الجمعة، نوفمبر 25

الواقعية منهجاً في القص


الواقعية منهجاً في القص
بقلم الناقد العراقي مؤيد البصام

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 25/11/2011

يكتب إياد نصار القصة بأسلوب الواقعية الاجتماعية والتسجيلية، ممزوجة بالتحليل النفسي لشخوصه، ولكن مجمل نهجه واقعي، سواء تحدث عن الإنسان أو عن الأشياء، وتأخذ الناحية التسجيلية الكثير من الوصف الذي تحتويه قصصه في مجموعته «قليل من الحظ» (دار فضاءات، 2010)، وبخاصة قصة «الدرب السلطاني». ويلاحق القاص الحالة النفسية التي يعيشها أبطاله من جراء الحروب، وما تجلبه من خوف ودمار، كما في قصة «ضمن ليلة السبت»، وهو ينسج شخصياته بشكل واقعي، ومن هنا تكمن براعته في الوصف للأشياء والأشخاص، وتبقى قصصه ذات نفَس واقعي اجتماعي، وهو مأخوذ بالوصف للأشخاص والأشياء من الداخل والخارج، مع محافظته على التتابع الزمني والتضمين.

ويترك نصار للومضة مجالاً متسعاً، بحيث تأخذ زمنية القصة مساحة تتعدى اللحظة أو الومضة، فقصصه أقرب إلى القصة الطويلة، وفيها بنائية الرواية في المتن الحكائي، لكنه يختصر في البناء الحكائي على حساب المتن الحكائي، لأنه يترك العنان للمخيلة والامتداد في سرد الواقع ومحاكاته.

وإذا ما حاول نصار التجريب بديلا عن القصة القصيرة، سوف يخرج لنا بقصص طويلة أو مشروع رواية. وهو باستخدامه التحليل النفسي للشخوص، استطاع أن يتحرك من الواقعية التسجيلية لكتّاب القصة في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، ويمنح قصصه وهجاً بالتحليل لإزالة التقريرية عنها. فقصة «شخص ما» مثلاً، لها نكهتها الواقعية. إنها مستلة من الواقع بحذق كما هي بقية قصص المجموعة.

وفي قصة «قناع»، أراد الكاتب أن ينقل حالة اجتماعية (عدم الالتزام في المواعيد)، لكنه أدخل حوار الصديقين اللذين يجلسان بجانبه في المقهى، ليتحدثا بما يريد أن يقوله على لسانيهما من نقد اجتماعي وسياسي، وجعله حواراً مبتوراً لم يستثمره لإعطاء أبعاده الفكرية أو حراكه الاجتماعي، وهذه المسألة تتكرر كثيراً في قصص نصار، فلديه من الأفكار أكثر مما تحتملها قصة قصيرة، لكنه يتركها بهذا الاقتضاب والبتر، من دون الإفاضة فيها وإعطائها أبعادها الدرامية، لتشكل جزءاً من الحدث الذي اختطّه في متنه الحكائي.

وربما كان مردّ ذلك ولع الكاتب بالأسلوب الواقعي، ومعالجة مأساة الإنسان المعيشية بصورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ففي قصة «كابوس» حاول أن يغادر الواقعية التسجيلية إلى أفق أرحب في بناء الحكاية، لكن الوعظ يبقى يفرض نفسه على أسلوبه، ويتضح هنا تمسكه بالواقعية الاجتماعية، وإصراره على نقل معاناة الإنسان البسيط أمام طاحونة الاقتصاد الرأسمالية، وهو ما يتبدى بشكل جلي في قصة «نهاية رجل فقير»، التي تعرّي الرأسمالية واقتصادها، حيث ما يهم الآخر هو الربح، وما الإنسان إلا رقم في حسابات الرأسمال، ما يدفع بطل القصة إلى بيع كليته بعد أن تتخلى شركته عنه، وهو ما يقود بالتالي إلى موته. ما أراد الكاتب أن يقوله هنا: ليس هناك منحى إنساني في عمل المؤسسات الرأسمالية.. هناك حساب للربح ورفض للخسارة، حتى لو كان الأمر يتعلق بحياة إنسان.

أما قصة «قليل من الحظ»، فهي مستلّة من واقع الحياة، لكنها لا تمثل بواقعيتها تميزاً عن بقية القصص، وهو ما يجعلنا في حيرة وتساؤل: لماذا اختار اسم هذه القصة عنواناً للمجموعة؟ فهي قصة تقليدية من الواقعية الاجتماعية، تذكّرنا بقصص كتاب القصة في القرن التاسع عشر، مثل بلزاك ووليم سارويان، من حيث المنطلقات الفكرية، مع اختلاف المعالجة.

يتخذ إياد نصار في قصصه خطّاً يجرها نحو أسلوب التشييء، ولكن الواقعية التسجيلية والوعظية تسحبه إليها بعض الأحيان، كأنه لا يكتفي بما يقصه لنا، إنما يريد أن يعقّب ليكشف عن عمق معاناته على ما يحدث للإنسان من ظلم، وهنا ثمة خلط بين الأساليب ينتهجه في وصف الشارع والمصابيح والأشياء التي يقع نظره عليها، ليكمل به ما يرغب أن يقوله عبر التنوع الوصفي للحياة، لكنه يقطع استرساله لينعطف في وسط المقطع ويضع جملة اعتراضية، تلغي البعد التخيلي للمتلقي الذي كان ينسج خيوطه: «لقد احتار الناس في أمرها؛ هل هو توفير للنفقات، أم عقاب للقاطنين، -لأن أولاد الحي الأشقياء كسروا بعض المصابيح-». مثل هذه الجمل الاعتراضية التسجيلية والوعظية، تكثر بين ثنايا قصصه، ما يخرجها عن لحظة التأمل والدهشة والتساؤل، التي تتسم بها القصة القصيرة، وتحيل إبداعها إلى بنائية القصة القصيرة التقليدية.

رغم ذلك، يملك القاص قدرة وصفية وإمكانية رائعة في البعد التحليلي للأشياء (سواء كانت كائنات حية أو جمادات) يلتقطها ويبني عليها. وحراكه الفكري تتلبسه الروح الإنسانية والمشاعر العالية تجاه ظلم الآخر، لكن شغفه بالواقعية كمنهج، جعله يتخلى عن الحلمية والفانتازيات التي تشكل بُعد الدهشة في القصة القصيرة.