الجمعة، مارس 21

عادات صغيرة

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

عـادات صغـيرة

خرجت من باب المحل تحمل اكياساً .. تلفتت هنا وهناك .. كانت قطرات المطر تتساقط برقة وهدوء فتلتمع الاضواء في عينيها .. ركضت في اتجاه سيارتها رمت باكياس الملابس التي ابتاعتها للتو على المقعد الخلفي .. شعرت بفرحة كبيرة .. منذ كانت فتاة صغيرة وهي تعشق التسوق وبالذات شراء الملابس الجديدة .. خزانتها تنوء بالفساتين والاطقم والمعاطف من كل لون وشكل .. ولكنها تعشق تغيير ملابسها كل فصل .. تركن القديم في زاوية لينتهي أمره هناك .. المسألة حيرتني كثيرا .. فهي تشتري ليس حبا في الشراء رغم انها تعشق ان تشتري كل ما يحلو لها ! وليست للمظاهر رغم انها لا تخبيء عنهن خبرا بخصوص أي شيء اشترته، ولكنها تحب أن تبدو أجمل ما يكون امام صديقاتها .. وتحب ان تخبرهن كلما عادت من جولة من السوق! المسألة أعمق من ذلك.

كانت الدنيا مساءً وفي الجو برد لطيف ينعش الجسم وخاصة بعد شتاء طويل كئيب. الطقس صورة مزاج الانسان ونفسيته. ويبدو انها تحس بنشاط يعود لروحها بعد خمول طويل من البيات الشتوي. ورغم نسمات الهواء الباردة وقطرات المطر فقد خرجت الى المكان الذي تعودت ان تشتري منه دائما. تحب ان تتمشى في هذا الشارع وتنظر الى واجهات المحلات لتعرف اخر ما طرحته دور الازياء من اشكال والوان. تعشق هذا الشارع كثيرا. يعتقد الناس انه اصبح مكانا لأغلى واشهر دور الازياء التي تنتشر على جانبيه وقد تم تحويله الى مكان للمشاة. كان عدد من الناس يجلسون على المقاعد الخشبية التي تم وضعها بعناية وحولها مساحات قليلة كالجزر الصغيرة وضعت فيها بعض الشجيرات وسط مساحات واسعة من الاسمنت والحجر لاضفاء رونق جمالي ولمسة فنية على المكان. تساءلت هل تعرف كل هذه السيدات هذه الاسماء التي لا تجد من بينها إسماً عربياً أو حتى مكتوباً بحروف عربية؟! تذكرت بحثاً طريفاً قام به زميل اثناء الدراسة في الجامعة حول سبب انتشار الاسماءالاجنبية في الشوارع وأجرى فيه مقابلات مع اصحاب المحلات للتعرف على سبب اختيار التسمية! كان بحثا غريباً يستحق ان يتناوله المتخصصون في دراسة علم النفس والسلوك البشري! لا أريد أن ابدو اسيرا للماضي يندب حال اللغة العربية ، فأنا من انصار التجديد وتطور اللغة ولكن هوية المدينة مُحِيت وخصوصيتها ضاعت وصارت وكالة فرعية لسوق عالمية! أخذت أفكر بالامر .. هل الاسماء الكبيرة أساس الاختيار؟ أم هل ارستقراطية المكان هي الدافع وراء الاختيار؟ هل الجودة والتميز هما فعلا اساس الاختيار لدى السيدات؟ وهل تعرف هولاء طريقة للتأكد من ذلك في زمان صار يهتم بالغلاف وطريقة العرض وتأثير الالوان والاضواء؟

لو انتقل احد هذه المحلات الى مكان اخر عادي الملامح واقل جمالا من هذه الاشكال المعمارية الجميلة والتحف وفنون الديكور فهل يبقى جذابا فاخرا في نظر تلك السيدات؟ كم تلعب اثارة الحواس دورا في سهولة الاقناع؟!

لا أريد أن اشغلك بأحاديثي وتساؤلاتي وفلسفاتي ، لكن سلمى لديها فلسفة غريبة في شراء الملابس .. لا يوجد في المدينة كلها سوى عدة محلات محدودة تعد على اصابع اليد الواحدة التي تستحق الدخول اليها .. واذا لم تجد مبتغاها يبدو عليها الحزن والتبرم والغضب .. وتبدأ تبحث عن اسباب ترميني بها فأنا المسؤول فيها عما حدث .. وهذا لغز آخر حيرني كثيرا .. فعندما أذهب معها في جولة تسوق أحس تماما بما تقوله وأتفهم انه ليس سوى تلك القلة القليلة التي تستحق الدخول اليها والشراء منها! ربما أثرت في من غير أن ادري وربما تعاطفي معها هو السبب! ولكنني حين اعود لمنطقي وافكر بالامر مليأ استغرب من أين يشتري كل هولاء البشر! وحينها اقول لها متسائلاً : ومن أين تشتري كل هذه الملايين من النساء ملابسهن، تقول ان ذوقها لا يناسبه اي شيء! بل أنها هي ذاتها تستغرب من اين تشتري كل هذه السيدات ملابسهن!! وصرت اعرف ذلك فلا اناقش الامر لانه محسوم بالنسبة لها. ولا تظنَّ أن اقتراب مناسبة ما أو قدوم فصل جديد أو سواه سيكون عامل ضغط عليها، فهذه ثوابت لا تتنازل عنها، بل تتنازل عن شراء الملابس الجديدة عن أن تذهب لمحلات او اماكن اخرى!

يستهويها كل ما هو غريب ونادر. تحلم ان تشتري كل ما يعجبها. الثمن آخر ما تفكر به. القطع الجميلة تستحق، كما أن الثمن عندها هو مقياس مهم. القطع الرخيصة التي تراها في بعض المحلات تزدريها. القطعة التي تصبح في متناول الجميع لا قيمة لها عندها وتفقد أهميتها. غريبة الاطوار أحياناً ، فكم تتعلق بالفستان او الثوب الذي يعجبها وتسوق كل المقدمات لتبرير شرائه وأحيانا تبقى أياما تفكر وتحسب كيف ستشتريه. بل ستنتظر موسم التنزيلات للحصول عليه اذا لم تتمكن من شرائه! ولكن عندما ينتهي دوره تتخلى عنه بكل سهولة. بمجرد ان ينتهي موسمه ينتهي كالجثة في المقبرة التي لا يريدها احد! ولكن برغم هذه القناعات التي قد تثير الاعصاب احيانا الا أنني لا اشك ان ذوقها جميل، وقد عرفت ذلك عبر كثير من المواقف وتأكدت منه. لهذا انسحبت مستسلما من اختيار اية قطعة منزلية او تحفة او ملابس سوى ملابسي الشخصية التي لا زلت اتمتع بحرية الاختيار فيها! وحتى هذه مرت فترة كنت أخاف عليها ولكنني في النهاية تمكنت من تثبيت حقي فيها! وأما ما عدا ذلك فقد صار من حقها واختصاصها! ولو فكرت بتجاوز صلاحياتي واعجبتني قطعة منزلية ما وتهورت بشرائها حبا بها ودفعت بها ثمنا باهظا، فستنتهي في المخزن او في زاوية الاهمال وربما اسرع الى ارسالها الى احد اعرفه ليستفيد منها احسن من أن تظل ملقاة هكذا كالخزانة المهجورة!

قادت سيارتها الى بيت صديقتها الحميمة القديمة، فهذه طقوس مقدسة. بعد شراء الملابس الجديدة ليس هناك عندها اجمل من تناول فنجان قهوة وسيجارة مع تمارا. وعندها يبدأ حديث الشراء والتسوق والمحلات والالوان والاشكال والاذواق. وهي الاخرى لا تقل غرابة عنها في طقوس الشراء لديها. إذا كان هناك أي شيء استهواها فانها مستعدة ان تدفع فيه أي مبلغٍ حتى لو كان خياليا، وربما ترميه في اليوم التالي او تعطيه لصديقة إذا وجدت انه لم يكن كما توقعته أو تغير مزاجها فيه! وانا كنت افكر انه نوع من التبذير او التسرع في الشراء، ولكن بمرور الوقت صارت لدي فلسفة مؤداها ان متعة الشراء لا يعدلها عندها شيء وتستحق هذا الثمن! اذا اردت ان تعرف مزاجية المرأة عن قرب وعن تبدل اذواقها ورغباتها بهذه السرعة فانظر الى سلوكها في شراء ملابسها! لم ار في حياتي امرأة مثلها تجد متعتها الاقرب الى نفسها في ان تخرج للتسوق وان ترى البضائع المعروضة في واجهات المحلات وان تدخل اليها لتجربها وتسأل عنها. وهذه احدى طرقها لتبقى على اتصال بعالم الازياء والموضة!

لكن لديها احساس بتناسق وجمال الملابس وروعة اختيار الالوان .. وعندما ترى اختياراتها تبدأ تدرك فلسفتها.. لم يكن الامر سهلاً .. لكنني توصلت الى فهم فلسفتها في الاختيار وصرت أدرك لماذا لا تضع السعر واحداً من بين معاييرها في الاختيار!

في الاسبوع التالي وبينما كنا نسير في ذات الشارع رأت محلا يبدو عليه انه قد أُفتتح للتو. كان الاسم فرنسيا ولم يكن هناك سوى عدد محدود من قطع الملابس. قلت يبدو انه ما زال يجهز لعرض البضاعة فليس هناك سوى قطع معدودة هنا وهناك. قالت لا .. وأضافت هذا هو الاسلوب الصحيح الجديد في عرض الملابس. ان المحلات التي تعرض كل شيء وتكدس البضاعة ليس لديها ذوق. سكت وأنا اتمعن في هذه الفلسفة. أخذت انظر الى الاسعار . أسعار خيالية .. شيء لا يصدق حتى في باريس نفسها. قلت لعل هذا هو السبب انه لا يوجد أحد غيرنا في هذا المحل! يبدو لي ان المحل يقنع ببيع قطعة واحدة في الشهر! كان الامر بالنسبة لي مبالغا فيه. لقد قالت انه فعلا كذلك ولكن القطع جميلة ولو كان لديها ما يكفي لاشترت فورا! بدا علي التبرم وبوادر الغضب. فخرجنا من المحل. بقيت اسبوعا كاملا لا حديث لها الا ذلك المحل وتلك القطعة اللعينة. شعرت ان دخلي في شهر كامل لا يكفي لشرائها.

مضى اسبوعان او اكثر لم نذهب فيه الى ذلك الشارع. وفي ذات امسية باردة بينما كنا نتمشى فيه نريد شراء ملابس لابنتي الصغيرة مررنا صدفة بذاك المحل .. كان فارغا وكان العمال يغيرون شكل الديكور ويقومون بتركيب ديكور جديد ووضع لوحة جديدة للمحل! شعرت بفرحة فهذا يثبت وجهة نظري فقد هجره الناس وقتلوا طموح اصحابه في مهده وسبب لهم ذلك خسارة جعلتهم يرحلون سريعا. دخلنا الى المحل المجاور اثارنا الفضول لمعرفة سبب ما يجري في ذاك المحل. قالت لنا شابة وهي تبتسم. لقد باعه اصحابه وصفوا الملابس فيه قطعة قطعة بسبب السفر الطاريء! وأضافت لقد اشتراه تاجر آخر وعلى ما يبدو فقد اشترى وكالة ملابس باريسية أخرى! تدخلت عندها وقلت إن اسعارهم كانت شيئاً غير مألوف ، ولا بد أنهم خسروا خسارة كبيرة! وبدت مني التفاتة خجولة سريعة نحو سلمى وقلت أعتقد انهم لم يجدوا مغفلين مثلنا يشتروا من عندهم. ابتسمت الفتاة وقالت سمعت ان المالك الجديد قد تعاقد مع وكالة أغلى من الاولى!

خرجنا وبعد قليل نسينا التفكير به، لكن كلانا شعر براحة كبيرة لانه رحل! بعد ساعة كنا قد فرغنا من شراء ملابس ليلى فقد ترسخت عاداتنا الصغيرة في شراء الملابس على حسب قناعاتنا المشتركة التي ارتسمت معالمها عبر السنين! فهناك شيء ايجابي لم ادرك اهميته الا بعد زمن طويل، فقضية التسوق محصورة ومحسومة في هذا الشارع ولم تعد تسبب لي التعب او المشي الطويل! وهذا شيء يتمناه الرجال كثيرا! كانت نسمات الهواء المنعش تهب لطيفة خفيفة، واضواء الشارع الصفراء تلوّن المكان في الليل بلون آخر غير لونه في النهار. كان هناك عدد قليل من الناس تمشي في الشارع. لفت انتباهنا فجأة وجود تجمع للناس يقفون في دائرة كبيرة وكانت هناك كاميرا تسجيل تلفزيونية يحملها شاب تدور في الارجاء وتسجل وشاب ضاحك يحمل ميكروفونا يتحدث من خلاله. لم نفهم ماذا كان يقول أو لماذا كان كل هولاء الناس متجمعين حوله ، فقد كان صدى الصوت يسبب تشويشاً. خلال لحظات كانت السيارة تقلنا عندما رن الهاتف النقال واذا بأبنتي الاخرى تتصل لتذكرني أن غداً هو دورها هي في الشراء من نفس المكان!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف11:46 ص

    السلام عليكم استاذ اياد الفاضل اتمنى ان تكون بالف خير
    يسرنى ان اتوقف عند هذا العمل الناجح واخط بعض العبارات راجية ان تسنح الفرصة لكاتبنا المتالق افادتنا بما يجود به من جزيل النصح والتوجيه
    فعلا هي عادات صغيرة لكنها تكشف عن حقائق كبيرة وتبرز ما يترسخ بذهن المرء من افكار وترسبات تراكمت بداخله خلال سنوات حياته .
    ليس كل ما يلمع ذهبا عبارة تقال كثيرا لكنها غابت عن بطلتنا فسلمى من الناس الذين يؤمنون بالمظاهر ولو خادعة وهي تتشبث بطقوس لاجدوى منها سوى المباهاة والتعالي وهذا يدل على تفاهة اهتماماتها وكل ما تصوره هى ذوقا واسلوبا بالاناقة والتميز انما هو انبهار مزيف وانسياق نحو فراغ اكبر بعيدا عن اي اهتمام ذي جدوى وزوجها. المسكين ايضا اعتاد الاستسلام لرغباتها دون زجرها بس يكتفى بالتبرم او الغضب وهذه عادة صغيرة لكن فظيعة .ان تمادي البطلة يتحمل جزء من مسؤولية الروج المهادن لان سلمى تكون ضعيفة اتجاه رغباتها ووجود حماية وارشاد ينقذها من مواقف محرجة قد تودي باسرتها .
    دائما يبهرنا الاديب والقاص المتميز اياد بوصف دقيق وشامل حتى نخال انفسنا بذات المكان .وحاضرة هى الطبيعة دوما فى ابهى حلة .حتى ان قطرات المطر اضفت على العمل دفئا وبريقها اعطى رونقا جذابا .
    .والمساحات الخضراء بشجيراتها نشرت جوا لطيفا ونسيما عليلا .


    كما نلاحظ بالعمل اشارة لشساعة البون بين طبقات المجتمع فبينما يكد البعض لاجل لقمة العيش يستنزف الاخرون اموالهم فيما لا يستحق وقد يجرون وراء اهوائهم مخربين حياتهم لمجرد البهورة .
    وتجسد القصة ايضا عناء تحمل الاب لاعباء تحمل مصاريف بناته مهما صعبت عليه دون خلاص.
    الكاتب رمز ايضا لمسالة اللغة الاجنبية وانتشارها فى الشوارع على المحلات ربما لانها من مخلفات الاستعمار ظلت راسخة تفرض نفسها بتميزها واستسلام الناس للامر والادهى هو ترسخ فكرة تفوق الاجانب فكلما كانت الماركة اجنبية كلما زاد الاقبال وارتفع الثمن ليقين الناس بجودتها نظرا لسمعتها الطيبة وسوء ظن الناس بالانتجاج المحلى .
    بالمناسبة انا قط لم احب التسوق بهذه الطريقة قد اتوه وسط مكتبة مكتظة باجود المؤلفات والقصص ولا اعير اهتماما لمحل البسة ولا ارمق واجهته ولو بنظرة بل اقتنى ما يلزمنى بالوقت المناسب والثمن المناسب دون تبذير او مغالات.ومنذ تعرفت على هذا المنتدى القيم صار من عادتى الاطلاع عليه ونهل معرفة قيمة منه والتخطيط احيانا بتعليق ومع انها عادات صغيرة وسط زخم الحياة وانشغالاتها الا انها عادات ذات اثر عظيم .اكسبنى الكثير من الفائدة الادبية والمتعة الفكرية وسط واحة غناء من الفكر والادب واللغة والخيال المثمر .جازاك الله عنا الف خير استاذ اياد.
    فعلا ابداع جميل وتالق ملموس من الرائع الاستاذ اياد حتى اختيار اللوحة الفنية جد متناسق مع موضوع القصة فالقبعة رغم صغرها جعلت ركنا اساسيا لاكتمال اناقة المراة كي تشد انظار من يستطيع دفع ثمنها الباهض .بارك الله لك استاذ اياد ومزيدا من النجاح والتفوق والتوفيق.مع اصدق دعوات القارئة المخلصة عفاف.

    ردحذف
  2. اقدم لك عفاف كل التحية والتقدير على تعليقك المستفيض والذي احتوى على الكثير من الافكار. واضح بشكل جلي أن محاور القصة واساليبها في تناول الجوانب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بالسوق قد لقيت صدى لديك، وهذا ما تعكسه قدرتك على تحليل النص من مختلف جوانبه. سعدت كثيرا بمدى قدرتك على تذوق العمل من مختلف جوانبه، وهو ما عبر عنه اسلوبك الجميل في طرح الفكرة بمهارة تعبيرية ولغوية فائقة وقدرتك على تحليل مواقف الشخصيات وأنماط قناعاتها وتأثيرها فيمن حولها. أشكرك على اهتمامك الجاد وابدي اعجابي بمستواك النقدي الذي يتناول القصة برؤية شمولية. لك كل الود مع خالص التحية والثناء.

    ردحذف