الأربعاء، نوفمبر 26

الموشحات الاندلسية


الموشحات الاندلسية: يا زمان الوصل

بقلم: اياد نصار

هذا الفن الرائع الذي انفردت الاندلس بابتداعه يمثل قمة في النضوج الفني والشعري والموسيقى، ويعكس حالة من الاهتمام بالجانب الروحي والجمالي كما يدل على مدى الاهتمام بتطوير الغناء والطرب. الموشحات كلمات غنائية مفعمة بحب الحياة ومضمخة بعبق الطبيعة الاندلسية الجميلة في قالب شعري وينظمها تركيب موسيقي قصير قابل بكل سلاسة للتلحين والغناء ويحلق بها خيال مفعم بالهوى والعشق والوجد والعتاب في مجالس الحبيب في قاعات القصور وبين الرياض والنوافير ومجالس العزف والشراب. والموشحات يبدو أنها اشتقت من الوشاح أو القلادة التي تزين الوجه والصدر.، وقيل بل من التوشيح أي ترصيع الكلام وتنميقه على ألحان وأوزان سلسلة يجري بها اللسان بكل عفوية وتلقائية.

نقلت الموشحات الشعر العربي من التكلف والرسمية والمواضيع التقليدية للشعر في الفخر والمديح والرثاء والجزالة التي تكاد تقتصر على دارسي اللغة والنحو والصرف الى الاجواء الشعبية التي تفوح بروائح الزهر والخمر والموسيقى، فاصبح أكثر عذوبة وانتشاراً وتجاوباً مع حالات النفس المختلفة. كما ساهمت الموشحات في ازدهار شعر الغزل والوصف وحب الطبيعة والحياة.

ومما يذهل القاريء أن هذا الفن الرفيع الذي تنظمه أوزان خاصة به وقوافي متعددة وتركيب بنيوي منتظم لم يعرفه الشعر العربي من قبل، يكاد يغيب ذكره في بعض أهم المصادر الاندلسية، الا من إشارات على إستحياء، مما دفع بعض النقاد للقول أن الموشحات فن نشأ في المشرق العربي ووصل الاندلس. فقد تجاهله إبن بسام في كتابه الموسوعي " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، كما أغفله كتاب "العقد الفريد" لإبن عبد ربه، وغاب نهائياً عن كتاب" قلائد العقيان في محاسن الاعيان" للفتح بن خاقان. ولكن أدباء آخرين أفاضوا بالحديث عنها وايراد أمثلة كثيرة عليها مثل المقري في كتابه "نفح الطيب في غصن الاندلس الرطيب"، وإبن دحية صاحب كتاب "المطرب من أشعار أهل المغرب".. ومما عزز النظرة لدى بعض النقاد أنه قد يكون من ابتكار الشرق العربي في العراق أن أشهر الموشحات على الاطلاق وهي:

أُّيها الساقي اليك المشتكى -------- قد دعوناكَ وإن لم تسمع ِ

قد نُسبت للشاعر العباسي ابن المعتز، ولكن أغلب الظن أنها لإبن زهر الاندلسي الحفيد. ويتفق كثير من الدارسين وكتب المصادر التاريخية على أن الموشحات فن أندلسي النشأة وأن من إخترعه كان مقدم بن معافر، وقيل محمد بن حمود القبري. وأنا ممن يعتقدون أن هذا الفن الرائق والراقي الذي يقدم مقطوعات شعرية تنساب مع أحاسيس النفس في غنائية واضحة ولحنية جميلة وكلمات في قمة التأثير التي تجعل من الموشحات متعة الكثيرين في الاستماع اليها وقراءتها لم يكن ليظهر في بيئة فنية وأدبية غير الاندلس بما إمتازت به من حرية الفكر والابداع واختلاط الاعراق والشعوب والثقافات في بوتقة واحدة. ولهذا نرى عناصر إسبانية محلية في الموشحات. وهناك رأي يورده كثير من الباحثين والنقاد الذين يتناولون الادب الاندلسي يقول أن الشعراء الجوالين (التروبادور) الذين ظهروا في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا ونشروا شعرهم في أنحاء أوروبا هم تأثروا أصلا بالادب الاندلسي.

ولن أتحدث بتفصيل عن بناء الموشح وأقسامه. ولكن يمكننا التوقف عند تعريف الشاعر ابن سناء الملك للموشح حينما قال أن: " الموشح يتألف في الاكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات . ويقال له التام، وفي الاقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له الاقرع". وأول هذه الاقفال يسمى المطلع، وآخرها يسمى الخرجة. فإذن يتكون الموشح في العادة من قفل يدعى مطلع يبدأ به الموشح وينقسم الى غصنين، ثم يأتي الدور وهو مجموعة من ثلاثة أسماط يعرف مفردها بإسم سمط. ثم قفل آخر يتكون من غصنين ينتهي بقافية هي ذات القافية في المطلع، يلحقه القفل الاخير ويسمى الخرجة بذات القافية المطلع.

ويطرب الانسان المتذوق للشعر والموسيقى عند سماع الموشحات لما تمتاز بها من الرقة والعذوبة والصفاء والسهولة والتأثير العاطفي والبعد عن الزخرفة والمحسنات اللفظية المفرطة وحضور المرأة بشكل بارز في الاداب الاندلسية، ومن الاحتفاء بالطبيعة الساحرة، والتعبير عن شدة الوجد والعذاب والعتاب. ومن الموشحات الذائعة تلك التي ألفها إبن سناء الملك:

يا شقيق الروح من جسدي ......... أهــوى بـي منــك أم ألــم

ضعت بين العَـذْلِ والعَذََل ِ

وأنا وحـــــدي علـى خبل ِ

ما أرى قلبــــي بمحتـمــل ِ

ما يريـد البيـن من خلــدي ............. وهو لا خصمٌ ولا حكـمُ

أيها الظبي الذي شردا

تركتني مقلتاك سدى

زعموا أني أراك غدا

وأظنُّ المــوتَ دون غـدي .......... أين مني اليوم ما زعموا

اُُدن شيئاًً أيها القمــــــرُ

كادَ يمحو نورَك الخفرُ

أدلال ذاك أم حــــــــذرُ؟

لا تخفْ كيدي ولا رصدي .......... أنت ظبيٌ والهوى حـَرَمُ

يا هِشامَ الحُسْنِ أي جوى

يا هوى أزرى بكل هوى

لم أجدْ مذ غبـتُ عنه دوا

علّمتـْـكَ النفثَ في العقـــدِ ............. لحظــاتٌ كـلـُّـها سقـــمُ

هل بشوقي ردعُ كلِّ صبا

تجتـليــها آيــــة ٌ عـجبـــــــــا

حين أشــــدوها بـكم طربــا

يا نسيم الروح من بلـــدي ........ خبّر الأحبابَ كيف هُـــــمُ

هذا الموشح الجميل الذي أبدعت في أدائه فيروز مختلف عليه. فبعض الدارسين من يعتبره للشاعر الأندلسي إبن زُهرِ الإشبيلي، نسبة إلى اشبيلية ؛ مدينة الغناء والطرب في الأندلس. ومنهم من يعتبره لابن سناء المُلك. وهو شاعر قاهري مشهور بديوانه ونظمه البديع، وأحد شعراء العصر الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، أي في ذات الفترة التي كانت الاندلس تشهد إزدهاراً أدبياً وفنياً وقد ذاعت الموشحات فيها. ومن آثاره كتاب دار الطراز في عمل الموشحات، و هو أول كتاب تناول الموشحات بالدراسة التاريخية والادبية عبر تاريخ الأدب العربي الى عصره. كما قام إبن سناء الملك بوضع أصول وقواعد نظم الموشحات كما فعل الخليل بن أحمد الفراهيدي مع الشعر. ويضم كتاب دار الطراز عدداً كبيراً من الموشحات الأندلسية القديمة، وموشحات ابن سناء الملك نفسه. ومن أشهر الوشّاحين الذين ظهروا في الاندلس كان عبادة بن ماء السّماء، والأعمى التُّطيليّ، وإبن زهر الإشبيليّ، وإبن سهل، ولسان الدين بن الخطيب الذي كان يلقب بذي الوزارتين: المنصب والشعر.

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان الفرنسي بيير لويس بوشار (1831-1889)

الاثنين، نوفمبر 24

عزالدين ميهوبي: عاشق أوراسي


عز الدين ميهوبي: عاشق أوراسي


بقلم: اياد نصار


لقد جذبتني اليه قدرته البارعة على تطويع مفرداته اللغوية الثرة وفي مقاربته المحترفة الخلاقة لأصعب القوافي بمهارة عالية من أجل تقديم قصيدة مشحونة عالية التوتر منسجمة الموضوع والطرح، وفي ذات الوقت يبدع في المحافظة على لحن موسيقى مذهل. لعلني أقترب من الحقيقة عندما أقول أنه هذه صفات شاعر عاشق ، لكنه عاشق أوراسي. يجمع في شعره بين اجواء القصيدة الموسيقية الغنائية التي تنساب لوحدها بكل سلاسة وموسيقية وابداع وبين أجواء الحكاية الذاتية الحداثية بإشاراتها ورمزيتها وتكثيفها التي ترمز الى قضايا وطنية وانسانية كبرى. فكأنه يبتكر قصيدة القصة وقصة القصيدة. إنها القصيدة التي تروي قصة مؤثرة بلغة ساحرة. إنه عزالدين ميهوبي الذي يكتب القصيدة بنفس قصصي قصير متتابع متألق رقيق ولغة شاعرية في قمة الابداع السردي.


عزالدين ميهوبي شاعر جزائري يكتب الشعر بنكهة خاصة ونفس طويل. لا يمكن أن تشعر بملل أو تكرار أو ضياع مهما طالت القصيدة، فهي تبوح بأسرارها وتكشف عن جمالها وهي مستمرة في بناء تكوينها الجميل والافصاح عن مكنوناتها. وكما يبدع في الشعر الحر، فإنه يبدع بذات القدر في الشعر الكلاسيكي لأنه يمتلك اللغة التي لا تنضب مفرداتها، والاحساس العالي الذي يطور القصيدة بلا ملل ويملأها بالمعاني والصور.


ولد في عام 1959 بعين الخضراء، بولاية المسيلة. درس الفنون الجميلة، والآداب. وتخرج في المدرسة الوطنية للإدارة عام 1984.
اشتغل بعد تخرجه بالصحافة منذ عام 1986، وتولى رئاسة تحرير جريدة الشعب حتى عام 1992. كما عمل في الاعلام وتقديم البرامج المتخصصة في التلفزيون الجزائري. أنتخب عضواً في البرلمان الجزائري 1997عام ممثلاً لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، كما أنتخب في السنة التالية رئيساً لاتحاد الكتاب الجزائريين 1998. يشارك بفعالية في اللقاءات والمؤتمرات والندوات الشعرية والادبية في الجزائر وفي عدد من العواصم العربية والاجنبية.


حصل على الجائزة الوطنية للشعر في عام 1982، والجائزة الأولى لأفضل نص مسرحي محترف 1998.
ومن دواوينه: في البدء كان أوراس، اللعنة والغفران، النخلة والمجداف، خيرية، شيء كالشعر، الرباعيات، الشمس والجلاد، عولمة الحب عولمة النار. كما قدم الأوبريت والمسرحية، ومنها: زابانا، قال الشهيد، الدالية. والجدير بالذكر أنه نال الجائزة الأولى للأوبريت عام 1987.


وأحب أن أقدم له في هذا المقام مقاطع من قصيدتين من أبدع القصائد في الشعر الجزائري المعاصر ومن أكثرها إحترافاً سواء لجهة مواضيعها أو روحها الحداثية القلقة التي ينطبق عليها ما ذكرته في الفقرات التي أسلفت.


عولمة الحب ..عولمة النار

أتنفس من رئة الكلمات،

وتخنقني هدأة الصمت،

أقتات مني

ومني يكون الفتات.

أنا طائر من ألق،

ولي بينكم وطن من ورق،

شارع من نزيف المسافات

يأخذني لحدود الغسق.

أنا طائر المتعبين بأحلامهم،

ليس لي أجنحة،

وطني ساحة للجنازات والأضرحة،

أنا طائر أتعبته النجوم، فمات.

أتنفس من رئة الصمت والكلمات،

فلتلبسني المقبرة،

وتحرق أشرعتي المجمرة.

هل أنا وردة من رحيق المساء

أم الوردة إنكسرت في نهايات صمتي، ولم

تحترق؟

أتنفس شيئاً من الحب،

لا الأوكسيجين يوزع في رئتي

بقايا الذي كان مني،

ولا القب يهرب من نبضه عندما يختنق.

خرجتُ من الكلمات،

لم يكن شارع الشهداء طويلا....

كما كان قبل مجيء صديقي الذي قال شعراً ومات.

وصلت النهاية...

كل الشوارع تغلق أبوابها في مسافات

عيني...

صديقي الذي مات،

لوّح بيديه

وألقي منديله في العراء وفات.


عاشق أوراسي


ناءٍ بصمتـــكَ معقـودٌ بـــكَ الأرقُ

تقلبُّ الطرفَ والأهدابُ تصطفـقُ


تصغي لهمسكَ في المرآة مكتحلاً

بملـح صبـركَ والسـاعات ُ تأتلـقُ


تقـول قلبــي مســافـاتٌ محنّـــطةٌ

بين الضلوع وتدري سِرَّكَ الطرقُ


تقول وحدي سوى الجدرانِ تعرفني

والصبرُ بينـي وبيـن الناس يُعتنــقُ


وحدي أفتش عن وجهٍ يسامرني

فَتُغلِـقُ الأرضُ أبوابـي فأنغلــقُ


أراود الشعر أيامـاً فتفضحنــي

عيون قافيةٍ خرســاءَ لا تثـــقُ


ويرحل الصمت مهزوماً وفي شفتي

بُقيا حديـث الأمانـي والرؤى مِزَقُ


وحدي على مرفأ الأيام تحملنـي

قواربُ التيه والأمـواج تحتــرقُ


يا واقفيــن ببـاب العمــــر أرّقنــــي

صمتُ القصيد..فأوهى صمته الشفقُ


" أُوراسُ" آتٍ كما الأمطار يحملني

نبض القوافي ويدنو من دمـي الألـقُ

"أُوراسُ" فتّشْ جيوبي تلك ذاكرتي

لا شيءَ غيرُ بقايا العمرِ.. تحترقُ


اللوحة أعلاه للفنان الجزائري فريد بنية

الجمعة، نوفمبر 21

سيدة الضباب والمرايا!


سيدة الضباب والمرايا!


ايـاد نصار


يا سيدةَ َ الضبابِ والمرايا والغياب ِ
يا روعة َ الذكرى
حين يعزّ ُ اللقاء
طال صمتُـك الفضيُ
طال حزنُـك المخمليُ
فارحمي القلبَ من العتابِ



عذَّبتْـني فيكِ هواجسُ فكري
واضطرابي
فأغلقتُ أبوابَ مدينتي
المهجورةِ
ومزَّقـتُ كتابي
وأطفأتُ شعلة َ الروحِ
في ليلِ وحدتي واغترابي



إستوطنني طيفُـك كالحزنِ كالدمعِ
كالعذابِ.
تناديك قصائدي الليلكية ُ
لنرحلَ عن هذا العالم ِ المنهار ِ
كالسرابِ.
تحملني عربة الحلم الذهبية
الى شواطيء بحارك الربيعية
الى رمال الضفائر والفراشات
الى أمواج الحنين
لتعيد الهوى والحياةَ لأرضٍ يبابِ



رأيتك قادمة ً كنجمةٍ في إهابِ
كزنبقةٍ بريةٍ
على أهدابِ عينيكِ سار قمرٌ أخضرُ
عشرينَ ليلة ً..
بلا غيابٍ .. بلا إحتجابِ
في صحراء قلبي الرمادية.
نبيذُ شفتيك فُسْتـُقيّ ٌ
يُسْكِر فأهيمُ بالجمال ِ عشقاً
وتلمعُ في ليلِ السهرِعيونُـكِ كشِهابِ.



ثََمـُلَتْ من قصائدِكِ كلماتي
ففاضتْ شوقاً لأمنياتٍ عِذابِ
ترحلُ اليكِ في حميم ِ اللقاءِ أحلامي.
لشفتيكِ لذةُ الخدر ِ الناعس ِ
ولنهديك دفءُ الجمرِ وجنونُ الشرابِ.
أنتِ لستِ مثلَ كلِ النساء؛
باهتة ٌ من دونكِ الالوان.
وحين تكتملُ اللوحة ُ
أذوبُ عشقاً
فلا أعرف لي ذنباً من صوابِ.



حين تلامسُ كفي كفيكِ
وتمتزج حروفي برائحةِ القهوة
أعرف كم أنت لي بلا ارتيابِ،
فأشمُّ فيها رائحة َ عِطرَكِ
وتورق زنبقاتُـك في حديقتي وترابي.
حنانيكِ يا روعة َ العمر!
كم رقَّ القلب عميداً في شوقهِ
وغارتْ نجومٌ في ليلِ حزني
وذبلتْ أزهارٌ في إنتظارِ موعدِ السحابِ.



هذا وعدي اليكِ يا أملي
يا فرحي ويا حزني ويا مصابي!
قد باحَ القلبُ بأشواقه اليكِ
فإفتحي لي بابَ جـنّـتكِ
فإنني واقفٌ بالبابِ!



* اللوحة أعلاه للفنانة اليمنية بدور القـَبيسي وهي رسم على الزجاج

الأحد، نوفمبر 16

الشعر العربي: أين هو الان؟


الشعر العربي: أين هو الان؟

بقلم اياد نصار

هل ما يزال الشعر ديوان العرب وفنهم الاصيل الذي نبع من ذاتهم منذ بدء التاريخ؟! هل ما يزال الشعر عشق العربي الاول بين كل الفنون؟! هل ما زال الشعر قطعة من فؤاد العربي وصورة عن حياته وسبب وجوده؟! هل ما زالت كلمات الشابي التي خاطب فيها الشعر تعبر عن العربي اليوم كما كانت في مطلع القرن العشرين:

أنت يا شعر قصة عن حياتي .............. أنت يا شعر صورة عن وجودي

أنت يا شعـر - إن فرحـتُ- أغـاريــــدي - وإن غنّــت الكـــآبــة - عــودي

أنت يا شعر كأسُ خمر عجيبٍ ..............أتـلــهّـى بـه خـلال اللـحـود ...!

أتحسّاه في الصباح، لأنسى ................. مـا تقضّى فـي أمسـي المعبـود

وأناجيه في المساء، ليلهني ..................... مـرآه عـن ظــلام الــوجــود

فيك ما في الوجود من حَلكٍ داجٍ ............... ومــا فيــه من ضيــاء بعيــدِ

فيك ما في الوجود من نغم حلوٍ ................ ومـا فـيـه من ضجيــج شديدِ

ورأى معروف الرصافي أن كل حدث في الحياة والطبيعة ما هو الا صورة من صور الشعر ينطبق عليها عروض الشعر وأساليبه الفنية ومواضيعه فكأن الشعر صارعالمنا الذي نعيش ونموت فيه:

قرأت وما في غير الطبيعة من سِـفْرِ ....... صحائفَ تحوي كل فن من الشعرِ

ومـا حـادثــات الـدهــر الا قصــائـد ......... يفــوه بها للسـامعـيـن فــم الدهــرِِ

وما المرءُ الا بيـتُ شعـرٍ عـروضـه ........ مصائبُ لكنْ ضَرْبهُ حفرة القبـرِ


وقال علي محمود طه شاعر الجندول في قصيدة أن عشق الشعر بلغ حد العبادة وإمتلك الشعر عروش القلوب:

عشقنا الدمى وعبدنا الصور ........... وهـمـنــا بـكـلِّ خيـــال عَبَـــرْ

وجـئـنــا اليــك بـملـك الـهــوى ........ وعـرش القلـوب وحـكم القـدرْ


فما الذي يجعل للشعر هذه المكانة في نفس العربي الذي توحي اشعاره أنه يعشق الكلام الجميل المنظوم على إيقاع موسيقى؟ وهل ما يزال الشعر يحتل تلك الصدارة عند العرب؟! أما أن الهوة بين الادعاء والحقيقة واسعة مثل إتساع البحر؟! آخر شيء يفكر به أصحاب النشر هو نشر دواوين الشعر. وآخر شيء يتوقعونه أن ينتشر ديوان شعر على الاقل ويفرض حضوره مثل ما تنتشر الرواية!

ويبقى السؤال الذي يطرح ذاته دائماً: لماذا يعشق العربي الشعر كل هذا العشق؟ بل لربما صار السؤال يشتمل على خطأ جوهري في حد ذاته. فهل الافتراض أن العربي ما يزال يعشق الشعر ينطوي على مغالطة لحقائق العصر الحالي؟ وأعود للسؤال الأساسي: لماذا كان للشعر هذه الحظوة في نفوس العرب؟

- أهو حب العربي للخيال والتحليق في عالم جميل يحرره من قيود الواقع الاليم؟

- أهو حب العربي للانطلاق والتحرر من قيود العقل والجمود؟

- أهو حب العربي للفن والكلام الموسيقي الموزون والصور التعبيرية الرائعة التي يقدمها باعتباره أحد الفنون؟

- أم هو تعويض عن عزوف العربي عن تعقيدات العلوم والبحث التجريبي وقوانينها المحددة والقدر الكبير من الجهذ الذهني الذي تتطلبه، مما لا يطيقه العربي فيهرب الى خيال الشعر؟

- أم هي رغبة العربي في الابداع الفردي وإظهار تفوق الذات؟

- أم هو الهروب والابتعاد عن بيئة جغرافية تمتاز بالقسوة والعيش في عالم جميل غير متحقق في أرض الواقع؟

- أم هو إدراك حقيقي بأهمية دور الكلمة في الحياة وفي التأثير في الآخرين؟

- أم هو عشق فطري منذ الازل لدى العربي أينما كان وفي أي مجتمع عاش؟

- أم هي رغبة العربي في إبراز قدراته ومواهبه اللفظية في التلاعب بالكلمات والصور والمعاني بلا جدوى، وتساعده اللغة في ذلك فلها تراث طويل من الادب وفنونه مقابل انتاج يسير في العلوم؟

- أم هي وسيلة للتنفيس عن المشاعر المختلفة من حزن وألم وفرح وغضب وغيرها؟
-أم هي كما ردد بعض المستشرقين بأن الشخصية العربية تميل أكثر في تركيبتها وبفعل المؤثرات اللغوية والثقافية الى الاداب ولا تطيق العلوم ولا تطيق اسلوبه في التفكير العقلاني المنظم الا فيما ندر؟
ربما هو مزيج من كل هذا وذاك بأولويات متفاوتة، ولكني أزعم ان الشعر فقد مكانته التي تربع على عرشها لدى العربي ردحاً طويلاً. وقد يكون من الخطأ توجيه السؤال للشعراء وجمهرة المثقفين، فمجالسهم ولقاءاتهم وحلقاتهم توحي لك بأن الشعر ما يزال حكمة العربي أينما وجده التقطه! فعدد الحاضرين في ندواتهم وأمسياتهم قليل يعدون على أصابع اليدين، وهذا مع استمرار الدعوة والحث عليها! لا أظن أنني استطيع في هذه العجالة الاحاطة بكل اسباب تراجع دور الشعر كثيراً في الوقت الراهن. ولكني أود أن أشير الى أسباب كثيراً ما نغفلها عند التطرق الى هذا الموضوع. وأولها أعتقد له علاقة بسوء استعمال اللغة والافراط فيها حتى فقدت روحها لدى الناطقين بها. لقد عمق سوء استعمال العربي للكلمة من الهوة بينه وبين شعره. فالعربي يستعمل الكلمات المترادفات في أحاديثه وكتاباته بإفراط شديد دون حاجة أو سبب مقنع أو سبب واضح لاظهار الاختلاف اللغوي الدقيق نتيجة استعمال المترادفات وبلا حساب للتكرار والتوكيد حتى فقدت الكلمات معانيها ولم تعد الاختلافات التي يجب أن يراعيها عند إختيار مفردة ما تعني له شيئاً من كثرة التهويل والمبالغة والافراط في الاسلوب العاطفي. فترانا نعيد ذات العبارة ونكررها بمترادفات متعددة حتى لم تعد تثير في النفس شيئاً، فاللغة تندلق بلا حساب من الافواه!

وثانياً، رغم كل تيارت الحداثة التي تحاول ربط فنون الانسان بواقعه المعاصر، إلا أننا أتخذنا موقف العداء منها وصورناها بأنها تدنيس للمقدس. ورحنا نمجد القديم الذي إنقضى عهده وباد أغلب مكوناته الفكرية من حياتنا، فعمّقنا إحساس العربي بأن الشعر شيء من الماضي. بل إن كثيراً من المناهج المدرسية اللغوية المعاصرة ، بل وحتى بعض الكتب والموسوعات والمجلات التي يسيطر عليها أتباع التقليد والاصوليات تجدها تحفل بنصوص من الادب القديم عبر عصوره المختلفة وتنأى بشكل متعمد مقصود عن الادب الحديث وخاصة من بعد ظهور الشعر الحر في الادب العربي في أربعينيات القرن الماضي فخلقت لديه شعوراً بأن الشعر شيء من التراث لا علاقة له بحياتنا المعاصرة!

وثالث هذه الاسباب هي ضحالة مستوى التربية والتثقيف الادبي والفني والنفسي والفلسفي مما يلعب دوراً كبيراً في تهميش الادب عموماً من حياتنا، والشعر على وجه الخصوص. فما زال الانسان العربي العادي في القرن الحادي والعشرين يتعامل مع النص الشعري بمنطق الواقع والعلاقات المنطقية الرياضية البسيطة، ويجد مشكلة عويصة في تذوق صور الشعر المعاصر غير المألوفة أو غير التقليدية وتشبيهاته وإستعاراته التي لم يتعود عليها ولم تحضّره لها اتجاهات التربية والتثقيف المختلفة، ويجد صعوبة في استيعاب الدلالات اللغوية المبتكرة وتوظيف الاساطير والرموز الفلكلورية والدينية. ورابعاً فأن هجمة رجال الدين على الكثير من التجارب الشعرية بإسم الاساءة للثوابت والرموز والشخصيات والنصوص قد ساهمت في إبعاد قطاع عريض من الناس عن الشعر ظانين أنهم يرتكبون رجساً بتعاطيه وقراءته!

وخامس هذه الاسباب، ما تزال الاساليب التقليدية في نشر ثقافة الشعر تقوم على توظيف اساليب التحليل الكلاسيكية التي تتعامل مع النص ككلمات منفردة أو تسعى الى شرح القصيدة بالاسلوب المباشر الذي يقوم على اعادة صياغتها نثراً بكل تبسيط. وقد شكلت هذه الاساليب حاجزاً نفسياً ولغويا وفكرياً يبعد القاريء عن ادراك المستويات المتعددة للفهم والتحليل وربط الشعر بمدارس العلوم الانسانية والاجتماعية والنفسية المعاصرة، ومدارس الشعر الحديث والنقد الادبي وتوظيفها لابراز جوانب اخرى تغفلها الاساليب التقليدية التي ما تزال تصف بكل صفاقة عاطفة الشاعر عند تحليل القصيدة بأنها جياشة!

وربما تصف وتلخص كلمات أدونيس ما آل اليه حال الشعر واللغة في قصيدته أول الشعر:

إنه العُرْيُ يكشف عن جثثِ الكلماتِ
إنّه الكونُ يذبلُ
ضيّعتُ ناري
...
لغتي غيرُها
خطُواتي
لم تعد خُطواتي.


وكما سبق أن وصف نزار أزمة العلاقة المتخلفة بين الفكر واللغة التي خلقها الاستخدام الأرعن الفاشل للغة في إطار من الوصولية وغياب الرؤية والتفاعل مع قضايا العصر مما تسبب بمأساة الشعر واغتراب الشاعر وعزوف القاريء، لا تزال بعض أعراض تلك المرحلة تفرض نفسها:

أنعي لكم، يا اصدقائي، اللغة القديمة

والكتب القديمة

أنعي لكم

كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة

كما ينتقد ويهاجم محمود درويش المواضيع التقليدية المكرورة للشعر التي لم يبرحها منذ قرون عديدة حتى صار الشعر متلازمة للبؤس في دنيا جديدة لم تعرف كيف تجعل الشعر يتفاعل معها ويعبر عنها:

أمس غنينا لنجم فوق غيمة

وانغمسنا في البكاء

أمس عاتبنا الدوالي والقمر

والليالي والقدر

وتوددنا النساء

دقّت الساعة والخيّام يسكر

وعلى وقع أغانيه المخدر

قد ظللنا بؤساء

يا رفاقي الشعراء

نحن في دنيا جديدة

مات ما فات

فمن يكتب قصيدة

في زمان الريح و الذرة

يخلق أنبياء

هناك الكثير من الاسباب الاخرى التي تتطرق اليها الدراسات عادة ولكني أحببت أن أتحدث في أسباب محددة كما رأيتها ورأيت تأثيرها من واقع مشاهداتي وتجربتي.

* اللوحة أعلاه للفنانة التشكيلية اليمنية فاطمة الشريف من مدينة الحديدة.

الخميس، نوفمبر 13

التـيــه


التـيــه

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار
منذ أن خرجنا في رحلتنا قبل أربع سنوات، أنا وأخي مسعد ومرافقنا نوهان، لم أكن أكثر رغبة في تدوين ما مر بنا من وقائع مثل اليوم. كنت أدون ملاحظات قليلة كرؤوس أقلام لتعينني على التذكر عندما أعود الى قريتنا رجم الشمس التي كانت تطل على النهر من أعلى التلة. قرية صغيرة تمتد أمامها سهول القمح والشعير والذرة وتحيط بها بساتين الزيتون واللوز والليمون. بيوتها من الحجر والطين السميك وقد انتشرت حولها الخوابي التي تخزن فيها الغلال. تمتد مزارع الموز أمامنا بعيداً في الاسفل قرب النهر، وعلى ضفافه تنتشر أشجار الحور والسنديان والبلوط. في الربيع تصير الارض مثل بساط أخضر تملأه أزهار الاقحوان وشقائق النعمان والدفلى والسوسن الأسود.

ونحن صغار كنا نرى تجاراً قادمين من الشام يحملون معهم بضائع وأقمشة وبخوراً وأمشطة وحنـّاءً وعقوداً وأساور للنساء في صناديق على ظهور دوابهم. وكنا في بعض الاعوام نرى رحالة من بغداد والموصل يمرون بقريتنا فيستريحون بها قليلاً قبل أن يكملوا رحلتهم. كانوا يروون لنا حكايات عن بلاد بعيدة زاروها وأعاجيب رأوها أو قصصاً غريبة سمعوها. كنا أنا ومسعد ما نزال صغيرين ، ولكنا في الليل كنا نجلس في مجالس الكبار وهم يتحلقون حول النار ودلال القهوة فيثور في داخلنا شوق للسفر الى بلاد بعيدة. كنا صغاراً نحلم ، ولكن الحلم إستوطن ذاتنا وكبر معنا. أذكر أنه نزل ذات يوم بقريتنا شابان في مقتبل العمر قويا البنية فارعا الطول أسودا البشرة. عندما كانا يبتسمان كانا يفتران عن أسنان لامعة ناصعة البياض. لم أر في حياتي أحداً بمثل ملامحهما. سمعت الكبار يقولون أنهما جاءا من بلاد النوبة. ولكنني لم أر في حياتي أحداً فاحم اللون مجعد الشعر كبير الانف مثلهما، وبدأت أدرك أنه يمكن أن يكون هناك أناس يختلفون عنا، وأن الدنيا أوسع من قريتنا.

حينما وصلنا التلة تنفسنا الصعداء. لم نصدق أننا تجاوزنا الصحراء الشاسعة اللاهبة وما زلنا أحياء. نزلنا نستريح. فرحنا برؤية المدينة ذات المساكن والقباب البيضاء تلوح لنا من بعيد. أخذت أدوّن في قرطاس كبير أحمله معي ما خطر ببالي في تلك الساعة:
"قدم علينا صيف العام السابع من القرن التاسع عشر ونحن في الصحراء اللاهبة نكاد نقع من شدة الاعياء والعطش. وكانت خيولنا هي الاخرى ظمأى من شدة الحر وقد نفدت المياه من قرابنا. لم نعهد الصحراء بمثل هذا الحر الذي حل هذه السنة. كانت شقوق الارض الجافة التي تفصل بين كتل التراب المتيبسة كالحجر كبيرة كالأخاديد. وكانت بقايا الجيف والعظام الجافة النخرة التي تنتشر على الرمال تبعث فينا شعوراً كئيباً يقبض النفس. كانت الريح تهب بين فينة وأخرى فتذرو رمال الكثبان معها وتسير بها مسافات طويلة. كان كل شيء حولنا يبعث على الاحساس بالقسوة والموت.

سمعت من بعض القبائل التي مررنا بها أن هناك واحة كبيرة على الطريق الواصل من عين سمورة الى بير العبد، وكنا نريد أن ننزل بها لنستريح قبل اكمال الرحلة الى سور العقد. بقينا نسير على أمل الوصول اليها، لكن الامل في العثور عليها بدأ يتلاشى. أصابنا قلق شديد. هل سنتمكن من قطع الصحراء بهذا الحر ونحن عطشى؟ أم ستخور قوانا وننهار ونقضي على الرمال ولا يدري بنا أحد، فتأكلنا حيوانات الصحراء الجائعة في هذا الجفاف القاحل؟ أم هل ستدفننا رمال الصحراء المتحركة تحتها وتختفي آثارنا؟ دارت أسئلة كثيرة في رؤوسنا. رأيت صداها في عيون بعضنا بعضاً كما لو كانت تخطر الى أذهاننا في ذات الوقت. أيقنا أنه لا محالة من موت ينتظرنا فوق الرمال أو تحتها، لا فرق.

ونحن نستريح وصلت مجموعة كبيرة من الفرسان على ظهور خيولهم. شعرنا بالخوف أول الامر لكوننا غرباء. كانوا منهكين، تائهين في الصحراء مثلنا يبحثون عن الماء. رويت لهم قصتنا وبعضاً من رحلتنا التي خرجنا بها نريد أن نصل الى مراكش. شعرنا بالأنس من وجودهم حولنا. إنتعشت فينا الامال بالعثور على الواحة. حدثني شاب فارس في أواخر الثلاثينات من العمر جلس قريبا مني: "هذا هو سلطان الزياني .. قائدنا" وأشار بيده اليه. "خرجنا قبل أربعة أيام لأجل الغزو. كنا عشرين فارساً على رأس سرية بقيادة ابن مشهور الزياني .. نحن من عرب الرباحين. فقدنا ستة من خيرة المقاتلين البارعين في الغزو والمناورة، ولم نستطع سحبهم معنا فقد كان اطلاق النار من البواريد كثيفاً. وكانت خيولنا منهكة بعد غزوة عنيفة ضروس".

الصحراء في النهار واسعة وحارة ومملة مثل متاهة بلا نهاية، وباردة موحشة ومخيفة بالليل تزمجر فيها الرياح كعواء ذئاب في مقبرة مهجورة. في الليل نوقد ناراً ونجمع حولها بعض أشواك وسيقان الشجيرات الصحراوية التي نجدها. نتحلق حولها ونعبث بالرمال .. نرسم فوقها معالم مللنا القاتل ومخاوفنا التي تترقب نهاية الخروج من الصحراء. تسامرنا في تلك الليلة مع أفراد المجموعة الغازية حول النار. وعرفنا اسماء بعضهم من خلال أحاديثهم التي كان يتخللها الجدال العنيف. كانوا يتبادلون اللوم فيما بينهم حول سبب تيههم في الصحراء. أمامي وعلى بعد أمتار قليلة تفصل بيني وبينه ألسنة اللهب كان يجلس سعد. في أواخر الثلاثينات وله جدايل شعر تظهر من تحت شماغه البني. كان يضرب الارض بغمد سيفه ويحفر بها أشكالاً. أخبرني جليسي أنه فارس وأن أباه الشيخ سالم كان شيخ قبيلة الرباحين. عُرف بالاتزان والهدوء والحكمة البدوية. عندما توفي أبوه الشيخ سالم، كان سعد ما يزال يتعلم خطواته الاولى في عادات الكبار في الصيد والاغارة وأحاديث المجالس وأشعارها ، فأصبح أخوه فلاح شيخ القبيلة من ساعتها بحكم الامر الواقع.

كانت علامات السخط بادية على وجه سعد. فهو رغم صغر سنه يعرف الطريق جيداً، وقد سبق له أن خرج في الغزو عدة مرات قبل هذه المرة، ويعتقد أنه الأجدر أن يكون قائد المجموعة. لكن عمه الشيخ فلاح عيّن إبن عمه سلطان قائداً للمجموعة. كان الشيخ فلاح يؤثر أخاه مشهورا وعياله على عيال أخيه الشيخ سالم. فاختار سلطان لقيادة هذه المهمة بدلاً من سعد. كان سلطان يحاول تأكيد سيطرته وإبراز دوره كقائد للمجموعة، فلم يكن يلتفت الى رأي سعد أو إعتراضاته. وأصر على العودة عبر هذه الطريق. لكنهم تاهوا عنها مثلما تهنا نحن. بعد ثلاثة أيام من المسير عبر الصحراء في الحر القائظ في النهار والبرد القارس في الليل وصلوا الى ذات العيون حيث كنا قد وصلناها قبلهم بساعات معدودة.

طلب مني تلك الليلة الشيخ سلطان أن أروي لهم جانباً من رحلتي. فاحترت أول الأمر ماذا أروي لهم. ولكني تذكرت وليم ، ذلك الانجليزي ببشرته البيضاء التي لوحتها شمس الصحراء وعيونه الخضراء وشعره الأشقر الذي ألتقيت به في أحد مضارب القبائل. كان يلبس لباساً عربياً ويضع كوفية وعقالاً. لا يمكن أن أنساه أبداً وهو يتكلم العربية بلكنة غريبة مضحكة. لم أر في حياتي شخصاً مثله! كنت أنظر اليه وأتعجب ما الذي أحضره الى هنا. لم أدرك ما الذي جذبه في هذه الصحراء اللافحة ومعيشة هولاء البدو القاسية. يركب حصاناً عربياً أشهب اللون ويرافقه مرافق أسمر الملامح، قوي البنية، مفتول العضلات، طويل الشارب وعريض الحواجب. عرفت أنه قد نال حظوة لدى الشيخ وقّـاد فأهداه أحد أهم خيله وخصص له مرافقاً لحمايته. حدثني مرافقه صالح عن سنواته الطويلة التي قضاها في الصحراء. بل إنه شارك البدو في الغزو ورافقهم في تلك اللعبة القاتلة وعرف عاداتهم.


قال أنه عاش معظم حياته في المناطق الصحراوية النائية والمجهولة رغم قسوة ظروف الحياة فيها. لم تجذبه بلاده كثيراً. بل عشق حياة الصحراء. لقد عاش خمسة عشر عاماً بين الخيام. كثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي جلبه لهذه البقاع الموحشة؟ لا أظن أنه حب المغامرات وحده هو الذي قاده إلى هذه البقاع المجهولة، ولا حب الخيل العربية، وجمال أبدانها وحركات ساقيها الضامرتين الرشيقة.. بل أشياء أكبر من ذلك.. كنت أشعر بذلك لكنني لم أعرف كنهها.ذات يوم التقينا صدفة في مجلس الشيخ وقّاد. جلس بجانبي وقد عرف من لهجتي في الحديث أنني من بلاد الشام فاقترب مني وقال لي: "لقد تعرفت في بلاد الشام الى أحد الدراويش ورافقته الى مقره في الجبال بين حماة وحلب، فرأيت مجموعة منهم يلبسون الطرابيش والعمامات الحمراء بدلاً من الكوفية والعقال بحكم تأثير الاتراك وقربهم من إسطنبول. حضرت إحتفالاًً لهم وهم يلوحون بسيوفهم ودروعهم. كانوا يمزقون لحم صدورهم بسكاكين طويلة ويقفزون وهي مغروزة فيها والدم يسيل على جوانبها".‏

وفي مجلس الشيخ، سمعت بقصة العنود إبنة الشيخ صخر لاول مرة. امرأة حسناء ولكنها لعوب مدللة قاسية القلب تخضب يديها وأصابع قدميها بالحناء. لديها إصرار عجيب أن يتزوج زوجها بأخرى! لا ترضى بأن تكون مثل بقية النساء! تعتبر نفسها أجمل من غيرها وقررت ألا تنجب أكثر من ولد حفاظاً على جمالها، بينما أرادت أن يتزوج زوجها بأخرى لتنجب له ما يشاء من الأولاد! لكنه رفض أن يحقق أمنيتها! فإزداد الخلاف بينهما كل يوم حتى صارا حديث المجالس!

بعد سنتين بلغني خبر وفاة وليم أثناء الرحلة. كان معروفاً بين القبائل والكل يتحدث عنه. مات موتاً غريباً مأساوياً ونهاية حزينة لرجل مغامر مثله. قضى السنتين الأخيرتين من حياته كئيباً ومنعزلاً وأخيراً قطع شرايينه بخنجره في لحظة ضعف قاتلة. ندت عنهم علامات استغراب وأخذوا يمطرونني بالاسئلة عن سبب موته. ولكنني قطعت عليهم تساؤلاتهم وأكملت الحكاية. وقبل أن يصدر عنهم أية ردة فعل كنت قد إستأنفت: "رافقنا الشيخ وقاد الى غرفة حصينة في الدور الارضي. كان هناك ثلاثون شاباً محارباً من العبيد مع أسلحتهم. ثم جاء خمسون محارباً مسلحاً آخرين مع شيوخهم. جلس الشيوخ في المجلس المقابل لنا، أما حراسهم فبقوا في الفناء الخارجي. في صباح اليوم التالي ذهبت مع بزوغ الشمس خارج البوابة واستطلعت المنطقة المجاورة من أعلى كومة في الخرائب. كانت أشجار النخيل محروقةً وجدران البساتين مهدمة، أما الجرحى فكانوا بحالة مزرية: يعانون من الحمى وجروحهم مليئة بالصديد وأطرافهم متورمة. إستمر الهجوم متقطعاً ، وكنا نسمع صوت اطلاق الرصاص وصيحات النواح.

صعدت الى السطح ولكن مرافقي حذرني أنه يمكن أن تصيبني طلقة. وفجأة بدأ الحراس حولي بالتصويب واطلاق الانذارات. أخذ المحاربون مواقعهم في الابراج والسطوح، فإبن ساري بدأ هجوماً نحونا وقد تم صد الهجوم ولكنه حاول معاودة الكرة ولم يفلح. كان الرصاص يزن في أذني بشكل متواصل والمحاربون يجرون من حولي. وفجأة اكفهرت السماء ووقعت صاعقة لم تكن بالحسبان. انتشر خبر مقتل الشيخ وقّـاد برصاصة غادرة من المهاجمين. عرفت عندها بأن خطباً عظيماً قد وقع. دبّ الفزع في قلوبهم وأشتعلت نار الثأر والانتقام له. أعاد المهاجمون الكرة عند حلول الظلام ، وسرعان ما أطبق عليهم فرسان الشيخ القتيل وأخذوا يمطرونهم بالرصاص وأعقاب البنادق. كان هجوماً هذه معاكساً مباغتاً لم يتوقعه المهاجمون، فكانت صيحات الفزع وهدير سنابك الخيل وصوت الرصاص تزيد من إضطراب الغزاة.
كانوا يجلّون الشيخ وقـّاد كثيراً. فكانت صدمتهم بقتله أكبر من أن تصفها كلمات. وعلى حسب عادتهم إثر مقتله، ركبت فتاة هودجاً مغطى بريش النعام الأسود ودخلت به في ميدان المعركة لتشجع المحاربين وتحثهم على الاستبسال في القتال والانتقام لروح الشيخ. كان جواً متوتراً حزيناً. لكننا بقينا يومين في ضيافة الشيخ الشاب الجديد. وفي صباح اليوم الثالث ودعناهم نحو دروب أخرى لم نطأها من قبل".


التفت اليّ سلطان وقال: على ذكر الوادع، سننطلق غداً باتجاه سور العقد. ربما نجد الواحة في طريقنا اليها. هل تودن أن تأتوا معنا؟ أنتم على الرحب والسعة. نظرت في عيون أخي مسعد ومرافقي نوهان. لم يكونا متحمسين لمرافقتهم. ظننت أنني عرفت السبب. قلت له لم نعزم أمرنا بعد. في الصباح ودعناهم وأخذنا نسير باتجاه الغرب.

إنطلقنا بعد شروق الشمس، وإستمرينا في سيرنا على خيلنا لمدة طويلة بلا توقف عبر سهل مليء بالصخور النارية. أصبحت الطريق وعرة وصرنا نسير عبر شعاب وممرات موحشة. انقبضت نفسي وتوجست شراً ينتظرنا في هذه البقاع القاحلة وأنا أشاهد بعض الغربان الجائعة التي كانت تحوم فوقنا بين الفينة والأخرى، وهي تنعب بأصواتها المفجعة فنتشائم منها. بدأت الشمس تميل نحو الغروب حينما لمحنا عند الافق ملامح خيام كثيرة أمامنا، شعرنا براحة بعض الشيء كأنما انزاح عن صدرنا هم كبير.عند الليل، نزلنا عن رواحلنا، وأشعلنا ناراً هادئة، كي لا يراها أحد، ويكتشف مكاننا، ثم إستلقينا ونحن متعبون للنوم. كان نوهان يشخر بصوت مرتفع طوال الليل، فبقيت قلقاً أرقاً .. جافاني النوم برغم تعب الرحلة طوال النهار. ولكنني سقطت من الانهاك في آخر الليل ونمت كالقتيل. في الصباح إقتربنا أكثر من الخيام التي ملئت الارض أمامنا. أدركنا أننا وصلنا ديرة كبيرة ، ولا بد أن تكون هناك مراعٍ وماء. شعرنا بنوع من الامل يحدونا أن نصل بسلام.


* اللوحة أعلاه للفنان السوداني تاج السر حسن الملك