الخميس، يونيو 12

النار

النار

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

حلَّ الغروب ونحن نلعب .. كانت في الجو قصفة ريح باردة .. لم نكن نهتم للبرد أو الوقت .. هكذا كنا .. نبقى نلعب حتى لا يعود بإمكاننا رؤية الكرة .. كنت في المقدمة .. كنت احاول أن اراوغ بالكرة ولكنني لم أستطع الاحتفاظ بها .. كانوا اكثر مهارة مني .. كنت أهجم فاخلصها منهم .. ولكنني لم أستطع المرور بها من بينهم .. كلهم سجلوا أهدافاً الا أنا .. إزددت شراسةً في اللعب .. أريد أن اسجل هدفاً في المرمى .. كنت أهجم بكل قوتي واندفاعي .. أسمع صيحات الاحتجاج والصراخ .. ولكنني لم أعبء بها .. ازددت حنقاً وغضباً .. يجب أن اسجل هدفاً .. أريد أن أثبت لهم انني لاعب ماهر .. كانوا يقولون أنني ألعب بخشونةٍ متعمدة .. هجمت على أحد الاشباح ذوي القامات الطويلة .. خلصتها منه .. مشيت بها خطوات معدودة .. تجمهروا حولي .. حاولت الانفلات من بينهم .. كنت أريد تمريرها لفارس .. كانت حركتي بطيئة .. لم أستطع .. تعثرت ووقعت على الارض .. ضاعت مني .. لقد خلصوها من بين أقدامي .. أخذ فارس ينظر اليّ بغضب.. أثارتني نظراته.. صرخت به ماذا استطيع أن أفعل .. لقد هجموا علي وأخذوها!
بقينا نلعب.. ولكن التعب نال منا كثيرا.. صرنا نلهث من شدة الاعياء.. لم أتمكن من تسجيل هدفٍ لغاية الان.. إزددت قهراً وغضباً مكبوتاً .. أمسكت الكرة حاورت بها قليلا، مررت من الاول .. حاولت أن أتجاوز الثاني .. أذهب يمنة ً فيتبعني .. كنت أحاول خداعه .. أخذ عليٌّ يصرخ كي أمررها له .. كان يخشى أن تضيع .. كنا قريبين من الهدف .. آه .. كادت أن تضيع مني .. صرخ علي وانفعل لأني لم أعطه الكرة .. بقيت اتحرك بها ولا أمررها له .. كنت أريد أن أسجل هدفاً .. آه ضاعت مرة أخرى .. لم يعد علي يحوّل لي الكرة .. صرت أراقب الكرة من بعيد! أذهب اليها فأجدها بمكان آخر .. نادراً ما تصلني .. هجمت عليها بكل قوة واندفاع وخلصتها وبقيت أجري حتى سجلت هدفاً .. كنت أريد أن أعبّر عن احتجاجي! صار الكل يصرخ .. أنت مجنون .. لا نريدك أن تلعب معنا .. كيف تسجل هدفاً في مرمانا!

صرت أفكر أنه يجب أن أتقن هذه المهارات التي يتقنونها بكل براعة .. كنت أتعجب كيف تعلموها .. كنت أشعر بيني وبين نفسي أنني موهوب .. ولكن لا حظّ لي في الكرة .. ليس هناك انسان كامل .. بدأت أدرك أن هولاء ليسوا أغبياء كما يقول المدرسون عنهم.. المدرسون أنفسهم لا يعرفون ولو شيئا قليلا من مهاراتهم في اللعب والمراوغة وتسجيل الاهداف.. بدأت اكتشف عالماً أخر غير الكتب والدرس .. اكتشفت أنني ضعيف وفاشل في الكرة .. صرت أحسدهم .. شعرت باحساس غريب داخلي .. هولاء ليسوا أغبياء كما كان أستاذ الرياضيات يصفهم .. لديهم قدرات ومهارات عالية .. من أين تعلموها؟! نحن معاً على مقاعد الدرس نفسها فكيف تعلموها؟! صرت اكتشف نقاط ضعفي .. اكتشفت ان هذا التفضيل الذي يمارسه المدرسون لا يوجد الا في أذهانهم وينعكس على علاماتهم!

حَلَّ الليل ونحن منهمكون في اللعب .. لم أسجل هدفاً واحداً لغاية الان .. لم يعد اصدقائي يحولون لي الكرة .. صار عندهم شك أن اتمكن من تمريرها من بين أقدام الاشباح الطويلة .. كانوا كالاشباح في سرعة حركتهم .. شعرت انه صارت عندهم قناعة أنني سأضيع الفرصة .. والمباراة حامية ولاتحتمل إضاعة أية فرصة .. لم يكن هناك تكافؤ بيننا .. كانت أجسامنا صغيرة وهم كالاشباح .. ولكن من غير المعقول ان يهزمونا في عقر حارتنا. الدنيا ظلام دامس.. لم يكن هناك ضوء في الشارع .. كنا في الساحة الترابية المحاذية للشارع .. ساحة كبيرة مهجورة منذ زمن بعيد.. ضرب فارس الكرة.. طارت بعيدا..لم نتمكن من الامساك بها.. من سيلحق بها ويحضرها.. الكل متعب وفي غاية الارهاق..لم يتحرك أحد للجري خلفها.. صار الكل ينتظر الاخر.. اصابنا الاعياء واليأس .. لم نشعر برغبة للحاق بالكرة .. صرنا ننظر في عيون بعضنا بعضاً .. جلس كل واحد مكانه على الرمل .. بدأ الاشباح يبتعدون .. قالوا تذكروا أننا هزمناكم .. كانت الاهداف أكثر من أن نحصيها! نحن سجلنا في مرماهم ولكنهم أمطرونا بالاهداف! لو بقينا نلعب حتى الصباح فلا أمل أن تتعدل النتيجة.
أيقن كل واحد كما يبدو أنه ينقصنا اللعب بروح الفريق .. فينا أنانية ظاهرة .. كل واحدٍ يريد أن يسجل بنفسه .. أصابتنا ساعتها خيبة أمل وإحساس باليأس ولكن رغبتنا الأنانية في الظهور ما تزال باقية .. إقترح عزام أن نسهر هنا .. نوقد ناراً نتدفأ بها .. إشتدت الريح وصار البرد يلسع الوجه .. جمعنا قطعاً من الخشب من هنا وهناك .. جمعنا اوراق شجر يابسة .. جمعنا أغصاناً .. كنا نلتقط أي شيء جافٍ يمكن أن نوقد به ناراً.

لقد جاءت الفرصة.. يجب أن يعرفوا من أنا .. لقد أحسست ان كبريائي قد جرحت .. يجب أن اتفوق عليهم .. لست الخروف الاسود .. ونحن نشعل النار ونبحث عن مزيد من الخشب والعيدان، بدأت النار تشتعل في صدري .. بقينا حتى صارت النار جمرا ورماداً .. غرقت الدنيا حولنا من جديد في ظلامٍ دامس .. الا من شيء قليل من وهج النار في الفحم .. ابتعدت قليلا وأشعلت ناراً في راحة يدي .. قلت بصوت عال كي يسمعوني:

- هل سبق أن رأيتم نارا تشتعل هكذا؟

- كيف فعلت ذلك؟! هل هذا سحر؟!

- هل سبق أن رأيتم يداً لا تحترق بالجمر؟

- شيء غريب فعلا!

- هل رأيتم أحداً من قبل يستطيع حمل النار بيديه؟

- كيف تقدر أن تحمل الجمر من غير أن تحترق يداك؟

كنت أنظر في وجوههم وسط الظلام .. تلتمع عيونهم في وهج النار بين يدي .. فأرى علامات الدهشة والاستغراب باديةً عليهم .. أخذت ابتسم وأضحك .. فكّروا أن لدي طاقةً خارقةً على احتمال النار .. شعرت بالزهو .. أريد التخلص من عقدة النقص التي ترافقني دائما في الكرة .. بقوا ينظرون في كفي الاثنتين وسط اشتعال اللهب فيهما .. احسست بحرارة في يدي.. كانت حرارة مقبولة يمكن احتمالها .. بدأ يزيد الالم من شدة حر النار ..أحسست بالنار تكاد تحرق يدي وهم يتفرجون ويتعجبون .. لم استطع أن أصرخ .. كان علي التحمل والصبر.. كنت أقاسي الامرين في تلك اللحظات..ازدادت حرارة النار في يدي..لا استطيع أن اخبرهم الحقيقة.. يجب أن أحتمل حرّها وخاصة أنهم يبحلقون بها كثيراً .. هذه ليست المرة الاولى التي أثبت لهم أنني خارق للطبيعة .. شعرت بالزهو.

عندما كبرنا صار فارس يذكرني بقصة النار كلما التقينا .. سأسميك بروميثيوس .. تذكرني بالبطل الذي أحضر النار من عند الالهة.. حاولت أن اقول له الحقيقة .. لم استطع!

تأخر الوقت وازداد الظلام سواداً .. بدأت سرعة الريح تخف تدريجياً .. بدأت تختفي ألسنة النيران تحت الجمر .. القيت بالنار من يدي .. تعجب الكل من قدرتي على حمل النار من غير أن تحرقني! نفضت يدي في الهواء.. وقعت قطع الفحم الصغيرة الحمراء المشتعلة من راحة يدي .. نفضت يدي مرة اخرى ليقع الرمل من راحة يدي! قال علي لو كان مشهور معنا لغلبناهم .. توجه بكلامه نحوي .. انت ضيعت اكثر من فرصة أعطيناك اياها .. لو انك لم تضعها لغلبناهم .. استمر الهرج والمرج .. الكل يحاول ان يبين أنه قدم ما عليه ولكن الاخرين هم السبب! صرنا ننفخ في النار كي تشتعل اكثر .. خرجت شعلة صفراء من بين الخشب المتفحم .. ثم ما لبثت أن خمدت .. استمرينا بالنفخ في النار ولكنها لم تشتعل .. كانت قطع الفحم قد ذاب أغلبها ولم يبق سوى جمراتٍ صغيرة .. صرنا نكسر قطع الفحم بالحجارة كي تنطفأ النار .. قال قاسم يجب أن نخبر مشهور وسمير .. يجب أن نرد للاشباح الصاع!

يوم أمس زارني وليد .. أخذنا نتذكر تلك الايام ونستعيد الايام الجميلة والمواقف المضحكة .. تذكرنا حمل النار في يدي من غير أن تحرقني .. تذكرت بيت الشعر الذي أسمعه دائماً .. اذا رأيت نيوب الليث بارزة ، فلا تظنن أن الليث يبتسم .. وتذكرت أن أسناني كانت تصطك من شدة الالم المكبوت وهم يعتقدون أنني اضحك! كنت احتمل الموقف لحظات ثم يبدأ بعدها الحر يسري في الجلد! كم مرت سنوات طويلة ولا أحد يعرف السر غيري .. سأموت وسيضيع السر معي! المسألة أصبحت صورتي أمامهم .. كان وليد عنيداً ومشاكساً، ودائما نصطدم ببعضنا .. كان مثل ديك يحاول ان يفرض سيطرته على أرض ما يعتبرها مملكته .. كان أكثر واحدٍ يشعرني بجفاء الصداقة! كان ماهراً في لعب الكرة، ولكنه أقل براعة من مشهور وسمير .. كان مشهور نصيرنا وقت الشدة .. كان المدرسون دائما يتسلطون عليه بالضرب والاهانة لانه لم يكن ينجز الواجبات .. ولكن عندما تأتي حصة التربية الرياضية يصبح حبيب الجميع! وفي نهاية العام عند تقديم المهرجان في ساحة المدرسة يصبح نجم المهرجان والكل يصفق له بما فيهم المدير!

التقيت بمشهور قبل ثلاث سنوات .. تذكرت أنه كان دائما يسرق مفتاح السيارة الكبيرة ويسوقها ووالده نائم .. وذات مرة أخذ المفتاح خلسة ووالده نائم عند القيلولة .. وخرج بالشاحنة .. كانت الدنيا ربيعاً والارض ما تزال رطبةً مبلولةً من الشتاء .. كانت الارض الحمراء طينية .. سطحها ناعم يكاد يلمع من صفائه .. لقد خرج بها ونحن نشاهد جرأته في قيادة شاحنة وهو ما يزال فتى صغير .. بعد قليل تجمهر الناس حوله.. لقد إنغرست عجلاتها في مستنقع طيني .. ولم يعرف كيف يخرجها!! في ذلك اليوم أكل علقةً ساخنةً ولم نعد نراه لمدة أسبوع! بعد أن تخرج مشهور من المدرسة، صار يعمل عند والده .. انقطعت اخباره عني منذ ذلك الحين .. وحينما التقينا ذات مساء في مناسبة عند أحد الاصدقاء .. رأيته جالساً أمامي .. لم أعرفه أول الامر .. ولكن عندما بدأ يتحدث شعرت أن صوته ولهجته ليست غريبة عني .. أثناء تناول الطعام جلست بالقرب منه.

- عفوا هل أنت مشهور؟

- نعم، تفضل؟

- غير معقول هذه الصدفة.. بعد كل هذه السنوات؟!

- يبدو أنك تعرفني؟

- ألم تعرفني؟! انظر في وجهي جيداً.. تفرّس في ملامحي .. أين مهارتك أم نسيت أيام الكرة .. سقى الله تلك الايام

- آه .. الوجه يبدو مألوفاً لي .. لحظة أتذكر .. لا تخبرني الاسم .. آه فارس؟

- لا

- علي؟ ولكن علي كان اسمر البشرة.

- لا

- ذكّرني؟ أية اشارة تساعدني على التذكر!

- كنت أضيع الفرص وانت تصرخ وتغضب لانك تتعب في ايصالها لي عند المرمى!!

- غسان؟! آه غسان أكيد!

وضحكت .. قام وأخذ يعانقني .. سلمنا على بعضنا بحرارة .. وجلسنا نأكل ونتذكر .. ذكرته بيوم الشاحنة في الطين!

- أين انت الان؟ ماذا حصل معك؟

- عندي شركة نقليات .. عملت مع أبي في البداية ثم افتتحت شركةً للنقل .. صار عندي الان اسطولاً للشاحنات ينقل البضائع بين العقبة وعمان وبغداد و دمشق .. نذهب في كل الاتجاهات الى الخليج ومصر وشمال افريقيا والى اسطنبول. لقد وفقني الله .. كنت في البداية أنقل الاخشاب والحديد .. ثم قررت أن افتتح مصنعاً للحديد .. وانت ماذا حصل معك؟

- لقد درست هندسة كيماوية وتخرجت وعملت في مصنع للشكولاته أول الامر! ثم مللت من طعمها! فانتقلت الى مصنع للدهانات!

ضحك مشهور وقهقه طويلاً .. لقد تذكر يوم النار! سألني مشهور عنها .. أما زلت تقدر ان تحمل النار في يدك؟ أخبرني الان عن السر! ضحكت وقلت لم يكن هناك سر .. استطيع حملها الان!! ضحك وقال هيا أخبرني عن السر؟
قلت ألم تكن تنتبه عندما كنت ارمي الجمرات الصغيرة من يدي الى الرمل الذي يقع منها؟!!! ضحكنا طويلاً. قال لقد بقينا نفكر طويلا كلما التقينا كيف كنت تستطيع ان تحملها!

- أنت كنت تحمل الكرة وأنا كنت أحمل النار!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:28 م

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى
    روميثيوس .....النارهههه فعلا منتهى التشويق استغربت فى البداية من العنوان لكن فى نهاية القصة ادركت ذكاء الكاتب فى وضع العنوان وشدنى اسلوبه في وصف مرحلة من اهم مراحل الطفولة عند اى شاب .
    الكرة واصدقاء الطفولة وزملاء المدرسة كلها محطات لها اثر بالغ فى نفسية الانسان وذاكرته احيانا محزنة واحيانا مبهجة وتظل تفاصيل صعيرة عالقة بالذهن بطريقة خاصة.
    الكاتب المبدع الاستاذ اياد نجح لدرجة كبيرة فى احتواء كل هذه الامور بوصف دقيق ملم بجميع جوانب الاحداث ومعطياتها جاعلا القارىء يغوص فى اعماق البطل ويمر معه بماضيه وذكرياته الى حاضره وواقعه بطريقة تجعل المتلقى يرى نفسه بطل القصة .
    حتى امنيات ابطالنا نالت اهتمام الكاتب ونجح في ربطها مع مواصفات كل منهم.
    الغروب والريح الربيع واثار الشتاء على الارض وغيرها من اشارات لماحة كلها قربتنا من ابطالنا اكثر واكثر مثلما شدتنا اوصاف الكرة والمباراة باشباحها واقزامها على راي الكاتب وبنفس الدرجة قارن الكاتب بين مؤهلات اللاعبين الصغار الدراسية والاقتصادية .وكانت بالفعل مقاربة ومقارنة ناجحة بين مستوى الدراسة ومواهب كل واحد منهم.
    وانا اقول للكاتب على نفس المنوال انت تقدم لنا ادبا رفيعا ومستوى راقي في مواضيع القصص واسلوبها وانا اقدم تقديري ومنتهى امتناني واعجابي بالقصة.
    اللوحة الفنية المدرجة جميلة استاذ اياد لكن ياترى الرمل الذي مع الجمرات اهو تحت النار ام تراه انتثر فى الجو هههه.مع شكر واخلاص عفاف.

    ردحذف
  2. لك عفاف كل تحياتي وتقديري لهذه النظرات التحليلية في "النار". أنا سعيد بقدرتك على النفاذ الى قلب العمل ومفاصله الرئيسة وتقديم الافكار بنظرة تحليلية نفسية واجتماعية بارعة. "النار" هي قصة استكشاف المعرفة التي تزيد من وعينا ونضوجنا وقدرتنا على فهم ذواتنا والاخرين، لكنها رحلة تفتح وعينا على أبواب القلق وادراك جوهر نوازع الانسان ومظاهر حياته المليئة بصور الشر وغياب البراءة. إنها لذة المعرفة التي تفتح علينا أبواب الالم والمعاناة. لديك قدرة رائعة على تذوق العمل من مختلف جوانبه الفنية واللغوية والاسلوبية وابراز الافكار بطريقة احترافية. لك مني كل المحبة وايات التقدير والاعتزاز على جمال حرفك الذي يضيء زوايا النص.

    ردحذف