من خلال اتصاله بالامير فيصل نجل الشريف حسين، وبين اتهامات بريطانية بأنه كان يدافع عن مواقف الامير فيصل بقوة وكان يدعو الحكومة البريطانية للاخذ بها. روى الكثير عن أحداث الثورة وحياته بين العرب وعن دوره مع قوات الامير فيصل في كتابه الشهير الذي أصدره عام 1926 بإسم (أعمدة الحكمة السبعة).

- يوجين ديلاكروا Eugene Delacroix :

رسام فرنسي مشهور ينتمي للاتجاه الرومانسي في الرسم . ولد عام 1798 وهي السنة التي نزلت فيها قوات نابليون أرض مصر، وتوفي عام 1863 وهي السنة التي شهدت اعلان الرئيس الامريكي ابراهام لينكولن وثيقة تحرير العبيد ومن ثم انتشار الحرب الاهلية الامريكية. قضى أربعة أشهر من حياته في المغرب في عام 1832 مما أثر على أسلوبه الفني كثيراً حتى نهاية حياته. كان معجباً بنمط الحياة في المجتمع العربي في شمال افريقيا ورسم الكثير من اللوحات عنه يقال انها وصلت مئة لوحة مثل لوحة (نساء الجزائر) و (دراويش طنجة) و (عربي يسرج حصانه) و (خيول عربية) و (مناوشات بين فرسان عرب في الجبال) و(صيد الاسد). وبهذا شكلت هذه اللوحات اضافة جديدة للدراسات الاستشراقية. وقد كان معجبا بأنماط العادات واللباس في شمال افريقيا ، وقد اعتبرها المكافيء للمرحلة الكلاسيكية التي شهدت ازدهار روما واثينا . ومن المعروف أنه اشتهر برسم لوحات ذات مضمون سياسي تنتقد بعض المذابح والاحداث العسكرية في عصره آنذاك. ومن أشهر لوحاته لوحة ( الحرية تقود الشعوب) التي رسمها عام 1830 م.

* اللوحة أعلاه بعنوان مولاي عبدالرحمن سلطان المغرب من رسم الفنان يوجين ديلاكروا عام 1845 م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق