الجمعة، يوليو 11

الدرب السلطاني

الدرب السلطاني

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

وصلت شبه ميتٍ من الاعياء ، والدنيا عند المغيب. هجموا كلهم عليّ يعانقونني واحداً بعد الآخر ويحدّقون النظر بي. بدت السعادة الممزوجة بالمفاجأة لرؤيتي أدخل من الباب. أخذت نظراتهم تتفرّس في ملامحي، وهم يلمسون وجهي ويدي ويربّتون على كتفي. هذه أول مرة أغيب عنهم كلَّ هذه المدة. أمطرونني بأسئلة من كلِّ حدبٍ وصوب. لكني بقيت صامتاً. كنت متعباً أحس أنني سأقع. توسّلت: "دعوني أنام الآن، وسأحكي لكم كل شيء عندما أفيق".

انتبهوا أخيراً أن الشيخ رجب لم يكن معي. سألوني والدهشة بادية في عيونهم: وأين الشيخ رجب؟ لماذا لم يعد معك؟ بالكاد همهمت والنعاس يغالب جفوني: "أرجوكم عندما أصحو سأخبركم بكل شيء". لم أعرف ماذا حصل بعدها. أتذكر أنني استيقظت وسط ظلام دامس والعرق يتصبب من جبيني. كان حلقي جافاً متشققاً من الظمأ كالارض اليباب بعد موسم جفاف. أردت القيام لكن الانهاك نال مني ، فعدت إلى حضن الظلام. أحسست بدوار غريب. كانت الدنيا تدور من حولي والصور والاحلام تتداخل في رأسي. أمسكت جانب السرير لأوقفها دون فائدة.

"كنت أركب فرسي بمحاذاة الشيخ رجب عبر الطريق الرملية ، والصحراء تمتد حولنا شاسعة جرداء. سار إلى جانبه البدوي صقر قائدُ المجموعة. بقي الفرسان يسيرون معنا حتى قطعنا الجبال الوعرة ، وبدأت الارض تستوي أمام خيولنا. توقفنا للوداع . عادوا من حيث أتوا . تنفست الصعداء. وتابعنا الرحلة.

خرجنا قبل شهر من تل النوار على أطرافِ جبال جَلْعَاد الجنوبية قاصدين زيارةَ جامعِ الازهر. أو هكذا ظننت أول الأمر. هذه أول مرة أخرج من قريتي في حياتي. قريةٌ صغيرةٌ وادعةٌ مرتفعة تطل على أغوارِ داميا والبحرِ الميّت. لم أكن وحدي. كنت أرافق الشيخ رجب .. أستاذي وشيخي منذ أن كنت مع الصبيان في الكتّاب. أرسلني أبي قبل عشرين عاماً إلى الشيخِ رجب ليعلّمني القراءة والقرآن. والدي فلاّح لا يعرف سوى حراثة الارض وزراعتها مع أعمامي وإخوتي الثلاثة الآخرين. كنت آخر العنقود فكنت مدللاً. لم يكن أبي يريد أن أصير مزارعاً مثلهم فصرت مرافق الشيخ رجب منذ ذلك الحين.

قدم الشيخ رجب من نابلس مع أبيه وأمه وهو صغير. قيل أن أباه حمل دمِ قريبٍ له قتله إثر خلافٍ على قطعةِ أرضٍ فكان عليه أن يجلو من بلدتهم خوفاً من الثأر. سكنوا في بلدتنا وصاروا جزءاً منها. منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا وأنا أراه إمام المسجد في قريتنا. عندما كنت صغيراً سمعت إخوتي وأمي يقولون إن الشيخ رجب تزوج جميلة ابنة منصور العوض. عاش معها ولكنه لم يرزق منها بأولاد. توفيت جميلة بعد خمسِ سنواتٍ أثناء الولادة وقد مات الجنينُ في رحمها. حزن الجميع عليها كثيراً. ولم يتزوج الشيخ بعدها.

كنا على ما أذكر في بواكير الربيع. لا أعرف في أية سنة بالتحديد، فلم يكن أحدٌ في قريتنا يهتمُّ بالتاريخ. كانت الأيام تمر بطيئةً متشابهة رتيبةً! ولكنني كنت أسمعُ الكبارَ يتحدثون عن قدومِ حملةِ ابراهيم باشا من مصر إلى بلاد الشام لمقاتلة العثمانيين. كنت أسمع كثيراً من القصص عن تلك الحملة ولكنني لم أكن أفهم منها شيئاً! انطلقنا في سيرنا جنوباً عبر أراضي الغور بمحاذاة البحر حتى وصلنا إلى غور الصافي ومن هناك اتجهنا غرباً إلى صحراء النقب حتى وصلنا بئر السبع. الدنيا بعد العصر والسماء صافيةٌ زرقاء ، وما تزال تهبّ نسمة باردة. الأرض جرداء لا شيء فيها سوى الكثبان الرملية وبعض الواحاتِ التي جفَّ ماؤها. كانت بيوت الشعر والماشيةُ تنتشر من حولنا. بدأ الظلام ينشر أستاره. أصرّ بعض البدو أن نبيتَ عِندَهم حتى الصباح. قالوا إن الطريقَ غرباً موحشةٌ خَطِرةٌ في الليل وفيها حيواناتٌ مفترسة. لم نجد مناصاً سوى أن نبيت في ديرتهم. أكرمونا بضيافتهم وأقاموا لنا ليلةً للسَّمَرِ. وكعادته استغلَّ الشيخُ رجب المناسبةَ ليلقي عليهم دروسه المعتادة! كان يتكلم وهو يحرك يده ويمشط لحيته بيده الأخرى. كانت لحيته شقراء مائلةً للحُمرةِ على عادةِ مشايخِ الطُرقِ الصوفية.

في الصباح ودَّعناهم وتابعنا سيرنا غرباً. كانت الطريق طويلةً شاقّةً قائظة من الحرِّ والعواصفِ الرمليةِ. وصلنا غزّةَ بعد العصر. عندما دخلنا المدينة رأينا موكبَ الطرقِ الصوفية. فرح الشيخ رجب بذلك كثيراً واعتبر نفسَه محظوظاً. بقيت واقفاً بجانبه وهو ينظر بعيون مستبشرة حتى مر الموكب من أمامنا. ثم انطلقنا عبر رفح إلى صحراء سيناء. بقينا نسير حتى كاد الواحد منا يسقط عن فرسه من الإعياء. سألنا أحدَ البدو في الطريق فقال إننا على مقربةٍ من ديرةِ الشيخ مسعود.

نال منا التعب والجوع والإرهاق حتى خشينا الهلاك. بدأ الزادُ الذي نحملُه على الدواب ينفد. كانت مسالك الصحراء الوعرة بين الكثبان والرمال مثل المتاهة. قررنا أن ننزلَ لدى الشيخ مسعود لنرتاحَ ونتزوّدَ بما يجود به علينا به من الماء والزاد. كان من عادة رجاله أن يلتقوا ليلاً في مجلسه فجلسنا معهم تلك الليلة. أخذ الشيخ رجب يلقي عليهم حديثه المعتاد. كان يحب الحديث عن الموت والعذاب والقبور لترهيب السامعين، ولا ينسى أن يذكر أننا في آخر الزمان وقد تقوم الساعة قبل أن يطلع علينا النهار!

التفت إليّ الشيخ رجب في آخر الليل عندما بدأ ينفضُّ الجالسون وقال: يجب أن ننهض مبكراً غداً يا سلامة. يجبُ أن ننطلقَ قبل صياح الديك! فلما سمع ذلك الشيخ مسعود أمر بعض فرسانه أن يرافقونا في الغد عند خروجنا. انطلقنا مبكرين والظلام ما زال في رحم الطريق. سار صقر بجانب الشيخ ليحكي له عن الطريق إلى القاهرة. أحسست أنه كان خبيراً بمسالك الصحراء وواحاتها ولصوصها! بقينا نسير ونحن نتبع الفرسان حتى صارت الطريق أمامنا سهلةً مستوية. ودّعناهم ورأيت الشيخ ينزل عن حصانه ويعانق صقر. شعرتُ بشيء من الخوف في داخلي.

سرنا عبر الطريق البري بموازاة البحر. أخبرني الشيخ أننا سنسير على الدرب السلطاني حتى الوصول إلى القاهرة. كان طوال الطريق يروي لي القصص والأخبار. لا زلت أتذكر تلك القصص الغريبة عن المماليك التي رواها الشيخ. يختمها وهو يبتسم ابتسامة ترسم حدود النهاية ويقول "يا غلام، أعطه ألف درهم"!‏

كانت رحلة طويلة وشاقة، ولكننا كنا ننزلُ لنستريحَ كلما بلغنا مدينة أو موضعاً. بقينا نسير ونبيت أسبوعاً. كان الشيخ رجب بلحيته الحمراء وبلاغته ووقاره يستجلب إهتمام الاخرين وترحيبهم. وعندما كانوا يعرفون أن وجهتنا هي الجامع الازهر، فقد كانوا يزيدون في الاهتمام لأخذ البركات والدعوات. بل يعطوننا ما نطعم به دوابنا أيضاً! شعرت أننا كنا محظوظين بهذين الحصانين اللذين تحملا معنا كل مشاق الرحلة بصمت وتسليم!

بدت معالم المدينة تظهر لنا شيئاً فشيئاً ونحن على مشارف القاهرة، فأحسست بالاضطراب. كان الشيخ رجب يتحدث عنها كثيراً في الكتّاب، ولكني سأراها لأول مرة في حياتي. كنت متشوقاً لذلك كثيراً. عندما دخلتها تملكتني الدهشة فوق ما كنت أتصور. بالنسبة لقريتنا والبلاد التي مررنا بها، كانت هي مختلفة .. كبيرةً واسعةً عامرة، تحس فيها بالضياع. تمتلىء بالناس وضجيجِهم. لم أعرف في حياتي شيئاً كمثل هذا من قبل. كانت المدينة تعج بالبشر من كلِّ صنفٍ ولون. مساجدُ كثيرةٌ ومحلاتٌ ودكاكينَ وأسواقٌ ورجالٌ ونساءٌ وباعةٌ ومتسولونَ وشيوخٌ يلبسون العمائم. سحرتني المآذن الكثيرة التي تشق عنان السماء. رأيت رجالاً يلبسون ملابس لم أر مثلها في حياتي ويضعون على رؤوسهم طرابيش حمراء! خشيت أن نضيع في زحمة الناس فلم أتوقف لحظة عن السؤال عن الطريق إلى الجامع! لم يتوقف الشيخ رجب بل ظل سائراً كأنما يعرفها!

وصلنا الأزهر بعد العصر. تهللت أسارير الشيخ وظهر عليه السرور. لقد تحقق حلمه أخيراً بالوصول اليه. شعرنا برهبة ونحن ندخل من أبوابه. أخذنا نتطلع في مبانيه وحجارته ومآذنه وقبابه وأقواسه. كان كبيراً ضخماً يثير في النفس الخشوع. شعرتُ بالوجل ونحن نقف أمام تاريخ عريق. حلقات الدروس تنتشر هنا وهناك في زواياه وأروقته. كنت أنظر في أرجاء الجامع وأتأمل تفاصيل بنائه وطرازه، عندما لكزني الشيخ بحركات من يده وعيونه أن أُسرع بالصلاة! صليت ولكن ذهني بقي مشغولاً بهذا المبنى الضخم الذي رسمت له صوراً في خيالي. صورٌ متلاحقةٌ عادت من زوايا النسيان. ولكن ليس الخبر كالعيان!

في اليوم التالي رأيت الشيخ رجب يجالس شاباً في مقتبل العمر في أروقة المسجد. استغربت من يكون ويبدو أنه لاحظ الحيرة في عيوني. قال يقدمه لي: متولي.. طالب علم يحضر بعض الدروس التي يلقيها الشيخ حسن في الفقه. رحّب بنا متولي كثيراً. شاب في العشرينات مشرق الملامح مبتسم الوجه. أصر علينا أن نذهب معه إلى بيته بالقرب من الجامع. قال إن أهلَه يعيشون في الاسكندرية ، وأن والده أرسله ليتعلمَ كي يصبحَ قاضياً. كنا نسير والشيخ متولي يشرح لنا عن حي الجمّالية. كنت أستمع وأنا أتأمل الطرقات والأسوار والأبواب والجدران وأرى الزحام وأسمع الأصوات تتداخل في بعضها. بدأت أشم رائحة البخور التى تنتشر فى المكان. وفجأة راعني مرور بعض الغرباء بملابس لم أر مثلها في حياتي. قال متولي هولاء بعض الفرنجة من فرنسا الذين استقروا هنا بعد أن رحلت القوات التي جاءت مع نابليون. لم أفهم ماذا كان يقول. التفتُ إلى الشيخ رجب لعلي أجد في عيونه إجابة. كان يبدو عليه الاستغرابُ أيضاً. لم نفهم ماذا قال متولي. بقينا صامتين خشية أن يضحك من جهلنا! شعرت أنني غريب عن الدنيا هنا. بدت لي تل النوار من عالم آخر. عدت أنظر إلى الشيخ رجب. كان ذهنه مشغولاً بأمرٍ ما فبدا أنه قد سرح بفكره بعيداً. بدأت أشعر بشيء غامض يولد في أعماقي. كانت كلماتُ متولي مثلَ صدمةٍ لم أفق منها تماماً، ولكنها فتحت طاقة في عقلي.

عرض علينا متولي أن نقيم معه كونه يسكن وحيداً في البيت، ولكننا رفضنا. مرّ أسبوعان ونحن نقضي جل وقتنا ما بين الجامع والحي الذي نقيم فيه. لقد انفتح أمامنا عالم آخر لم نكن نعرفه. تعرف الشيخ رجب خلال هذه الفترة على بعض المشايخ الذين يقدمون دروساً في الجامع. كان يخرج في بعض الأيام بعد صلاة العشاء بصحبة بعضهم إلى بيوتهم القريبة منا. في أحيان كثيرة كان يذهب وحده. لاحظت أن الشيخ بدأت تستهويه الزيارات. بدا لي أن الحياة في القاهرة أعجبته. وفكرت أن ذلك لكونه وحيداً منذ وفاة جميلة العوض.

في الاسبوع الاخير أحسست بشيء غامض بداخلي. لم أعرف ما هو بالضبط، ولكن شيئاً يوحي بأن أمراً ما يدور في ذهن الشيخ. لم يذكر ذلك لي أو يلمح له. ولكنني أحسست به. عندما كنت أساله عن موعد العودة، لم يكن يقطع في إجابته بيوم محدد. بقينا نؤجل عودتنا أياماً حتى استبد بي الحنين لتل النوار. وذات مساء قال لي إنه يريد أن يتكلم معي بموضوع. قال إنه يريد أن يفاتحني به منذ أيام ، ولكنه كان يتردد ويؤجل حتى يتأكد من الموضوع ذاته. قال إنه يتهمّم منذ عدة ليال بالحديث عنه، ولكنه يخشى من موقفي تجاهه. أثارت كلمات الشيخ الترقب والتوجس في نفسي. قلت له: تكلم يا شيخ.
قال إنها سنية يا سلامة. لم أستوعب الامر. قلت له مستغرباً: سنية؟ ماذا تقول؟ سمعت طرقاً على الباب ساعتها فذهبت لأرى من يكون، فرأيت متولي عند الباب وإلى جانبه امرأة. تفاجأت كثيراً ولم أعرف ماذا أقول. سمعت صوت الشيخ ينادي من الداخل تفضل متولي أنت وسنية. بقيت واقفاً مكاني وأنا لا زلت لم أستوعب الامر. أحس الشيخ رجب بالحيرة ترتسم على وجهي. قال إنه طلب منه أن يجد له امرأة أخرى. بقي الشيخ يتحدث وأنا غير مصغٍ له. ثار بداخلي إحساس بالخوف وأنا أفكر بالعودة وحيداً عبر الصحراء. في صباح اليوم التالي استيقظت باكراً وتسللت دون أن أودعهم وأنا أحلم بالعودة إلى تل النوار! شعرت بجرأة غير مألوفة. وأحسست بنضوج لم أختبره من قبل".
* اللوحة أعلاه بعنوان الطريق الى قلعة القاهرة للمستشرق والرسام الاسكتلندي دايفيد روبرتس (1796-1864) وقد رسمها عام 1840

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق