الأربعاء، أغسطس 13

مسرح تنيسي وليامز



عربة إسمها الرغبة
بقلم اياد نصار

ألّف المسرحي الامريكي الرائع تنيسي وليامز عدداً من المسرحيات التي ذاعت شهرتها واكتسبت أهمية مسرحية وأدبية كبيرة في العصر الحديث وقد تم تقديم هذه المسرحيات على خشبة المسرح في برودواي في نيويورك وما تزال تقدم الى الان بين الحين والاخر على مسارح العالم، كما تم تحويل بعضها الى أفلام سينمائية، وقد قدمت السينما العربية بعضاً من أعماله. من مسرحياته الرائعة "عربة إسمها الرغبة" A Streetcar Named Desire ومسرحية "قط على سطح صفيح ساخن" Cat on a Hot Tin Roof ومسرحية "الحيوانات الزجاجية" The Glass Menagerie ومسرحية صيف ودخان Summer and Smoke وغيرها الكثير. لكن مسرحية عربة اسمها الرغبة كانت من بين أروع مسرحياته واجملها واكثرها نضوجاً فنياً. ويرى النقاد أن مسرحية الحيوانات الزجاجية كانت أولى مسرحياته الناجحة والاكثر أهمية.

قدمت المسرحية لاول مرة في عام 1947 على مسرح في نيويورك وقد مثل دور الشخصية الرئيسية فيها الفنان الامريكي المبدع مارلون براندو في شبابه حيث لعب دور شخصية ستانلي كوالسكي ولعبت الفنانة كيم هنتر دور زوجته ستيلا كوالسكي كما لعبت الفنانة جيسكا تاندي دور أخت ستيلا تلك الشخصية الرئيسية الفذة التي أكسبت المسرحية بفعل حواراتها مع ستانلي كوالسكي التي اتسمت بالندية والسخرية والعمق والمعاناة روعتها وهي بلانش دوبوا. وفي عرض لاحق فقد تم استبدال جيسكا تاندي بالفنانة العملاقة بطلة فيلم ذهب مع الريح فيفيان لي التي أدت دور بلانش دوبوا بكل تألق.

ولد توماس وليامز في مدينة كولومبس في ولاية ميسيسبي في عام 1911 وتوفي في عام 1983. وقد توفي في حادثة غريبة حيث مات اختناقاً من غطاء زجاجة نشبت في حلقه في أحد فنادق مدينة نيويورك.

كتب مقدمتها المسرحي الامريكي الشهير آرثر ميللر الذي نتذكره في مسرحيته المشهورة "موت بائع متجول" التي أصبحت من كلاسيكيات المسرح الامريكي الحديث مثلما نتذكره زوجاً لمارلين مونرو. كتب ميللر يقول ان المسرحية تذكره بعدة أمور منها أن المرة الاولى التي شاهد فيها المسرحية لم تكن في حفل افتتاحها في نيويورك بل في مكان اخر حينما دعاه مخرجها المشهور ايليا كازان لحضور عرض تجريبي قبل أن يراها النقاد.

كان والده بائع أحذية وقد كان يسيء معاملة أطفاله ولم يكن على وفاق مع زوجته فانعكس ذلك كثيرا في صورة علاقة متوترة بينهما تركت أثراً نفسيا سيئاً على تنيسي. كما أجبره أبوه لاحقا على قطع دراسته وترك جامعة ميسوري ليعمل في شركة أحذية مع رجل اسمه ستانلي كوالسكي والذي ظهر فيما بعد في مسرحية عربة اسمها الرغبة. ثم عاد للدراسة مرة أخرى واستمر خلالها يؤلف المسرحيات وتخرج من جامعة أيوا في عام 1938. ولكنه بعد تخرجه لم يفلح أن يجد عملاً في شيكاغو فذهب الى ولاية لويزيانا التي تجري فيها أحداث المسرحية وهناك غير اسمه من توماس الى تنيسي. وقد تزوج في ما بعد من سيدة أمريكية من أصل ايطالي من صقلية كان لها تأثير كبير على حياته المضطربة، ولكنها توفيت بسرطان الرئة فأصابه ذلك بالاكتئاب لفترة طويلة، استمر معه حتى نهاية حياته حيث كان يخشى من الاصابة بالجنون كما أصيبت أخته روز.

على غير المألوف كتب تنيسي وليامز مسرحيته في أحد عشر مشهداً بدلا من تقسيمها لفصول ومشاهد. كما تتصاعد الاحداث في كل مشهد حتى ينتهي بأزمة أو عقدة. تجري أحداث المسرحية في ذات مساء من شهر مايو في بيت من طابقين على زاوية شارع في المدينة الساحلية نيو اورلينز بجنوب الولايات المتحدة في ولاية لويزيانا. يعود ستانلي الى بيته ومعه صديقه ميتش ويلقي الى زوجته ستيلا بقطعة لحم لتعدها بينما يستعدان للذهاب للعب البولينغ، ولكنه ستيلا تتبعهما. وهنا تصل بلانش دوبوا أخت ستيلا الى شقة أختها وهي تحمل معها حقيبة ملابسها بينما تنظر في قطعة ورقة معها وقد بدا عليها الشرود والضياع.

وحينما تعود ستيلا تبدأ بلانش بالتذمر من ظروف أختها المعيشية. وتخبر أختها انها أخذت اجازة من المدرسة التي تعمل بها، كما تقول أنها خسرت مزرعة الاسرة المسماة بيل ريف التي نشأت فيها، وتتهم أختها أنها تركتها لوحدها تواجه مصيرها وتكافح في هذه الحياة. يعود ستانلي للبيت،ولكن تصرفاته الفظة العنيفة تخيف بلانش. وينشب بينهما حوار مشحون فيه اشارات جنسية، في حين تختبأ ستيلا ذات الشخصية الضعيفة في الحمام لتخفي ضعفها وارتباكها بسبب اتهامات اختها لها بخصوص ترك بيت الأسرة.

في اليوم التالي أخبرت ستيلا زوجها أن بلانش قد فقدت البيت، ولكن ستانلي لم يصدق وأخبرها أنه يريد رؤية الاوراق لان بلانش تخادع كي تستولي على الارث لوحدها وتحرم ستيلا منها، ولكن ستيلا تحاول أن تمنعه وأن تشرح له المعاناة التي مرت بها أختها، ولكنه لا يصغي لها ويذهب للخزانة ويعبث بملابس بلانش ويقول أنه لا يمكن أن تكون اشترت هذه الفساتين والملابس المصنوعة من الفرو من راتب مدرّسة وحسب! فتغضب ستيلا وتخرج من الشقة وتذهب لبيت جيرانهم ولكن ستانلي يواجه بلانش بقسوة ويسألها عن كل ملابسها التي احضرتها ، ولا ينسى أن يذكر أنه لم تخدعه بفتنتها أو مظاهر هوليوود كما يصفها. ويحاول باسلوب فظ عنيف استخراج أوراقها من الخزانة حينما تقع بعض الاوراق على الارض. تخبره بلانش أنها قصيدة كتبها شاب صغير مات بسببها. ولكنها تحذر كوالسكي أنها لم تعد شابة يمكن الايقاع بها بسهولة. يصر ستانلي على عرض الاوراق على محامي وخاصة أن زوجته حامل.

تلتقي بلانش بميتش وهو صديق ستانلي وتحاول التقرب منه وإغراءَه وتسأل ستيلا عن امكانية الارتباط به. وعندما تعرف أنه يعيش قصة حب مع فتاة على وشك الموت فقد عزمت على التقرب منه. ينشأ خلاف صاخب بينها وبين ستانلي الذي يريد اغلاق الراديو بينما تصر بلانش على سماعه وهو يلعب الورق ويهجم على الراديو ويلقي به خارج النافذة، فتعمد ستيلا الى انهاء اللعبة وطرد الرجال من البيت فيضربها ستانلي نتيجة ذلك فتهرب هي واختها الى بيت جيرانهم. وعندئذ يصرخ على ستيلا بالعودة وهو يبدو عليه اليأس والانهيار وحينما تنزل فإنهما يتعانقان والدموع تنزل منهما ويخر عند قدميها لكنه ترفعه ثم يعودان للبيت. ولكن بلانش لا تستطيع أن تتخيل كيف تعيش أختها مع مخلوق حيواني متوحش مثله. تنكر ستيلا ذلك وتحاول تصوير الامر أنه اصبح رقيقا واعترف بأخطائه ولكن بلانش ترفض ذلك وتعتبر أن أختها تعيش حالة من الانكار، وتطلب منها أن تترك ستانلي قبل فوات الاوان. ويجري بينهما حوار رمزي عميق المعاني:

ستيلا: ... هناك أشياء تحدث بين الرجل والمرأة في الظلام تجعل أي شيء آخر سواها يبدو غير مهم.

بلانش: ما تتحدثين عنه ليس الا رغبة حيوانية .. مجرد رغبة. انه اسم تلك العربة التي تذرع شوارع الحي بأصواتها صاعدة مرة ذلك الزقاق ونازلة مرة أخرى غيره

ستيلا: هل سبق لك أن ركبت تلك العربة؟

بلانش: لقد أحضرتني الى هنا حيث أجد أنني لست مرغوبة ً هنا وحيث أشعر بالخجل من وجودي ..

يلمح ستانلي انه التقى برجل يعرف بلانش جيدا وانه كان يلتقيها في فندق سيء السمعة ولكنها تنكر ذلك، وتسأل ستيلا عما يقوله الناس عنها من اشاعات، ولكنها تعترف أنها كانت تتصرف على نحو سيء منذ أن فقدت المنزل بيل ريف منذ سنتين. وتخبر ستيلا أنها قد واعدت ميتش في المساء وأنها تريده لانها تعبت من هذه الحياة وتريد أن تستريح. ولكنها في ذات اللحظة بعد أن تغادر أختها البيت فإنها تتصرف بكل حماقة وطيش مع بائع الصحف رغم انه تراه لاول مرة قبل أن يأتي ميتش ومعه باقة أزهار! ويتواعدان حتى وقت متأخر تلك الليلة عندما يصرح ميتش أن أمه ترغب أن تراه متزوجاً قبل أن تموت، وهنا تعترف بلانش له بأنها كانت متزوجة من شاب أصغر منها ولكنه انتحر بعد ذلك لأنها رأته ذات يوم يمارس الجنس مع رجل آخر!

تغضب ستيلا من زوجها لأنه برأيها ينشر إشاعات عن علاقات بلانش العديدة مع الرجال بعد أن خسرت البيت وأنها طردت من المدرسة لأجل ذلك. بل إنه أخبر ميتش بكل التفاصيل عن بلانش لأنه لا يريد أن يرى صديقه في حوض مع اسماك القرش كما يقول! ويشتري تذكرة بالقطار استعداداً لطرد بلانش من بيته.

في يوم عيد ميلاد بلانش الذي كان مقرراً أن يأتي فيه ميتش، تطور الخلاف بين ستانلي وستيلا وبلانش الى حد عنيف حيث أخذت ستيلا تصفه بأوصاف حيوانية وطلبت منه تنظيف المطبخ فأخذ يرمي الادوات والصحون من البيت ويقول أنه قد نظف بيته!وتستغرب بلانش عدم حضور ميتش وتتصل به ولكن لا يرد وعندها يقدم لها ستانلي تذكرة السفر! في تلك الامسية عندما يغادر ستانلي وستيلا يأتي ميتش لرؤية بلانش ولكنه هذه المرة يواجهها بما سمعه من ستانلي عنها فحاولت ان تنكر لكنه أخبرها أنه قد اتصل بأناس في بلدتها وعرف تفاصيل لقاءاتها الحميمة برجال عديدين! تبرر بلانش أنه لم يكن أمامها سوى هذه الطريق بعد أن سدت الامور بوجهها ولم تجد رأفة من أحد. ولكن ميتش يرفض الزواج منها ويقول لها انها غير نقية لتعيش مع أمه.

في تلك الليلة تشرب بلانش كثيرا وتحزم حقيبتها ولكن ستانلي يعود للبيت بعد أن أوصل زوجته للمستشفى لتلد ، ولكن ولادتها لن تتم قبل الصباح. تشعر بلانش بالخوف من وجودها معه. وعندها يتعرى امامها ويلبس بيجامته التي لبسها يوم زواجه ويغتصبها ويقول أنه كان يجب أن يجري هذا اللقاء منذ البداية!

بعد عدة أسابيع تبدأ ستيلا وقد عرفت بالقصة تعيش صراعاً داخلياً بين أن تصدق رواية أختها وبين أن تبقى تعيش مع زوجها. في هذه الاثناء تتدهور حالة بلانش النفسية والعصبية، ويظهر في نهاية المسرحية طبيب وممرضة ضخمة الجثة لاقتيادها الى المصحة العقلية وعندما حاولت الهرب أمسكا بها، وفي حين كانت أختها وزوجها واصدقائهما يلعبون الورق كانت بلانش تغادر وهي تقول انها اعتمدت دائما على الغرباء!

تمتليء المسرحية بالعبارات المثقلة بالمعاني الرمزية وخاصة على لسان بلانش مثل:
- ان نصف جمال المرأة هو وهم خادع
- الرجال لا يريدون أي شيء يحصلون عليه بسهولة ، ولكنهم في الوقت ذاته يفقدون الاهتمام بسرعة!
- لا أريد الواقعية أريد السحر!
- ان رائحة العطور الرخيصة هي الاكثر نفادا!

تمثل المسرحية الصراعات العاطفية المشحونة بين شخصياتها المختلفة ذات الدوافع والقيم المختلفة التي كانت تنبيء ان قيم الجنوب الامريكي المحافظة قد بدأت تتغير وتتهاوى نتيجة تأثرها بالتغيير القادم من الشمال. ونلاحظ صراع الشخصيات الناشيء من مواقفها المختلفة ونظرتها المتناقضة لمعنى الحياة والحب والزواج وعلاقة الرجل بالمرأة ونظرة المجتمع للمرأة التي تفكر بالتمرد واستغلالها. كما تطرح المسرحية مسألة أن حرية المرأة لا بد لها من ثمن باهظ ومعاناة ستدفع المرأة ثمنها. كما تطرح موضوع التداخل بين الحرية والاستقلالية وبين العبثية.

تقدم المسرحية نمطين مختلفين للمرأة فستيلا هي النقيض لبلانش رغم أنها أختها. ستيلا تبحث عن ارضاء واشباع حاجاتها تحت مظلة الرجل وتبرر في سبيل ذلك كل تصرفاته وغطرسته وخيانته. شخصية ضعيفة تحب الخنوع وغير مستعدة للتضحية. في حين تمثل بلانش الشخصية الندية المتمردة التي تسعى لتأكيد شخصيتها، ولكنها تقع ضحية نزواتها ورغباتها وتطرفها في تأكيد استقلاليتها مثلما تقع ضحية لمجتمع ذكوري غير مستعد للتعايش مع هذا النمط. كما أن ستانلي يمثل نقيض ميتش. ستانلي يتصف بالانانية والاستغلالية ورغم أنه يتهم بلانش بسوء سلوكها وينشر حولها الاشاعات الا أنه في حقيقته أكثر سوءا منها وأبلغ شراً وعدوانية منها حيث يحطم كل القيم في سبيل رغباته لدرجة اغتصاب بلانش. بينما قدمت المسرحية ميتش ذلك الرجل البسيط الساذج الذي تتحكم به رغباته ولكنه يعيش تحت وصاية الاخرين ومن السهل تسييره منهم. ورغم تطور شخصيته نحو وعي الذات والاستقلالية الى حد ما كما ظهر في موقفه برفضه الزواج من بلانش، الا أن موقفه فيه إدعاء بالبراءة من خلال اتهام الاخرين!

واضح في المسرحية فكرة تجسيد الرغبة في عربة تحرك الشخصيات نحو مصائرها وتدفعها لكي تأخذ دروبا مختلفة في هذه الحياة. وواضح التركيز الشديد على دور الرغبات والحاجات وخصوصا العاطفية في تقرير حياة الانسان.

تطرح المسرحية صراعات الطبقات الاجتماعية حيث يظهر انهيار قيم الارستقراطية الاقطاعية في الجنوب الامريكي حيث فقدت تلك الاسر أهميتها التاريخية كما يظهر من ضياع بيت الاسرة الغنية بيل ريف مما اضطر بلانش الى المعاناة والتشرد والاستغلال.

برع وليامز في ابراز الجانب النفسي الداخلي والعاطفي لدى بلانش الذي يجعل الجمهور يتعاطف معها من خلال التركيز على تصوير عالمها الداخلي ومعاناتها في مقابل ابراز الجانب الخارجي الحسي الشهواني لستانلي كوالسكي. ولكن في ذات الوقت فقد ركز على أن نموذج بلانش بما تمثله من ارستقراطية متداعية او تحرر عبثي مصيره الفناء وقد مثل ذلك بخروج بلانش الى المصحة العقلية وكأن ذلك دليل على أن هناك أزمة فكر لا يتعايش مع الواقع!

* اللوحة أعلاه بريشة الفنانة اللبنانية سالي خوري

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:12 م

    السلام عليكم استاذ/اياد
    المسرحية جميلة وانا شهدت احدثها فى فلمين عربى (الرغبة لنادية الجندى)واخر بطولة(مديحة كامل) وكلاًمنهماقام بدور بلانش.
    (كلام فى سرك دايماًالاصل احلى)
    تحياتى الكثيرة جداًلك
    (أمال)

    ردحذف
  2. لك تحياتي وشكري الجزيل مقرونة بكل الاحترام على تعليقاتك التي تنم عن اهتمام كبير وذوق أدبي جميل. شكراً لمرورك الدائم.

    ردحذف