الأحد، أغسطس 31

الصياد وعصافير الليل


الصياد وعصافير الليل

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

خطواتٌ رشيقة تقفز فوق مربعات تحاذرُ أن تلامس خطوطها! خطوط طباشيرية بيضاء مرسومة فوق الساحة أمام البيت. عشرة مربعات موزعة على صفين. تلاحق النظرات حركة خطواتها. ما تزال الشمس كبيرةً في الأفق بعد العصر. السماء صافية إلاّ من بعضِ الغيوم الشاردة نحو الشرق. الجو معتدل وفيه نسمة هواء منعشة. ليس مألوفاً في هذا الوقت من أواخر شهر آب. كانت الاسابيعُ الماضية حارةً لا تطاق من الرطوبة.

بدأتْ الدراسة منذ أيامٍ قليلة. ما يزالُ الاولادُ يلعبون الكرةَ في وسطِ الشارع. تمرُّ سيارةٌ مسرعةٌ. يطلق سائقها صوتَ بوقِها المجنون. لا يأبهُ لها الاولاد. تقترب السيارةُ أكثر. يزيد صوتُ زعيقِها المزعج. يبتعدُ الاولادُ قليلاً بتثاقلٍ وعناد. ينطلق صوت السائق صائحاً يهذرُ ويشتم. يعود الأولاد للعبِ مرةً أخرى . يضعون حجارةً على جانبي الشارع. هذه هي المرمى! تمر سيارةٌ أخرى. ينطلق الصوت العالي يصمّ الآذان. يبتعد الأولاد قليلا بصلفٍ وهم يحدّقون في السائق. يُخرج أحدُ الاولاد لسانَه وراء السيارة! يلوّح آخر برجله ضارباً الهواء خلفها! جمعٌ قليل من البنات يلعبن على الرصيف أمام البناية ذات الحجر الوردي والأعمدة التي تنتصب على جانبي المدخل والاقواس.

تمتليء الحديقة العامة كل يوم بعد العصر. يمر بعض الاولاد الاشقياء مسرعين من بين الناس فوق ممرات الحديقة المبلطة بدراجاتهم الصغيرة فيضطرب السائرون! نساءٌ كثيراتٌ يجلسن على المقاعد. تستمر أحاديثهن المكرورة كل يوم حتى يحلَّ الليلُ! لا مكان يذهبن اليه غير هذه الحديقة! صارت الحديقة شاهداً على حكاياتهن. هي ذات الحكايات وإن اختلفت التفاصيل والاسماء! صورٌ متشابهةٌ من نكد العيش بلا أمل.

غسل سالم يديه وخرج من البوفيه. ذهب للمكتب مباشرة. كانت فايزة تجلس على الحاجز. رنّ الهاتف. أجابت بصوتها الناعم: آلو.. الشرق للنقل. أمامها لوحة المفاتيح وعليها بعض الاضواء الحمراء الصغيرة. ضغطتْ على أحد الازرار ثم وضعت السماعة مكانها. عادت تقرأ في كتيّبٍ صغير في يدها. توقف سالم عندها. اتكأ على الحاجز. رد السلام وابتسم. نظرت إليه بنصف إبتسامة. تلبس فايزة قميصاً أحمر وبنطالاً من الكتان القاسي كالجينز وتضع حجاباً على رأسها. تبرز مقدمة شعرها الكثيف والطويل ، ويلمع أحمر الشفاه على شفتيها وقد طلت أظافرها بلون بني.
- هل وصل المعلم فرج؟
- إنه بالداخل. لقد سأل عنك
- كنت أتغدى. وصلت منذ قليل. كنت ميتاً من الجوع.
لم تنبس فايزة بكلمة. بقيت عيناها على الكتاب.
- هل ذهبتِ للغداء؟
- نعم، زمااااااان! ومطّتها بدلع.
- ماذا تغديت؟ يجب أن تنتبهي لوزنك؟ أين ذهبت أيام الرشاقة؟!
تطلعت فيه بنظرات شَزِرَة وعيونٍ مستغربة. لم تعلق. ابتسمت قليلاً وعادت تقرأ في الكتاب. على غلافه صورة نارٌ مشتعلة وأهوالٌ وأفاعٍ ذات أشكال غريبة. ولكن لم يكن يبدو عليها الخوف.
- متى وصل؟
- حضرت وكان بالمكتب
- ماذا تقرأين في يدك؟
رفعت له غلاف الكتاب ليقرأ العنوان.
- ما الذي حصل؟
- هداني الله وعقلت! قالتها وضحكت ضحكة خجلى كتمتها بين شفتيها!

كانت الساعة فوق الحائط تشير إلى الخامسة. غرفة واسعة فيها مكتب إلى اليسار تجلس عليه فايزة وأمامها مقسم هاتفي، وحول المكتب بعض الكراسي. فايزة محظية لدى المدير. مكتبها أكبر من الجميع. الكل يخشى سطوة لسانه إلا هي. لم يسمعه أحد ذات يوم يصيح فيها إذا تأخرت مثل الآخرين. تعمل فايزة موظفة إستقبال وعاملة مقسم وسكرتيرة في آن معاً! تحب سماع الموسيقى، ولا يفارق المسجل مكتبها. ينبعث صوت الأغاني من جانبها، وعندما يسافر فرج ، يرتفع الصوت أعلى من المعتاد! بعد أن تزوجت العام الماضي فقد لاحظ عليها الموظفون تغيراً. أصبحت تقلل من تعليقاتها وتكتم ضحكاتها! ولكن مساحيق التجميل والزينة والخواتم وعقود الذهب إزدادت!

إلى اليمين باب كُتبت عليه لوحة بخط يدٍ غير منتظم "قسم المالية والمحاسبة". وإلى اليسار مدخل غرفة شؤون العاملين. وفي الامام هناك مكتب الحركة. مكاتب الموظفين مزدحمة بالكراسي والخزائن وقد اهترت حوافها وأصبحت باهتةً من كثرة الاستعمال، وأجهزتهم قديمة بالية. وفي نهاية الممر إلى اليسار باب خشبي لمكتب واسع. مكتب وثير فاخر ملأه فرج بكل أدوات الرفاهية والفخامة واللوحات الفنية المستنسخة الرخيصة! لا يرى الزوار الذين يحرص على إستقبالهم من المدخل الاخر لمكتبه سوى الصورة المشرقة!

ورث فرج الشركة عن أبيه ، واستطاع باسم المحافظة على اسم العائلة وإرثها أن يستولي على حصص أخواته في الشركة! دفع لهن مبالغ لقاء التنازل عنها. لم يكن أحد يعرف أوضاعها المالية الحقيقية إلا هو. فقبلت البنات بيع حصصهن على مضض. عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة! وفرج ماهر في اصطياد العصافير! يعشق فرج النساء. ضبطه أبوه ذات يوم مع سكرتيرته في مكتبه بعد انتهاء الدوام فطردهما. لكنه أعاده في الاسبوع التالي. ليس هناك أحد غيره. الابن الوحيد المدلل بين ثلاث أخوات.

كانت أحلام فرج في الثراء والتوسع أكبر من أن تحملها الشجرة! أخذ يستدين من البنوك وفي ذهنه أحلام طفرة اقتصادية ستستمر، ولكن الحلم تحول سريعاً إلى كابوس. ركود وأزمات اقتصادية. لم تعد أعماله مثل السابق. بدأ يحس بضغوط عليه لسداد الديون. فكر في مخرج من الازمة. استطاع بفضل علاقاته أن يقنع بعض أصدقائه بالانضمام اليه. فضخّوا أموالاً كان بأمس الحاجة اليها.

تقفز غادة فوق المربعات الطباشيرية بخطواتها السريعة. رسمتها مع صديقاتها على أرض الساحة أمام البناية التي تسكن فيها. غادة ذات الأحد عشر ربيعاً في الصف السادس. تنزل كل يوم بعد العصر مع صديقاتها من بنات الساكنين الآخرين ليلعبن الحجلة. وعندما يتعبن من القفز، يجلسن على طرف الدرج الرخامي العريض عند مدخل البناية ليحكين القصص وأخبار المسلسلات! بدأت الدراسة قبل أيام. ما يزال أمامهن متسعٌ من الوقت للعب. غادة ذكية ومجتهدة وتعتمد على نفسها. أمها ربةُ بيت وأبوها دائماً في العمل لا يعود الاّ في وقت متأخر. وأحياناً يسافر بشاحنته لعدة أيام ينقل خلالها البضائع. لقد اعتادت أمينة سفره الدائم في سبيل لقمة العيش. يعمل زوجها في هذه المهنة قبل أن تتزوجه.

حل الظلام شيئاً فشيئاً فبدأت الحركة تخف في الشارع. عادت غادة للبيت. أخذت أمها تؤنبها على تأخرها. أصبحت عصبيةً لا تطيق سماعَ كلمة. وترد بكلام فيه ندية،كأنما تدافع عن حريتها الطفولية. صارت تتمرد في الايام الاخيرة. يشعر سالم بالغيرة من تصرفاتها! لم يعرف هو نفسه مثل هذه التصرفات. كان يخنع ويسكت بسهولة. الرد على الكبار لم يكن في قاموسه. وإن وقعت في لحظة طيش، كان يأتي الاعتذار وتقبيل اليد فوراً! يحسدها سالم بداخله، ويضحك من جرأتها. ولكنه يجد صعوبة في التأقلم بسرعة، فبدأت مشاكل المراهقة تفرض حضورها. يلين أحياناً كي تمر العاصفة ولكنها لا تمر، بل تتحول إلى إعصار!

دق سالم باب مكتب فرج بهدوء وارتباك ودخل يمشيء ببطء. لا يعرف لماذا سأل عنه في غيابه. فهو يعرف أنه كان في رحلة إلى أبو ظبي وإلى مسقط. نقل شحنة من الزجاج في شاحنة طويلة في رحلة إستغرقت بضعة أيام. لقد إعتاد السفر وصار خبيراً بالطرق الخارجية ومحطات الصحراء والاستراحات. انتبه فرج إلى صوت الباب ولمحَ وجهَ سالم. نادي عليه فدخل وأغلق الباب خلفه. يعمل سالم في الشركة منذ فترة طويلة تقارب الاربعة عشر عاماً. عمل بها عندما كان الحاج علي أبو فرج مديرها. كان فرج يتردد على المؤسسة كثيراً قبل أن يصبح مديراً فيها أثناء حياة والده. أرسله أبوه ليدرس الطب في أمريكا، ولكنه عاد بعد عدة سنوات بذاكرة تمتليء بقصص النساء! لاحظ الموظفون الفرق بينه وبين والده. لم تنفع معه الدراسة ولا الاساليب الحديثة! فرج يحب السلطة وفرض الاوامر وإظهار مكانته بين الاخرين. لا يتورّع عن رفع صوته على الموظفين. لا يستثني أحداً منهم الا فايزة!

نشأت بينه وبين سالم معرفةٌ قوية. زاره فرج في بيته وتعرف إلى زوجته وأولاده. وبرغم الزيارات الا أن جليد الرسميات والمقامات لم يذب تماماً. ولكنه يُؤْثِره على باقي العاملين الاخرين. يخصه بمعاملته ويعطيه بعض الصلاحيات في مراقبة السائقين الاخرين! يصارحه أحياناً بأفكاره وطموحاته ومشاريعه. ولا يوصي أحداً من السائقين أن يحضر له سجائر وعطوراً وأجهزة مهربة إلاّ هو. غير أن فرج لا يفتأ يذكّره بين حين وحين بأنه هو المدير وأنه عامل عنده.

استفسر فرج من سالم عن رحلته الاخيرة. شعر أن ذلك مقدماتٌ لموضوعٍ آخرَ ليس أكثر. فهو يسافر كثيراً ويغيب أياماً عديدة، وليس من عادته أن يناديه كي يسأله عنها. لم يستعجل سالم الامر، فلا بدّ في النهاية أن يفاتحه بالموضوع الذي يدور في رأسه. فتح الباب فجأة وأطل رأس شاب. قال فرج: أدخل أسامة. دخل ببطء وسلّم عليهما وجلس. يعرفه سالم جيداً. صبي مدلل ناعم لا يعرف غير الملابس الصارخة الالوان! ولكنه ذكي يهوى الكمبيوتر إلى حد الهوس. كلما رآه سالم يزداد إحساسُه بأنه ينتمي لعالم آخر غير عالم أسامة!

توقف فرج عن الكلام وأخذ يسأل أسامة عن استعداده للمدرسة فهذه السنة الاخيرة. شعر سالم أنه ربما لا يرغب في الحديث عن الموضوع بحضور أسامة، فبقي ساكتاً. عرف أن فرج سيتكلم في الوقت المناسب ولا داعي للالحاح! بعد قليل خرج أسامة من المكتب. قال فرج: أريد أن أتحدث معك بموضوع مهم. هذا موضوع بيني وبينك ولا أريد أحداً أن يعرف به. صَدقَ حدسُ سالم. إلتفت اليه بانتباه. بدأ فرج الحديث عن علاقتهما الوطيدة ومكانة سالم عنده، وعند والده من قبل. وأخذ يعدد مناقبه في الصداقة والمال والناس! فرح سالم في أعماقه لسماع هذه الكلمات. كان سالم يحاول اصطناع الهدوء كي يبدو متواضعاً. ولكن حديث فرج بدأ يتحول إلى جانب آخر. لم يستطع سالم أن يحدد تماماً ماذا يريد فرج. كان يستطرد في عباراته وهو يتحدث عن موقف ما خطر له تلك اللحظة. أخذ فرج يتحدث عن البيت والاسرة والسعادة. ولكن حديثه كان مفتعلاً مرتبكاً. استشف سالم من كلماته حديثاً عن الزواج. بدأ فرج يقترب أكثر من صلب الموضوع. اختلطت مشاعر سالم. لم يعرف لماذا اختاره هو ليتحدث عن هذا الموضوع. بدأ يشرد في تفكيره. هل سيقدم فرج على الزواج مرة أخرى ويريد أن يمهد له الفكرة؟ أم يريده أن يمشي معه في مشروع زواجٍ ثانٍ؟ ظنّ في داخل نفسه أنه ربما يريد أن يستمزج رأيه في الموضوع.

صار حديث فرج أكثر وضوحاً قليلاً. أحس سالم بفرح في أعماقه ولكنه فرح مشوش مضطرب. سيكون شيئاً رائعاً أن يفكر بمصاهرته. لم يكن يحلم بهذا الشيء من قبل. أحس بسعادة غامضة بداخله. لا تعجبه بعض سلوكيات أسامة، ولكنه شاب غني في مقتبل العمر ويكفي أنه ابن مدير الشركة. ولكن غادة ما تزال صغيرة. ليست في سن الزواج. لم يفكر أبداً بالموضوع من قبل. انتهز سالم لحظة صمت من بين كلمات فرج. قال إن الامر فاجأه كثيراً. وأخذ يشيد بصفات اسامة أمام والده.. محض مجاملات! الحقيقة مرة أحياناً ولا يقدر على قولها! أضاف سالم أن ابنته ما تزال صغيرة للتفكير بهذا الموضوع. شعر فرج بالارتباك قليلاً من سوء الفهم. ولكنه ظن أن سالم معه حق حين ربط الامر بأسامة! قد يبدو الامر مستهجناً، لكن هناك الكثيرون مثله. تجاسر على التوضيح بجرأة غير معهودة. صعق سالم ولكنه تملص منه ووعده بالتفكير بالامر.

بعد يومين جاء دور سالم ومصطفى في السفر مرة أخرى. سيذهب سالم هذه المرة إلى بنغازي ، ومصطفى الى الاسكندرية. حمولتهما من أواني الخزف. جهّزوا شاحنة سالم بكل شيء وانطلق. كانت الساعة السادسة صباحاً. بعد ساعة سيجهّزون شاحنة مصطفى وسينطلق وراءه. الجو لطيف والطريق مليئة بالشاحنات. لقد اعتاد هذه الرحلة منذ عدة سنوات ، ولكنها طويلة ومتعبة. يلتقي بسائقين آخرين على الطريق وفي الاستراحات. صارت الطريق عالمهم ، ولقاءاتهم تبعث الأنس في وحشة الطريق.

الطريق مزدحمة على غير العادة أمام مصطفى. من بعيد ظهرت سيارات كثيرة. كان عدد من الناس واقفين على طرف الشارع. الشارع يميل منحدراً نحو منعطف إلى اليمين ثم إلى اليسار. والرصيف ترابي منحدر مع سفح الجبل الذي برزت فيه صخور وأشجار برية نبتت بين شقوق الصخور. وفي الأسفل قاع صخري باتجاه المكان الذي تجمهر فيه بعض الناس. عدد من رجال الشرطة يحيطون بالمكان. وقف يستطلع الامر. هاجس قفز الى رأسه. نزل وأخذ يدفع بيديه حتى وصل إلى الرصيف المنحدر. رأى شاحنة سالم وقد انقلبت واستقرت في قاع الوادي. عدد من رجال الانقاذ حول الشاحنة. ما زال غيرَ مصدّق. سأل الشرطة بانفعال واضح عما حصل للسائق. قالوا إنه كان ينزف كثيراً وفي غيبوبة فاضطروا إلى احضار مروحية لانتشاله من قاع الوادي. قال أحد رجال الشرطة إنهم وجدوا بعض زجاجات مشروب تحت الكرسي وفي ثلاجة الشاحنة.
* اللوحة أعلاه للفنان البريطاني المعاصر جون كراكستون

الثلاثاء، أغسطس 26

صدر حديثاً .. أشياء في الذاكرة




أشياء في الذاكرة .. ترى النور

إياد نصار

صدرت مؤخراً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة في عمان مجموعتي القصصية الاولى بعنوان أشياء في الذاكرة في 215 صفحة من القطع المتوسط. وقد قدم المجموعة الناقد والاستاذ سليم النجار. وأقتطف في هذا المقام بعضاً مما جاء في تقديمه "لا معنى للنظر الى الوراء الا لمعرفة أين نحن الآن. ونحن إذ نحاول قراءة الماضي الذي لم يمض بعد، نحاول أن نتجاوز سؤال البقاء الى سؤال الوجود الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة الذات..."

وفي موقع آخر من تقديمه كتب يقول: "... ينادي إياد نصّار، في مستوى منه، بمنظور جديد للقاص، ويدعو في مستوى آخر، الى تجديد الحياة الاجتماعية، التي تسمح بأشكال جديدة في القص العربي. وفي مدار الجديد المرغوب، تحظى مقولة الاستبداد بمنزلة رفيعة، أي تصبح فكرة الحرية مدخلاً لكل ما يمكن الدخول اليه، بدءاً بإنسان يحسن القراءة، وانتهاءً بقاص يلمس الفرق بين الحريري في مقاماته وموليير، والباب الذي يلج منه نصّار الى عوالم النور هو " فلسطين"...

كما كتب أيضاً في موقع آخر: "الوطن البسيط هو وطن البطل العادي، الذي لا يشبه سلفه الكنعاني " عوج بن عناق" ذلك الذي كان ينتعل جبلين، ويخمش الشمس من أذنها. بطل قادم من الصناعات الخفيفة، ومن الحقل. عاشق ومحروم، كثير الاخطاء، لكنه طامح الى وطن يتسامح مع بشريته وأرضيته، لأنه ليس نورانياً بأية حال!

وهذا ما تنبه اليه القاص إياد نصار، فبنى تمرير رؤاه عبر تصادمات إنسانوية. فانتقل نصار بإنسانه القصصي من الهامش الى المتن، لهذا يقص عن المنفيين الذين يتمركزون في نخاع المنفى، الذين لهم وحدهم تشرق الشمس.

نصار اختزل إنسانه المنفي الى جغرافياه وحشوها كالسيف القديم في غمد هذه الجغرافيا المزخرفة. لا يتوقف التاريخ عن التبدل، لكن البشر يعيشون، ويعملون، ويعشقون، ويمرضون، ويموتون ...

البشر يكتسبون صداقات جديدة، وأزمنة من الاستنارة أو الأسى، وذلك كله له علاقة بالتاريخ. أو له صلة واهية به.

هذا ما قصه إياد نصار في "أشياء في الذاكرة"، التي تبقى أبرز محطات الانسان".

صمم الغلاف الفنان المبدع نضال جمهور

للحصول على الكتاب يمكن الكتابة الى الناشر أو الاتصال به على العنوان التالي:
دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة
عمان الاردن
تلفاكس 009624650885


السبت، أغسطس 16

ايفلين


إيفـلـين

قصة: جيمس جويس
ترجمة وتعليق: اياد نصار

جلست على حافة النافذة تراقب المساء يقتحم الشارع. كان رأسها يتكيء على ستائر النافذة، ورائحة القماش القطني المغبر تملأ أنفها. لقد كانت متعبة. مر عدد قليل من الناس. مر الرجل الذي خرج من البيت الاخير عائداً الى بيته. سمعت صوت خطوات قدميه تخبط فوق الرصيف الاسمنتي. ثم بعد ذلك تدوس فوق ممر الرماد أمام البيوت الحمراء الجديدة. لقد كان هناك في يوم ما من الايام الخوالي حقل اعتادوا على اللعب فيه كل مساء مع أطفال الساكنين الاخرين. ثم اشترى رجل من بلفاست الحقل وبنى بيوتاً فيه - ليست مثل بيوتهم البنية الصغيرة ولكنها بيوت من الآجر الساطع ذات الاسطح اللامعة. لقد اعتاد أطفال الشارع أن يلعبوا معاً في ذلك الحقل. أطفال عائلة ديفاين وعائلة ووترز وعائلة دنز وكيوف الطفل المقعد الصغير وهي وإخوانها وأخواتها. لم يلعب إيرنست معهم أبداً. لقد كان كبيراً. لقد اعتاد والدها أن يلاحقهم بعصاه المصنوعة من خشب شجر البرقوق الى خارج الحقل. ولكن كيوف الصغير إعتاد أن يراقب المكان وينادي عليهم إذا رأى والدها قادماً. وبرغم ذلك فقد كانوا آنئذٍ أكثر سعادة كما يبدو مما هم الان. لم يكن والدها بذلك السوء حينها، كما كانت أمها ما تزال على قيد الحياة. لقد كان ذلك منذ زمن بعيد. ولكنها قد كبرت هي وإخوانها وأخواتها جميعاً وماتت أمها. كما مات تيزي دن أيضاً، ورحل أولاد ووترز الى انجلترا. كل شيء يتغير. والآن فإنها ستذهب بعيداً كما ذهب الاخرون. ستترك بيتها.

البيت! نظرت حواليها في أرجاء الغرفة تعاين كل محتوياتها المألوفة والتي كانت تنفض عنها الغبار مرة بالاسبوع لسنوات طويلة وتتعجب بحق السماء من أين كان يأتي كل ذلك الغبار. ربما لن ترى تلك الاشياء المألوفة مرة أخرى والتي لم يكن يخطر لها بال أبداً أنها يمكن أن تفارقها ذات يوم. بيد أنها وطوال كل هذه السنوات فإنها لم تعرف اسم ذلك الخوري الذي كانت صورته الاخذة في الاصفرار معلقة على الحائط فوق الهارمونيكا المكسورة الى جانب تلك البشارات المطبوعة والتي أعطيت للقديسة مارغريت ماري ألاكوك. لقد كان صديقاً لوالدها من أيام المدرسة. وكلما كان يقدم الصورة لزائر ما فقد اعتاد أن يتبعها بجملته العفوية: " إنه في ملبورن الان".

وافقت أخيراً أن تذهب بعيداً ، وأن تترك بيتها. هل كان ذلك عملاً حكيماً؟ لقد حاولت أن تزن جانبي المسألة. في بيتها تجد المأوى والطعام على أية حال. وهنا كل أولئك الذين عرفتهم طوال حياتها. بالطبع كان عليها أن تعمل بجد في البيت والعمل. ماذا سيقولون عنها في المحل عندما يكتشفون أنها قد هربت من البيت مع صديق لها؟ ربما يقولون أنها كانت مجنونة، وسيعينون مكانها شخصا آخر من خلال الاعلان. ستكون الانسة غافن مسرورة. لقد كانت تلح عليها دائما وخاصة حينما يكون هناك أناس يستمعون:

"آنسة هيل، ألا ترين اولئك النسوة ينتظرن؟"

" رجاء آنسة هيل لتكن هيئتك مفعمة بالنشاط".

لن تذرف دموعاً كثيرة على ترك المحل.

ولكن في بيتها الجديد في بلد بعيد غير معروف، لن تكون الامور كذلك. ستكون عندها متزوجة -- هي، إيفلين. سيعاملونها الناس عندئذ باحترام. لن يعاملوها كما كان الحال مع أمها. وحتى في هذا الوقت ورغم أن عمرها يزيد عن التاسعة عشر، إلاّ أنها كانت تشعر بداخلها بخوف من خطر عنف أبيها نحوها. لقد كانت تدرك أن ذلك هو ما يجعل جسمها يرتعد خوفاً. عندما كان أخواها صغيرين لم يكن يعاملها بفظاظة كما كان يعامل هاري وإيرنست، لأنها كانت بنت. ولكنه مؤخراً بدأ يهددها ويقول أنه لا يفعل ذلك فقط لأجل أمها المتوفاة. ولا يوجد أحد الان ليحميها. لقد مات إيرنست، وصار هاري الذي كان يعمل في مجال تزيين الكنائس يمضي أغلب الوقت في الريف.

كما أن الشجار الذي لا بد منه في ليالي السبت حول النقود قد بدأ يقلقها. لقد أعطته أجرها كله -سبعة شلنات، وكان هاري يرسل دائما ما يستطيع، ولكن المشكلة كانت في الحصول على أية نقود من والدها. كان دائماً يقول أنها تبذر النقود وأنها بلا عقل وأنه لن يعطيها نقوده التي يكسبها بعرق جبينه لترميها في الشارع، بل إنه كان أسوأ من ذلك دائما ليلة السبت. ولكن في النهاية كان يعطيها النقود ويسألها ان كانت لديها نية لشراء عشاء يوم الاحد. ثم كان عليها بعد ذلك أن تخرج بأسرع ما يمكن للتسوق وهي تقبض في يدها على محفظتها الجلدية السوداء بقوة بينما كانت تشق طريقها من بين الحشود وتعود للبيت متأخرة وهي تنوء بثقل المؤونة. لقد تحملت عملاً شاقاً لأجل أن يبقى البيت متماسكاً ولأجل أن يذهب الصبيّان اللذان تركا في عهدتها الى المدرسة بانتظام، ولأجل أن يأخذا وجبتي طعامهما بانتظام. لقد كان عملاً قاسياً - حياة شاقة -، ولكنها الآن وهي على وشك أن تغادر البيت، لم تحس أنها كانت حياة غير مرغوبة تماماً.

إنها على وشك أن تستكشف حياة أخرى مع فرانك. كان فرانك لطيفاً جدا، رجولياً، طيب القلب. ستذهب معه في قارب الليل لتكون زوجته وتعيش معه في بيونس آيريس حيث هناك بيته ينتظرها. تذكرت تماما أول مرة رأته فيها. كان يسكن في منزل في الشارع الرئيسي حيث إعتادت أن تذهب. كان ذلك قبل أسابيع قليلة. كان يقف عند البوابة وقبعته المدببة الرأس تميل للخلف على رأسه وكان شعره منسدلاً للامام على وجه برونزي. تعارفا على بعضهما. كان يواعدها خارج المحل كل مساء ويوصلها للبيت. واصطحبها ذات مساء لتشاهد مسرحية الفتاة البوهيمية. شعرت بفرحة غامرة حيث جلست في جزء غير معتاد من المسرح معه. كان يعشق الموسيقى وغنّى لها قليلاً.

كان يعرف الناس أنهما متحابان، وعندما كان يغنّى عن العاشقة التي تحب بحاراً، فقد شعرت دائما باحساس غامض جميل. لقد اعتاد أن يناديها بإسم بوبنز على سبيل المداعبة. في باديء الامر، كان شعوراً رائعاً مثيراً أن يكون لها صديق وقد بدأت تحبه بعد ذلك. كان يحكي لها حكايات عن بلاد بعيدة. لقد بدأ حياته كصبي يعمل فوق سفينة تابعة لشركة خطوط ألان التي تذهب الى كندا مقابل جنيه واحد في الشهر. حكى لها أسماء السفن التي عمل فوقها وأسماء الخدمات المختلفة. لقد أبحر عبر مضيق ماجلان وأخبرها قصصاً عن الباتاجونيين الفظيعين. وقال إنه إستقر وأسس نفسه في بيونس آيريس ولكنه عاد الى بلده لقضاء إجازته. وبالطبع فقد عرف والدها عن علاقتهما ومنعها من أن تلتقي به.

قال: إنني أعرف هولاء البحارة!

وفي ذات يوم تشاجر مع فرانك فاضطرت بعدها الى لقاء حبيبها سراً. أخذ الظلام ينشر سدوله في المساء في الشارع. حتى أصبح بياض رسالتين في حجرها غير مقروء. أحداهما كانت لهاري، والاخرى لوالدها. كان إيرنست المفضل لديها ولكنها أحبت هاري أيضاً. وقد لاحظت أن والدها قد أصبح متقدماً في السن مؤخراً. سيفتقدها. أحيانا يكون لطيفاً معها. لم يكن ذلك منذ فترة بعيدة عندما مرضت ذات يوم واستلقت في الفراش، فقرأ لها قصة عن الأشباح وصنع لها شطيرة فوق النار. وفي يوم آخر عندما كانت أمها ما تزال حية، فقد ذهبوا جميعاً في رحلة الى تلة هاوث. تذكرت والدها وهو يضع قبعة أمها لكي يُضحك الاولاد.

كان الوقت ينفد ولكنها استمرت في الجلوس عند النافذة وهي تتكيء برأسها على الستارة وهي تنشق رائحة القماش المغبر. وفي أقصى نهاية الشارع سمعت فرقة موسيقية تعزف بالشارع. لقد عرفت اللحن. من الغريب أنه جاء تلك الليلة بالذات ليذكرها بالوعد الذي قطعته لوالدتها، وعدها أن تحافظ على الأسرة معاً بقدر ما تستطيع. لقد تذكرت الليلة الاخيرة في مرض أمها. لقد كانت في الغرفة المظلمة القريبة في الجانب الاخر من القاعة ، عندما سمعت لحنا ايطالياً كئيباً حزيناً. لقد طلب أحدهم من العازف أن يذهب بعيداً وأعطاه ستة بنسات. تذكرت والدها يمشي بإختيالٍ عائداً الى داخل غرفة المريضة قائلاً:

اللعنة على الايطاليين! لقد وصلوا الى هنا!

وبينما كانت تتأمل في الصورة البائسة التي تثير الشفقة لحياة أمها فقد ألقت تعويذتها المسحورة بسرعة على وجودها -- حياة التضحيات المألوفة التي تنتهي بالجنون. إرتعشت وهي تسمع صوت أمها مرة أخرى يقول باصرار أحمق [بلغة قديمة]: نهاية اللذة هي الألم! نهاية اللذة هي الألم!

وقفت في هزة رعب مفاجئة أصابتها. هروب! يجب أن تهرب! فرانك سينقذها. سيمنحها الحياة وربما الحب أيضاً. لكنها أرادت الحياة، فلماذا يتعين عليها أن تكون غير سعيدة؟ لديها الحق بالسعادة. سيحتضنها فرانك بذراعيه ويضمها. سينقذها. وقفت بين الجمهور المكتظ في المحطة عند السور الشمالي. أمسك بيدها وأدركت أنه كان يتكلم معها، يقول شيئاً عن طريق الرحلة مرة أخرى وأخرى. كانت المحطة مليئة بالجنود يحملون حقائب بنية. وعبر الابواب الواسعة للمحطة فقد لمحت صورة خاطفة لجسم القارب الاسود يرقد بجانب جدار المرسى مع نوافذ دائرية صغيرة مضيئة في جسم القارب. لم تجب بأية كلمة. شعرت خدها شاحباً وبارداً ، وصلّت لله إذ أحست بأنها في محنة كي يرشدها، كي يبين لها واجبها. واصدر القارب صفارة طويلة حزينة في وسط الضباب. اذا ذهبت ، ستكون غداً مع فرانك في عرض البحر متجهين نحو بيونس ايريس. لقد تم حجز رحلتهما. هل يمكنها أن تنسحب بعد كل الذي عمله لأجلها؟ وأيقظت محنتها فيها شعوراً بدوار في جسمها وبقيت تحرك شفتيها في دعاء مضطرب حزين.

قرع جرس في قلبها. شعرت به يقبض على يدها: تعالي!

إضطربت كل بحار العالم من الحزن في قلبها. كان يريد جرها الى أعماقها. سيغرقها. تمسكت بكلتا يديها بالاطار المعدني.

تعالي!

لا! لا! لا! لقد كان مستحيلاً. تشبثت يداها بالحديد في غضب. وأرسلت صرخة عذاب وسط البحار.

ايفلين! ايفي!

وأسرع خلف الحاجز ونادى عليها لتلحقه. وأخذوا يصرخون عليه كي يصعد ولكنه كان ما يزال ينادي عليها، فأدارت وجهها الابيض بمواجهته. كان بلا ملامح مثل حيوان بائس. لم تعطه عيناها أية اشارة للحب أو الوداع أو الثناء.


عن القصة
نشرت قصة ايفلين ضمن مجموعتة القصصية (الدبلنيون) او ساكنو مدينة دبلن الايرلندية Dubliners كما سماها والتي نشرت عام 1914 . وكل القصص في هذه المجموعة هي من واقع حياة الناس في دبلن في تلك الفترة. ومعظم شخصيات المجموعة مثل ايفلين هي شخصيات عادية. وقد إنعكس تأثير المسرحي النرويجي هنريك إبسن ومدرسته الطبيعية الواقعية على الروائي الايرلندي جيمس جويس في بداية حياته الادبية حيث نلاحظ تقديمه لتفاصيل حياة الشخصيات كما هي ، قبل أن يؤسس مذهب أو اتجاه تيار الوعي في الرواية كما في روايته صورة الفنان في شبابه أو في روايته الأشهر يوليسيس وكما نجده لاحقاً في روايات فرجينيا وولف الذي يعتمد مباديء التحليل النفسي واستخدام مفاهيم الوعي الباطن والحلم والانتقال الفجائي بين صيغ الزمن المختلفة والتداعيات الحرة للافكار والذكريات بدون رقيب منطقي.

تعد القصة نموذجاً رائعاً على القضايا التي شغلت بال جويس في قصصه ورواياته مثل هموم الحياة المعاصرة والشعور بالاغتراب وقضايا العلاقات الاجتماعية والجنسية وضغوط الاسرة والمجتمع على حرية الفرد والشعور بالمسؤولية الفردية. ورغم أن المجموعة تطرح قضايا انسانية عامة الا أنها لا تخلو من تأثيرات البيئة المحلية حيث عكست مشاكل المجتمع الايرلندي المتدين المحافظ في تلك الفترة وخصوصا معاناة المرأة الساعية للاستقلالية وخوض التجربة العاطفية والانسانية في ذلك المجتمع لدرجة أن قصصه قوبلت بالنقد أولها لأنها قدمت صورا من غير رتوش تجميلية للواقع.

بطلة القصة ايفلين تعيش صراعاً نفسياً بين إحساسها بالمرارة من واقعها البائس الذي يهيمن عليه أبوها بحضوره القاسي في تعامله وسيطرته حتى على أجرها الذي يرمز لاستقلالها المادي وشعورها بالمسؤولية تجاه اخوتها الصغار بعد وفاة أمها التي لا ترغب أن تكون نموذجا مكرراً عنها وبين رغبتها في أن تكون لها حياتها الخاصة مع شاب بحار أسس نفسه في بيونس آيريس بالارجنتين. ولكن المستقبل الذي يقدمه فرانك يبدو غامضاً، فهو قد عانى في العمل كصبي على السفن حتى استطاع امتلاك بيت هناك، ولا يبدو أن الحياة معه هناك ستكون سهلة. تعمل ايفلين بشكل مجهد في بيتها كما تشتغل في محلات وكما نستشف فإنها تعمل كما يبدو كبائعة فيها غير أن رئيستها في العمل تعاملها بأسلوب فظ يجعلها تود الهروب منه.

نلاحظ في القصة تغير لغة التعبير لدى الراوي مع تطور الحبكة، ففي النصف الاول تقريباً من القصة نلاحظ تركيزه على ابراز معاناة ايفلين وهمومها وعذاباتها والتركيز على ابراز الاب بصورة قاهرة قامعة ومعاناتها في العمل في المحل، ثم لا يلبث أن تتغير النبرة فيبدأ يرى أشياء جميلة أو ذات بعد انساني وسط المعاناة، فوالدها ليس بهذا السوء كما يقدمه الراوي ، بل أنه لديه لمسات حانية أحيانا. يبدو واضحاً في كلام وأفكار ايفلين في القسم الثاني أن حدة المعاناة ليست كما تم تصويرها لنا وهذا مؤشر يمهد للقاريء ويعده نفسياً لتقبل الارتداد في خطة البطلة والتراجع عن التغيير بصورة الهروب.

تطرح القصة موضوع علاقة الابناء بالاباء وفكرة التمرد الاجتماعي والصراع بين الالتزام الاجتماعي والاخلاقي وبين البحث عن الذات والحب بعيدا عن تأثير الوطن والبيت. اشتملت القصة على اشارات ايرلندية ومسيحية كاثوليكية تعكس واقع المجتمع الايرلندي الذي كان ما يزال يعاني تحت الحكم الانجليزي وتوقه للتحرر.

عن المؤلف
ولد الكاتب الايرلندي جيمس جويس في عام 1882 في دبلن وكان الابن الاكبر بين إخوته العشرة. درس في بداية حياته في مدارس دينية أثرت على كتاباته وقد تخرج من الجامعة في عام 1902 بعد أن درس اللغات الحديثة وقد ذهب بعد ذلك الى باريس لدراسة الطب غير أنه انشغل بالكتابة، ثم عاد الى دبلن حيث كانت أمه المريضة تعاني من مرض عضال.
يعد جويس من أهم وأشهر كتاب القرن العشرين بأعماله التي بدأت بالدبلنيون عام 1914 ثم رواية السيرة الذاتية صورة الفنان في شبابه عام 1916 ثم الرواية الضخمة التي لقيت معارضة شديدة جدا عندما صدرت عام 1922 ثم ما لبثت أن أصبحت أحد أهم أركان الرواية المعاصرة التي أسست مدرسة تيار الوعي ثم رواية يقظة فينيجان 1939 . وقد حظي باهتمام النقاد والدارسين بشكل كبير وذاعت شهرته . جرب جويس حظه في المسرح فكتب مسرحية المنفيون في عام 1918 وكتب كذلك مجموعات من القصائدالشعرية كان أولها ديوان غرفة الموسيقى عام 1907. توفي في عام 1941.


* اللوحة أعلاه للفنان الايطالي أميديو مودلياني (1884-1920)

الجمعة، أغسطس 15

جميلة


جميلة

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أفاقت المدينة على صباح ٍ خريفي بارد بعد ليلةٍ صاخبة. تتحرك أوراق الشجر الصفراء وأغصانها بهدوء. يسمعُ صوتها بين الحين والآخر. لا يبدّدُ موسيقى الطبيعة الاّ أصواتُ سياراتٍ مارةٍ وزعيقُ أبواقها النشاز تبحث عن ركاب. تتراكض وريقاتٌ ذابلة هزيلة بنية اللون بعد أن اكتوت طويلاً بحرِّ الصيف في الشوارع. ما تزال أغلب نوافذ بيوت المدينة وأبوابها مغلقة. الشوارع شبهُ فارغةٍ الا من بعض القطط التي تذرع الارصفة أو تقف فوق أكوام القمامة في الحاويات. حمل عاملٌ شابٌ وافد سطلاً للمياه وفي يده بعض شرائط القماش المبللة. رفع ماسحات الزجاج الأمامي وأخذ يسكب الماء المليء برغوة الصابون فوق السيارة. ينظف كل صباح سيارات الشارع من بدايته إلى نهايته. وفي اليوم التالي ينتقل للشارع الآخر. هناك شاب آخر في الشارع الخلفي للحي. في كل شارع ٍ تقريباً ترى واحداً منهم. لقد تم تقسيم الشوارع بينهم إلى مناطق نفوذ! رجل عجوز محدودب الظهر يلبس ملابس بالية متسخة ، وشعره كثٌّ أشيبٌ. يحمل كيساً على ظهره كالحمّالين. يقف عند حاوية القمامة ينقب بين أكوامها عن العلب الفارغة. هذه طريقة مبتكرة في تدوير النفايات. تكلّف بعض الشركات الشحادين في المدينة بجمعها مقابل قروش قليلة!!

ما تزال مصابيح الشارع مضاءة. يبدو أنهم نسوها احتفاءً بالمناسبة. شوارع الاحياء الفرعية شبه معتمة في الليل بالكاد تنيرُ مصابيحُ أعمدتها الخافتة ما تحتها. هناك مصباح أو اثنان على طول الشارع كله. يمر الناس من أمام السيارات مثل ظلال سوداء كالأشباح من العتمة. لقد احتار الناس في أمرها. هل هو توفيرٌ للنفقات أم عقابٌ للقاطنين لأن أولاد الحي الأشقياء كسروا بعض المصابيح؟! لم يكن من مظاهر احتفال بالمناسبة ليلة أمس سوى طلقاتِ ألعابٍ ناريةٍ وبعضِ يافطاتٍ من قماش موشّحةٍ بعبارات مكرورة تعود الناس عليها وبرنامج قصير على التلفاز!

بدأت الحركة تدبّ في الشوارع. هناك أناس لا تعنيهم المناسبات كثيراً. كل يوم مثل الآخر بالنسبة لهم. يستيقظون مع عصافير الفجر، وينامون معها في المساء! لقمة العيش ليس لديها عندهم وقت للاحتفال. في نهاية الشارع المنحدر يوجد منعطف شبه دائري وسور قصير يجلس عليه عمال. تتوقف سيارة .. يهجمون عليها .. تدور مفاوضات قصيرة.. بعضهم يفتح الباب ويصعد حتى قبل الاتفاق! إذا إنقضى الصباح ولم يجد من يقلّه سيمضي يومه بلا نقود.

بعد برهة توقفت سيارة نقل صغيرة قديمة حمراء اللون ، يغطيها الغبار والتراب والاسمنت الجاف من جوانبها وحول إطاراتها. يهجم العمال مرة أخرى. وتنطلق أصوت الرجاء من كل حدب وصوب. بعضهم يتعلق بالسيارة من الخلف ويصعد بداخلها. يرفع السائق صوته بنبرة عصبية: إنزلوا.. قلت لكم أريد اثنين فقط.

بقى يصرخ على الاخرين حتى نزلوا ومضى! ما يزال عدد كبير منهم ينتظر الفرج. لا يبدو أن الفرج سيأتي هذا اليوم. مشى بعضهم إلى شارع آخر يجرب حظه فيه.
في الجانب الاخر من المدينة تقف نادين أمام المرآة وتتأمل تسريحة شعرها. فتحت الخزانة وصارت تقلّب الملابس فيها. مرت أمها من باب الغرفة. صاحت: ليس عندي ملابس للحفلة اليوم
- خزانتك مليئة بالملابس اختاري منها
- لقد رأتها عليّ صديقاتي. أريد أن أشتري شيئاً جديداً
- هناك الطقم الزهري والابيض. جميل عليك
- لقد رأينه عليّ. لا أستطيع! أريد واحداً جديداً
- إختاري شيئاً غيره. أو إلبسي قميصاً وبنطالاً
- لقد أصبحت موضتها قديمة.
- قديمة؟! من قال إنها قديمة؟! اشتريناها هذه السنة.
- لقد شاهدنها عليّ. أريد شيئاً جديداً
نادين وحيدة ومدللة. تحظى بما تريده بإلحاحها وعنادها! في الصف التاسع وتسكن في منزل من طابقين من الحجر الابيض في حي مليء بالفلل والقصور التي إكتست أسقفها بالقرميد. يبدو الحي مثل مدينة إيطالية من كثرة قرميدها وسطوحها المائلة! حديقة مزروعة بالورود وأشجار الزينة حوالي البيت، وفي الخلف يوجد ساحة كبيرة في وسطها بركة للسباحة وحولها توزعت المقاعد وأسرّة الاسترخاء تحت الشمس. مدخله ضخم من الحجر والرخام الوردي. وضع فيه والدها كل فنه. واجهة من الاعمدة العالية ذات التاجيات المزخرفة وفوقها مثلث حجري له إطار بارز منقوش بداخله أشكال مختلفة.

والدتها طبيبة نسائية. مرت كثير من نساء المدينة ومواليدهن من تحت يديها! عيادتها مكتظة بالحوامل دائماً. بها خزائن حديدية كثيرة محشوة بالملفات التي بدا عليها الاهتراء والتمزق من حوافها من كثرة الإخراج والإدخال.
بنى والدها علاقات كثيرة قبل أن يفتتح مكتباً خاصاً به. منذ أن افتتح المكتب والعمل يهلّ عليه بلا توقف. لقد صمّم ونفّذ مشاريعَ عديدةً في كل أنحاء المدينة. سامي لديه أساليبه الخاصة للفوز بعطاءات المشاريع التي يعلن عنها! ذكي ذو عقلية تجارية وخبير بممارسات السوق وتكتيكاته. عندما شهدت المدينة طفرة عقارية على إثر الهجرات التي تتابعت على المدينة بفعل الحروب، فقد اشترى أراضيَ وبنى عمارات سكنية ومجمعات فاخرة وقام بتأجيرها!

اتصل سامي بسكرتيرته وقال إن زجاج المجمع متسخ منذ فترة وبحاجة للتنظيف. اتصلت هاله بأبي محمود. رجل في بداية الخمسينات يتولى تنظيف البنايات العالية والمجمعات. لقد عرفه من خلال أحد المشاريع التي قام بتنفيذها. عنده خمسة أولاد وبنت واحدة. جميلة في الثامنة عشر. أحست دائماً أنها تعسة الحظ. بنت وحيدة في أسرة كلها أولاد! أخرجها أبوها وهي في الصف التاسع لتساعده وتساعد زوجته في أعمال البيت. يأخذ ابنته وزوجته أحياناً للعمل معه في تنظيف زجاج النوافذ من الداخل، ويتولى هو وأولاده التنظيف من الخارج. في أيام العطل يأخذ أولاده الصغار معه ليتعلموا المهنة منه. يحملون عدتهم ويبدأ العمل من الصباح حتى المساء.
قبل أن تخرج الدكتورة نجوى للعمل، اتصلت نادين بإحدى صديقاتها واتفقت معها على الذهاب للسوق لشراء ملابس جديدة. تفرجت نادين على الملابس المعروضة في المحلات. دخلت وجربتها لعلها تثير إعجاب صديقاتها، ولكنه لم يعجبها شيء. أخذت تتذمر وتتشكّى. حاولت أمها أن تقنعها ببعض الملابس ولكنها لم تفلح. أخذتها إلى محلات أخرى. أكثر ما تكرهه والدتها هو هذه المهمة! تفكر أحياناً أن ترسلها مع الخادمة لتختار ما تريد بنفسها وتريح رأسها من الصداع. ولكنها تخشى من اختيارات ابنتها. صارخة عجيبة! فلا تغامر بذلك. قالت لنادين إنها قد تأخرت على العيادة والمريضات ينتظرنها. قالت نادين: الحفلة أهم من التأخير!

وصل أبو محمود للمجمع بسيارته المتهالكة القديمة ومعه ابنته وأولاده ومعهم عدة التنظيف. يتألف المجمع من أربع طبقات فوق مستوى الشارع وثلاث طبقات تحته. الطوابق السفلية سوق فيها محلات تجارية مختلفة، أما الطوابق العليا فمكاتب تشغلها شركات وأطباء ومحامون ومهندسون. بُني المجمع على الطراز الحديث وجميع واجهاته من الزجاج السميك العاكس بلونه الأخضر القاتم المائل للاسود.

دخلت نادين محلاً خاصة بملابس الفتيات. أعجبها ما لديه من الملابس. أحست أن بها روح الشباب وألوان الموضة الدارجة وتفصيلاتها المتقلبة! الملابس رديئة القماش وأسعارها مرتفعة بشكل غير معقول! ولكن لا يهم بالنسبة لنادين لان الملابس لا تمكث لديها فترة طويلة! تنفست الدكتورة نجوى الصعداء.

علق أبو محمود الحبال على سطح المبنى وشدها. صندوق خشبي مشبك ذو إطار معدني يتدلى على واجهة المبنى. كان به اثنان من أولاده ينظفان الزجاج من الخارج. يتحكم به من الأعلى ويقوم بإنزاله شيئا فشيئاً حتى يتسنى لهم تنظيف واجهة المبنى الزجاجية. تتولى جميلة تنظيف الشبابيك من الداخل. بناية كبيرة وتنظيفها شاق. تيبست أيديهم وهي تفرك وتمسح. شعروا بتشنج عضلاتهم من الإرهاق.

عاد سامي بعد الظهر إلى بيته للغداء. بعد قليل وصلت الدكتورة نجوى من العيادة. كانت في غاية الارهاق خاصة بعد جولة التسوق الطويلة. أعدت الخادمة طعام الغداء وجهزت طاولة الاكل. سفرة شهية تثير في النفس الاحساس بالجوع! جلست نادين تتناول معهما طعام الغداء.

ما يزال أبو محمود يعمل هو وابنته وأولاده في تلميع واجهات المجمع. نال منهم التعب والجوع. ولكنهم بقوا صامدين يعملون. قرر أبو محمود أن يستريحوا لتناول غداء خفيف قبل أن يكملوا باقي العمل. أحضروا معهم بعض الارغفة وحبات الطماطم والخيار والزيتون، وأخذت جميلة تقطعها بسكين وتفردها أمامهم فوق أوراق الصحف!

جلس سامي وزوجته بعد الغداء يشاهدان التلفاز. أحضرت لهما الخادمة الشاي. بعد قليل رن جهاز الهاتف. رفع سامي السماعة. وقبل أن يتفوه بكلمة سمع السكرتيرة تصيح وتبكي. صُدم سامي. أحس برعب يسري في جسده. أحس بمصيبة قد وقعت فهذه اول مرة تتصل به وهي تبكي هكذا. طلب منها أن تهدأ ولكن صوت صراخها ظل يعلو وهي تتفجع مضطربة. كانت تبكي والكلمات تخرج من بين الدموع والصرخات. صعق سامي وبان على وجهه هول كارثة قد وقعت. لم يصدق الخبر. صرخ بصوت عال ماذا تقولين؟ كيف حصل هذا؟ أنا قادم الآن ورمى السماعة من يده. نظرت اليه نجوى وهي خائفة. شعرت أن شيئاً عظيماً قد حدث. سألته وهو يجري نحو الباب. كان مضطرباً. لم يسمع سؤالها. فتح الباب وخرج بسرعة كالبرق وصفق الباب خلفه.

قاد سيارته مسرعاً وتفكيره شارد في المصيبة التي وقعت. جاءته أفكار سوداء من كل صوب. خاف من مواجهة الموقف. ولكن لا مهرب أمامه. خاف من العواقب وارتعد من لحظة المواجهة. لا بد أنهم فائرون الآن والدم يغلي في عروقهم. عندما اقترب من المجمع، سمع صوت صافرة سيارة الاسعاف وهي تبتعد مسرعة. تحيط سيارات الشرطة بالمكان. سمع صيحات البكاء ورأى الدموع تنهمر وأولاد أبي محمود يندبون كالمجانين. بقعة دماء تملأ مدخل المبنى. انهار أبو محمود وهو يبكي من اللوعة. أمسك رجال الشرطة بسامي ووضعوه في السيارة وانطلقوا به. كان الكل مصدوماً وحزيناً لما حصل. كيف فتحت الشباك؟ لماذا أخرجت جسمها وجلست على الحافة ؟ شعر سامي أن كارثة قد وقعت ولم يكن مستعداً لها.

* اللوحة أعلاه بعنوان يتيمة في المقابر للفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا

الأربعاء، أغسطس 13

مسرح تنيسي وليامز



عربة إسمها الرغبة
بقلم اياد نصار

ألّف المسرحي الامريكي الرائع تنيسي وليامز عدداً من المسرحيات التي ذاعت شهرتها واكتسبت أهمية مسرحية وأدبية كبيرة في العصر الحديث وقد تم تقديم هذه المسرحيات على خشبة المسرح في برودواي في نيويورك وما تزال تقدم الى الان بين الحين والاخر على مسارح العالم، كما تم تحويل بعضها الى أفلام سينمائية، وقد قدمت السينما العربية بعضاً من أعماله. من مسرحياته الرائعة "عربة إسمها الرغبة" A Streetcar Named Desire ومسرحية "قط على سطح صفيح ساخن" Cat on a Hot Tin Roof ومسرحية "الحيوانات الزجاجية" The Glass Menagerie ومسرحية صيف ودخان Summer and Smoke وغيرها الكثير. لكن مسرحية عربة اسمها الرغبة كانت من بين أروع مسرحياته واجملها واكثرها نضوجاً فنياً. ويرى النقاد أن مسرحية الحيوانات الزجاجية كانت أولى مسرحياته الناجحة والاكثر أهمية.

قدمت المسرحية لاول مرة في عام 1947 على مسرح في نيويورك وقد مثل دور الشخصية الرئيسية فيها الفنان الامريكي المبدع مارلون براندو في شبابه حيث لعب دور شخصية ستانلي كوالسكي ولعبت الفنانة كيم هنتر دور زوجته ستيلا كوالسكي كما لعبت الفنانة جيسكا تاندي دور أخت ستيلا تلك الشخصية الرئيسية الفذة التي أكسبت المسرحية بفعل حواراتها مع ستانلي كوالسكي التي اتسمت بالندية والسخرية والعمق والمعاناة روعتها وهي بلانش دوبوا. وفي عرض لاحق فقد تم استبدال جيسكا تاندي بالفنانة العملاقة بطلة فيلم ذهب مع الريح فيفيان لي التي أدت دور بلانش دوبوا بكل تألق.

ولد توماس وليامز في مدينة كولومبس في ولاية ميسيسبي في عام 1911 وتوفي في عام 1983. وقد توفي في حادثة غريبة حيث مات اختناقاً من غطاء زجاجة نشبت في حلقه في أحد فنادق مدينة نيويورك.

كتب مقدمتها المسرحي الامريكي الشهير آرثر ميللر الذي نتذكره في مسرحيته المشهورة "موت بائع متجول" التي أصبحت من كلاسيكيات المسرح الامريكي الحديث مثلما نتذكره زوجاً لمارلين مونرو. كتب ميللر يقول ان المسرحية تذكره بعدة أمور منها أن المرة الاولى التي شاهد فيها المسرحية لم تكن في حفل افتتاحها في نيويورك بل في مكان اخر حينما دعاه مخرجها المشهور ايليا كازان لحضور عرض تجريبي قبل أن يراها النقاد.

كان والده بائع أحذية وقد كان يسيء معاملة أطفاله ولم يكن على وفاق مع زوجته فانعكس ذلك كثيرا في صورة علاقة متوترة بينهما تركت أثراً نفسيا سيئاً على تنيسي. كما أجبره أبوه لاحقا على قطع دراسته وترك جامعة ميسوري ليعمل في شركة أحذية مع رجل اسمه ستانلي كوالسكي والذي ظهر فيما بعد في مسرحية عربة اسمها الرغبة. ثم عاد للدراسة مرة أخرى واستمر خلالها يؤلف المسرحيات وتخرج من جامعة أيوا في عام 1938. ولكنه بعد تخرجه لم يفلح أن يجد عملاً في شيكاغو فذهب الى ولاية لويزيانا التي تجري فيها أحداث المسرحية وهناك غير اسمه من توماس الى تنيسي. وقد تزوج في ما بعد من سيدة أمريكية من أصل ايطالي من صقلية كان لها تأثير كبير على حياته المضطربة، ولكنها توفيت بسرطان الرئة فأصابه ذلك بالاكتئاب لفترة طويلة، استمر معه حتى نهاية حياته حيث كان يخشى من الاصابة بالجنون كما أصيبت أخته روز.

على غير المألوف كتب تنيسي وليامز مسرحيته في أحد عشر مشهداً بدلا من تقسيمها لفصول ومشاهد. كما تتصاعد الاحداث في كل مشهد حتى ينتهي بأزمة أو عقدة. تجري أحداث المسرحية في ذات مساء من شهر مايو في بيت من طابقين على زاوية شارع في المدينة الساحلية نيو اورلينز بجنوب الولايات المتحدة في ولاية لويزيانا. يعود ستانلي الى بيته ومعه صديقه ميتش ويلقي الى زوجته ستيلا بقطعة لحم لتعدها بينما يستعدان للذهاب للعب البولينغ، ولكنه ستيلا تتبعهما. وهنا تصل بلانش دوبوا أخت ستيلا الى شقة أختها وهي تحمل معها حقيبة ملابسها بينما تنظر في قطعة ورقة معها وقد بدا عليها الشرود والضياع.

وحينما تعود ستيلا تبدأ بلانش بالتذمر من ظروف أختها المعيشية. وتخبر أختها انها أخذت اجازة من المدرسة التي تعمل بها، كما تقول أنها خسرت مزرعة الاسرة المسماة بيل ريف التي نشأت فيها، وتتهم أختها أنها تركتها لوحدها تواجه مصيرها وتكافح في هذه الحياة. يعود ستانلي للبيت،ولكن تصرفاته الفظة العنيفة تخيف بلانش. وينشب بينهما حوار مشحون فيه اشارات جنسية، في حين تختبأ ستيلا ذات الشخصية الضعيفة في الحمام لتخفي ضعفها وارتباكها بسبب اتهامات اختها لها بخصوص ترك بيت الأسرة.

في اليوم التالي أخبرت ستيلا زوجها أن بلانش قد فقدت البيت، ولكن ستانلي لم يصدق وأخبرها أنه يريد رؤية الاوراق لان بلانش تخادع كي تستولي على الارث لوحدها وتحرم ستيلا منها، ولكن ستيلا تحاول أن تمنعه وأن تشرح له المعاناة التي مرت بها أختها، ولكنه لا يصغي لها ويذهب للخزانة ويعبث بملابس بلانش ويقول أنه لا يمكن أن تكون اشترت هذه الفساتين والملابس المصنوعة من الفرو من راتب مدرّسة وحسب! فتغضب ستيلا وتخرج من الشقة وتذهب لبيت جيرانهم ولكن ستانلي يواجه بلانش بقسوة ويسألها عن كل ملابسها التي احضرتها ، ولا ينسى أن يذكر أنه لم تخدعه بفتنتها أو مظاهر هوليوود كما يصفها. ويحاول باسلوب فظ عنيف استخراج أوراقها من الخزانة حينما تقع بعض الاوراق على الارض. تخبره بلانش أنها قصيدة كتبها شاب صغير مات بسببها. ولكنها تحذر كوالسكي أنها لم تعد شابة يمكن الايقاع بها بسهولة. يصر ستانلي على عرض الاوراق على محامي وخاصة أن زوجته حامل.

تلتقي بلانش بميتش وهو صديق ستانلي وتحاول التقرب منه وإغراءَه وتسأل ستيلا عن امكانية الارتباط به. وعندما تعرف أنه يعيش قصة حب مع فتاة على وشك الموت فقد عزمت على التقرب منه. ينشأ خلاف صاخب بينها وبين ستانلي الذي يريد اغلاق الراديو بينما تصر بلانش على سماعه وهو يلعب الورق ويهجم على الراديو ويلقي به خارج النافذة، فتعمد ستيلا الى انهاء اللعبة وطرد الرجال من البيت فيضربها ستانلي نتيجة ذلك فتهرب هي واختها الى بيت جيرانهم. وعندئذ يصرخ على ستيلا بالعودة وهو يبدو عليه اليأس والانهيار وحينما تنزل فإنهما يتعانقان والدموع تنزل منهما ويخر عند قدميها لكنه ترفعه ثم يعودان للبيت. ولكن بلانش لا تستطيع أن تتخيل كيف تعيش أختها مع مخلوق حيواني متوحش مثله. تنكر ستيلا ذلك وتحاول تصوير الامر أنه اصبح رقيقا واعترف بأخطائه ولكن بلانش ترفض ذلك وتعتبر أن أختها تعيش حالة من الانكار، وتطلب منها أن تترك ستانلي قبل فوات الاوان. ويجري بينهما حوار رمزي عميق المعاني:

ستيلا: ... هناك أشياء تحدث بين الرجل والمرأة في الظلام تجعل أي شيء آخر سواها يبدو غير مهم.

بلانش: ما تتحدثين عنه ليس الا رغبة حيوانية .. مجرد رغبة. انه اسم تلك العربة التي تذرع شوارع الحي بأصواتها صاعدة مرة ذلك الزقاق ونازلة مرة أخرى غيره

ستيلا: هل سبق لك أن ركبت تلك العربة؟

بلانش: لقد أحضرتني الى هنا حيث أجد أنني لست مرغوبة ً هنا وحيث أشعر بالخجل من وجودي ..

يلمح ستانلي انه التقى برجل يعرف بلانش جيدا وانه كان يلتقيها في فندق سيء السمعة ولكنها تنكر ذلك، وتسأل ستيلا عما يقوله الناس عنها من اشاعات، ولكنها تعترف أنها كانت تتصرف على نحو سيء منذ أن فقدت المنزل بيل ريف منذ سنتين. وتخبر ستيلا أنها قد واعدت ميتش في المساء وأنها تريده لانها تعبت من هذه الحياة وتريد أن تستريح. ولكنها في ذات اللحظة بعد أن تغادر أختها البيت فإنها تتصرف بكل حماقة وطيش مع بائع الصحف رغم انه تراه لاول مرة قبل أن يأتي ميتش ومعه باقة أزهار! ويتواعدان حتى وقت متأخر تلك الليلة عندما يصرح ميتش أن أمه ترغب أن تراه متزوجاً قبل أن تموت، وهنا تعترف بلانش له بأنها كانت متزوجة من شاب أصغر منها ولكنه انتحر بعد ذلك لأنها رأته ذات يوم يمارس الجنس مع رجل آخر!

تغضب ستيلا من زوجها لأنه برأيها ينشر إشاعات عن علاقات بلانش العديدة مع الرجال بعد أن خسرت البيت وأنها طردت من المدرسة لأجل ذلك. بل إنه أخبر ميتش بكل التفاصيل عن بلانش لأنه لا يريد أن يرى صديقه في حوض مع اسماك القرش كما يقول! ويشتري تذكرة بالقطار استعداداً لطرد بلانش من بيته.

في يوم عيد ميلاد بلانش الذي كان مقرراً أن يأتي فيه ميتش، تطور الخلاف بين ستانلي وستيلا وبلانش الى حد عنيف حيث أخذت ستيلا تصفه بأوصاف حيوانية وطلبت منه تنظيف المطبخ فأخذ يرمي الادوات والصحون من البيت ويقول أنه قد نظف بيته!وتستغرب بلانش عدم حضور ميتش وتتصل به ولكن لا يرد وعندها يقدم لها ستانلي تذكرة السفر! في تلك الامسية عندما يغادر ستانلي وستيلا يأتي ميتش لرؤية بلانش ولكنه هذه المرة يواجهها بما سمعه من ستانلي عنها فحاولت ان تنكر لكنه أخبرها أنه قد اتصل بأناس في بلدتها وعرف تفاصيل لقاءاتها الحميمة برجال عديدين! تبرر بلانش أنه لم يكن أمامها سوى هذه الطريق بعد أن سدت الامور بوجهها ولم تجد رأفة من أحد. ولكن ميتش يرفض الزواج منها ويقول لها انها غير نقية لتعيش مع أمه.

في تلك الليلة تشرب بلانش كثيرا وتحزم حقيبتها ولكن ستانلي يعود للبيت بعد أن أوصل زوجته للمستشفى لتلد ، ولكن ولادتها لن تتم قبل الصباح. تشعر بلانش بالخوف من وجودها معه. وعندها يتعرى امامها ويلبس بيجامته التي لبسها يوم زواجه ويغتصبها ويقول أنه كان يجب أن يجري هذا اللقاء منذ البداية!

بعد عدة أسابيع تبدأ ستيلا وقد عرفت بالقصة تعيش صراعاً داخلياً بين أن تصدق رواية أختها وبين أن تبقى تعيش مع زوجها. في هذه الاثناء تتدهور حالة بلانش النفسية والعصبية، ويظهر في نهاية المسرحية طبيب وممرضة ضخمة الجثة لاقتيادها الى المصحة العقلية وعندما حاولت الهرب أمسكا بها، وفي حين كانت أختها وزوجها واصدقائهما يلعبون الورق كانت بلانش تغادر وهي تقول انها اعتمدت دائما على الغرباء!

تمتليء المسرحية بالعبارات المثقلة بالمعاني الرمزية وخاصة على لسان بلانش مثل:
- ان نصف جمال المرأة هو وهم خادع
- الرجال لا يريدون أي شيء يحصلون عليه بسهولة ، ولكنهم في الوقت ذاته يفقدون الاهتمام بسرعة!
- لا أريد الواقعية أريد السحر!
- ان رائحة العطور الرخيصة هي الاكثر نفادا!

تمثل المسرحية الصراعات العاطفية المشحونة بين شخصياتها المختلفة ذات الدوافع والقيم المختلفة التي كانت تنبيء ان قيم الجنوب الامريكي المحافظة قد بدأت تتغير وتتهاوى نتيجة تأثرها بالتغيير القادم من الشمال. ونلاحظ صراع الشخصيات الناشيء من مواقفها المختلفة ونظرتها المتناقضة لمعنى الحياة والحب والزواج وعلاقة الرجل بالمرأة ونظرة المجتمع للمرأة التي تفكر بالتمرد واستغلالها. كما تطرح المسرحية مسألة أن حرية المرأة لا بد لها من ثمن باهظ ومعاناة ستدفع المرأة ثمنها. كما تطرح موضوع التداخل بين الحرية والاستقلالية وبين العبثية.

تقدم المسرحية نمطين مختلفين للمرأة فستيلا هي النقيض لبلانش رغم أنها أختها. ستيلا تبحث عن ارضاء واشباع حاجاتها تحت مظلة الرجل وتبرر في سبيل ذلك كل تصرفاته وغطرسته وخيانته. شخصية ضعيفة تحب الخنوع وغير مستعدة للتضحية. في حين تمثل بلانش الشخصية الندية المتمردة التي تسعى لتأكيد شخصيتها، ولكنها تقع ضحية نزواتها ورغباتها وتطرفها في تأكيد استقلاليتها مثلما تقع ضحية لمجتمع ذكوري غير مستعد للتعايش مع هذا النمط. كما أن ستانلي يمثل نقيض ميتش. ستانلي يتصف بالانانية والاستغلالية ورغم أنه يتهم بلانش بسوء سلوكها وينشر حولها الاشاعات الا أنه في حقيقته أكثر سوءا منها وأبلغ شراً وعدوانية منها حيث يحطم كل القيم في سبيل رغباته لدرجة اغتصاب بلانش. بينما قدمت المسرحية ميتش ذلك الرجل البسيط الساذج الذي تتحكم به رغباته ولكنه يعيش تحت وصاية الاخرين ومن السهل تسييره منهم. ورغم تطور شخصيته نحو وعي الذات والاستقلالية الى حد ما كما ظهر في موقفه برفضه الزواج من بلانش، الا أن موقفه فيه إدعاء بالبراءة من خلال اتهام الاخرين!

واضح في المسرحية فكرة تجسيد الرغبة في عربة تحرك الشخصيات نحو مصائرها وتدفعها لكي تأخذ دروبا مختلفة في هذه الحياة. وواضح التركيز الشديد على دور الرغبات والحاجات وخصوصا العاطفية في تقرير حياة الانسان.

تطرح المسرحية صراعات الطبقات الاجتماعية حيث يظهر انهيار قيم الارستقراطية الاقطاعية في الجنوب الامريكي حيث فقدت تلك الاسر أهميتها التاريخية كما يظهر من ضياع بيت الاسرة الغنية بيل ريف مما اضطر بلانش الى المعاناة والتشرد والاستغلال.

برع وليامز في ابراز الجانب النفسي الداخلي والعاطفي لدى بلانش الذي يجعل الجمهور يتعاطف معها من خلال التركيز على تصوير عالمها الداخلي ومعاناتها في مقابل ابراز الجانب الخارجي الحسي الشهواني لستانلي كوالسكي. ولكن في ذات الوقت فقد ركز على أن نموذج بلانش بما تمثله من ارستقراطية متداعية او تحرر عبثي مصيره الفناء وقد مثل ذلك بخروج بلانش الى المصحة العقلية وكأن ذلك دليل على أن هناك أزمة فكر لا يتعايش مع الواقع!

* اللوحة أعلاه بريشة الفنانة اللبنانية سالي خوري

الجمعة، أغسطس 8

قليل من الحظ


قليل من الحظ

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

قطارٌ أسود قديم يتحركُ فوقَ سكّةٍ طويلة. إشاراتٌ ضوئية ذاتُ ألوانٍ مختلفة عند المحطة تضيء وتنطفيء. وعلى جانبي الطريق شجرٌ أخضر. صوتٌ عالٍ يدوي معلناً تحرك القطار. نَظَرَتْ اليه بعيونٍ تمتليءُ فرحاً. سيحبه مراد كثيراً. سيزعجها به طوال الليل حتى ينام على يديها. رحلتْ بفكرها بعيداً. لقد اشتاقت له كثيراً. صورته ترتسم على كل شيء أمامها منذ أن وطئت قدماها لندن. تنام كالقتيلة من التعب فلا تحس بشيء. لكنها تفيق صباحاً من عز النوم بعيون ناعسة على رنة هاتفه. يتصل بها عندما يصحو. يقطع عليها رحلتها في أرض الأحلام. يبكي أول الأمر من الإحساس بالفراق ثم لا يلبث أن يضحك وهو يسمع صوتها.

تنظر إلى القطار وهو يتحرك ويصدر صوته المعروف، وذهنها شارد. غداً ستعود إلى عمان في الليل. لقد انقضى الأسبوع طويلاً كأنه سنة. هذه أول مرة تترك مراد وحده مع عمته. قطعَ شرودَها فجأة صوتُ بائعةٍ شابةٍ تتحدثُ بلطف ولباقة. هل أعجبكِ القطار؟ هل ترغبين به؟ تردّدتْ قليلاً وهي تنظر في أركان المحل. هاجس داخلي يقول لها إن مراد سيحبه. يحب ألعاب السيارات والطائرات. ولكن هذه أول مرة ستشتري له قطاراً.

البهو خالٍ الا من بعض الزوار الجالسين في مقاعد وثيرة مخملية ذات لون بني غامق في زواياه المختلفة التي ازدانت باللوحات الزيتية والتحف. الطاولات بجانب الباب فارغة ٌوليس عليها سوى بعض النشرات المطبوعة. أيقنت أنها وصلت متأخرة. دخلت القاعة مسرعة. كانت ملأى بالحضور. تلفتت في أرجائها بنظرات سريعة. القاعة معتمة بعض الشيء. أشارت لها سيلينا من بعيد بيدها فأسرعت إلى طاولتها. تلمّست طريقها بين الطاولات على ضوء الشرائح المعروضة على الستارة. وضعت حقيبتها أمامها وجلست. نظرت إلى سيلينا وابتسمت وهي تقول بصوت خفيض: صباح الخير. فتحتْ دفترَ ملاحظاتِها. أخذت نَفَساً وارتاحت. ملأت كأساً موضوعةً أمامها بالماء وشربت قليلاً.

اليوم هو الأخير في البرنامج. استغلت فترة استراحة الغداء لتشتري بعض الهدايا من السوق الكبير بجانب الفندق. كانت تتجول محتارةً ماذا تشتري. أشياء كثيرة تخطف الابصار. ملابس .. تحف .. هدايا .. عطور .. مأكولات .. ألعاب .. بقيت تدور بين المعروضات. علبة القطار كبيرة ملونة. حملتها وهي سعيدة بها. أسرعت بالعودة للفندق. ذهبت لغرفتها وألقت بها هناك. ثم نزلت بالمصعد إلى القاعة. سرحت في الهدايا التي اشترتها. لم تكن تصغي إلى المحاضر. كانت تنظر اليه من غير أن تراه. ذهنها مع مراد. انتبهت إلى سيلينا تكتب في الاوراق التي أمامها فعادت من شرودها. أخذت تدوّن بعض الملاحظات.

لم ترغب في القدوم إلى لندن، ولكن شركتها أصرّت. مؤتمر سنوي في مجال تخصصها الوظيفي. لقد اعتذرت في العام الماضي ، ولكنها لم تستطع هذا العام. عدد كبير من الحاضرين جاءوا من دول عديدة. بعض زملائها جاءوا من مكاتب الشركة الأم في لندن. علاقتها بهم سطحية باستثناء سيلينا. تعرفها منذ خمس سنوات. تتصل بها دائماً عبر الهاتف والرسائل، ولكنها لم ترها من قبل. فتاة هندية الأصل ولدت في لندن لأب هندي وأم أسكتلندية. ساعدت سيلينا هدى كثيراً منذ أن وصلت إلى لندن يوم الأحد الفائت. شعرت كأنها تعرفها منذ زمن. روت سيلينا لهدى تفاصيل حياتها. شعرت بالثقة تجاهها، ففتحت لها هدى قلبها وأخبرتها بظروفها.

سافرت هدى من قبل في أثناء عملها إلى مدن عربية، ولكن هذه أول مرة تذهب وحدها إلى لندن. شعرت بالقلق عندما أبلغوها أن تستعد للسفر. كيف ستترك مراد وحده؟ مراد في الرابعة ومتعلقٌ بها كثيراً. ينام كل ليلة على سريرها وفي حضنها. حاولت أن تعلمه أن يبقى في سريره في غرفته وحده ولكنه يبكي طوال الليل. ينزل عن سريره ويتسلل في الظلام وهي نائمة لينام بجانبها. لم ترد أن تقسو عليه بعد الذي حصل. شعرت بورطة كبيرة. اذا إعتذرت هذه السنة فربما يؤثر ذلك على وظيفتها. الوظيفة مهمة كثيراً بالنسبة لها.

انتهى المحاضر من عرض كلمته. خرجوا في استراحة قصيرة. جلست مع سيلينا على طاولة وحدهما. كانت هدى تحكي عنه وعيونها تفيض فرحاً. أسمر الشعر ذو عينين عسليتين. كثير الحركة وعنيد. إذا غضب من أحد فإنه يقطب حاجبيه ويهرب ويكوم نفسه على سريره حتى يأتي من يراضيه! ذكي ولكنه لا يترك شيئاً من عبثه الطفولي!

- ألم تخبريه بعد بالحقيقة؟
- لا أستطيع الآن. ربما تخلق عند ردة فعل سلبية. دائما أقول له إنه مسافر.
- ولكن قد تحدث له صدمة إذا عرف بذلك وهو كبير.
- لهذا سأمهد له تدريجياً عندما يدخل المدرسة.
- ألا تخافين أن يعرف الحقيقة من غيرك؟
- هذا ما يقلقني. ولكن من حولي يدركون خطورة ذلك عليه. لا أظن أنهم سيخبرونه. سأخاف أكثر لما يكبر ويذهب إلى المدرسة ولكنه متعلق بي كثيراً وهذا ما يطمئنني.

انتهى وقت الاستراحة. لم يبق سوى هذا الجزء الأخير لمدة ساعة ونصف وينتهي البرنامج. اليوم الجمعة وغداً صباحاً ستكون على الطائرة عائدة إلى عمان. لقد كان أسبوعاً حافلاً. قال لها ماهر رئيسها في العمل إن هذه الدورة مهمة للغاية وإنه يريدها أن تسافر لحضورها. وافقت بصمت. لديها قدرة فائقة على الصبر والتحمل. قالت لها صديقة أرمنية في أحد سفراتها إلى دبي: أنت من برج العذراء، وبنات العذراء حظهن قليل!

تتأمل في الحاضرين وهم يمرون لاستلام شهاداتهم وهي تنتظر سماع اسمها بفارغ الصبر. متوترة .. ولكنها تراقب وتبتسم. اشتاقت لمراد كثيراً. عندما تذهب للعمل في الصباح تتركه لدى الخادمة حتى تعود. لكنها هذه المرة كانت خائفة. أعطت الخادمة إجازة وطلبت من أخت زوجها سعاد أن تقيم معه أثناء سفرها.

لم يكن لها حظ في بيت والدها منذ الصغر. عاشت أغلب حياتها تعتمد على نفسها. علاقتها بأهل زوجها أقوى. يحبونها كثيراً ويعتبرونها واحدةً منهم. متواضعة وبسيطة. جمعتها بسعاد علاقة قوية. صارتا كالأختين. تحب سعاد مراد كثيراً وتلاعبه. تعتمد هدى عليها في كثير من الأمور. سعاد أكبر منها بسنتين. لا تعمل ولم يحالفها حظ في الزواج.

سمعت اسمها فنهضت وهي تبتسم. استلمت شهادتها وهي تشعر بفخر. جلست في زاوية من بهو الفندق وسارعت بالاتصال لتطمئن عليه. رن الهاتف من غير جواب. استغربت أين ذهبت سعاد يا ترى. لماذا لا ترد. أعادت الاتصال. بدأ القلق يساورها. لقد تعبت كثيراً لأجل مراد. تزوجت من فريد قبل أكثر من عشر سنوات. لم تكترث أول الامر للحمل رغم الحاح أهلها وأهله عليهما. مرت أربع سنوات من غير أن يهتما للامر. كانت تعتبر أنها مسألة وقت. بقيت تلاحقهما كلمات الأهل والاقارب بالسؤال عن الأطفال حتى صارت تسبب لهما قلقاً وإحراجاً. ولكن المسألةَ لم تعد مسألةَ وقت كما كانت تظن. أخذت تراجع هي وفريد طبيباً. مرت فترةٌ دون نتيجة. ذهبا إلى طبيب آخر وآخر دون فائدة. ذهبا إلى مراكز متخصصة في العقم وأطفال الأنابيب. دفعا مبالغ باهظة دون أية بادرة أمل. تغيرت نفسية هدى وصارت تشعر بالقلق والإحباط. صارت أكثر توتراً وعصبية. مرت ست سنوات طويلة من غير أن يلوح أمل في الافق. حلم مفقود تتمناه. كثيراً ما أبكاها في سواد الليل.

أعادت الاتصال مرة أخرى. بقي الهاتف يرن من غير جواب. ربما خرجا يتمشيان معاً. زاد قلقها. قبل أن يولد أخبرتها صديقة لها عن حلٍّ عندما رأت شغفها بطفل يملأ حياتها. رفضت الفكرة تماماً. حاولت أن تقنعها ولكنها عنيدة. شعرت بخوف من مجرد التفكير بهذا الحل. كيف يمكن أن تحس تجاه طفلٍ غريبٍ عنها؟ هل يمكن أن ينسى أمَه ويعيش معها؟ ماذا سيحصل له ولها عندما يعرف الحقيقة؟ ماذا سيقول الناس؟ هل تستطيع أن تخبيء الامر عنهم؟ الشكوك والظنون تداهمها من كل جانب. مع مرور الوقت بدأ فريد يقلب الفكرة في رأسه.

بحث فريد بأساليبه الخاصة وإتصالاته حتى تمكن من معرفة جماعة واتصل بهم. كانا مترددين في البداية. سافرا ولم يخبرا أحداً عن مكانهما. جاءهما رجل إلى الفندق الذي كانا ينزلان فيه. قال لهما: "إن الامر بسيط لكن يحتاج للسرية. هناك عائلات فقيرة جداً ومستعدة لذلك. لديها عدد كبير من الأطفال الذين لا يستطيعون إعالتهم". وقال بنبرة لا تخلو من طمع: "سيكلفكما كثيراً". دفعا له المبلغ الذي اتفقوا عليه، ووقعوا على أوراق. وعدهما أن يحضر لهما الاوراق موقعة من أسرة الطفل، وأن يحضر لهما الطفل في اليوم التالي.

بقيا هناك مدة شهر بكامله وهما يبحثان عنه! كان مثل فص من الملح ذاب. خافا أن يخبرا الشرطة فيصبحا متهمين أو يتعرضا للانتقام. أصيبا بخيبة أمل كبيرة. كانت صدمة قاسية. تركت الحادثة فيهما أثراً عميقاً لا ينمحي. مرت أشهر عديدة قبل أن ينسيا تلك الحادثة. حاولت هدى أن تنسى الحلم المفقود وأن تركز على علاقتها بفريد لعلها تعوضها بعضاً من الحنين للامومة. توطدت علاقتها بفريد أكثر وصارت تبدي مزيداً من الاهتمام به. وفي صباح خريفي من تشرين شعرت بدوار وغثيان. لم تعرف السبب. شعرت بالقلق.. فأخذها فريد للطبيب. لم يصدقا الامر أولها.

ملأ مراد عليهما البيت. كان مثل الماء الذي سال في نهر بعد جفاف طويل. لقد تغيرت نفسيتها وصارت مثل شجرة يابسة أثمرت بعد جدب. لم يعد لهما حديث بعد اليوم الا مراد، ولا اهتمام الاّ هو. كان فريد كمن عاد للحياة من جديد. لم تعد الابتسامة تفارق وجهه. فريد طويل ووسيم وذو شعر كثيف ناعم يعمل في شركة مقاولات.

بالأمس أطفأ مراد شمعته الثانية. لكن فريد لم يكن مبتهجاً كعادته. لاحظت هدى تغيراً عليه، لكنها لا تعرف كيف تصفه. تحس به مرتسماً على ملامح وجهه.لم يعد فريد كما هو. فقد شهيته للاكل. صار أكثر قلقا وتوتراً. لم تُعِر الامر اهتماماً كثيراً. أخذ فريد يشكو من ألم بسيط. مرت أيام وأسابيع وهو يشعر بالالم. قرر أن يذهب لطبيب. طلب منه الطبيب إجراء فحوصات وتحاليل. قرأ الطبيب النتائج. طلب من فريد أن يذهب إلى الصيدلية كي يشتري الدواء ويعود. إحتار كيف يصارحها بالموضوع. بان على وجهه خطب ما. انتهز الطبيب الفرصة. أخذ يمهد للموضوع ويناور. رأت كلاماً في عينيه يود قوله. تردد قليلا. كلماتها وترقبها كانت كافية. نفذ شعاع ضئيل من بين السحب الداكنة الثقيلة. أحس أنها مهيئة للحظة. قال لها إنه مصاب باللوكيميا. أصيبت هدى بذهول من الخبر. وأطلقت نفسها للدموع والبكاء. تذكرت قول صديقتها الأرمنية.
في الصباح جاءت سيلينا للفندق تودع هدى قبل السفر. احتضنتها بحرارة. قالت لها انتبهي لنفسك. وقدّمتْ لها هديةً ملفوفةً بغلافٍ جميل عليه صور ورسومات طفولية. قالت هذه مني لمراد. قبل أن تستقل هدى السيارة نظرت في عيون سيلينا وعانقتها وهي تودعها. كانت حرارة الوداع تحكي كل شيء.
* اللوحة أعلاه بعنوان تذكار للفنان المغربي كمال بدري.


الأربعاء، أغسطس 6

نهاية رجل فقير


نهاية رجل فقير

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

مصاعد المستشفى بطيئة ومزدحمة بالناس. توقفت أنتظرها حتى مللت الانتظار! أخذت أصعد الدرج حتى شعرت أن نَفَسي سينقطع من اللهاث! وحين وصلت الطابق الخامس تنفّست الصعداء. موسيقى هادئة بعيدة تصل إلى أذني. تتسلل بكل هدوء وسلاسة كالرائحة الناعمة. نغم حزين من عزف ناي يقتحم مسامات جسدي ونهايات أعصابي فيثير فيّ شعوراً بالإنقباض والترقب المتشائم. يعلو حيناً ويخفت حيناً آخر. أثار فيّ أفكاراً مبهمة مختلطة متداخلة عن قصة حياة توفيق ومعاناته فانتفض جسمي على نحو خفي. أنتقد نفسي أحياناً على برودة مشاعري، لكنني لا أحتمل أجواء المرض والموت. لا أحتمل صور العذاب التي تقفز أمامنا بفظاعتها صباح مساء.

أسمع لحن الناي وأشعر بقلقٍ شديد. أتخيل أحياناً الأسوأ فأحاول طرد الافكار من رأسي. أحاول أن أتفاءل ولكن قلبي غير مطمئن. تخيلت توفيق وقد أطل من خلف الباب وهو يفتح عينيه وابتسامة منهكة متعبة على شفتيه. لكنني بقيت قلقاً. تخيلت أنني أرى جسماً ملفوفاً بثوب أبيض لا يبدو منه شيء. حاولت أن أشغل نفسي عن التفكير بالأمر. أمشي في الممر ، ورائحة الأدوية تملأ أنفي. جدران الغرف معتمة كئيبة. صور المعاناة والبؤس تملأ غرف المستشفى.

رأيتهم واقفين عند الباب خائفين مذعورين والدموع في عيونهم وعلى وجوههم. كان لقاءً غير عادي. لم أعرف ماذا أقول وكيف أبدأ أو أسلم عليهم. عانقت مصطفى بحرارة وأنا أتمتم ببعض كلمات المواساة. وجوههم تحكي كل شيء. قال مصطفى والدموع في عينيه إنه بدأ يشكو من الالم منذ عدة أيام ، ولكن حالته ازدادت سوءاً. وأضاف إن الاطباء حوله منذ ليلة أمس. رأيت الخوف في عيونهم وهم ينتظرون أي أحد يخرج من خلف الباب كي يطمئنهم عن نتيجة العملية.

تذكرت ما حصل معه قبل سنة. ظننت أن الامر له علاقة بما حصل له على رصيف الميناء. ما تزال خالتي أمينة تبكي. تحاول أن تمسح دموعها قبل أن يلاحظها أحد. تشد غطاء رأسها من طرفيه. تبكي ليلى، إبنته الكبرى، بصوت مكتوم. مصطفى حزين دامع العين، يحاول أن يخفف عن أمه وأخته.

لا أذكر كم مرة جئت لهذا المستشفى! في كل مرة أشعر برهبة عند دخوله وتستولي صور المرض والعجز على تفكيري. في هذا المكان ترى كل أصناف البشر، كأنما تقف الاشجار المعمرة التي تملأ التلة حول المبنى وعلى جانبي الطرق المؤدية إليه شاهدة على تاريخ طويل من معاناة البشر. كم مرّت من تحتها قصص محمولة تئن وتتوجع من الألم ، فعاد بعضها ولم يعد الآخرون!

كنت في مكتبي هذا الصباح مع نبيل مهندس المشروع نتحدث عن تصميم المبنى الجديد عندما رنّ هاتفي. كانت أمي على الخط الاخر. توجّست من الأمر شراً. ليس من عادتها أن تتصل في هذا الوقت المبكر. لم يكن صوتها طبيعياً. أعرف أمي عندما تتصل بي. نبرات كلامها تدل على حالتها النفسية. لديها طريقة في التمهيد للموضوع دائماً. ولكنها هذه المرة لم تكن على ما يرام. شعرت أنّ في الأمر خطباً ما. رجوتها أن تخبرني. قالت إن زوج خالتي توفيق قد أدخلوه المستشفى وأن وضعه سيء للغاية. صدمت من وقع الخبر.

بقيت أفكر وأنا في الطريق إلى المستشفى بتوفيق. شعرت بخوف من وقع كلمات أمي. شعرت أنها تعرف شيئاً ولا تريد إخباري كي لا أقلق. لم تزل تلك الحادثة محفورة في ذاكرتي. يومها وقف ما بين شاحنة محملة بألواح الرخام والحاوية وظهره إلى الجدار. لم ينتبه سائق الرافعة إلى وجوده. أنزل لوح الرخام. حاول الهرب من مكانه فلم يستطع. أصيب في صدره. صرخ ولكن السائق لم يسمعه من صوت المحرك والشاحنات. انتبه بعض زملائه فأخذوا يصرخون على السائق. تمكنوا أخيراً من سحبه وإبعاده. كان يصرخ ويتألم. حملوه فوراً إلى المستشفى. أصيب توفيق بكسور في أضلاع صدره. لو لم يكن هناك أحد عندما ألقى السائق الحمولة، لانتهى به الأمر جثة هامدة.
مكث في المستشفى لمدة عشرة أيام. ولكنه بقي بعدها مقعداً في البيت خمسة أشهر. تولّت الشركة علاجه في المستشفى ثم تخلوا عنه. عمل معهم ثماني سنوات وحين أصيب تركوه. كان وضعه يثير الحزن والشفقة. مرت فترة طويلة قاسية ذاق فيها وأسرته طعم الشقاء. خمسة أشهر وهو جالس في البيت بلا عمل. ما يزال يشعر بالألم في صدره. ولكن من سيطعم الأفواه الجائعة؟ سمع الكثير من الوعود التي لا تأتي! بقي يبحث عن عمل بلا طائل.

يزوره إبراهيم بين حين وآخر ويرى معاناته وهو بلا عمل. لم يبق له في الدنيا من أصدقاء سواه. تعرف إليه منذ سنوات طويلة. عملا معاً في مشغل للسيارات وصارا صديقين. ترك توفيق السيارات وعمل في شركة للشحن في الميناء أما ابراهيم فبقي يتنقل بين ورشات السيارات.
ننتظر بقلق عند الباب خروج الاطباء من العملية. الكل متوتر وخائف. ما تزال خالتي تبكي ومصطفى يحاول أن يكتم دموعه. شعرت أن في الأمر شيئا خطيراً لا أعرفه. بدأ بعض الاقارب بالتوافد لرؤيته. أمسكت مصطفى جانباً وقلت له: هل حدث شيء مفاجيء لأبيك؟ أعرف عندما أصيب قبل سنة في الميناء وانكسرت أضلاعه، ولكنه تغلّب على إصابته. فهل حدثت معه مضاعفات؟ هل وقع له حادث آخر؟ حاول مصطفى أن يتجنب الاجابة، فلم أدعه. بقيت ألحّ عليه وهو يحاول تخفيف الامر.
"بقي أبي بلا عمل فترة طويلة. كانت المصاريف تزداد ومتطلبات البيت لا ترحم وهو يكظم إحساسه بالمرارة. لكننا كنا نحس به وبمعاناته ، وهو جالس في البيت. كان يرجو كل من يأتي لزيارته أن يساعده في ايجاد عمل، ولكن لم يكن أي عمل يدوي يناسبه بعد إصابته. لقد اعتلت صحته منذ ذلك اليوم. لم تغطّ الشركة سوى فاتورة المستشفى. رموه بعد كل هذه السنوات. فزاده ذلك شعوراً بالاحباط وبالظلم.عرّفه إبراهيم على صديق يعمل في الاستيراد والتصدير. عرض على أبي أن يعمل مسؤولا ًعن مكتبه في عمان. غيّر العمل من نفسيته وشغل وقته. أناس يأتون للمكتب ويأخذون أوراقاً وجوازات. رحلات سفر إلى الهند. عرض عليه صاحب المكتب بعد فترة أن يسافر هو شخصياً. الامر سهل جداً وليس به خطورة. كثيرون قبلك سافروا وحلوا أزمتهم المالية. حاول إقناعه بشتى الوسائل. لم يخبرنا أبي باديء الامر. كل هولاء العشرات قد حلوا أزماتهم المالية! فلماذا لا تفعل مثلهم؟ رفض أبي الموضوع ، ولكن محاولات الالحاح الاقناع، بدأت تتسرب الى نفسه. بدأ يقلّب الفكرة بعد أن طحنته ظروفه المادية.أخبرنا ذات يوم أنه سيسافر إلى الهند في سبيل إستيراد بعض البضائع من هناك. أوصلته بنفسي للمطار يومها. غاب عنا أسبوعاً وعاد. في اليوم التالي لوصوله بدأ يشعر بألم في خاصرته. كان الألم بسيطاً ، فكان يتحامل على نفسه. ولكنه اشتد في الايام التالية، فصار يأخذ أقراصاً خفية عنا. صار الألم شديداً وصرنا نسمع تأوهاته. كنا نسأله عن السبب فيقول ربما مغص أو إلتهاب سيزول. ازداد ألمه وازدادت معه تأوهاته وصرخاته المكتومة. حاولنا إقناعه بالذهاب إلى الطبيب أو المستشفى فرفض. قال أنها مسألة وقت. بعد عدة أيام، لم يعد قادراً على المشي. لقد أنهكه المرض كثيراً. أخذناه للطبيب في الليل. كانت صدمة ثقيلة علينا. لم يكن ليخطر ذلك ببالي أبداً. بعد قليل جاء رجال الشرطة وأخذوا يحققون في الموضوع.كانت ظروف عملية نزع الكلية بدائية. أخبرنا الأطباء أن الالتهابات قد انتشرت في جسمه وقد تضررت كليته الاخرى. كانت صدمة عنيفة أخرى".
كان مصطفى يروي ما حدث وأنا أستمع له وأنظر اليه كالمذهول.. بعد قليل فُتح الباب وخرج الطبيب وبعض الممرضات والممرضين. كان الطبيب متجهماً خالياً وجهه من أي تعبير. لم يكد الطبيب يتفوه بكلمة حتى سمعت صرخات مصطفى. بقية من أمل ضاعت. استمر مصطفى يتفجع ويصرخ. التفتُّ إلى خالتي ، فاذا بها قد شرعت في العويل. ووقعت ليلى مغشياً عليها.

* اللوحة أعلاه بعنوان "الصياد الفقير" للفنان الفرنسي بيير دي شافان (1824-1898)

الثلاثاء، أغسطس 5

كابوس



كابوس

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

- يا مجنون لا تقف هناك
- تعال معنا
- ستبقى وحدك هنا
- يجب أن نعود للحاضر. لا مكان أجمل من الوطن
-لا ، سأبقى هنا. أية أوطان تنام وتصحو على لون الدم؟ مللت عالمكم المتوحش. قرفت من العنف والكراهية. أريد أن أنسى الحروب. أريد أن أجوب البحر. سأبحث عن جزيرة بعيدة نائية لأنسى فيها كل شيء ..
- سينساك الزمن هنا. ستشعر بالوحدة ، ولن تستطيع تغيير الأشياء.
- هيا لم يبق لدينا وقت .. اللحظات حرجة
- هنا لن أرى الدماء. لن أرى جيوشاً. لن أسمع أنّات المعذبين. ولن أرى أناساً يموتون من الجوع.
- تعال معنا وعش في عالمك الذاتي كما تريد. لون سماءك بلون أخضر وأرضك بلون أزرق! سيكون جميلاً
- أنا لا أتوهم. لا سعادة بدون ألم. والألم يغمرنا كالمد في يوم صيفي. لا نستطيع الهروب من الذاكرة. يجب الغاءها!
- الالهام والسلام ينبعان من داخل النفس .. هيا لا وقت للفلسفة الآن
- تعال معنا .. لقد عشت حياتك كلها معنا
- هذا سهل عليكم أن تقولوه من غير إحساس. ما أسهل أن نعظ الاخرين!
- إذا لم يأت الحظ مواتياً ، فيجب أن نصنعه. هيا تعال معنا
- لا لا أستطيع. لا يستطيع القط تغيير لون جلده. لقد كرهت عجزي. لا بد من الرحيل.

ابتعدَ في الفضاء الأزرق. صار يبتعد أكثر وأكثر. صار صغيراً. بدأ يتلاشى. ساد صمت ..
بدأ الضوء يعتم وتسدل الستارة. تصفيق انطلق من المقاعد.
* * *
صمت يلف المكان إلا من صوت السرير. بين فينة وأخرى يتقلب بلا وعي. بالكاد تتحرك الجفون. ترتسم بوادر إبتسامة على الوجه. يتمدد على السرير هادئاً. يتحرك الصدر قليلاً للأعلى. يفتح جفنيه. يبتسم. ثم يعود للحلم والسكون. تصدر عن شفتيه همهمات غير مفهومة.

تفتح الستارة. قمر فضي كبير يملأ الافق. بقعة برتقالية تغرق خلف المياه. سفينة شراعية ضخمة تتهادي في مياه المحيط. كتل من الغيوم الرمادية العالية تتحرك بعكس الاتجاه. بدأت العتمة تحل قليلا قليلا.

- بقي يومان على الوصول
- هل سبق أن وصلت الجزيرة؟ يبدو كأننا نبحر في مجهول بلا نهاية.
- أعرفها. فيها سجن كبير. ما تزال بقع الدم السوداء متحجرة على جدرانه منذ زمن بعيد
- كيف كان يعيش من يسكنون فيها؟
- كان يأتيها المؤن كل ستة أشهر
- هل هي جميلة؟
- موحشة ومملة. لا تبيت فيها حتى الطيور
- ولماذا ذهبوا إليها؟
- جاؤوا بالعبيد على السفن لبناء السجن. مات بعضهم من المرض ورموهم في مياه البحر
- إلى هذه الدرجة؟
- رأيت امرأةً مصلوبة. قالوا كانت تمارس السحر واستحضار الارواح الشريرة
- لماذا جئت إلى هنا من قبل؟
- يحب الانسان أن يتملك كل شيء. كم من البشر الذين أفنوا بعضهم على ذات المكان منذ بدء الحياة. أليس هذا مدعاة للضحك والسخرية؟
- ولكن الصورة التي دفعتنا للمجيء معك لم تكن هذه.
- لم يتوقف البشر يوماً عن تزييف الحقائق وتزوير التاريخ. سمعت أنات السجناء في الزنازين وأنا ما أزال في عرض البحر. كثيرون هلكوا بسبب وحشية الانسان!
- ومن كان يقيم هنا؟
- لم تخل طقوس البشر من الدم والقرابين. ما أتعس حظك عندما تكون إنساناً بسيطاً. تصبح حجراً في أهرامات الآخرين!
- كم سنمكث هنا؟ هل سنبقى للأبد؟
- أقداركم حيث تأخذكم أقدامكم.
بدأ الضوء يعتم وتسدل الستارة. ابتعدت السفينة في عرض المحيط حتى تلاشت. تصفيق انطلق من المقاعد.
* * *
صمت يلف المكان إلا من صوت السرير. بين فينة وأخرى يتقلب بلا وعي. بالكاد تتحرك الجفون. ترتسم بوادر نظرات حزن على الوجه. يتقلب على السرير بعصبية. يتحرك الصدر قليلاً للأعلى. يفتح جفنيه. تبدو ملامح صرخة مكتومة على وجهه. ثم يعود للسكون. تصدر همهمات متوترة تتحول إلى صرخات مكتومة بين حين وآخر.

منذ أيام وهو يحاول أن يضع خاتمة لمسرحيته لكنه لم يستطع. لقد استولت على تفكيره. في كل مرة تأتيه صور مريعة وهواجس أخرى تجعله لا يعرف كيف يوقفها. لقد تحولت إلى كابوس.


* اللوحة أعلاه بعنوان "كابوس" للفنان السويسري هنري فوسيلي (1741-1825)