الثلاثاء، أغسطس 31

حوار مع جريدة الغد


نصار: أتقصى تفاصيل معاناة الإنسان في صورها المختلفة
ما أزال مؤمنا بقدرة الأدب على التأثير في الآخرين

حاورته: عزيزة علي


عمان - يرى القاص إياد نصار أن قدرة الأدب على التأثير في الآخرين تأتي من قدرته على تمكين القارئ من معاينة ما يمر به الإنسان من أزمات حياتية ووجودية وفكرية في نمط إبداعي.


نصار الذي صدرت له مجموعتان قصصيتان هما: "أشياء في الذاكرة" في العام 2008، و"قليل من الحظ" في العام 2010 يؤكد أن دافعه للكتابة هو اهتمامه بقضايا الإنسان المعاصر وأزماته النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وإفرازاتها من القلق والصراعات والضياع والموت.


فنصار عاش حياة لم تخلُ من المعاناة والألم، ورغم ذلك لم يفقد الإيمان بالتغيير والقدرة على صناعة مستقبل أفضل من خلال نشر الثقافة وتنمية الوعي والبحث عن الحل لأزمة الإنسان المعاصر في المستقبل لا في الماضي.


يهتم نصار بفن القصة القصيرة كتابة وترجمة ونقداً، بالإضافة إلى دراسة القصة القصيرة والرواية في الأدب العربي الحديث، كما قام بترجمة العديد من القصص القصيرة والقصائد من الأدب الانجليزي والأميركي.
وفي الحوار التالي، نحاول الإطلالة على تجربة نصار الأدبية:

• هل لنا بإطلالة على الأجواء التي دفعتك لكتابة "قليل من الحظ"؟

- أنا شديد الانتباه الى تفاصيل معاناة الإنسان بصورها المختلفة، خصوصا في تمثلاتها النفسية التي تغتال روحه وسعادته، وتسلبه الأمل في أن يصنع حلماً أو حتى وهماً أو هاجساً يعطي لحياته معنى. وأظن أن هذا لا بد منه لمن أراد كتابة القصة. لقد مرّ الوطن العربي عموماً، والاردن خصوصاً، ومنذ أوائل التسعينيات، بتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية شديدة الوطأة وذات تأثيرات مادية وفكرية ونفسية عميقة ليس على الانسان في الفئات المحرومة وحسب، بل حتى على الانسان العادي.


لا تنحصر هذه التأثيرات في البيئة المحيطة المباشرة، بل تعمل على مبدأ الدوائر الآخذة في الاتساع مع تطور وسائل الاتصال والإعلام، حيث لا تقتصر صور البؤس والشقاء والحرمان المادي والعاطفي على المكان الذي يعيش فيه الكاتب.


لقد صرنا مواطني قرية كونية واحدة تبعث فينا إحساساً حقيقياً بالتشاؤم من اتساع مشهد المعاناة، وأعتقد أن القصة والرواية العربية اصبحت الان تحمل مضامين عالمية وذات توجهات انسانية متأثرة بهذه الاجواء، مع المحافظة على خصوصية المكان، وتنحو في الوقت ذاته الى تأكيد النزعة الفردية ضمن إطار الهوية.


دافعي للكتابة دائماً قضايا الانسان المعاصر وأزماته النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وإفرازاتها من القلق والصراعات والضياع والموت التي صارت تتسم بها حياة الانسان وخصوصاً في المجتمعات التي ينهشها العنف والتطرف في مستهل القرن الحادي والعشرين، وبما تنطوي عليه من اضطراب وتمزق وخديعة وإحساس بالخوف واغتراب عن المكان. أعتقد أنني لست صنيعة تاريخي وبيئتي فقط، بل قراءاتي وثقافتي في اطار إنساني.

• لديك مجموعتان قصصيتان، ما الذي يمكن أن تؤشر إليه كاختلاف بين الاثنتين؟

- المجموعة الأولى "أشياء في الذاكرة" حاولت أن أغوص من خلال قصصي في منجم تجاربي الذاتية عبر مراحل حياتي المختلفة، لأن الماضي والطفولة المهدورة والمدرسة التي تغتال البراءة، وبدء تكوين الوعي في محاولة لإثبات الذات، ومظاهر التحول الارتدادي الماضوي كما نعيشه الان، كلها حافلة بالمواقف التي تحمل الكثير من تأملات الحياة.


لقد عايشت حياة لم تخلُ من المعاناة والألم، ولكني لم أفقد الايمان بالتغيير والقدرة على صناعة مستقبل أفضل من خلال نشر الثقافة وتنمية الوعي والبحث عن الحل لأزمة الانسان المعاصر في المستقبل لا في الماضي، وما يتطلبه ذلك من احترام الذات والاخرين وتقدير الفن والجمال وكل أنماط العمران البشري.


لقد شعرت في هذه المجموعة أن لدي الكثير لأقوله من واقعي وتاريخي وطفولتي وبداية تفتحي على الواقع ومراراته، وعن تطور المجتمع الاردني، وعن فلسطين التي تشكل هاجساً دائماً بالنسبة لي، فيما انطلقت في مجموعتي الثانية إلى فضاء عربي أوسع. فتناولت مشكلات مجتمعاتنا العربية التي تتعرض ثقافتها الى تغيير قسري نحو الانغلاق وضيق الأفق.

• برأيك، ما هي الرسالة التي يجب أن يحملها من يقدم على فعل الكتابة؟ وكيف ترى من يستسهل هذا الفعل؟

- أنا ممن يقولون بأن على الكتابة أن تخرج من الذاتية المفرطة والتجريبية الشكلية الى تبنّي قضايا الانسان ومشكلاته، ومن مقولة الادب في خدمة الايدولوجيا الى الادب في خدمة الإنسان.


وأعتقد أن قدرة الادب على التأثير في الاخرين تتأتى من خلال قدرته على تمكين القارئ من معاينة ما يمر به الانسان من أزمات حياتية ووجودية وفكرية في نمط ابداعي، ومن ثم يضفي عليه نوعاً من التفهم القادر على حفز تفكير الاخرين وادراكهم الذي يتجاوز مجرد الاهتمام بالتفاصيل أو ايجاد مادة للكتابة.


أعجبني ما ذكره القاص والروائي الاميركي ستيفن ملهاوزر في حديثه حول قوة القصة القصيرة التي تمكنك "أن ترى العالم في حبة رمل". يجب أن تنحاز القصة الى تلك الجوانب من حياتنا التي تنطوي على أحلام منهارة، أو آمال مؤجلة، أو آلام مستبدة، أو أشواق مكبوتة، أو مقادير تفرض علينا أعباء حتمية لا مفر من مواجهتها، لأن فيها تحت السطح عالماً من التأملات. يجب أن تدفع الكتابة القارئ الى طرح التساؤلات والى تشكيل رؤية تساعده على التأقلم مع الحياة.


أظن أنه حري برسالة الكتابة ألا يكون دافعها مجرد ابداء التعاطف مع جوانب المعاناة الإنسانية وحسب، بل ينبغي أن يتجاوز الكاتب حدود الرغبة الى التأمل الحقيقي الذي يحرك الفكر والقلم معاً في ما تنطوي عليه ظواهر الاشياء، والى محاولة فهم البعد النفسي والرؤية الفلسفية لما يجري. إن تفهّم تجارب الاخرين لازم قبل الكتابة عنها، حتى لو اتخذت تجاربهم مساراً مختلفاً عما نريده، أو عبرت عن ظروف قد لا نتفق مع بواعثها.


يشكل بؤس الإنسان بحد ذاته منذ بلزاك وجوستاف فلوبير واميل زولا والى اليوم ورغم تعدد المدارس الفكرية للقصة مادة غنية للادب اذا اتخذ الكاتب من منطق "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" أساساً لفهم السلوك الانساني الذي سينعكس على شكل معمارٍ روائي أو قصصي. وأعتقد أنه يمثل، بغض النظر عن كل العوامل الاخرى التي تعطي النص خصوصية، مقياس التعبير عن الانتماء الى الانسان ككائن ضعيف وجبارٍ، ورائع ورتيب، وجانٍ وضحية في آنٍ معاً.

• في أحد مقالاتك تحدثت عن ضعف وفقر المصطلح عند المبدعين، ما رأيك في الضعف والفقر الثقافي لدى من يطرح نفسه مبدعاً؟

- أعتقد أنه يمكن تشبيه المسألة بوجهي العملة الواحدة اللذين لا ينفصمان. فمن ناحية اللغة، أقرأ بين الحين والآخر نصوصاً على قدر من الخطية الاحادية التي تعبر عن بساطة في التناول الإبداعي، وعن الميل الى توظيف اللغة المعلبة في قوالب ممجوجة التي تنم عن فقر معرفي، وعن تجاهل حقيقة تعدد الرؤى والطروحات وأوجه الحقيقة التي لا تنتهي وتعقيد المواقف والمعطيات، فتشعر أن المبدع يتعامل مع النص والقارئ في تبسيط شديد لا يستقيم مع واقع الحياة.


كما اقرأ العديد من النصوص أحياناً التي لا تستطيع أن تثير فيك نوازع الجماليات اللغوية، ولا جاذبية الفكر في سبره الإبداعي العميق لفلسفة الحياة، لأنها تفتقر الى مساحات لغوية واسعة قادرة على تجسيد الشخصيات بحالاتها النفسية المعقدة المتغيرة وانشغالاتها الفكرية ونوازعها الداخلية، ووصف تفاصيل الاشياء، والتعبير عن انطباعات المكان وتأثيراته والمتغيرات التي طرأت عليه.


تتضح المشكلة أكثر في النصوص التي تصبح انعكاساً لحوار واقعي من غير أي جهد بارز في تلوين النص بظلال الوصف والذكريات والتداعيات والتأمل. لذلك قلت بأن المبدع يحتاج الى منهجية فاعلة في بناء المعرفة وتنمية اللغة بكل أنواع المفردات المترادفة والمتقاربة والمتضادة لتجاوز مأزق اللغة في رصد الاشياء والمواقف والحالات المعقدة المتداخلة وجعلها أكثر تأثيرا في القارئ.


ومن ناحية الثقافة، فهناك تقوقع لدى بعض المثقفين على المكان والذات، فلا يقرأ بجديّة ولا يتابع الا ما يقع بطريق الصدفة أو الاهداء في الساحة المحلية، وكأن الابداع العربي يتوقف عند حدود المدينة. وهناك تراجع على صعيد القراءات الثقافية المتعمقة في تاريخ الاداب العالمية الاخرى وحركات النقد والمدارس الفكرية المتنوعة، إلا ما كان ينتمي لجهة ايدولوجية معينة. ويمكنك أن تلمح ذلك في غياب أي تيار أو حركة أو مدرسة كما كان يتم على صعيد الادب العربي في مطلع القرن وحتى منتصف السبعينيات.


هناك جهود فردية متناثرة وغير قادرة على إحداث تأثيرات ثقافية عامة في المجتمع بسبب هذا النمط من التفكير الذي يشبه الجزر المتقاربة المتباعدة في الوقت ذاته.

• تطرقت المجموعة "قليل من الحظ" إلى قضايا عديدة يدخل فيها البعد النفسي، لماذا تطرقت إلى هذه القضايا، ثم ألا ترى أنها تحتاج إلى جهد مكثف في عالم النفس؟

- أميل الى القصة التي توظف الإيحاءات والتلوينات النفسية، والإشارات، وصور المكان التي تعكس الحالات الجوانية للشخوص، وتبرز المفارقة الإنسانية. أميل الى القصة التي تستكشف عالم الانسان الداخلي أمام المتغيرات الخارجية، وتفتح مساحة من التأمل أمام القارئ ازاء الحياة. إن التزام الإنسان بقيمة ذاته والمثل والقيم المستندة الى وعيه، ورفض تدخلات قوى الظلام والميتافيزيقيا تستحق أن تكون موضوعاً للإبداع على اختلاف أجناسه. لدي اهتمام منذ أيام الدراسة الجامعية بالقراءات النفسية، ومنهج النقد المستند الى التحليل النفسي ليس في إطار فرويدي ولكن في إطار أوسع وأشمل لمن جاؤوا بعده.



رابط الحوار في الغد الثقافي

رابط صفحة الغد الثقافي / نسخة pdf


الاثنين، أغسطس 30

الابداع عمل تنويري يجب الا يتوقف




الابداع عمل تنويري يجب الا يتوقف


مشاركة في حوارية مع صحيفة الدستور


نشرت جريدة الدستور في عددها يوم الاثنين الموافق 30/8/2010 أراء عدد من الكتاب حول قضية مهمة تتمثل في الاجابة  على تساؤلات حول مشروعية توقف الابداع، وفيما اذا كان على المبدع أن يتوقف اذا بلغ ذروة العطاء- رغم أن السؤال ينطوي على افتراض نظري يتعلق بحقيقة إن كان للابداع ذروة واحدة يتوقف بعدها، أم أن المسألة مثل تسلق سلسلة من الجبال الشاهقة، التي كلما وصل المبدع قمة أحدها، التقط أنفاسه، وطمح الى بلوغ القمة التالية الاعلى وهكذا. وفيما يلي مشاركتي في هذه الحوارية:

اياد نصار:

تنضج التجربة الابداعية مع مرور الوقت. وبعكس كثير من النشاطات الانسانية التي ترتبط بالعمر ارتباطاً وثيقاً، بحيث تعارف الناس على سن معينة يبلغ فيها العطاء ذروته كالالعاب الرياضية والموسيقى والغناء، فإن الابداع الادبي لا يرتبط بسن معينة يتوقف عندها، بل يستمر بلا حدود طالما امتلك الانسان الرغبة في البوح، والتعبير عن التجربة، وايصالها الى الاخرين في قوالبها الابداعية المتعارف عليها أدبياً ونقدياً. لقد كتب الروائي الطاهر وطار روايته الحادية عشرة والاخيرة "قصيد في التذلل" في الصيف الماضي وهو في المستشفى وعمره ثلاثة وسبعون عاماً، وجهد في انهائها، رغم مرضه، قبل وفاته بأشهر قليلة ونشرها مسلسلة في جريدة الشروق. لم يكن دافعه الشهرة ولا المال ولا المجد، بقدر ما كان ــ كما قال أمين الريحاني ــ "قل كلمتك وامش". وما تزال العجوز الانجليزية دوريس ليسنغ تكتب رواياتها حتى اليوم، وكانت أكبر الادباء سناً حينما منحت نوبل في العام 2007. من حق المبدع الذي أفنى سني حياته في خدمة الادب والفكر والانسان أن يتمتع بالتكريم والتقدير والدراسة والاستحقاقات المادية لكتبه وجوائزه، وقد يستمر ذلك سنين طويلة وخاصة في مجالات العوائد المالية من حقوق الطبع والنشر، ولكن الابداع يجب ألا يتوقف عن العطاء لأي سبب كان الا استلاب الحرية. أعتبر أن من يتقاعد عن دوره التنويري كمن ينظر الى الابداع نظرة وظيفة رسمية تتوقف عند سن معينة، ليعيش بعدها على الذكريات و"راتب الضمان الابداعي" المتأتي من عوائد النشر والجوائز! ولكن الاديب الذي يفعل ذلك يرسل قلمه الى الموت الاختياري، ويمارس الانتحار الادبي وهو ما زال حياً! ولست مع فتح المنابر مرة تلو الاخرى أمام المبدعين لإعادة عرض بضاعتهم التي مضى عليها عقوداً اذا لم يكن هناك جديد، فالامر عندئذ ليس الا وسيلة للتكسب، واجترار الذكريات، واشعار الجميع بأنه ما زال موجوداً.

* اللوحة أعلاه بعنوان وجوه وملامح واحدة للفنانة نهى أسد - الامارات العربية المتحدة

 رابط الصفحة الكاملة في جريدة الدستور

الأحد، أغسطس 29

ولادة قصيدة



ولادة قصيدة
قصة قصيرة
اياد نصار


* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم 29/8/2010

مضت عليها سنوات طويلة، لكنها تعود من النسيان، كلما قال أحد أنه كتب قصيدته الاولى. وهي كانت قصيدتي الاولى والاخيرة. في تلك السنة التي التقت فيها نظراتنا، اشتعلت النار في كل مكان، وعلى كل جبهة. كان القلب خالياً، وربما مستعداً لخوض فصل جديد من حلم أعرف أنه لن يدوم طويلاً. حركت ابتسامتها الخاطفة الباهتة شيئاً غامضاً في القلب، وايقظت الإحساس بوخزٍ ناعمٍ في الاعماق. لم تكن سوى لحظات عابرة تتلاقى فيها العيون.. ابتسامات باهتة متبادلة.. خفقة في الصدر.. صمت. ثم ينتهي كل شيء. سرعان ما كنت أنسى التفكير فيها بمجرد ابتعادنا في زحمة الآلاف، الذين يبحثون عن أحلامهم بين تمرد خجول وخواء عاطفي مزمن.


ممر مزدحم ضيق ذو سقفٍ عالٍ في آخره يقع مكاننا المفضل. مطعم صغير معتم في سقفه ثريات صغيرة، ينبعث منها ضوء أصفر، يقع على طالاوت خشبية مصقولة لامعة، فتبدو بعض ملامح وجوه الجالسين. شاب وصديقته يحتسيان قهوة ويدخنان سيجارة. شابان وفتاتان فردوا بعض الكتب والأوراق أمامهم. يدور نقاش خافت بينهم، تتخلله ابتسامات، تعلو أحيانا فيكتمونها بسرعة. وفي آخر الصالة الى اليسار، جلس جابر وجمال. ألقيتُ الكتب جانباً وسحبتُ كرسياً وجلست. يدخن جابر سيجارته بأناقة كالمعتاد.. ينظر بعمق الى جمال وهو يتحدث عن صديقاته. جابر كثيرُ الصمت والتأمل ونادراً ما يتكلم. اذا تكلم، رأيت في حركات يديه طرازاً رفيعاً لمفكّر يتقمص الدور ببراعة. يضحك أغلب الوقت لأبسط التفاصيل ويصغي بانتباهٍ بالغ. لا تثيرني قصص جمال الغريبة عن صديقاته. جمال مقتول من الداخل. لا يستهويه المكان ولا الدراسة. منعزل عن الاخرين. أستغرب كيف أصبح صديقاً لنا. ربما تمجيدنا للقصص التي كنا نقرأ عنها من عالم العزلة والمعاناة وقصص الحب الفاشلة هو السبب! لا يزال جمال يقتات على ماضيه. كل القصص التي يرويها لا تمت للحاضر بصلة.

توقف جمال حينما وصلت. يبدو أنه وصل نهاية المغامرة! استخرج جابر ورقة من جيبه، وقال بصوت ينم عن ثقة واستغراق:
- إستمعا.. أريد رأيكما بها.
أخذ جابر يحضرنا نفسياً لاستقبال قصيدته. قال بابتسام: "هناك دائماً قصص وإشارات وأساطير. أصغيا باهتمام. لا أريد أن تقولا لي جميلة. لا تهمني مفاهيم الجمال". أعرف جابر لا يحب شوبنهاور! يغريه نيتشه في تمجيده للقوة التي لا ترى مكاناً فيها للضعيف. لا يحب جابر الشهرة ولا يطيق جماعات البشر الكثيرة. لا يحب أن يلفت اليه الانتباه، لكنه يظن أنه أديب عظيم لا بد أن يعرفه العالم يوما ماً، ولو بعد موته بقرون!

قرأ جابر قصيدته الانجليزية بلكنة واضحة متمكنة. من يسمعه يلقيها يظن أنه أنجليزي حتى النخاع، وليس إبن فلاح بسيط لم يغادر خارج حدود قريته في سنوات عمره كلها! أذهلنا بالايقاع في قصيدته. لم نفهم منها شيئاً كثيراً، لكنها بدت جميلة متناسقة. بعدما إنتهى من الالقاء سألنا عن رأينا فيها، فضحكنا: كم هي محظوظة لتبقى تكتب لها وهي بعيدة! إبتسم ولم يقل شيئاً. سألنا عن مغزى صورة رمزية فيها ليعرف إن كانت براعة تأليفه واضحة! فلم نستطع جواباً! زمّ شفتيه إمتعاضاً ثم ضحك وقال: أعرف أنكما غبيان، ولكن ليس لي سواكما ليسمعاها!

في الخارج كان الجو ينذر بالترقب، وكانت العيون تنتشر من حولنا في كل مكان. رسائل الاستدعاء والتحقيق تصلنا بشتى الطرق. حرب خفية تدور من حولنا. النشرات الخضراء أو الحمراء توزع سراً. دعوات الى الاعتصام والاحتجاج تضعها أيدٍ على اللوحات. تمتد أيدٍ أخرى اليها فتمزقها قبل أن تتجمهر حولها العيون! الصراع على أشده. إحساس بالعجز والخيبة يطغى على الوجوه. كنا نلوك هامشيتنا على رصيف الحياة، ونحس ببرد الدنيا. في يوم شبه ثلجي تلك السنة، حين كان البرد يهطل خارج النافذة، بقينا نردد قصة فتاة إليوت الايرلندية! لكننا نحلم أن نكون شيئا ما ذات يوم، فنظل نقرأ نيتشه في كل لقاء!

يتحدث جابر دائماً عن إمرأة يحبها ويكتب لها قصائده. إمرأة مختلفة كما يقول. عرفناها من قصائده من غير أن نراها. رقيقة حزينة تعشق الشعر والموسيقى. كنا نستغرب حديثه الدائم عنها، ولم نرها معه ولا مرة. ذات يوم اتفقتُ أنا وجمال أن نكشف السر! قلنا له بصوت واحد: لا داعي لتأليف قصص الحب! نعرف أنها مختلقة لأجل الشعر ليس الاّ! فغضب واعترف! "كانت تسكن في الجوار. وقبل أربع سنوات سافرت الى بريطانيا، لم يعد بيني وبين سجى سوى الرسائل".

سرحت بأفكاري قليلاً. تذكرت نجلاء ونظراتنا اليومية العابرة وابتساماتنا الباهتة. أكثر من سنة تتلاقى عيوننا، ولا نجرؤ على تبادل الكلام. نجلاء خجولة وتحب العزلة. لا تشارك أثناء المحاضرة، ونادرا ما تتكلم. في المرات النادرة التي سمعتها، كان صوتها ناعماً خفيضاً. لم تكن تثير انتباهي، ولا أظن أنني كنت أثير انتباهها أول الأمر. ثم بدأت تتلاقى النظرات بعد ذلك من غير أن تبدو على وجهها أي إشارة. بعد فترة بدأت أشعر باهتمام غامضٍ في عينيها، ولكن لم يكن لديّ جرأة سوى نظرات خاطفة!
أشعلت أحاديث جابر عن سجى حنيناً في داخلي. أحسست به ولكنني لم أبح به. ماذا سأقول؟! هل أحكي لهما عن نظرات خاطفة؟ هل أحكي عن مجرد ظنون أسميها حباً؟! لا بد أن الامر سيصبح موضع تندرهما الدائم!

في تلك الليلة اتصل جابر، وقال إنه يريد أن بسمعني بعض القصائد. أعددت المكان في غرفتي الصغيرة. حضّرت الشاي وموسيقى موزارت التي يحبها. كان لدينا فونوغراف قديم وبعض الاسطوانات التي اشتراها أبي ذات يوم من صديق كان يسكن في بنايتنا. غرفتي في الطبقة الارضية، ولكن جهة الشباك فيها مرتفعة عن سطح الارض. في النهار تمتد الاعشاب والحشائش الخضراء التي تملأ البستان أمامي. وفي الافق البعيد تبدو الجبال مثل لوحة فنية.

في السهرة رأيت جابر العاشق والشاعر والفيلسوف كما لم أره من قبل. كان في عينيه قلق واضطراب. كان مثل "هاملت" في مناجاته ولحظات جنونه. رأيت فيه كل تناقضات العالم: القوة والضعف، الحياة والموت، الناس والعزلة، الرقة والجبروت، حب الذات وإيثار الاخرين. ولعله صار صديقي لأن فيه كل هذه المتناقضات! لطالما سألت نفسي إن كان يعشق صديقته أكثر من شعره أم يعشق شعره أكثر لأجلها. تحركت مشاعر غامضة في قلبي. فكرت في نظرات نجلاء وابتسامتها الخجولة.

شعرت بالغيرة. قررت في تلك الليلة أن أكتب قصيدتي الاولى. لم أكتب الشعر في حياتي قبلا، ولكن الشعر كما يقول جابر لا يحتاج أكثر من عاطفة متقدة. بقيت طول الليل أفكر كيف أبدأ قصيدتي. صرت أكتب وأحذف، ثم أكتب مرة أخرى، ثم أمزق الورقة! لا أذكر كم مزقت أوراقاً، لكنني أذكر أنه لم يبق سوى وريقات قليلة في دفتري. بقيت سهراناً طوال الليل ألملم أطراف عباراتي. وفي النهاية ولدت قصيدتي الأولى. شعرت بالسعادة لهذا المخاض. ستكون نجلاء سعيدة بها. شعرت بجرأة غير عادية تجتاحني.
في الصباح بعد أن أنهيت محاضرتي أسرعت الى المكان ذاته الذي اعتدنا أن نتلاقى فيه في تلك الساعة. بدأ قلبي يضطرب وأنا أنتظر مرورها. قررت أن أضع حدا للنظرات العابرة التي تموت في ساعتها. سأبوح لها بما أشعر به. شعرت أنني ما أزال مترددا مرتبكاً. بل سأعطيها القصيدة وأمشي. ستعرف بحقيقة مشاعري وعندذاك لا بد أن تخطو خطوتها الأولى نحوي. انتظرتها ، ولكنها لم تمر. بقيت أنتظر وقلبي يزداد خفقاناً. مضت ربع ساعة طويلة، وانا أنتظر بقلق واضطراب. لم تعد هناك أعداد كثيرة تمر من الساحة. مرت نصف ساعة ولم تأتي. أيقنت أنني لن أراها ذلك اليوم. مشيت بضع خطوات متثاقلا متأنياً. تلفت حولي لعلي ألمحها من إتجاه آخر. فقدت الامل في مرورها. أعدت القصيدة الى جيبي. تأكدت من أن كتبي في يدي ومشيت.

شعرت بالحيرة وخيبة الامل. لم أعرف أين أذهب. ليس هناك سوى مكاننا اليومي العتيد. دخلت المطعم بأضوائه الساحرة الخافتة. رأيت جابر وجمال يجلسان إلى طاولاتنا المعتادة في الزاوية نفسها. أشرت لهما بيدي ومشيت نحوهما. عندما جلست، لمحت عيني نجلاء تجلس الى طاولة في الزاوية الاخرى وهي تضحك، وأمامها شاب بدا منسجماً في الحديث اليها! امتدت يدي الى جيبي وعجنت الورقة في يدي. لحسن الحظ لم يعرف أحد عن ولادة قصيدتي الاولى!

** اللوحة أعلاه للرسام البريطاني ويندهام لويس وتمثل بورتريه للشاعر تي اس اليوت
رابط الصفحة بجريدة النهار
 
رابط نسخة الصفحة للطباعة
 






الاثنين، أغسطس 23

الطاهر وطار



      
الطاهر وطّار وارهاصات التحول من القصة إلى الرواية
* نشرت في جريدة الدستور الاردنية / الملحق الثقافي بتاريخ 20/8/2010
إياد نصار

في لغة تنبؤية تنم عن الإحساس المثقل بهاجس الموت القادم ونهاية الحياة، وعن الوعي الكبير بإمكانية خلود الأدب من خلال نشر خلاصة التجربة الطويلة التي امتدت نحو نصف قرن، منذ أن أصدر مجموعته القصصية الأولى، في عام 1961، كتب الروائي الجزائري، الطاهر وطّار، قبل نحو أربع سنوات، في تقديم موقعه على الإنترنت، والذي هجره من بعد ذلك: "هذا موقعي وهذا مزاري، أعددته بنفسي كي أقترب منكم أكثر فأكثر ـ أنتم الطلبة، والباحثين، والمهتمين بالأدب ورجالاته. أشعر، وأنا أنهمك في إعداد هذا المزار، أنني أعد قبراً شبيهاً بقبور الفراعنة، الغاية منه أن نتواصل مع الآخرين عبر الزمن. إنني، عندما أكتب، أفعل ذلك لأتوحد مع الكون بكل ما فيه. ستتعرّفون عليّ شيئاً فشيئاً، فليس من السهل ملء هذه الفراغات..."


وقع خبر رحيل الطاهر وطار، يوم الخميس الماضي، على مسمعي موقع المفاجأة، ليس لأن الموت يفاجئنا دائماً، وليس لأن أحداً في منأى عن سيفه البتار، وليس ـ بالطبع ـ لأن وطاراً كان أدخًل، قبل رحيله، المستشفى في حالة حرجة من صراعه مع السرطان، بل لأن وطاراً غاب منذ فترة تقارب السنتين عن الساحة الثقافية العربية بسبب المرض، وهو الذي لم يكن يغيب عن ساحة المساجلات الأدبية والسياسية والفكرية.


ووجدت أنه، ربما، ليس من الغريب، أو من المصادفة، أن الكثير من عناوين رواياته ومجموعاته القصصية تصلح لتأبينه في هذه المناسبة: فالموت كان ـ وما يزال ـ هاجساً كبيراً في أعمال وطار، فبعد أن "رفع الولي الطاهر يديه بالدعاء"، انطفأت "شمعته في الدهاليز"، وانتقل إلى "مقامه الزكي". ولكنه "سيعود مثل الشهداء، هذا الأسبوعَ"، إلى الحياة، بوصفه أحد المبدعين العرب الكبار.


يشكل رحيل الطاهر وطار خسارة كبيرة للأدب العربي في الجزائر خاصة، وللأدب العربي عامة: فقد قدم عدداً من المجموعات القصصية والروايات المهمة، التي رصدت ـ في قالب فني سردي إبداعي متميز ـ الكثير من جوانب النضال الوطني، وما يصيبه من الفساد والقهر والانتهازية السياسية، والظلم والتخلف، وتناولت ـ بالنقد المر، الساخر، أحياناً ـ مفاصل مهمة من مشاهد الحياة السياسية والاجتماعية والتاريخية المعاصرة في الجزائر، واختزلتها، وأعادت تقديمها بطريقة كشفت الكثير عن المخبوء في ثناياها من نقد وواقعية، من بعد أن ران عليها عهد من التمجيد الثوري، الذي لم يكن يسمح بتناولها كما تناولها الطاهر وطار، بأحداثها وشخصياتها وأجوائها، بلغة شعبية واقعية تستلهم الموروث الشعبي والديني الجزائري في مواجهة متطلبات الحداثة والعصرنة وتحولات المجتمع من الداخل.


شكل الطاهر وطار ظاهرة فريدة في الجزائر: فقد كان ممن التحق بجبهة التحرير الوطني الجزائرية منذ بداية شبابه، وهو لم يبلغ العشرين، بعدُ، وتربى على فكرها، وشارك في النضال ضد الاستعمار حتى استقلت الجزائر في عام 1962 ، غير أنه سرعان ما بدأت مشاكله مع السلطة الوليدة حين أغلقت صحيفة "الأحرار"، التي أسسها في تلك السنة، ومن بعدها صحيفة "الجماهير"، وثم صحيفة "الشعب"، على اعتبارها تجمعاً للكتاب الماركسيين اليساريين. لقد باشر وطار نقد ممارسات السلطة وانحرافاتها منذ البداية، في وقت كانت فيه محل تقدير الجميع ـ في الداخل والخارج ـ حيث كانت للجبهة مكانة وقداسة كبيرتان، لكونها قادت النضال طيلة سنوات الجمر، وقدمت الكثير من التضحيات، وأنجزت الاستقلال.


ورغم أنه تلقى ثقافته الأولى في إطار إسلامي تراثي، من خلال مدرسة كانت تشرف عليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أسسها عبد الحميد بن باديس، ومن ثم بمعهد ابن باديس وجامعة الزيتونة في تونس، إلا أن وطاراً صار ماركسياً يسارياً. ورغم يساريته، فإنه لم ينقطع عن مكونات ثقافته الأولى، التي تأثرت، بالاضافة إلى تعليمه، بمكانة أسرته الدينية والاجتماعية ذات الأصول البربرية، حيث كان شديد الارتباط بخصوصية المجتمع الجزائري وتاريخه النضالي ومكوناته التراثية، بخاصة اللغوية العربية، ولعل ذلك تبدّى في تمسكه باللغة العربية والدفاع عنها، حيث كان من أشد الأصوات المعارضة لتيار الثقافة الفرانكوفونية، الذي هيمن على الساحة الأدبية في الجزائر قبل الاستقلال، وبعده، وحتى أواسط الثمانينات من القرن الفائت، حين بدأت الأصوات الروائية والشعرية التي تكتب بالعربية تكتسب زخماً وتفرض حضورها على الساحة. ولكن سرعان ما خرج الطاهر وطار من الجو الشعبي والصوفي الديني إلى ما سمّاه أجواء الحداثة، حين تعرف إلى نتاجات الأدب العربي المعاصرة بنزعتها التنويرية التحديثية، بالإضافة إلى تواصله مع الأدباء خارج الجزائر.


حينما يذكر الطاهر وطار، يذكر معه الجمعية الجاحظية للثقافة، التي أسسها في عام 1989، لنشر الثقافة والدفاع عن اللغة العربية. وبعدما أسَّست الجمعية جائزة "مفدي زكريا" للشعر ـ نسبة إلى شاعر الثورة الجزائرية وصاحب النشيد الوطني المعروف ـ قبل نحو عقدين، قامت الجمعية بتأسيس جائزة "الهاشمي سعيداني" للرواية، لتكون توأماً لجائزة الشعر، بغية تطوير التجربة الروائية في دول المغرب العربي، ودعم الأصوات الشابة.


لا بد من الإشارة إلى أن وطاراً تبنى مواقف مختلفة ومعارضة لمواقف السلطة طيلة حياته، وربما كان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى تقاعده، مبكراً، من العمل العام: فقد كان معارضاً منذ البدء لانقلاب هواري بومدين، وكان ضد استخدام مصطلح الإرهاب الذي عصف بالجزائر في عام 1992، حين ألغيت الانتخابات التشريعية، ودخلت من بعدها الجزائر في نفق مظلم أطلق عليه مرحلة "العشرية الدموية".


ترك وطار خلال مسيرته الأدبية عشر روايات وثلاث مجموعات قصصية، وما بينهما نال العديد من الجوائز كان آخرها جائزة سلطان العويس للرواية في عام 2009، وحظي بالتكريم في الجزائر، وفي العديد من المحافل الثقافية العربية والعالمية، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والروسية والبرتغالية، وحتى العبرية.


بدأ الطاهر وطار تجربته السردية في أوائل الستينيات، حين كتب مجموعته القصصية الأولى بعنوان "دخان من قلبي"، والتي نشرها في تونس في عام 1961 بسبب ظروف النشر الصعبة ـ في تلك المرحلة ـ والتي أشار إليها، لاحقاً، في مقدمة روايته "رمانة". ومن بعدها، بعشر سنوات، أصدر مجموعته القصصية الثانية في الجزائر بعنوان "الطعنات". وقد وصف علاقته بالقصة القصيرة، في لقاء أجرته معه مجلة أقلام العراقية بقوله: "القصة نسيج حياتيّّ كامل قائم على الإحساس والإدراك، وهو شيء واحد مرتبط جدلياً: المحتوى والتكتيك. أنا موغل في الواقعية الفنية التي تسمو بالواقع إلى مرتبة فنية عبقرية، وكثيراً ما أطعّم الواقع بالرمز لجعل قصتين تنموان في خطين متوازيين: واحد واقعي، وآخر رمزي شفاف، يجمع بينهما خط عاطفي واحد يواصل أحداث الشحن العاطفية في جو من الانبهار".


كما أصدر، في العام نفسه الذي أصدر فيه مجموعته الثانية، روايته الأولى "رمانة". كانت "رمانة" قصة طويلة - في حدود خمس وستين صفحة - ضمن مجموعة "الطعنات"، وقد اقترح عليه بعض الكتاب والأصدقاء فصلها لتكون رواية بحد ذاتها، ففعل. كتب يقول في مقدمتها: "ها هي، رمانة، تستقل بنفسها، وتخرج من مجموعة الطعنات، فلقد اقترح ذلك كل من كتب عن المجموعة تقريباً. بل، إن بعضهم وصف رمانة بالاضطهاد، عندما اعتبرت قصة قصيرة. لقد فرضت ظروف النشر الصعبة ـ في الستينات ـ أن يعمد الكاتب إلى جمع أقصى حجم ممكن من كتاباته في كتاب واحد، ليتيح للناس الاطلاع عليها، لأنه متأكد من أن فرصة صدور كتاب آخر له، نادرة جداً، ولربما لن تتكرر مرة أخرى".


كانت تلك الرواية مرحلة الانتقال بين لون أدبي ولون آخر، حيث لم يكتب بعدها قصة قصيرة إلا مجموعة أخيرة أصدرها في عام 1974، بعنوان "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، ليتحول، من بعدها، نهائياً إلى الرواية التي حملت همومه السياسية في إطار مشترك من الواقعية الرمزية. وقد ظل وطار يؤكد أن الروائي الواعي ليس ـ في حياته ـ سوى رواية واحدة يظل مخلصاً لها، يتناولها من زوايا مختلفة، وبدرجات ضوئية متعددة، وإن رواية الحياة ـ في إطارها الزماني والمكاني ـ هو الذي يعطيها خصوصيتها.


من يدقق في مجموعاته القصصية، يكتشف أن إرهاصات التحول، لدى وطار، من القصة نحو الرواية، كانت متوفرة وحتمية، وتشي بقرب حدوثه: فمعظم نصوصه طويلة أكثر مما هو مألوف في القصة القصيرة العادية. ففي مجموعة "الطعنات"، التي أصدرها في عام 1971، والتي تحتوي على اثنتي عشرة قصة، تتراوح صفحات القصص فيها، باستثناء اثنتين منها، ما بين ست وسبع عشرة صفحة. وتفتتح المجموعة الثانية، التي تضم عدداً من القصص الطويلة، بقصة "الشهداء يعودون"، التي جاءت في ثماني عشرة صفحة.


تناولت أغلب قصصه، من مثل: "الطاحونة"، و"الأبطال"، و"الطعنات"، و"يوميات فدائي"، و"اليتامى"، و"الرسالة"، و"الشهداء يعودون"، ظروف الجزائر الصعبة، والثورة، والاستقلال في بداية الستينيات. غير أنها امتازت بفتح زاوية عريضة على مساحات واسعة لطرح قضايا كبرى كالمعاناة، وإبراز الفقر والظلم واستغلال مكتسبات الثورة، ونقد سلوك بعض العسكريين الانتهازيين، والثوار الذين أصبحوا أكثر عسفاً من المستعمر، وتحليل تصرفات الناس ما بين قابض على الجمر، وما بين مستغل للظروف والشعارات. ويستطيع القارئ أن يتلمس، بسهولة، أن القصص تتناول أكثر من مجرد حادث مكثف ينطوي على موقف إنساني، كما هي الحال في الغالب في القصة التقليدية. وبهذا، كان وطار صاحب نَفَس روائي في قصصه منذ البداية. وأعتقد أن القصة القصيرة لم تكن مجاله الذي يقدر أن يستوعب طاقته الإبداعية الهائلة: فقد كان يملؤها بهموم الوطن ومعاناة الناس والنقد السياسي أكثر مما تحتمل. تنتقد قصة "الطاحونة" الطويلة الفساد الذي اعترى الثورة من قبل بعض المتسلقين والمستفيدين: "هل كان أبوه قائداً بطلاً؟ بالأمس سمعتهم يتحدثون عما تقاسيه زوج ابن بولعيد وابنها من فاقة وعوز، اقتسمت الثورة والاستعمار أموال ابن بولعيد الطائلة. الاستعمار ارتحل، وأبناء الشهداء يتضورون جوعاً، والطاحونة". وهذا موضوع احتاج روايات، في ما بعد، من الأدباء الجزائريين للحديث عنه.


ويقول في مواقع أخرى من القصة نفسها، في نقد قاس للثورة، ولممارسات منتسبي جيش جبهة التحرير، بعد الاستقلال: "نحيا، كما لو كنا في معتقل رهيب، لا في مركز، من أهم مراكز جيش التحرير اليوم، وأهم قلعة للعدو في قلب الأوراس، بالأمس القريب. هذه المكاتب الخالية من كل أثر للحياة، تعبر عن نفسياتنا... مساكين، أيضاً، أصحاب هذه المكاتب، أبناء الفلاحين الفقراء والعمال الكادحين ومعلمو القرآن، الذين تحولوا إلى جنود وإلى ضباط بحكم البذلة العسكرية، لا تستطيع نفسياتهم أن تنتظم عفوياً ومن تلقاء نفسها. الثورة ليست عاصفة هوجاء تقتلع الأشجار وتخرب السدود وتحطم القرميد، إنما غيث سحساح، يجرف الطحالب والأغصان الهشيمة ويغذي العروق الحية، لتزهر الحياة وتخصب وتثمر... الثورة، التي لا تتخذ المثقفين الثوريين سماداً لها، ستظل تسير عرجاء".


وفي قصة "الأبطال"، نرى البطل كاتباً يخلق مجموعة من الشخصيات، ويتحكم بمصائرها، فيجعل مصير البعض منهم الاتهام في الخيانة والغدر، والبعض الآخر يصبح بطلاً ممجداً. يبدو توظيف الرمز في خط مواز للقصة، كما قال، مثلما يبدو النقد واضحاً في اتهام السلطة التي تتحكم بمصائر البشر، حيث تستطيع أن ترسم النهاية التي تريد لأي كان. "أبطال قصة ما. ما هم؟ لا شيء.. مجرد حروف سوداء على ورق أبيض، تتهددهم ـ بين لحظة وأخرى ـ سلة المهملات.. جرة قلم فقط.. قرار الخالق.. فيمسخون إلى مجرد حثالات عادية، يمضغون الأشواك الجافة، وسط القطيع الأعمى، الأحمق".


وفي نهاية القصة نسمع صوت أحد الشخصيات يشكو ويقول: "سيدي الكاتب، حين كنت في محفظتك، اطلعت في القصة المهملة أن الشهداء عادوا إلى الحياة، فاغتالهم الأحياء... دعني أفكر ملياً سيدي". وقد طرح وطار هذا المفهوم الذي ينطوي على سخرية واضحة، ونقد لأحوال البلاد ـ بعد الثورة ـ في قصته القصيرة المشهورة، "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، التي نشرها في عام 1974، كما عاد وطرحها، مرة أخرى، في روايته الشهيرة، "اللاز".


يميل الطاهر وطّار إلى وضع القارئ في أجواء القصة مباشرة، من خلال البدء في أحداث الحبكة، وربما من بداية تأزمها، والابتعاد عن المقدمات الوصفية، حيث نراه يميل إلى توظيف الحوار ومناجاة الذات لخلق الجو عام لمحاور القصة الأساسية، وإلى تقديم شخصياته من خلال أحاديثها المتبادلة ومناكفاتها وصراعاتها وجدالاتها، وإلى تطوير الحدث أكثر من ميله إلى وصف المشاهد الجامدة. وقد اتسمت أعماله، بالإضافة إلى التركيز على الحوار، بالتركيز على حركية القصة، وتفاصيل الأحداث الواقعية، وتعدد الشخصيات وصراعاتها، والإكثار من سرد تفاصيل حياة الشخصيات، وأفعالها، أكثر من ميله إلى التأمل الفلسفي أو النفسي أو الوصف، وهذا ما تابعه لاحقاً في رواياته، خاصةً رواية "اللاز" (1974)، ورواية "عرس بغل" (1983).


تابع الطاهر وطار طرح بعض المحاور والقضايا الأساسية وتقديمها، والتي كان قدمها في قصصه، في بداية مشواره، من مثل: "الرسالة"، و"الدروب"، و"البخار"، و"السباق"، و"رقصات الأسى"، و"جارتي الملكة"، في الروايات لاحقاً، وخاصة الموت وهواجسه وتوظيفاته، وتأثير الأساطير الشعبية في حياة الفقراء والفلاحين، ومعاناة المحرومين، وصراعات الثوريين الدموية، والتحولات الاجتماعية، وتقارير المخبرين السرية، وافتراس الثورة أبناءها، وصدمة إدارة الدولة بعد الثورة، والاستغلال السياسي. كما تابع توظيف التاريخ الذاتي الشعبي، كما في روايات: "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" (1999)، ورواية "الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء" (2005).


عكست قصصه القصيرة، منذ البدايات، أسلوبه في استخدام السخرية والتهكم في طرح بعض القضايا، من مثل قصة "جارتي الملكة"، وقصة "يوم مشيت في جنازتي ومشى الناس"، التي أهداها إلى د. جابر عصفور. وأقتبس من نصها هذه المقتطفات، للدلالة على هذا الأسلوب الذي امتاز به، واستمر معه في رواياته: "أنا ممدود في نعش أخضر أحضروه من المسجد، لم يجف الماء الذي غسلوني به، بعد... ذلك أنهم لم يكلفوا أنفسهم إحضار منشفة، من المناشف العديدة التي كانت في خزانة الحمام، بعضها أبيض، بعضها وردي، بعضها أزرق باهت. نسيت أنني لست في بيتي.. المعذرة". ويمزج بين النقد الاجتماعي والسياسي الساخر، بقوله: "كان الجميع يتوجهون بالعزاء للسيد الوزير والسيد الكاتب عام للوزارة، والسيدة مديرة الديوان، دون السؤال عما إذا كان هناك أحد من أهل المرحوم الذين يتقبلون العزاء.. الحق يقال، كان الوزير ومن معه من وزارته ومن زملائه الذين سبقوه في هذه الوزارة، وقد استنفروا جميعهم، أحسن من يقدم له العزاء، فقد كان الحزن يطفح من النظارات السوداء التي تغطي أعينهم...".

* اللوحة أعلاه للفنان الجزائري محمد خدة، مستغانم، بعنوان متحرر من الابجدية 

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة



الجمعة، أغسطس 6

مسرح الحياة بين الشابي وشكسبير


مسرح الحياة بين الشابي وشكسبير

اياد نصار
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم 6/8/2010

عُرف أبو القاسم الشابي على نطاق واسع بدعوته للامل وللكفاح وللايمان بالارادة سبيلاً لتحقيق الخلاص حتى صار بيت الشعرالمشهور:
اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
رمزاً ومثلاً سائراً يتردد على كل لسان لتجسيد هذه المعاني. وارتبط البيت بالشابي ارتباطاً وثيقاً، فلا يذكر الشابي الا ويذكر معه، واذا ذُكرت ارادة الشعوب التي لا تقهر فسرعان ما يخطر الشابي في البال. وعرف الشابي بتعبده في محراب الطبيعة الجميلة يستلهم منها الجمال والالهام وانطلاق الخيال وسمو الروح، كعابدٍ يؤدي صلاته في هياكل الحب في الغابات وعند الجداول. وكان يجد في الهروب الى الطبيعة متعة الروح وبهجة البصر وشرود الفكر ونعيم العزلة والاحساس بلذة الترفع عن جموع النائمين في المدن النائمة.


ورغم الصورة المتفائلة المفعمة بالتحدي والامل، ورغم قسوة الشابي في نقده للضعفاء المستسلمين، وشدة بأسه على ظلم المستعمر، إلا أن الشابي، وعلى عكس ما يظن كثير من الناس، كان في أحيان كثيرة يستسلم لليأس، فتراه سوداوي النظرة، مكتئباً متشائماً، لا يرى أي بصيص أمل في قدرة الانسان على قهر القدر وتغيير المصير.
خذني إليكَ فقد تبخّر في فضاء الهمّ عمري
خذني فما أشقى الذي يقضي الحياةَ بمثل أمري
يا موتُ نفسي ملّت الدنيا ، فهل لم يأت دوري؟ !


وتعكس قصائد الشابي هذه الروح اليائسة، حيث عبّر عن ايمانه بأن الحياة لعبة ساخرة، تحركها أيدي ساحر، والانسان لا حول له فيها ولا قوة. بل يبقى يتجرع مرارة الأسى في مسرحية الحياة التي قدّر له أن يلعب دوراً فيها ويمضي، لا بل يصبح أضحوكة الزمن:
ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ
ستجعلُنا الأيامُ أضحوكة َ الآتي
وتلكَ هِيَ الدُّنيا، رِوَايَة ُ ساحرٍ
عظيمٍ، غريب الفّن، مبدعِ آياتِ
يمثلها الأحياءُ في مسرح الأسى
ووسط ضبابِ الهّم، تمثيلَ أمواتِ


في هذه الابيات يطرح الشابي رؤيته للحياة. فهي ليس الا مسرح يؤدي فيها الاحياء أدوارهم. وهم ليسوا سوى أموات في رداء أحياء، فهذه الرحلة من لحظة دخول المسرح حتى الخروج منه قصيرة، يكتنفها الاسى والهمّ والغموض، ويواجه الانسان فيها مصيراً محتوماً.


وبذا يصور الشابي حياة الانسان بأنها دور يؤديه على المسرح. يضحك من يشاهده على من يؤديه، وهكذا فكل انسان لا مفر له من أن يمثل دوره الذي قدّر له وسط ضحك وسخرية من يشاهده. كما يرسم مفارقة بين الماضي والمستقبل، وبين مقتبل العمر وآخره، وبين بداية التجربة ونهايتها، فكأنما الانسان يلهو قصيرَ النظر غيرَ مدركٍ ما تخبيء له الايام من مآسٍ وبؤس، فيصير محل تندر الاخرين وضحكهم الساخر. والحياة فضاء واسع يكتنفه الحزن والشقاء مثل ضباب فتنعدم أمام الانسان الرؤية فينشغل بهمومه عن إدراك فلسفة الوجود:
ليشهدَ مَنْ خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها
وَيَضْحَكَ منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي
وكلٌّ يؤدِّي دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ
على الغيرِ، مُضْحُوكٌ على دوره العاتي


كما تطرح رؤية الشابي فكرة التعاقب وتبادل الادوار وانقلاب الحال وتبدله من الضحك على الاخرين الى البكاء على الذات، مما يذكرنا بفكرة اسطورة إلهة دولاب الحظ "فيورتونا" الرومانية والتي اشتق من اسمها كلمات حسن الحظ وسوء الحظ. ومن الجدير بالذكر أن الاديب الايطالي بوكاتشيو الذي ظهر في القرن الرابع عشر حينما اجتاح أوروبا مرض الطاعون الاسود، وانتشر الخوف من الموت على نحو مأساوي واسع، إلا أن ينجو منه الانسان بقدرة قادر، تناول قصة فيورتونا في كتاب القصص الذي ألفه، وهو الديكاميرون، والذي يعد أول عمل قصصي نثري بالمفهوم الحديث.


ومما يلفت الانتباه هذه الرؤية المقارنة المتطابقة بين الشابي، كما عبر عنها في شعره، وبين شكسبير، كما عبر عنها في مسرحياته، إزاء الحياة ودور الانسان فيها، وتقدم صورة مغايرة لما اعتدنا أن نرى فيها الشابي. بل إنه نوع فريد من التوارد الفكري في النظرة للحياة، ودور الانسان فيها بين الشابي وشكسبير رغم اختلاف العصر الذي عاشا فيه والثقافة المؤثرة في بيئة كل منهما. فشكسبير عاش خلال الفترة 1564 - 1616 من العصر الاليزابيثي، بينما عاش الشابي كالشمعة حياة قصيرة معذبة يملؤها الاحساس بالالم والمرض 1909 – 1934 في إطار بعيد تماما عن أجواء الثقافة الانجليزية. وقد أصبحت كلمات شكسبير التي جاءت في ثنايا بعض مسرحياته، وخاصة تلك التي عبر فيها عن رؤيته للحياة ودور الانسان فيها، أقوالا مأثورة تتردد دائماً.


وقد عبر شكسبير عن ذلك بصورة رائعة في مسرحيته التراجيدية "ماكبث" Macbeth التي كتبها في العام 1603، والتي يشار اليها أحيانا بالمسرحية الاسكتلندية، حين صور أن الحياة شمعة توقد، ثم لا تلبث أن ينطفيء ضؤوها سريعاً في اشارة الى دورة الحياة والموت. ثم شبه الحياة بمسرح في فقرته الشهيرة على لسان ماكبث في المسرحية التي تحمل اسمه في المشهد الخامس من الفصل الخامس في المناجاة المشهورة:
ما الحياة الا ظل يمشي أو ممثل أخرق
يهذر ويزبد خلال ساعته على المسرح
ثم لا يسمعه أحد. إنها حكاية
يرويها معتوه ملؤها الصخب والعنف
ولا تعني شيئا.


في هذا المقطع يعبر ماكبث عن عبثية الحياة وهو يرى زوجته الحبيبة وهي تموت منتحرة، والجيوش وهي تتحرك ضده، وتنقلب نعمته الى نقمة. وفيه تعبير عن ادراك يكتنفه اليأس من دورة الحياة والموت، إذ أن المقطع يبدأ حقيقة من اشارة ماكبث الى موت زوجته، وفيه آهات أسى من عجز ماكبث عن تغيير مصيره. كما أن بداية المقطع الطويلة تشير الى مجرى الايام الرتيبة المكرورة حتى نهاية الحياة والتاريخ. وعلى مستوى آخر، يمكن القول أن فيه اشارة ضمنية الى وهم مسرح شكسبير ذاته، الذي كان يملأ الدنيا في عصره، بل إن اسم مسرح شكسبير كان "الدنيا" أو "العالم" Globe، مما ينم عن ادراك خفي عند شكسبير أن هذا العالم ليس الا ظل ساعة ثم يحمل عصاه ويرحل.


وفي مقطع من مسرحية أخرى معروفة لشكسبير، وهي المسرحية الكوميدية المسماة "كما تحبها" As You Like It التي كتبها في العام 1600، والذي يعد من أشهر مقاطع شكسبير عن مفهوم علاقة الانسان بالمصير والاخرين ودور الانسان في الحياة، يصور العالم مسرحاً، والحياة مسرحية تؤدى عليه. في هذه المسرحية يطرح شكسبير موضوعا أثيرا متكررا طالما تناوله في مسرحياته وعاد اليه مراراً، وهو مفهوم اغتصاب السلطة من المقربين، حيث يستولي الدوق فريدريك على الحكم وينفي أخاه. لقد عزز هذا السلوك الذي انتشر كثيراً في التراث الاوروبي عامة عبر العصور من الاحساس بأن العمر مجرد مسرحية، يكون فيها الممثل تحت الاضواء ومحل نظر الاخرين وموضع اهتمامهم برصد كل حركاته وسكناته، ثم لا يلبث أن يطويه النسيان والظلام.


وفي هذه المسرحية نجد المقطع الذي يعد اشهر مونولوج طرحه شكسبير عن مفهوم الحياة والمسرح، حيث يؤكد شكسبير أن:
العالم كله مسرح
وكل الرجال والنساء ليسوا الا ممثلين فيه!
يدخلون منه ويخرجون
يؤدي كل انسان في عمره أدواراً كثيرة
وأعماله تمثل فصوله السبعة


وواضح فيه تشبيه حياة الانسان بفصول المسرح حيث يعدد المراحل السبع لحياة الانسان منذ أن يولد الى أن يموت. ويوظف الاستعارات في وصف كل مرحلة من حياة الانسان وهو يلعب الادوار التالية: الطفل الوليد، وصبي المدرسة، والعاشق كثير الاسى على الحب الزائل، والجندي الباحث عن المجد، والقاضي الذي يمثل الانسان العاقل الحكيم الذي نضجت خبرته، واكتسب مكانة، والكبير حين يفقد السحر والرشاقة والقدرة العقلية والبدنية، والناس تتندر عليه لضعفه الجسدي والعقلي، وأخيرا الطفولة الثانية حيث يصبح الانسان عالة على الاخرين كالطفل، وهو ما سمّاه شكسبير "الطفولة الثانية"، حيث النسيان واقتراب النهاية، وحيث الانسان "بلا أسنان أو عيون أو قدرة على التذوق أو أي شيء". ولم تكن هذه الاستعارة من ابتداع شكسبير بل كانت شائعة في زمانه.


وفي مسرحية "الملك لير" King Lear يشبه شكسبير صراخ الولادة بنوع من الاحتجاج على القدوم الى مسرح كبير من الحمقى. وفي مسرحية تاجر البندقية Merchant of Venice يقول غراتسيانو "إن العالم مسرح، وكل انسان يجب أن يؤدي دوره، ودوري أنا حزين".


أستبعد أن يكون الشابي قد اطلع على مسرحيات شكسبير أو ترجماتها خلال دراسته، وأزعم أنه لم يسمع حتى بشكسبير، وخاصة أنه لم يتوفر سوى على تعليم بسيط بسبب عمل والده في القضاء متنقلاً بين المدن التونسية، فهو قد عاش في ظل الارياف والقرى التونسية. واذا كان قد أتيح له الاطلاع على جوانب من الثقافة، فلا بد أنها كانت بالفرنسية، رغم أن الشابي لم يتوفر سوى على ثقافة عربية في الكتّاب وفي جامع الزيتونة لفترة قصيرة، حيث درس الادب العربي القديم والفقه، وخاصة بتأثير والده الشيخ الازهري الذي قضى سبع سنوات يدرس في مصر، حتى عاد قاضياً شرعياً. كما أن حياة الشابي القصيرة بسبب مرضه الذي أودى به في ريعان شبابه وعمره خمسة وعشرون عاماً، لم تتح له الاطلاع على الثقافات الاجنبية، ولكن رغم كل ذلك فإن التشابه في الرؤية واضح.


كما نستشف بشكل واضح هذه الصورة بينهما التي ترى في الانسان مجرد ممثل يؤدي دوره على مسرح، لكنه ممثل غافل سادر، أو ممثل معتوه يضحك الاخرون عليه، أو ممثل ساذج لا يدرك عواقب الآتي. ولا بد أن جذور فكرة تشبيه الحياة بالمسرحية والانسان بالممثل الذي يؤدي دورا على خشبة المسرح ثم ينتهي كل شيء قديمة، وأعتقد انه كانت تتردد اشارات بهذا الخصوص في زمان شكسبير أو وردت في المصادر الكثيرة التي اعتمد عليها لأخذ القصة التاريخية الاساسية للمسرحية مثل كتابات الروماني بلوتارك والايطالي بوكاتشيو وغيرها، وامتدت هذه المقولات في الثقافة الانسانية حتى وصلت الشابي، واستقرت الفكرة في اذهانهما من خلال قراءاتهما وتجربتهما في الحياة.

* اللوحة أعلاه بعنوان تمارين مسرحية للرسام الفرنسي ادغار ديغا (1834-1917)

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة




شجرة الحياة


شجرة الحياة


قصة قصيرة
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية يوم 6/8/2010

تبقى صورتها وهي تلفظ أنفاسها تلح على خياله برغم السنوات التي مضت. مرّت أحداث كثيرة، لكنها تعلقت بذاكرته دون غيرها. امّحت تفاصيل تلك الايام وتغير المكان، وهي لم تتغير. تلاشت وخزة الالم في القلب، وظلت نكهة الحزن باقية في الذاكرة. نكهة غريبة تسكن في التلافيف من غير أن يجد لها تفسيراً.


في نهاية الممر الحجري المرصوف شجيرة لوز صغيرة. تقف وحيدة صامتة في حوض ترابي صغير بجانب السور الاسمنتي. وُضعت حولها بعض الاحجار، لتحفظ الماء حول ساقها. ليس هناك من شجيرة غيرها في كل الساحة الطويلة. ساحة ترابية تملؤها الحصى والحجارة وبعض قطع الصخور. نبتت الحشائش بين الصخور، وتمددت فوق أرضها الصلبة التي تأكل الاقدام بقسوتها.


كثيرة هي المرات التي تحول فيها لعبهم الى مشهد حزين. كانوا يتحلقون حول المصاب وقد سال الدم من يديه وركبتيه.. وانكشط الجلد وامتلأ الجرح بالتراب. منظر قاسٍ، لكنهم اعتادوا عليه. يتوقفون قليلاً لاسعافه بما تبقي في جيوبهم من محارم، ثم لا يلبثون أن يعودوا للعب وينسوا كل شيء. ولكن الندوب مثل الذكريات المرة تبقى للابد.


تلح صورة الشجيرة وهي تموت على خياله. تعلّق كريم بها في الاشهر الماضية كثيراً. يرى فيها شبهاً من أمه التي رحلت قبل أن يعرف معنى الموت.. يرن جرس الفسحة.. يخرج الى الساحة.. يركض اليها باشتياق.. يجلس بجانبها قبل أن يسبقه الاخرون. يأتي إسماعيل وأمجد ويجلسان الى جانبه. لا يطيلان المكوث.. دقائق معدودة ثم يذهبان. يبقى جالساً بجانبها وحده، يطيل النظر الى أوراقها.. لا يعرف لماذا تعلق بها.


الريح عاصفة خارج غرفته الصغيرة، والغيوم كثيفة رمادية، تملأ السماء كآبة وإحساساً بالوحدة. تتفتت الغيوم شاردة نحو الشرق. جاءت بوادر الخريف مبكرة هذه السنة. إصفرّت أوراق الدالية، وسقطت عند مدخل غرفته. يستعجل الغروبُ توديعَ النهار ليحل مكانه! يجلس كريم في غرفته الصغيرة في زاوية الشرفة المطلة على الوادي. ليست غرفة بمعنى الكلمة، بل هي زاوية أو قفص أو كشك مثل كشك الخفير، يسميها الخيمة! ولكنها مثل صومعة يعتكف فيها بعيداً عن هدير الدنيا وقصص الحياة المكرورة! نادراً ما تأتي قصة لا تندرج تحت عناوينها الرتيبة التي سئم منها: الولادة.. الموت.. الزواج.. الطلاق.. السفر.. العودة!


بيت قديم في حي شعبي مكتظ بصناديق الحياة الاسمنتية. وفي خيمته مكتبه الحديدي القديم وعليه كتبه في الكلية، وأمامه طاقة تطل على الشارع البعيد في الاسفل. علّق على الحائط بجانبه صورتها بالابيض والاسود. نبش الماضي كثيراً من غير جدوى. ماتت معها الحقيقة بهدوء منذ سنوات طويلة. ينقبض قلبه حزناً من التفكير بموتها. الى جانبه كومة عالية من الكراسي الحديدية الصغيرة. في النهار يضعونها جنباً الى جنب في خط واحد على طول الشرفة الطويلة، وفي الليل يرتبونها بعضها فوق بعض في غرفته! حلّ المساء والسيارات كالسيل، تنوء بأجساد منهكة متعبة عائدة من غرب المدينة الى شرقها.


إزدادت كآبة الغروب، والغيوم ما تزال تشرد نحو الشرق. ينظر كريم من طاقة غرفته، ويسمع السيارات المكدودة وهي تطلق زوامير أبواقها المحمومة.. البيت هاديء لغاية الان. لم يعد أبوه بعد. يعود كل يوم من الورشة مع حلول العتمة. هاديء وفي عينيه حزن قديم، لكنه يثور من غير سبب. يخشى كريم ثورته المجنونة وصوته الفظ. يذكّره أبوه بالمعلم علوان. يشبهه كثيراً. لم تمحَ صورته من خياله برغم السنين. مضت ساعة وهو يقرأ الصفحة نفسها في الكتاب أمامه ولا يفهم منها شيئاً.


يسرح في دفاتر الذكريات. تلح صورة شجيرة اللوز على أفكاره. قطع صوت غطاء الشباك الحديد بالاسفل ذكرياته، خرج من غرفته. رأى "حنين" تغلق غطاء الشباك. كانت تنظر الى الشارع من غير أن تراه. بقي واقفاً ينظر اليها. لمحته. ضحكت وأغلقت الشباك، فماتت بوادر إبتسامة على وجهه. التفت بنظره، رأى أخته على باب الشرفة تراقبه. شعر بخجلٍ، فدخل الى غرفته بسرعة وأغلق الباب خلفه!


عاد لشروده من جديد. يحس أن الرائحة ستخنقه. يجلس المعلم علوان على طرف مقعده وهو يختبرهم واحداً بعد الاخر على السبورة، وينفث السجائر كالمدخنة. صوته خشن وغليظ، ويلبس نظارت سميكة توحي بالبرود وغياب الرأفة من قلبه. يدخن نوعاً رخيصاً يسبب لهم صداعاً. لكنهم يتحمّلونه صامتين. يخشى الكل سطوته. بعد فترة نسي التلاميذ إسمه وصاروا يعرفونه باسم "ابو ريحة"! يعد كريم الدقائق في انتظار أن يرن الجرس. مر الوقت متثاقلاً كعادته! كانت أطول حصة في حياته! فكر في الشجرة الصغيرة. شعر بالاطمئنان وهو يجلس الى جانبها. عندما يعود للبيت في نهاية كل يوم، يحس أنه ترك جزءاً منه لديها.


لم يعد يسمع صوت الشباك. مرت أيام عديدة لم يرَ فيها "حنين". يخرج من غرفته وينظر الى شباكها، لكنه مغلق طيلة الوقت. جاء والدها الى بيتهم الاسبوع الماضي. حمل كريم الصينية وقدم الشاي. أخرج أبوها مغلفاً من جيب معطفه وناوله لأبيه: "يشرفني حضوركم حفلة إبنتي". إهتزت الصينية في يده وكادت أن تقع. أحس بطعم حامض في صدره. إضطرب قلبه من ألم ناعم سرى في جسده. خرج الى غرفته ودمعة خرساء تتكون في عينيه. إنتابته مشاعر مختلطة. فتح درج مكتبه وتناول مفكرته. أمسك القلم بأصابع مرتعشة. فرّغ حزنه في كلمات ذكرياته مرة أخرى.


في ذلك اليوم الذي استوطن ذاكرته جاء المعلم علوان ومعه بعض الادوات والدوارق وعصاه الغليظة الملساء التي لا تفارقه. شرح لهم عن تجربة عملية للكشف عن الاحماض والقواعد. شرح عن سائل شفاف ظنوه ماءً. أثار إستغراب كريم.. صافٍ كالماء ولكنه حارق يذيب الاشياء. كان كريم شارداً في خضم تساؤلاته.. كيف يمكن أن تبدو الاشياء صافية هادئة وفي داخلها نار حارقة؟ هكذا يبدو أبوه دائماً. إنتهى المعلم علوان من التجربة. نادى على عبدالجبار وناوله الدورق، كي يتخلص مما فيه بلهجة آمرة:
- إياك أن تحرق نفسك.
توقف كريم عن الكتابة. نظر الى الشارع. لمح الشباك المغلق. تحركت غصة خامدة في الحلق. بقي يفكر في الحمض ولم يستطع أن ينسى سيرته بسهولة! كان متلهفاً للخروج، منتظراً أن يدق الجرس. مرت الدقائق طويلة مملة، وهو يكاد يختنق من الجو الثقيل. رن الجرس أخيراً. خرج مسرعاً في الممر الطويل.. نزل الدرج قفزاً حتى وصل الساحة. ركض الى شجيرته الصغيرة. جلس بجانبها.. صدمه منظرها.. كانت المنطقة حول ساقها تغلي وتفور بالفقاعات. أخذ ينظر اليها وهي تموت. انفجر في أعماقه غضب ممزوج بالحزن والألم. تذكر أمه التي غابت عن عينيه قبل أن يكمل سنواته الثلاث. كان على وشك البكاء. أحس حنقاً يتفجر بداخله. بحث عن عبدالجبار طيلة الفسحة حتى وجده. أمسك به من عنقه. رأى الخوف على وجهه من الغضب الذي يقدح شرراً في عينيه كمن ينتظر لحظة الاعدام. وفي لحظة كانت يده الاخرى تطيح به الارض بكل قوة، وبقايا الطعام تتناثر من فمه، والدم يسيل من أنفه.

** اللوحة أعلاه بعنوان الطفل الباكي للفنان الايطالي جيوفاني براغولين (برنو أماديو)

رابط القصة

رابط الصفحة الكاملة

الاثنين، أغسطس 2

لغة السرد بين فقه اللغة قديما وحديثاً


لغة السرد بين فقه اللغة قديماً وحديثاً
اياد نصار
نشرت في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 2/8/2010

تحتاج لغة السرد القصصي والروائي الى قاعدة ثرية من المفردات اللغوية التي تستطيع وصف تفاصيل الاشياء وتجسيد الشخصيات ونقل حالاتها النفسية وانشغالاتها الفكرية ومكامن رغباتها ونوازعها الداخلية، والتعبير عن انطباعات المكان وتأثيراته وتبدلاته والمتغيرات التي طرأت عليه، ورسم صورة الجو السردي العام في اطار الزمان. كما تحتاج لغة السرد الى إدراك واسع للفروق الدقيقة للمعاني، والقدرة على توظيف هوامش الفروق في تطوير وصف الشخصيات والمكان والزمان وسرد الحبكة ونقل حالات الراوي التي تصبغ العمل دائما، وجعلها أكثر تأثيرا في نفس القارئ، وكذلك نقل الاستعارات والتشبيهات التي تمثل في الاساس تعبيراً عن حالة شعورية وجدانية أو عاطفية أو انفعالية أو إدراكات عقلية منطقية او تجليات روحية. وتحتاج لغة السرد الى قاعدة واسعة من المفردات اللغوية المترادفة والمتقاربة والمتضادة للتعبير الدقيق عن مأزق اللغة في رصد الاشياء والمواقف والحالات المعقدة المتداخلة.

في اختصار، يحتاج القاص أو الروائي، وبدرجة اكبر من الشاعر، الى امتلاك قاموس لغوي خاص به قادر على التجاوب من دون استنفاد او تكرار للمفردات أو للمعاني أو قصور في اختيارها في التعبير عن المقصود، وعلى تبديد الاحساس بأنه لا يجد ما يستطيع التعبير به نتيجة غياب المعرفة او ضعفها باستخدامات الكلمات الصحيحة الدقيقة التي تعبر عن الموقف، أو تبديد الاحساس بأن اللغة لا تسعفنا في مثل هذه المواقف.


الافتراض البديهي أن الكاتب يحتاج الى منهجية فاعلة في بناء المعرفة اللغوية التي تثري مخزونه، وبحيث يمكنه هذا المخزون من استخدام مفردات اللغة ومعانيها المستندة الى معرفة الفروق الدقيقة، وكذلك تطوير اسلوب خاص به يستطيع من خلاله الخلق والابتكار في توظيف لغة السرد بطريقة مؤثرة وجميلة. وعلى رغم أن هناك اقتناعاً واسعاً لدى الكثيرين بأن اللغة العربية ثرية واسعة وقادرة على التعبير عن كل حاجات الانسان اللغوية المادية والمعنوية في كل المستويات المعرفية وفي مختلف حالات الانسان الشعورية والنفسية والعقلية والروحية، وأنها متجددة تستطيع تلبية حاجات الانسان للتواصل، إلا أن هناك مشكلة تتمثل في قلة الاهتمام ببناء هذا الرصيد اللغوي الكبير.


لعل المسألة التي تصبح أكثر الحاحاً لدى كتّاب القصة والرواية هي كيفية بناء هذا الثراء اللغوي في الخلق، وامتلاكه وتوظيفه؟


أحد هذه المناهج التي يمكن أن تخدم الغرض بشكل ممتع، هو الاطلاع على كتب اللغة والنحو والبلاغة والمعاني والفهارس والقواميس والموسوعات، وكذلك كتب الانشاء والمصادر والمراجع القديمة، بما تشتمل عليه من بحوث في المعاني وفقه اللغة، وبما تحويه من بلاغة قصص العرب وأشعارهم ورسائلهم ومواعظهم البلاغية ونوادرهم التي تدل على الابتكار في اشتقاق اللغة او استعمالها مجازياً. تحفل هذه الكتب والمصادر بالكثير من المواقف التي تعكس البلاغة والذكاء في استعمال اللغة. كما أن الكثير منها تحتوي على نماذج من كتب الرسائل والانشاء. وأعتقد أن كاتبا للقصة والرواية لا بد له من إثراء مخزونه من المفردات، فهذا سيوفر له مزيدا من دقة المفردات والأساليب في الوصف والتشخيص والتشبيه والتصوير والاستعارة وغيرها، وتنويع ما يستخدمه في كتاباته القصصية او الروائية. لكن الامر لا يخلو من تحدٍّ. لا بد أن يحافظ الكاتب على روح لغة العصر، فلغة الجاحظ على الرغم من دقتها المعرفية والنحوية والصرفية، لم تعد مناسبة لعصرنا، وإلا لبدا النص كلاسيكيا تراثيا، وربما ممجوجاً. المسألة هنا اسلوبية. لا بد للاسلوب ان يتماشى مع العصر ولغة الآخرين، ولكن ما أعنيه هنا هو بناء رصيد لغوي يعرف كيف ينقل ظلال المعاني ويوظفها في السرد بطريقة تجعل النص جذاباً عميقاً قادراً على نقل أعقد الحالات النفسية وأصعب التلوينات للمواقف المختلفة.


وقع بين يدي حديثاً، كتاب كنت قد فقدته من مكتبتي الخاصة قبل سنوات. فتذكرت مطالعاتي به في الماضي في كثير من المناسبات وإعجابي بما يقدمه من مفردات تستخدم في وصف كل الحالات التي تمثل تنوع الاشياء والاختلافات الدقيقة بينها، وتسميتها. إنه كتاب "فقه اللغة" لأبي منصور الثعالبي. وهو كان يلقّب بجاحظ زمانه، بسبب مقدرته اللغوية وسعة اطلاعاته المعرفية وميوله الموسوعية وتصانيفه الأدبية الكثيرة، والتي منها فقه اللغة. كما أن له كتاباً يدعى "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر" يضم تراجم لشعراء عصره، وله كتاب "سحر البلاغة وسر البراعة" وكتاب "الاعجاز والايجاز" وكتاب "دمية القصر".


غالب الظن أن أول من استعمل عبارة "فقه اللغة" في العربية هو أحمد بن فارس القزويني (توفي في 1005 م)، وكان من معاصري الثعالبي. ومع أن كليهما اشترك في إطلاق عبارة "فقه اللغة" على موضوع كتابه، فقد كان هناك اختلاف واضح بين مادتي الكتابين. فكتاب القزويني يشمل مباحث نظرية وتطبيقية مختلفة، مثل باب القول على لغة العرب، ومثل القول في إعجاز القرآن، وبعضها تاريخي مثل باب القول على الخط العربي. بهذا، فإن "فقه اللغة" عند القزويني يتناول جميع المباحث التي تمتّ إلى اللغة بصلة ، سواء أكان ذلك في أصولها أم في فروعها أم في تاريخها.


أما كتاب "فقه اللغة" للثعالبي، فمختلف تماما. فهو معجم من المعاجم اللغوية، لكن مادته ليست مرتبة فيه على حروف الهجاء، إنما المادة تتعلق بظاهرة ما في الطبيعة، كالرياح أو المطر أو الأصوات، أو بصفات تخص الانسان أو أجزاء من جسم الانسان أو مفردات تستخدم للدلالة على ظواهر معينة في وقت محدد كأوقات النهار والليل ...الخ. فائدته جمّة لمن يريد أن يتعرف الى المفردات التي تصف هذه الظواهر بأحوالها وأوقاتها المختلفة بحيث يلاحظ الفروق الدقيقة في تسميتها ومدى تنوع الالفاظ التي تعبّر عن كل معنى من المعاني في حالاته المختلفة.


فعلى سبيل المثال، يمكن ملاحظة ما أورده المؤلف حول تَعْدِيدِ ساعات النهار والليل على أربع وعشرين لفظةً كنموذج لما يحتويه معجم "فقه اللغة". إنه باختصار يجمع الكثير من الألفاظ التي تستعمل في موضوع واحد. أهميته إنه يوفر للكاتب مفردات متعددة تعبّر عن تلك المعاني المتقاربة او التي تقال في حالات متشابهة او متتابعة بحيث يستعملها في كتاباته، وأعتقد أنه كتاب مفيد للغاية لمن يكتب قصة أو رواية حيث يجد عمق اللغة العربية ومدى قدرتها الواسعة على إدراك حالات الاشياء وأنواعها، فلا تعدم قدرة في التعبير عنها بكل جمالية. وهو يؤكد حساسية اللغة العربية للوصف وتنوع المعاني المتقاربة بحيث تساهم في تلوين ما يكتبه من وصف أو تشخيص أو تشبيه أو سرد لأحداث، أو خلق احساس بالمكان أو الزمان، أو الاحساس بالجو العام أو بالحالة الخارجية في مقابل الحالة الداخلية للشخصية.


أما فقه اللغة في العصر الحديث، الذي يطلق عليه اسم philology فهو يختلف تماما عما قصده الثعالبي. إن مدلول لفظ "فقه اللغة" يقصد به في الدراسات اللغوية المعاصرة، تلك الجوانب التاريخية التي تبيّن أصل اللغة ونشأتها وتطورها، والعوامل التي أدت إلى انتشارها، وهناك من يطلق عليه في هذا المعنى تاريخ اللغة. لكن وبشكل عام، يطلق "فقه اللغة" اصطلاحا على البحث في أصل اللغة. وفقه اللغة في المنظور المعاصر يتناول الجوانب النظرية للغة في تطورها وعلاقتها باللغات الاخرى وليس علما تطبيقيا كالنحو الذي يبحث في القواعد التي تحكم ما ينبغي ان يكون عليه الكلام. هكذا، فإن المعاجم اللغوية سواء في مجالات النحو أم الصرف أم عروض الشعر أم البلاغة أم النقد، هي بحوث تطبيقية وليست من فقه اللغة.


فقه اللغة يبحث في أسس اللغة النظرية العامة وقوانينها، ويفسر الأسباب التي دعت اللغة إلى اختيار صيغة من الصيغ أو بنية أو تركيب دون غيره، ويتناول العوامل التي تدعو اللغة إلى اتباع ما نسمّيه قواعد. أي أن فقه اللغة يجتهد في تفسير الاسباب التي أثّرت في تطور اللغة وشكل التطور تاريخياً عبر مراحله الزمنية.


كما يهتم فقه اللغة بالمقارنة بين اللغات، من حيث قرابتها أو اتصالها بعضها ببعض، والبحث في قواعد اللغة التي يوجد مثلها في لغات أخرى، سواء بدرجات متقاربة أو متباعدة. كما يبحث فقه اللغة في القوانين التي تخضع لها جميع اللغات، كون اللغات في تغير دائم بحيث يمكن مقارنتها والافادة منها في دراسة اللغة موضوع البحث.

* اللوحة أعلاه بعنوان ثلاثة موسيقيات للفنان الاردني قاسم الرفاعي
** نشرت في صفحة أدب وفكر وفن في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 2/8/2010

رابط المقالة

رابط المقالة