الجمعة، أبريل 23

علي جعفر العلاق وأساطير نقدية معاصرة



علي جعفر العلاق.. وأساطير نقدية معاصرة
بقلم اياد نصار



بعد سبعة كتب أغنت المكتبة العربية بدراسات نقدية هي في أمس الحاجة اليها منذ العام 1981، خصوصاً كتابه "في حداثة النص الشعري" الذي أصدره العام 1990، يأتي كتاب الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق "من نص الأسطورة إلى أسطورة النص" الذي صدر في عمّان مطلع العام الجاري، ليقدم خلاصة تجربته وآرائه النقدية في قراءة بانورامية في المشهد النقدي اليوم، وبما تنطوي عليه من مقارنات بين النقد الغربي الحديث والنقد العربي حول عدد من القضايا المهمة المتصلة بأسئلة نقدية كبرى لها علاقة بوظيفة النقد، ودور الناقد، والإشكاليات التي تعتور المناهج الغربية، وتأثير ذلك في مواقف النقاد العرب المعاصرين.


ينقسم الكتاب إلى جزأين: يشتمل الأول "التحديق في الشرر" على مناقشات موجزة لكنها مكثفة وعميقة لمفهوم النقد ووظائفه ومناهجه والعلاقة بينه وبين النص بما يحيل إلى تشخيص واقع النقد اليوم عالمياً وعربياً، ومناقشة الإشكاليات المرتبطة بتعريف النقد ودور الناقد وموقفه من المنجز الأدبي من خلال مراجعة الكثير من الأسس النظرية النقدية.

أما الجزء الثاني فهو دراسات نقدية تطبيقية تحليلية لأعمال أربعة شعراء، شكلوا قامات شعرية، ورسموا جانباً مهماً من ملامح المشهد الشعري العربي الحديث، وصاروا منارات دالة عليه. ونرى في هذا الجزء أن ما قدمه العلاق من تحليل لـ"أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، ومن استعراض نقدي حول شعرية كل من محمود درويش، ويوسف الصائغ، وسركون بولص الذي كان أحد مؤسسي جماعة كركوك الشعرية، يعكس على صعيد تطبيقي الكثير من آرائه وقناعاته النقدية التي اشتمل عليها الجزء الاول.

يمتاز أسلوب العلاق في الكتاب بالمزاوجة بين الأسلوب النقدي النظري الأكاديمي وبين توظيف الصور والاستعارات واستخدام أشكال حركية ولونية بلغة تعبيرية في ضرب الأمثلة لتقريب الفكرة للقارئ، ولعل حديثه عن العلاقة المهمة والحاسمة بين النص الشعري وارتباطه بالقوى الخارجية المؤثرة التي تسهم في إثراء تجربة الشاعر ووعيه بالأشياء والأفكار خير دليل على هذه المزاوجة: "من السهل، كما أظن، قطع أواصر النص بحركة الإنسان. ومن السهل، أيضاً، تحويله إلى جثة يابسة تأكلها مشارط التشريح دون أن تنم عنها قطرة من الدم، أو ومضة من الحياة".

غير أن العلاق يبتعد في أحيان كثيرة عن اللغة النقدية النظرية البحتة إلى استخدام لغة إنشائية شاعرية لا يمكن معها تعريفها أو تحديد ما يرمي إليه الكاتب على وجه الدقة من خلالها. صحيح أنها تضفي حيوية على النص وتقرب الفكرة في الذهن، لكنها لا تنفع في مضمار النقد أن تكون تعريفاً أو جزءاً من تعريف دقيق. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: "في كل عملية نقدية حقيقية نزوع عميق إلى الاكتشاف، والتوق إلى مجاهيل النص، وتخطي قشرته إلى الجوهر الكامن في تفاصيله الممتدة هناك، حيث تنمو الينابيع وتزدهر جذورها المائية". واضح أن الجزء الأخير من الجملة يقرّب المعنى، لكنه لا يستقيم مع لغة نقدية متخصصة.

يرى العلاق أن المشهد الشعري العربي يتوزع بين نقيضين لا يتيحان نظرة عميقة للتجارب الشعرية، حيث يغطى الصخب على الساحة. لكنه يقدم خلاصة هذا الرأي للقارئ في استعارة جميلة تقرن ما يجري من صخب بالشرر الذي يضيء في لحظة ثم يختفي، وهكذا يصبح الشرر كالعتمة لا يتيح نظراً عميقاً متفحصاً متأملاً للاشياء، وكأنما يشكك في منهجية المعرفة المستندة إلى إدراك الجانب الغائب من الحقيقة من خلال إدراك نقيضها، وفي الوقت نفسه يبرز أهمية عامل الزمن الذي تنضج به التجارب، وتختمر معه مظاهر الموهبة الشعرية متكاملة الرؤية، فاستمرارية التجربة وبطء تحولاتها ونضوجها الهادئ مضموناً وأسلوباً بعيداً عن تهويلات الإعلام وتأثير القراءات المبتسرة يسهم في خلق تجارب شعرية متميزة.

إن حال النشاط النقدي وما يصاحبه من ضجيج إعلامي في إطار المشهد الثقافي، شبيه بالناظر إلى لوحة فنية، يبقى يدور في فلك إطارها الخارجي وقماشها وألوانها دون أن ينفذ إلى روحها. وسيستمر هذا النشاط النقدي الصاخب فترة حتى يتبلور الإدراك أنه بلا طائل بسبب الوعود التي يظن كثير من الادباء أنه يبشّر بها، نتيجة الانبهار بالمناهج الغربية الجديدة.

ويؤكد العلاق أن هذه المناهج تطورت في الغرب تدريجياً بفضل تطور العلوم الإنسانية والطبيعية والتحولات الاجتماعية، ولم تكن نتيجة طفرة مفاجئة، بينما في حالتنا، فقد تعرضنا لصدمة معرفية هائلة أفرزت ما لم يكن لدينا وقت لتأمله. ولم تتطور بسبب حاجة مجتمعاتنا إليها تدريجياً، بل تعرضت لظروف أخرى كالترجمة والانتقاء والاجتهاد الفردي، ولم يكن لنا أية مساهمة تُذكر في تطورها أو نشوئها أو صياغتها كمفاهيم ومصطلحات. ولأن النقد تطور يعبّر عن تجربة فريدة غير قابلة للاستنساخ، فإن العلاق يتوصل إلى أن نقادنا هم ذاكرة نشيطة لا أكثر، والدلالة أنهم لا يبادرون إلى التفاعل مع هذه المناهج والاشتباك معها أو تعديلها أو مساءلتها، بل يصرون دائماً على تعريفها وفرضها كما هي. وهذا الموقف أدى إلى تطبيق تلك المناهج على نحو مقولات ووصفات جاهزة منتزعة من سياقها الحضاري.

ويأخذ على النقاد العرب أنهم صاروا سجناء هذه المقولات، بل إن الأمر صار مجرد ترديد مصطلحات. وقد أدت هذه الحالة إلى ظهور ما يسميه "إرهاب المصطلحات"، إذ يعمد الناقد إلى إغراق النقد بالرطانات وترديدها بأسلوب هو أقرب للبطش اللفظي.

إن أسباب استهجانه لموقف كثير من النقاد العرب من المناهج الغربية، هو أنهم ينظرون إليها بمزيج من الرهبة والعجز والإحساس بتفوق الآخر، ودرجة الوثوقية التي يأخذون بها هذه المناهج كأساطير وكأنها كل مكتمل، ولا ينظرون إلى النقاد الغربيين بأنهم قابلون للتلاشي أو للتفكك. ويضرب مثالاً على ذلك البنيوية التي كانت بنظر الناقد البريطاني تيري إيغلتون Terry Eagleton في كتابه "مقدمة في النظرية الأدبية"، تحولاً من التاريخ إلى اللغة، عاكسةً بذلك فقدان الإنسان القدرة على الفعل التاريخي، فتحول إلى اللغة ليعبّر عنها بالكتابة. ولكن الكتابة ابتعدت عن المعنى الاجتماعي إلى معنى ذاتي منعزل يتجسد في الصمت، كما عبّر عنه الرمزيون، أو في الحياد كما عبّر عنه التجريديون. وعكست الفلسفات الأوروبية هذا التراجع في دور الإنسان من الفعلي إلى اللغوي، ومن الواقعي إلى التنظيري، ومن المدلول إلى الدال، كما عبّر المفكر الفرنسي ميشيل فوكو Foucault عن "موت الإنسان" وعدم قدرته على التغيير، أو عن "موت المؤلف" عند الناقد الفرنسي رولان بارت Barthes.

وبصوت الحكمة المتأخرة، يذكر العلاق أن الاختلافات المتعددة ما بين هولاء الغربيين والفجوات في نظرياتهم مثل البريطاني تيري إيغلتون Eagleton، والبلغاري تزيفتان تودوروف Todorov، والأميركي فريدريك جيمسن Jamieson، والألماني هانز روبرت ياوس Jauss، والفرنسي رولان بارت Barthes، توضح أن هناك طيفاً واسعاً من تموج الفكر والنقد. كما أن حياة كل واحد منهم ليست نموذجاً كلياً على المنهج نفسه، فبعضهم أخضع منهجه للمراجعة وغيّر فيه، وبعضهم لا يستقر على نموذج واحد، فلا أن نعرف أي نموذج من نماذجه في ذلك الموضع يقدم نفسه، وأكبر مثال على ذلك بارت الذي انتقل بين أطر فكرية متباينة، مثل البنيوية والتحليل النفسي. من هنا يجب على النقد العربي أن يؤمن بتعدد النظرة والتطور والتغيير، لا أن يعمد إلى النماذج الغربية ويحولها إلى أساطير غير قابلة للنقاش.

لكن العلاق يقع في الخطأ نفسه الذي اتهم به النقاد العرب الذين اتبعوا المناهج الغربية دون مساءلة كأنها مقدسات أو مسلمات. فهو يكثر من اقتباس مقولات نقدية لعدد كبير من النقاد والمفكرين الغربيين، ولا يقتبس من كلمات النقاد العرب إلا القليل النادر الذي يشكل أغلبه عبارات قصيرة حسنة الصياغة، ولكن لا تمثل موقفاً نقدياً قائماً بذاته.

وحول دور المناهج النقدية الغربية الجديدة في تطوير شعرنا العربي، فإنه يقر بأن هذه المناهج قد أفادت الأدب العربي، فبعد أن كان الناقد يدور حول النص، صار الآن في داخل النص، يهتم بالكيفية التي يقال فيها أكثر مما يقوله النص. ويرى أن النقد العربي تطور من التعامل مع النص من وراء حجاب بشكل مجزوء، كما هي حال النقد قديماً، إلى فهم متقدم بفعل تأثير المناهج الغربية.

يحدد المؤلف جوهر انشغال النقد بالنص في حركة مراوحة دائمة بين قطبين متضادين هما العالم خارج النص وداخله. فالأول يشمل الأحداث والشخصيات والأفكار والمكان والزمان وغيرها التي وُجدت قبل أن يوجد النص. والثاني هو بنيان النص ولغته وإيقاعه وجوانبه الأسلوبية. أما الأول فلا بد من العودة لكتب اللغة ودوائر معارفها المختلفة للتعرف على أفكار الكاتب وانشغالاته السياسية والاجتماعية والفكرية، وهنا يحدث سوء الفهم لكثير من الناس الذين يظنون أن العمل الأدبي مجرد انعكاس لما هو خارجي. وهنا يأتي دور النقد في البحث عن الصلة التي تجمع الأشياء في خارج النص بداخله، وتحديداً في الطريقة أو الأسلوب الذي تم بوساطته التعبير عن هذه الأشياء. إن شعرية النص مثلاً ليست في التعبير المباشر عن الأشياء والأفكار التي تنتمي لخارج النص أو محاكاتها، بل في المراوغة للمعنى والالتباس في تجسيده، مما يؤدى إلى قيام سياق دلالي غائم غامض يحتمل التأويل.

يشيد العلاق بالنقد الحديث الذي يلتفت إلى هذه المراوغة الغامضة والمقاربة بين عالمي النص الخارجي والداخلي، غير أنه يأخذ على النقد ترجيح العوامل داخل النص كاللغة والأسلوب والاستعارات أكثر من اهتمامه بمواقف الشاعر أو حياته أو أفكاره الأيديولوجية. ويرى أن في هذا تحول متطرف. فبعد أن كنا نهتم بالعالم الخارجي وعناصره وما تحمله من مواقف أيدولوجية، أخذنا ننقب في عالم النص الداخلي بشكل متطرف نتيجة الأخذ بهذه المذاهب النقدية، ونسينا أن الأدب تعبير عن علاقة الفرد بالمجتمع.

يبدو واضحاً للقارئ أن العلاق يتخذ موقفاً من كثير من مذاهب الحداثة والمذاهب النقدية التي تركز على فصل الأدب عن حياة المؤلف، وعدّ قيمة العمل تنحصر في ذاته ومدى خضوعه للاشتراطات الفنية للشكل بوصفه نصاً لغوياً، وهذا برأيه يؤدي إلى عزلة النص التي تفقده حيويته.

ويؤكد أن النقد لم يعد تابعاً للعمل الأدبي أو يسير ملحقاً في فلكه، ولم يعد مجرد قولٍ على قولٍ أول، بل صار إبداعاً بذاته بفضل بهاء اللغة التي تتميز بالابتكار والتساؤل. ويؤكد أنه غير ميال إلى عدّ النقد علماً، حيث لا صرامة في النقد كما في العلوم، بل إن الناقد يعطي نفسه الحرية في الاندفاع نحو أهوائه وانحيازه إلى قناعاته. وبالتالي فالنقد ينطوي على إبداع لا يقل عن إبداع النص، بما يتوفر للناقد من لغة ومهارات ورهافة ذوق.

يعيد العلاق تعريف دور النقد كما ينبغي أن يكون من خلال إعادة تعريفه للنص ككيان لغوي فريد تجتمع فيه قوى عديدة وتفاعلات جمة بالنظر إلى القوى wالمؤثرة فيه داخلياً وخارجياً. وإذا كان كثير من هذه المفردات ليست مصطلحات نقدية بالمعنى المتعارف عليه، إلا أن الجهد الذي بذله في تحديد القوى المؤثرة في ولادة النصوص واضح، حيث يرى أنها الأكثر تأثيراً في صياغة النص: الأهواء، التأمل، قوة الروح، الأسى، حركة الحياة، الموت، تفجر المكان، قوة التاريخ، البشر وما في دواخلهم، بالإضافة إلى جيشان اللغة، تأجج المخيلة، ومراوغة النص. وعلى هذا الأساس يتفق العلاق مع الناقد الروسي يوري لوتمان Lotman في النظر إلى الشعر على أنه ليس مجرد تقنية، بل إنه يمتد إلى كل معارف الإنسان.

خصص الكاتب فصلاً للحديث عن دور الناقد تجاه النص الذي ينقده بما يقدمه من إضافة يمكن أن يضيء بها النص ويبعث الحياة في أجنته الكامنة بما لديه من طاقة الخيال والإحساس العالي باللغة. ويبدو أن الكاتب أراد من طرح هذه الفكرة أن يبرر بذلك سبب الدخول في هذه المغامرة النقدية في تحليل ونقد أعمال الشعراء الأربعة الذين سبق ذكرهم ويشكلون محطات بارزة على صعيد الشعر العربي الحديث بعد كل هذه السنوات التي أشبعت أعمالهم نقداً وتحليلاً، مما يوحي بأن في جعبته الجديد ليضيفه.

ولعل الفقرة المقتبسة على الغلاف الأخير للكتاب تقدم صورة واضحة عن تعريف العلاق للناقد الحقيقي، وكأنه يشير ضمناً إلى نفسه، فما يرد في التعريف تجده، بافتراض صحة تعريفه، متجسداً في ثنايا الكتاب! يقول: "إن الناقد الحق هو الذي يجتذبنا إلى ناره الخاصة، إلى لغته التي تبدو مفتونة بذاتها أحياناً. يغرينا بالعيش معه، أو مرافقته في التحامه بالنص والاستمتاع بالعملية النقدية على أكثر من مستوى. ولعل أهم هذه المستويات، مكابداته الجميلة للوصول إلى حقيقة النص، إن كان ثمة حقيقة أصلاً، كما أن لغته الريانة الثملة هي التي تجسد مغامراته مع النص من جانب، وتضمن لنا تلك اللذة اللغوية الكبرى من جانب آخر".

ويشبّه عملية النقد بالمغامرة التي تهدف إلى الدخول في عمق النص واستكشاف مجاهيله وجوهره الكامن في تفاصيله. وعلى هذا الأساس فالنقد محاولة للوصول إلى النص مشفوعة بحيرة نقدية إزاءه، خصوصاً إذا كان ينطوي على مراوغة للمعاني وتعدد الدلالات وغموضها. وقد مر النقد بتطور من إصدار الأحكام الواضحة إزاء النصوص كما كانت الحال في العصور الماضية، أو في أحكام غائمة متعددة التأويلات مثلما هي الحال في النظريات والمناهج النقدية بدءاً من الشكلانية الروسية Formalism إلى ما بعد البنيوية Post Structuralism.

يطرح العلاق موضوعاً جدلياً في غاية الأهمية ليس فقط في النقد الغربي، وإنما في النقد العربي كذلك. فقد توصل النقد الغربي بعد قرون من تطور الفكر والشك والارتياب المعرفي إلى إلغاء حكم القيمة على النصوص، أولاً بِعَدّ الحقيقة أكبر من طاقة الإنسان على الحكم، وثانياً أن النقد يستند إلى تاريخ من الفكر الفلسفي الذي لا يؤمن باليقينيات الاجتماعية والأيديولوجية. وبالنتيجة فقد اتخذ النقد نزوعاً يقوم على الوصف وإبراز ما في النصوص من مظاهر خارجية وداخلية والعلاقات التي تجمعهما معاً. ولكن العلاق ينقض هذا المبدأ، فبرأيه أن اختيار نص من بين نصوص كثيرة يحمل، ضمناً، حكماً بقيمة ذلك النص والذي تجلى في اختياره. والتناقض الجوهري في الموضوع هو عدم قدرة الناقد على إصدار حكم معياري بينما يكون في وسعه اختيار نص من النصوص، وعدّ ذلك نوعاً من المراوغة. واذا كان النقد لا يستطيع إصدار حكم معياري على نص ما، فقد انتفى أحد الأسئلة الكبرى التي يفترض بالنقد أن يضطلع بها.

إن المبالغة في النقد الوصفي، كما هي الحال الآن في النقد الغربي، تجعله شكلياً مقيماً في النص ذاته بعيداً عن سياقاته المختلفة، وإن المبالغة في النقد المعياري وأحكام القيمة، مثلما هو في النقد العربي، تجعله نشاطاً مدرسياً تبسيطياً يركز على مفهوم الصواب والخطأ، أو النجاح والإخفاق. فالأولى تنطوي على إهمال لإنسانية النص واكتفاء بالمشاهدة دون إدراج النص في سياق أدبي أو حضاري، والثانية مقاضاة للنص وكاتبه، وخنقه بسيل من الوصايا النقدية.

ينطوي الكتاب على جدية ورصانة وإحاطة نقدية تعكس جهود العلاق في هذا المضمار، ولكنه ليس ثقيلاً جافاً بحكم تخصصه النقدي، بل يعكس لغة أدبية دقيقة التصوير والإيحاء وجميلة السبك فيها الكثير من لغة المؤلف الشعرية، مما يجعل من الكتاب إضافة قيمة في النقد العربي الحديث.

* اللوحة أعلاه بعنوان شهرزاد للفنان الفرنسي ادوارد ريختر (1844-1913)
** نشرت المقالة في جريدة الرأي الاردنية بتاريخ 23/4/2010. يمكنك قراءة المقالة من موقع الصحيفة على الرابط التالي:
رابط المقالة في الرأي الثقافي
الصفحة الكاملة ملحق الرأي الثقافي
 

الأحد، أبريل 11

الحب يبدأ في الشتاء


"الحب يبدأ في الشتاء" لسايمون فان بوي
حياة الناس العاديين



بقلم اياد نصار

فاز الكاتب البريطاني الشاب سايمون فان بوي Simon Van Booy بجائزة فرانك أوكونر التي تعد أغلى جائزة للقصة القصيرة في العالم من حيث قيمتها المادية في دورتها الخامسة للعام 2009 ومقدارها خمسة وثلاثون الف جنيه استرليني عن مجموعته القصصية المعنونة "الحب يبدأ في الشتاء" Love Begins in Winter الصادرة عن دار هاربر كولينز والتي تضم بين دفتيها خمس قصص طويلة نوعاً ما وتركز على الوجوه المختلفة للحب الانساني. وقد تقدمت المجموعة الى المركز الاول متخطية بذلك عدة مجموعات قصصية لكتّاب معروفين مثل "ليليات: خمس قصص للموسيقى والليل" للبريطاني الياباني الاصل كازو ايشيغورو، و"الشيء حول عنقك" للنيجيرية شيماماندا نجوزي أديشي، و"الاجوف" للكاتب الانجليزي جيمس لاسدن، وهذه المجموعات لم تصل حتى الى القائمة القصيرة للترشيحات. كما تقدمت على أعمال أخرى مثل "كل شيء محطم، كل شيء محترق" للامريكي ويلز تور، و"مرثاة للريح الشرقية" للكاتبة بيتينا غابا من زيمبابوي، و"الشخص الاول وقصص أخرى" للكاتبة الاسكتلندية علي سميث، و"تموجات وقصص أخرى" للماليزية شيه- لي كاو. ومن الجدير بالذكر أن جائزة أوكونر منحت في العام الماضي للكاتبة البنغلاديشية الشابة جومبا لاهيري عن مجموعتها "أرض غير معتادة".


يعيش المؤلف حالياً في نيويورك حيث يعمل بالتدريس في كلية الفنون البصرية في جامعة لونغ آيلند. ولد في احدى ضواحي لندن في العام 1975، وعاش في المناطق الريفية من ويلز واكسفورد. لعب في بداية حياته لمدة سنتين في نادٍ لكرة القدم في بريطانيا ثم انتقل للعيش في باريس وأثينا. فاز في العام 2002 بجائزة هيز للشعر. ينشر مقالاته في عدد من الصحف مثل نيويورك تايمز ونيويورك بوست. أصدر في العام الماضي مجموعة قصصية بعنوان "الحياة السرية لأناس عاشقين" وضمت ثماني عشرة قصة قصيرة، وقد تمت ترجمتها الى عدة لغات.


تمتاز المجموعة الفائزة بلغتها السردية ذات الشاعرية العالية التي تجعل من كل قصة أقرب الى قصيدة نثرية طويلة. وبالاضافة الى اسلوبها الرشيق ولغتها التأملية التي تبحث في ماضي الانسان وجوهر التجربة الانسانية، تنقل القصص أجواء الوحدة والحزن الرومانسي بامتياز، ولكن في شوارع مدن العالم المختلفة وليس بعيداً عنها مثلما كان يهرب منها كيتس وشيلي وبايرون ووردزويرث. تجري أحداث القصص في مدن شتى مثل مونتريال في كيوبيك بكندا التي تجري فيها أحداث قصة "الحب يبدأ في الشتاء"، ومنحدرات وسهول ايرلندا، وساحة القديس بطرس في روما، واستكهولم بالسويد، ولكن جميع القصص تعكس محاولة فان بوي استكشاف الطبيعة الحساسة والخطرة للقلب الانساني باسلوب غنائي رقيق. قال المؤلف ذات لقاء بأن الحياة بعد موت الحب هي موضوع أساسي في أعماله، التي تهتم بالتعبير عن حالة الحزن اليائس عندما تنطفيء شعلة الحب، وعن حالة الشعور الواهم ببدء حب جديد.


يمتاز نثر فان بوي بأناقة متقشفة، وقد أشاد باتريك كوتر، المدير الفني للمركز الادبي الذي يشرف على جائزة أوكونر بالطبيعة النادرة المفعمة بالامل لكتابه. وقال: "على غير المألوف في الادب الجاد، فاز هذا الكتاب بمنحاه الايجابي المتسق في اختبار التجربة الانسانية". واضاف بأن قصص فان بوي "مليئة بالنظرة العميقة الفريدة والأقوال البليغة بدون أن تبدو مجرد وسائط نقل للافكار".


"الحب يبدأ في الشتاء" مجموعة من خمس قصص تدور بشكل رئيس حول شخصيات على حافة اليأس ولكنها متعلقة بأحلام لا تتحقق وبأناس رحلوا منذ زمن. وتسير شخصيات فان بوي عبر أحداث القصص وحيدة الى أن تجمعها الصدفة بالغرباء الذين يجبرونها على مواجهة مسؤولية حياتها التي اعتقدت أنها مضت بدونها. تدور القصة الاولى التي أعطت المجموعة اسمها حول عازف تشيلو شهير اسمه برونو بينيت الذي انسحب من المجتمع ويعيش في حزن على فقدان صديقة عزيزة من أيام الطفولة تدعى (آنا)، ويحمل دائما قفازاتها في جيبه في كل عرض موسيقي يقوم به، ولكنه يلتقي صدفة بصاحبة متجر متعلقة بالطيور ومغرمة بالبلوط تدعى حنه ويقع في حبها. يروي المؤلف أنه اختار في البداية اسم هيزل (كستناء) ولكن الناشر اعترض على ذلك وأخبره إنه اسم قديم، واقترح عليه اسم (حنه) فأعجبه. قال الناشر في تقديمه للكتاب: "الحب أحد مواضيعه- قوة الحب التي تتغلب على المأساة، والحنين للحب، ومعناه، وكيف يمكن أن يرقى بالأجيال". وأضاف: "إن استعمال فان بوي للغة أمر فريد ورقيق – إنه مراقب ممتاز– مثل سومرست موم بإمكانه الذهاب الى غرفة وتحديد ما يجري فيها تماماً. لديه قدرة مذهلة على رسم لوحات جميلة. وتتسم كتاباته بأسلوب رثائي ونغمة اكتئابية حزينة. إنه رومانسي".


تقول افتتاحية القصة الاولى المسماة "الحب يبدأ في الشتاء": "أنتظر في الظل.. آلتي التشيلو موجودة فوق المسرح. لقد تم صنعها في العام 1723 على جانب تلة في صقلية حيث البحر هاديء تماماً. تهتز الاوتار عندما أنحني قريباً منها كما لو أنها ترحب بحبيبها. اسمي برونو بينيت. لون الستارة التي اقف خلفها من لون الخوخ. والمخمل ثقيل. حياتي في الجانب الاخر. أتمنى أحيانا لو أنها تستمر بدوني.


أضواء المسرح هنا في كيوبيك ساطعة للغاية. نجوم الغبار تدور حول رأس التشيلو المنحني وعند نهايات أوتاره بينما يقدمونني بالفرنسية الكندية. كان التشيلو لجدي الذي قتل خطأ في الحرب العالمية الثانية. كرسي جدي موجود أيضاً على المسرح. أستطيع أن أضع ثقلاً على ثلاث أرجل فقط. والفرش في وسط الكرسي ممزق. في يوم من الايام سيتداعى. حينما يصل الكرسي لقاعة الموسيقى قبل يوم أو نحو ذلك من العرض، ينادي مخرج موسيقي مجنون صائحاً بالاخبار السيئة: "لقد تلف الكرسي تماماً في أثناء النقل".... في يوم من الايام سأعزف بدون آلتي. سوف اقف مستقيما بلا حراك. سأغلق عيني وأتخيل الحياة في البيوت خارج قاعة الموسيقى...".


تبدو الشخصيتان الرئيستان في القصة متعلقتين باشياء مادية كحبات بلوط وحجارة وقفازات لليدين، وكرسي الجد المكسور والتي تصبح ذكريات غالية من الماضي تثقل البال بما ترمز اليه حباً ومرارة في الوقت ذاته. وعندما يطلق برونو وحنه طائرتيهما الورقية في الجو يشرعان في تذكر أحداث ماضيهما خلال السنوات العشرين التي مرت. يقول الراوي: "إن أكثر أحاديث حياتنا أهمية تلك التي تجري في صمت". وحينما يتذكر برونو بعد العرض الموسيقي صديقة طفولته الراحلة (آنا) يقول: "لو أن أحدا منهم يتذكرني، لهربت من بين أغصان حياتي، ولنفضت الزمن عن ملابسي، وبدأت الرحلة الطويلة عبر الحقول الى المكان الذي اختفيتُ فيه بالاساس. ولد يتكيء بشكل منحني على البوابة، بانتظار أن تنهض صديقته الاقرب الى نفسه. ما تزال العجلة الخلفية في دراجة (آنا) تدور". تعكس القصة الوحدة التي يعيش فيها البطل حتى عندما يكون في مدينة تعج بالحركة والصخب مثل لوس انجليس. وحينما يلتقي برونو بحنه التي يلفها الحزن والحداد على فقدان أخيها، يدرك ساعتها أنه ليس وحيداً في هذا العالم. إنها قصة عن قوة الحب التي تشفي جراح الزمن.


في القصة الثانية ذات العنوان "نمر، نمر" فإن الراوي هو طبيبة أطفال ولها صديق شاب يلجأن الى التفكير في سلوكيات وذكريات الطفولة. تعض الطبيبة صديقها في نهاية القصة كارتداد الى حالة الطفولة وكتعبير ساذج بريء عن الرغبة في اعادة بعث الحب من جديد. وتطرح القصة الثالثة "التماثيل المفقودة" موضوع العلاقة بين المدينتين لاس فيجاس وروما، وأن هناك مواطن للجمال في المدينة التي شهدت طفولة البطل. في هذه القصة يبكي الدبلوماسي الشاب ماكس عند ساحة القديس بطرس في روما وهو يستعيد ذكريات طفولته في لاس فيجاس. وفي القصة الرابعة "مجيء وذهاب الغرباء" يقع الصبي الغجري الايرلندي الروماني الاصل والمريض (والتر) في حب فتاة كندية يتيمة، ويعتقد أن تجربة الحب الحقيقي تتمثل في تجربة الحب الاول النقي فقط. إنها قصة عن الاجيال والبطولة والمأساة والحب والعائلة. وفي القصة الخامسة "مدينة أشجار الرياح" يعيش جورج فراك في عزلة. ويتلقّى ذات يوم رسالة تغير مجرى حياته بالكامل. فقد كان لتلك الليلة الوحيدة التي قضاها مع نادلة سويدية قبل سبع سنوات ابنة لم يرها. يعود الحلم من جديد برغم السنوات فيترك جورج عمله ويذهب الى استكهولم بالسويد للبحث عن ابنته (لوتا) التي لا يعرفها.. وحينما يجدها يأخذها ليتزلج معها على الثلج. يكتب جورج في رسالته الى أخته هيلين "إنني نادم على الاشياء التي لم أفعلها وليس تلك الاشياء التي فعلتها- أيبدو ذلك لك غريباً؟

تطرح قصص المجموعة حياة أناس عاديين، يقعون في الحب بصوره ومعانيه المختلفة. ومن عازف التشيلو الوحيد الحزين الذي يتعثر أثناء سيره بالمعنى الحرفي للكلمة صدفة بامرأة فتنشأ بينهما علاقة حب، الى ذلك الصبي الغجري الذي يتسكع خارج منزل فتاتين فقدتا والديهما، تأخذ القصص القاريء في رحلة القلب وتطرح قضايا الهوية الذاتية والحزن والحنين واعادة الانبعاث من جديد. ويأخذنا المؤلف مع شخصياته الى أمكنة متعددة تعكس ايقاع المدن المختلفة فمن مونتريال في الشتاء الى روما الى منحدرات ايرلندا الوعرة، وكلها أمكنة تدعو للاستبطان والتأمل. تركز المجموعة على استكشاف ذلك الجوهر الذي يشكل ما هو انساني فينا، وكيف يمكن أن نجد الحب الانساني في أكثر الاماكن غير المتوقعة.


تجسد قصص المجموعة شخصيات تعيش في عزلة ووحدة وتستوطنها ذكريات الماضي المريرة المؤلمة التي تمتليء بصور الاعزاء الراحلين، ولكنها حينما تقع في الحب، فإن الامر يبدو كمعجزة قد وقعت، وسرعان ما تظهر قوة الحب القادرة على تغيير حياتها. يقول المؤلف "اللغة تسمح لنا بالتواصل مع الناس والوصول اليهم ومشاركتهم لنا مخاوفنا الداخلية وآمالنا، واحباطاتنا" ولهذا فقد سمى القصص "تاريخ ما أحسَّ به". وعن تجربة كتابة القصة بالنسبة له، قال إن من عادته أن يمشي بالساعات في شوارع المدن التي يسافر اليها لتولد قصة تحت المطر والحر والبرد وأحيانا الثلج، فالكتابة ليست فن البحث عن قصة لكتابتها، بل أن تتجول في الاماكن التي تذهب اليها وتنظر بعين المتأمل في كل الاشياء من حولك وتترك الافكار تأتي اليك.

* اللوحة أعلاه بعنوان شتاء للفنان الفرنسي ادوارد بيسو (1856-1939)
* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الرأي يوم الجمعة 10 نيسان/ابريل 2010. يرجى الضغط على الرابط التالي لرؤية المقال في الصحيفة:
الحب يبدأ في الشتاء لسايمون فان بوي - جريدة الرأي
 
كما يمكن الضغط على الرابط التالي لرؤية صورة الصفحة الكاملة في الرأي:
الحب يبدأ في الشتاء لسايمون فان بوي - الصفحة الكاملة
 

اياد نصار في ندوة حوارية في المعهد الدولي لتضامن النساء



الريماوي : الحياة أوضح ما تكون في مرآة الشيخوخة!

الدستور- ضمن برنامج الأربعاء الثقافي الذي ينظمه المعهد الدولي لتضامن النساء ، نظمت ندوة حوارية حول رواية "من يؤنس السيدة" للقاص والروائي محمود الريماوي ، وشارك فيها د. فايز صياغ والقاص إياد نصار وأدار الندوة الحوارية د. حلمي ساري.


واستهل الريماوي الفعالية بتقديم ما يشبه الشهادة عن رواية "من يؤنس السيدة" ، فقال: "وقع اختياري على عجوز بطلة لهذه الرواية ، لكوني مشدوداً إلى عالم كبار السن. أرى أن الحياة تتمرأى أوضح ما تكون في مرآة الشيخوخة ، كما تظهر على أصدق صورة وانعكاس في مرآة الطفولة. السيدة حسيبة البطلة من جيل النكبة ، الجيل الذي تفتحت مداركه على واقعة سلب الأرض والتشريد عن الوطن واللجوء الى الجوار. لقد طال العهد على النكبة وتقدم ذلك الجيل في العمر كما هو حال حسيبة ام يوسف ، وقد رغبت أن تكون الشاهدة على الأحداث سيدة لا رجلاً ، ونعلم أن النكبات والفظائع تقع بصورة أشد وقعاً على النساء في مجتمعاتنا. علاوة على ما يتوافر لدى النساء من عمق عاطفي ورهافة روحية ، لا تتوافر دائماً لدى الرجال الذين يتوافرون على أمور أخرى إيجابية وسلبية.


وفيما يتعلق باختيار سلحفاة كبطلة أخرى للرواية قال الريماوي: "كان الاختيار مبعثه التأشير على الحياة الفقيرة إنسانياً ، التي باتت تخلو من التواصل البشري الاجتماعي ، ما يجعل استئناس امرأة وحيدة وأرملة بحيوان زاحف وصغير خياراً واقعياً ضمن منطق الرواية. فضلاً عن المزاج الخاص بهذه السيدة ، التي يعوزها الانفتاح السهل والميسور على أصناف شتى من البشر ، إلى جانب البطلة الرئيسية هناك شخصية الجارة سلوى أم عوني ، وهي معلمة سابقة في آواخر خمسينيات عمرها ، لكن حياتها محدودة لاصطدامها بحياة تقليدية من حولها". وختم الريماوي بالقول: "تبقى إشارة لعلها ذات أهمية وتتعلق بما تتضمنه الرواية من تباسط ومن تراسل ساخرين بين البطلة الأولى ، وكل من السلحفاة والبطلة الثانية. تقوم السخرية هنا على رؤية شبه فلسفية ، على إدراك حالة العبث والغرابة في الاستئناس بحيوان صامت غريب عن البيئة ويصعب التعامل معه".


ومن جانبه قدم د. فايز الصيّاغ خواطر حول الرواية ، وقال: "هذه الرواية ، الساحرة ، الآسرة ، تُدخل القارئ ، بل تَدخل به ، بمنتهى السلاسة واليسر والبساطة ، إلى مجموعة من العوالم المتداخلة المتفاعلة أحيانا ، والمتوازية المستقلة أحيانا أخرى ، وإلى حياة أناس عاديين في الظاهر ، إلا أنهم في أعماقهم مثقلون بهموم ومشاغل وانشغالات لا تكاد تحصى ، وفي مقدمتها الخروج من دائرة الوحشة والعزلة ، للتواصل مع الآخرين والتفاعل معهم والتعلم منهم ، وإعانتهم والاستعانة بهم لمواجهة أعباء العيش ومستلزمات الحياة". وأضاف د. الصيّاغ: "ترى ، هل يتحدث الريماوي في هذه الرواية عن عالم مضى وانقضى ، ومجتمع تلاشى وامّحى في مواجهة أنماط الحياة الجديدة وتياراتها الكاسحة؟ هل انقرضت البيئة الاجتماعية والروحية والسياسية التي كان الناس يتآخون فيها - على حد تعبير أم عوني - على دين المحبة والنية الصافية؟ وأخيرا ، وليس آخرا بالتأكيد: هل سيستمر التباعد والتنابذ بين "الوحشات" و"العزلات" ، السياسية والثقافية وربما الدينية ، التي نعيشها أو نوشك على الدخول في معمعتها هذه الأيام ، في مجتمعنا الصغير على الأقل؟ آمل أن يكون الجواب بالنفي،".


كما تحدث القاص إياد نصار عن الرواية ، وبين أن أهميتها "تكمن في إبرازها لذلك الجانب الايجابي في دور المرأة الفاعلة في مجتمعها رغم كل الظروف القاسية والمحبطة التي تقف ضدها ، ورغم ما تتعرض له من النسيان والنكران ، فإنها لا تتوقف عن العطاء ، ولكنه ذلك الدور الذي تحترق فيه المرأة من الداخل ، والذي تتعلم معه المرأة معنى كبح رغبات النفس والتضحية بأشواق الروح والجسد لأجل الآخرين. كما تكمن قيمة الرواية الفنية في تناول تفاصيل حياة الإنسان العادي".


ولفت نصار إلى أن "الرواية تبرز أهمية الاتصال والتواصل وأدواته ولغته ليس بين البشر وحسب ، بل بين البشر والحيوان. كما ترصد الرواية ملامح الحياة المعاصرة في الأحياء الشعبية في مدينة الزرقاء وايقاع الحياة فيها من خلال سرد تفاصيل حياة البطلة".

* نشرت صحيفة الدستور الاردنية تغطية للندوة الحوارية التي شاركت بها حول رواية القاص والروائي الاستاذ محمود الريماوي في عددها الصادر يوم السبت 3 نيسان/ابريل 2010 كما يظهر من صورة الصفحة الثقافية. يمكنك عزيزي القاريء الضغط على الرابط أدناه  للانتقال الى موقع الصحيفة والاطلاع عليها:

اياد نصار يشارك في ندوة حوارية في المعهد الدولي لتضامن النساء / الاردن


الريماوي: سخرية "من يؤنس السيدة" تعكس شقاء العقل أمام مظاهر لاعقلانية

ندوة في المعهد الدولي تقرأ أجواء رواية صاحب "رجوع الطائر"


الغد- عاين الناقدان د. فايز الصياغ وإياد نصار البنية الشكلية المعتمدة على البساطة والاحتفاء بتفاصيل حياة الإنسان العادي في رواية محمود الريماوي "من يؤنس السيدة".


وأكد الناقدان في الندوة التي نظمت أول من أمس في المعهد الدولي لتضامن النساء وأدارها د. حلمي ساري على وجود انشغال واضح بالبحث عن طرق التعبير والتواصل الأكثر فعالية، رائين أن الريماوي أبرز الجانب الإيجابي لدور المرأة الفاعلة في مجتمعها، خصوصا في مسألة كبح رغبات النفس والروح والجسد لأجل الآخرين.


تحدث الروائي محمود الريماوي حول أجواء الرواية، مؤكدا أنها تقوم على "خلفية النكبة واللجوء ووحدة الضفتين وهذه تطورات سياسية مفصلية"، مشيرا إلى أن الرواية ليست ذات طابع سياسي، لرأيه أن الحياة أوسع من السياسة على أهمية الأخيرة.


وبين أنه عمل "حالة اندماج البطلة وعائلتها في المجتمع المحلي، من مخيم الحسين إلى علاقة الجيرة المميزة في مدينة الزرقاء، مع سيدة متعلمة وليست عجوزا".


وأضاف الريماوي، تلك العلاقة تمثل في اجتهاده ومعاينته "نموذجاً للعلاقات الإيجابية الطبيعية بين مكونات المجتمع المختلفة، التي لا تحدها حدود ولا تقف أمامها فوارق، والتي سادت هذا المجتمع لردح طويل من الزمن".


وبين أن المقارنة بين تلك المفاهيم التي كان يعتنقها ويمارسها بسطاء الناس، وبين ما نلحظه راهناً من شطحات وممارسات فئوية وضيقة الأفق لدى شرائح واسعة من المتعلمين والمثقفين، تؤكد "مدى الهناء الذي نرفل به".


وأشار الريماوي إلى ما تتضمنه الرواية من تراسل ساخر بين البطلة الأولى، وكل من السلحفاة والبطلة الثانية، مبينا أن السخرية تقوم على رؤية شبه فلسفية، وإدراك حالة العبث والغرابة في الاستئناس بحيوان صامت غريب عن البيئة ويصعب التعامل معه، ثم على محدودية الحياة الاجتماعية وضيق فرص النساء في اختيار أنماط حياتهن. ويذهب إلى أن ذلك "يثير الغيظ والسخرية من الذات والآخرين".


وخلص الريماوي إلى أن السخرية تعكس من جهة شقاء العقل وصحوته أمام مظاهر لاعقلانية، ومن جهة ثانية الروح الحيوية والإيجابية وقوة الإحساس بالحياة لدى البطلتين، مبينا أنه رغب أن تنبثق بهجة السرد من بهجة روح الشخصيتين رغم قتامة الأحداث.


من جهته قدم الصياغ خواطر حول رواية "من يؤنس السيدة" لمحمود الريماوي، مستذكرا ندوة جمعت عددا من المثقفين والأدباء في أبو ظبي، تمحورت حول ترجمة الأعمال الأدبية والفكرية من العربية وإليها.


واستشهد بما قاله الروائي إبراهيم الكوني:"إن الترجمة، بمعناها الوجودي، هي اتصال وتواصل بين عزلتين على الصعد الفردية والحضارية والاجتماعية".


وزاد الصياغ على ذلك بالقول:"إن الأعمال الإبداعية جميعها، بل أنماط التواصل الإنساني على اختلاف أشكالها وغاياتها، إنما هي جسور للتواصل والتفاعل، لا بين عزلة وأخرى فحسب، بل بين أعداد لامتناهية من العزلات الإنسانية والحياتية".


وقال إن الرواية، الساحرة، الآسرة، تدخل القارئ، بل تَدخل به، بمنتهى السلاسة واليسر والبساطة، إلى مجموعة من العوالم المتداخلة المتفاعلة أحيانا، والمتوازية المستقلة أحيانا أخرى، وإلى حياة أناس عاديين في الظاهر، إلا أنهم في أعماقهم مثقلون بهموم ومشاغل وانشغالات لا تكاد تحصى، وفي مقدمتها الخروج من دائرة الوحشة والعزلة، للتواصل مع الآخرين والتفاعل معهم.


وأشار الصياغ إلى شخوص الرواية وهم السبعينية "حسيبة" أم يوسف، اللاجئة الأرملة المهاجرة من بيت نتيف "إلى مخيم عقبة جبر في "البلاد"، إلى مخيم الحسين في عمان، والجارة الخمسينية أم عوني الحصناوية التي زوجت ولدا وبنتا وصارت جدة، ومع ذلك لطالما خاطبتها حسيبة بقولها؛ "ليس عندي بنات.. أنت مثل ابنتي" فتجيبها أم عوني:"بنتك ولكن على أي دين؟" وهو ما لم تعرف حسيبة جوابا عليه، فتحيطها أم عوني المسيحية بذراعها قائلة:"على دين المحبة والنية الصافية".


وكذلك شخصية "أبو يوسف" الراقد في قبره في الزرقاء، وماجد، الابن الثاني لحسيبة، المشغول بعمله وأولاده مثلما هو مشغول بأمه. والجارة "أم سمير" التي أُطلق عليها اللقب مجازا فهي عاقر، وتصفها الحارة بالراديو وبوكالة رويترز.


وطرح الصياغ مجموعة من التساؤلات على الريماوي منها: هل يتحدث الكاتب في هذه الرواية عن عالم مضى وانقضى، ومجتمع تلاشى وامحى في مواجهة أنماط الحياة الجديدة وتياراتها الكاسحة؟


ويتابع الصياغ، هل انقرضت البيئة الاجتماعية والروحية والسياسية التي كان الناس يتآخون فيها - على حد تعبير أم عوني - على دين المحبة والنية الصافية؟


وينتهي بسؤال هل سيستمر التباعد والتنابذ بين "الوحشات" و"العزلات"، السياسية والثقافية وربما الدينية، التي نعيشها أو نوشك على الدخول في معمعتها هذه الأيام، في مجتمعنا الصغير على الأقل؟ آمل أن يكون الجواب بالنفي!


وقال الكاتب إياد نصار إن رواية "من يؤنس السيدة" قدمت بناءً روائيا جذاباً في بساطته الشكلية من حيث الاحتفاء بتفاصيل حياة الإنسان العادي، التي تستحق أن يكتب عنها.


ولفت نصار الى أن الرواية، ترسم مصير، شخصيتين رئيسيتين وبطلة أخرى من نوع آخر، لا تقل أهميتها في الرواية عن البطلتين الأخريين ألا وهي السلحفاة، التي تصبح محور الاهتمام طيلة الرواية.


وأشار نصار إلى أن بناء الرواية يقوم على تعدد الأصوات السردية، وخصوصاً ذلك الصوت الذي يأخذ فصلا قصيراً، وهو الفصل الذي ترويه السلحفاة ذاتها.


وقال نصار إن أهمية الرواية تمكن في تناول حياة الإنسان العادي، وهي في هذه الحالة، وعلى نحو ليس مألوفاً كثيراً، امرأة عجوز سبعينية، وذلك القادم الغريب الأنيس المتمثل في السلحفاة.


وبين أن الرواية تعقد مقارنة بين بطلتها الإنسانية، وهي السيدة السبعينية وبين بطلتها الحيوانية فيما ينطوي على نقد لعالم الإنسان.


وأكد نصار أن الماضي يلعب دورا كبيرا في الرواية، وأن للرواية قيمة توثيقية شعبية مهمة للقرية الفلسطينية، حيث تضعنا في الجو عشية النكبة وتفاصيل دخول العصابات اليهودية للقرى الفلسطينية وبدء عملية التهجير.

* نشرت صحيفة الغد تغطية للندوة الحوارية التي شاركت بها حول رواية القاص والروائي الاستاذ محمود الريماوي في عددها الصادر يوم السبت 3 نيسان/ابريل 2010 كما يظهر من صورة الصفحة الثقافية. يمكنك عزيزي القاريء الضغط على الرابط أدناه للانتقال الى موقع الصحيفة والاطلاع عليها:
اياد نصار يشارك في ندوة حوارية في المعهد الدولي لتضامن النساء