الجمعة، ديسمبر 25

على مهلك أيها الليل



تأملات في ديوان "على مهلك أيها الليل"
كراريس الكتابة الطافحة بإيقاع المنفى*

بقلم اياد نصار

صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الديوان التاسع للشاعر عمر ابو الهيجاء "على مهلك أيها الليل" الذي جاء في 275 صفحة من القطع المتوسط. وهو تتويج لمسيرة شعرية ابداعية تمتد عبر عشرين عاماً بدأها عام 1989 بديوان "خيول الدم" الذي صدر عن دار ابن رشد في عمان. ومنذ البدء تبدو القضية الفلسطينية بكل تجلياتها وأبعادها وانكساراتها وألامها حاضرة في ديوانه كما في دواوينه الاخرى، بل تكاد تكون هي المحور الوحيد في أغلب قصائد الديوان ، فقد صدّر ابو الهيجاء ديوانه باقتباس من شعر محمود درويش:
"وأنت تعود للبيت، بيتك
فكر بغيرك..
لا تنسَ شعب الخيام"

يشتمل الديوان على ثلاث وعشرين قصيدة تحمل الوجع الفلسطيني عبر أربعة محاور هي الذات، والفضاء الفلسطيني المسكون بالارض والموت والدم والجنائز والثورة وذاكرة الشعب التي تجسدها أغانيه ومواويله وأهازيجه، والفضاء العربي الممزق الذي يحس فيه الانسان الفلسطيني بأنه وحيد في الساحة يتجرع الهزيمة وانكسار الحلم، والفضاء الانساني الارحب الذي يقوم على ابراز معاناة الانسان مما ينتقل بالشعر من المحلية والخصوصية الى فضاء أوسع يتجاوب مع سعي الانسان المتعب المظلوم في كل مكان الى الحب والطمأنينة.

على صعيد الذات تبرز رغبة الشاعر التي لا تخلو من احساس بالحزن واليأس في التعبير عن رؤاه وأحلامه، ولكن الكلمات تعبت منه. واستوطنت توابيت الكتب المركونة وتركت قلبه المعنى يقاسي بحثاً عن لغة أخرى للتعبير عن كوامن نفسه، ولكن لا تفقس اللغة غير الاجابات المريضة. تستحضر القصيدة الطويلة الجميلة "تعبتُ مني" ذات البعد التاريخي "الملحمي" التي تصبح "سطراً من الملاحم على تراب راس العين" ذكريات المكان وأوجاعه، فرأس العين إشارة تاريخية الى بداية ولادة عمان كمدينة احتضنت المهجرين والمنفيين في مستهل القرن العشرين وما تلاه. كما تسعى الى التأكيد على الاحساس بالمرارة برغم براءة الرؤية الشعرية التي تفيض بالالهام والدهشة. ويبدو الشاعر وحيداً متمسكاً بالكلمة رغم أنها تعبت ولم يتعب هو من السؤال.. متمسك بالكلمة التي تصنع الحلم والحبر الذي يصبح مثل وردة العشاق جسراً للحب والتواصل بينما ينطوي المشهد على النسيان والرتابة والرقص على جرح المنفيين.

لي سرّ اكتمالي، براءة الحرف
لي أن ابارك
ابتهاج البياض
لمّا يعانق أسود حبري،
لي احتراقات رمل خطوي،
وشذاي،
ما كان لي،
أن أبقى سردي القتيل،
على مهفة الليل،
دون أن أمرر في مقام
النوى
تراتيل الناي،
أنا غرامي،
وغرامي شيعته الريح
في خيام التاريخ،
فشممت أيامي
وشممتني
الجراح


وتعد قصيدة "تعبت مني" من أهم قصائد الديوان والتي تتجلى فيها ملامح بناء شعري متكامل يعكس عالم ابو الهيجاء الفني واللغة ذات الانزياحات الحداثية المتواصلة التي طورها عبر تجربته الطويلة، ويقدم فيها مقومات الرؤيا الشعرية التي تعكسها أعماله. تتضمن القصيدة تسع مقدمات لتسع فواصل شعرية متسلسلة مترابطة تستخدم لغة الحكاية الفلكلورية والمناجاة والأغاني الشعبية الفلسطينية الطفولية. تظل المقدمات التسع التي تلخص تجربة الشاعر وذكرياته واحتراقه ومعاناته مع الواقع والتاريخ واشتراطات اللغة في سبيل تقديم حلمه الشعري المتفرد الذي يتسامى فوق المكرور تردد عبارة أعطت القصيدة إسمها "تعبتُ مني". وتلخص هذه المقدمات وعي الشاعر بالمأساة منذ الطفولة وامتداداتها المكانية والزمانية وارتباطه بقضايا الارض والانسان والحلم.. وتنتهي بصوت منكسر كصرخة في واد أو صيحة في البرية يتردد طويلاً في نهاية القصيدة تعبت مني.. تعبت مني...الخ

إسقاطات تاريخية
تقوم القصيدة في إطار سياقها الذاتي الفردي باسقاطات تاريخية وتوظف الرموز والأساطير في سبيل إبراز معالم المعاناة الطويلة والحنين للوطن والانتماء الازلي للارض، لتؤكد أنها ليست معاناة شاعر بقدر ما هي معاناة شعب بأكمله عبر سنوات شقاء المنافي الطويلة. ومن باب الاسقاطات التاريخية وتوظيف الرموز تستحضر القصيدة وقصائد أخرى في الديوان أسماء عمان القديمة مثل عمون وتايكي لتأكيد الحب المتأصل للمكان وعمق التجربة لهذا الانسان الضاربة أصوله في التاريخ ورمز الحنين الى فجر الحضارة وطفولة الانسان والمكان على السواء. وهنا يلجأ الشاعر الى توظيف اليد التي ترسم معالم الطريق الجديد وتمحو ذاكرة المرارة لتخرج الكلمات بيضاء، يد تفتح كوة من الامل في جسد الكلام الميت. وتبرز ثنائية عشق المكان التي تمنح الحياة والخلود واضحة، فالأرض السليبة صارت حلماً يتعلق به الشاعر، ويعطي الحياة لشعره فكأنما يمنحه الخلود، وصارت عمون المكان والتاريخ العريق هي المعادل الموضوعي للذات الانسانية التي تقتات على الحب فتمنحه الحياة.

وهناك مفارقة شفافة يمكن أن نلحظها. ففي حين لا تغيب عمان كما يعشقها عن الديوان، إلا أنه يكدس مئات الصور من الاماكن التي صارت مثل محطات حزن ساكن بأعماقه ، وبدلا من أن تمنحه قلبها وحبها فإنها تقدم له نساء عطاشاً وتفاحاً قتيلا وأراجيل مخنوقة وأحذية خرساء وصور زجاج مهشم. تبرز في الديوان فكرة اساسية ترد في عدة مواضع وهي أن الشعر يمنح الخلاص والتطهر وبلوغ الحقيقة، وهنا يقدم الشاعر شعره كرقية أو تعويذة لعمان بدلاً من انتظار المجهول. يبدع ابو الهيجاء في إبراز دوره ليس كشاعر وحسب، وإنما كمدافع عن الحلم يصونه من الريح بفعل موقفه الذي عبر عنه ذات لقاء بأن الشاعر لسان حال المتعبين.

يبني ابو الهيجاء علاقة حميمية بالمكان، ويغازل المدن والشوارع والاحياء وكل التفاصيل الدقيقة في شعره من خلال القصص التي عاشها أو سمعها عنها او تلك التي روتها له الامكنة وهو صغير، فاقترنت صورها بالورد وطائرات الطفولة الورقية فيتداخل العام والخاص معاً:

كل شيء هنا،
حدثني عني،
أنا معجم البلاد،
خفيفاً أمرّ يضمني كتابي،
.......
أراني الان في الصفوف الاولى
طفلا يتهجى نشيده البكر في أباريق الندى


ولكن تبدو الامكنة الاخرى في القصيدة خادعة مثل وهم أو فخ في اشارة لماحة للفضاء العربي. نعى الشاعر مكانه في صورة رمزية توحي بضياع وطنه المرمري، ثم أبحر في المنافي يكتب شعره شاهداً على الرحيل:
كلّ الامكنة فخاخٌ،

ووحدي أنعى مكاني،
ورقصي
حاضرٌفي منازلي
المرمرية،
والشعر شاهد الرحيل،
ودمي عنواني،
"أي فتى أضاعوا"
في شجر المنافي،
ليبحر في بحر القصيدة،
يناجي يد الغيم،
كي تفيض غناءعلى مخدة العشق
تغسل السؤال،
من ضلالات الزمان.

يتردد في القصيدة كثيراً ضمير الانا المتكلم مما يعزز الذاتية التي ترى في موهبتها الشعرية والتزامها بالحلم الذي تعبر عنه القصائد "وأخذتني قافيتي الى مبتغاها" اكتمالاً لدور الشاعر ووفاء منه لرسالته نحو شعبه.

الفضاء الفلسطيني
يبدو الفضاء الفلسطيني واضحاً تماماً في الديوان بكل ما يتضمنه من أغاني الحزن والفرح، ومن صور الحياة الشعبية بكل تجلياتها التي تناقلتها الاجيال وصور الشهادة والعذاب والمنافي والتشرد. يوظف الشاعر أسلوب السرد لتقديم التراث الشعبي الذي يحتفي بالارض الفلسطينية من خلال حكايات الاباء والامهات، كما يوظف أغاني الزجل والمواويل والفلوكلور الشعبي والاغاني والميجنا للانتقال من الفضاء الذاتي الى الفضاء الفلسطيني:

لا أشبهني الآن،
ولست سواي،
طوّعتني القصيدة،
باركتني مراياي،
وأنا إبن خمسين كسوفا،
تمرجحن بي،
ومنفاي
هو منفاي.

أهدى الشاعر قصيدة كبرى ذات مفاصل تاريخية للراحل محمود درويش. ففي قصيدة "الارض تنهيدتك.. لحنك الاخير"، قسم الشاعر القصيدة الى مقاطع تاريخية تتناول رحلة الالم الفلسطيني منذ النكبة وحتى رحيل درويش مرورا بالنكسة وحرب تشرين واجتياح بيروت وسقوط بغداد. ووظف دلالة الرقم في القصيدة بأسلوب رمزي فجعل في رأس كل مقطع رقما يدل على سنة الحدث في اشارة رمزية ذكية تستحضر في ذهن القاريء سلسلة من المآسي التي شكلت معالم الوعي العربي المعاصر مما ينتقل بالشعر من الفضاء الفلسطيني الى الفضاء العربي.

يا سيد الحلم/
كل شيء يستوي الآن،
في باب الرحيل،
يستوي/ في شهوة التراب،
تنام الطرقات،
في وحل القدمين،
وشاهدة المعنى،
تفاحة خبأها القلب
وانزوى
في عشب الشتات،

حوارية
يفتتح الديوان بحوارية معبرة بين الشهيد وغزة. وبرغم أنها حوارية تستدعي البوح والمكاشفة والاسلوب المباشر ورغم أنها كتبت مباشرة بعد الحدث، إلا أنها عمل شعري فني ناضج يحفل بالرموز والاشارات والصور الفنية في لغة شعرية عالية التوتر بعيدة عن المباشرة. وبالرغم من خصوصية تجربة الشاعر وصوته الخاص المعبر عن عالمه الفني الذاتي، إلا أن القاريء يلمس في القصيدة هذه توارداً شعرياً ، مع أسلوب درويش الشعري وخاصة في قصيدة مديح الظل العالي، ربما اقتضته طبيعة الحدث في كلا القصيدتين، حيث يقف المقاتل وحيداً في وجه أكثر من صمت وحصار ، وحيث تحين ساعة رثاء الصحراء وعتابها وكشف الحقيقة المرة.

قال الشهيد:
كانت السهول أمام وهج الدمع تغتسلُ
ودمي يحملني
لنشيد شجري في الطرقات،
وكل المنازل بدمي تكتحلُ،
أنا ابن دمي،
بدء الطلقات،
أول الداخلينَ الى الحلم
وحلمي بموجي يحتفلُ

قالت غزة:
وأنت تعدُ
نشيدكَ
وخطى الدربِ
وتمضي
بين يديك الكفنُ
لا تؤجل صلاتك في بوابة العشقِ
مروا جميعهم على جرحك
وغابت عنك المدنُ
لا لم تعد بنادق أخوتك صالحةُ
اصابها العفن

يخيم على الديوان طيف حزن مقيم يمتد من الاندلس الى يومنا الحاضر وأجواء حلم ضائع لا نستعيده الا ببراءة الشعر، ورثاء الابطال العاديين والمدن، وحنين الى الماضي: ماضي المكان وماضي الزمان الذاتي، مثلما يخيم عليه أجواء الغياب والرحيل. وتكثر في متن القصائد كما في عناوينها مفردات الموت والشهادة والرحيل والجنازة والتوابيت والمسلات وشواهد التراب واللحن الاخير والغربان وخزائن السواد. وتتماهى الخيوط بين القصائد الذاتية مثل سيرة بنت فاطمة التي أهداها الى أمه وبين عكازة الرحيل التي أهداها الى المناضل الراحل محمد ابو الهيجاء، وبدلا من أن تبكي الشخصيات المدن المفقودة تصبح القصائد مثل وقفة وداع المدن لابطالها المجهولين.

ليس هناك في الديوان قصيدة تحمل العنوان "على مهلك أيها الليل" إنما هي افتتاحية قصيدة "فراش الكتابة". ولكن أهميتها أنها تعكس إدراك الشاعر أنه حمل رسالة الشعر ومعاناته، ولكن الرؤية لم تر النور ولم ينبثق الفجر الموعود. فراش الكتابة تؤذن بأجواء الرحيل والاستعداد للغياب. يرى القاريء في القصيدة إنساناً منكسراً إنهار حلمه ، حتى بلغ الظلام قاع الرؤية وأطفأ سراج الشعر. ويأتي الاعتراف "أنا قتيل الهوى أنهض من خراب الى خراب". وبطبيعة الحال، فإن الليل يرد في الديوان في مواضع كثيرة بمعنى الزمن والظلم وفقدان الامل وطول المعاناة وإقامة الشقاء حى يكاد الفجر يبدو بعيداً. ولكن في قصيدة "خزائن سوداء"، يتجسد الليل في شخصية طاغية تستوطن ذاكرة كل شيء..يصير الليل عنوان الغياب المقيم، وحدّ السكين التي تمزق في الاعماق وتشق قصائدها.. يصير الليل وطناً لا ينام ولا يمنح هدوءا لعاشقي الارض الحزانى. ويأتي النداء مثقلا تارة بسخرية وتارة بحرقة من عمق الرجاء "أين تذهب الليلة يا ليل؟"

يكاد يقيم الشاعر في هذا الديوان قاموس الشعر الفلسطيني المعاصر. إذ تحتوي القصائد على أغلب مفردات الشعر الفلسطيني ورموزه وأسمائه وأفعاله التي تكرست في شعر أهم اعلامه المعاصرين المرتبطة بالمكان والانسان والفلوكلور والتاريخ والتي تعطي شكلا وجوهراً للهوية الفلسطينية. على مهلك أيها الليل ديوان شعري فلسطيني الروح والهوى والنكهة يستحق القراءة وإضافة متميزة للشعر العربي المعاصر وتتويج جميل لتجربة عشرين عاماً من شعر عمر ابو الهيجاء.


* العنوان مأخوذ من قصيدة حقول ماطرة

نشرت جريدة الدستور الاردنية مقالتي أعلاه في القسم الثقافي من عدد يوم الجمعة الموافق 25/12/2009 . يرجى الضغط على صورة المقالة المنشورة للانتقال الى الصفحة الكاملة في الجريدة . يرجى الانتظار قليلا الى أن يتم تحميل الصفحة.



الصفحة الكاملة جريدة الدستور

الجمعة، ديسمبر 11

رجل كثير الشكوى



رجل كثير الشكوى


قصة قصيرة

بقلم اياد نصار

منذ سبعة عشر عاماً وهو ينتظره. يقترب منه ويبتعد عنه لكنه يؤمن أنه سيجده ذات يوم. يراه عند كل ناصية درب وفي صفحة الجريدة التي تنشر أرقامه. يراه في أيدي الباعة على الرصيف. يراه تارة قريبا كأنه في متناول يده وتارة بعيداً كالسراب.. يبقى طوال الشهر يفكر به ويمنّي النفس بالحلم، وفي اليوم الموعود يتبخّر كل شيء، فيترك في النفس غصة. كل شيء في الحياة يدعو للسخرية والرثاء. هكذا تقول ملامح وجهه ونظرات عينيه الحادة وأسنانه العريضة في مقدمة فمه. عندما التحق بقسمنا في ذلك الشتاء الكئيب من عام 1993 كان أصلع مقدمة الرأس كثيف الشعر حول عنقه. فكانت جبهته العريضة تسح عرقاً حتى في أيام البرد، وصوت لهاثه يُسمع عالياً. لا أذكر أني رأيته منذ أن عمل في المصنع بدون تلك الابتسامة الساخرة على شفتيه. أتعجب من قدرته على الثرثرة المتواصلة، فلا يمل من ندب حظه العاثر!


في ذلك اليوم الرمادي رمى أحجيته أمامي ووقف ينتظر ردة فعلي. فكرت فيها ولكني شعرت بالعجز ومخي توقف عن التفكير. أحسست أنني تورطت في خضم متاهة مسدودة. رأيت خبثاً في طرف عينيه. تبسم ومد يده. "ياسين" ذكي ولكن لم تشفع له كل مهاراته الرياضية. بقيتُ أفكر في الثأر لنفسي. باغته ذات يوم في مسألة توهمُ الناسَ بأرقامها الخادعة، لكنه أذهلني. خاب ظني في الثأر! لم أفهم لماذا يتذمر ما دام يمتلك كل هذا الذكاء. لا أمل له في الانصاف كما يقول، فكل يوم يزداد أصحاب التوصيات عدداً وهو يزداد تراجعاً في آخر القائمة. يسلبون الفرص من أمام ناظريه وهو منسي في قاع الدنيا كما يردد. كنت أحاول أن أتفادى الوقوع في مصيدة مزاجه المتعكر. عندما التحق بنا تلك السنة، شعرت أنه مقتول الطموح وخائر الهمة. كنت ألومه بيني وبين نفسي على صبره الدهري.


يرتسم على وجهه حزن ينتظر معجزة. يظن أن الحظ وحده سيقلب الاشياء في حياته. "أحمق من لا يشتري ورقة يانصيب، وأحمق من يشتري أكثر من ورقة"! هكذا يردد دائما. حفظت شعاره وصرت أردده بلا وعي! لم تخل محفظته يوماً من ورقة يانصيب. فكّرت في مقولته. قلت لنفسي إن في الامر منطقاً. كل هولاء الذين زارهم الحظ ألم يكونوا من قبل يشعرون باليأس وطول الخيبة؟ لم يكن لديهم سوى أمل ضئيل، بل ربما صار الامر عادة، وربما تمكّن "سيد الهامي" من التأثير فيهم لابتياع ورقة بأسلوبه الاسكندراني! أغبط سيد على بساطته عندما يدعو لي بالفوز، وأحس أنه ليس له في الحياة من فلسفة سوى بيع الاوراق. واكتشفت مصادفة ذات يوم أن ياسين صار يتحايل على شعاره. فقد صار يبتاع منه ورقة يانصيب باسم ابنه مرة وباسم ابنته مرة وباسمهما معاً مرات أخرى!


ياسين معروف بأسلوبه في الاقناع والتبرير. لا يعجز عن تبرير مواقفه المتناقضة! لقد أثّرت فيّ مقولاته. يعرف كيف يقنعك بالشيء وضده! صرت مثله أحرص على طقوس ورقة اليانصيب كل شهر. كنت في بعض الاحيان لا أجد "سيّداً" عند زاوية الشارع فأظل أياماً بلا قرار أبحث عنه. أظن الامر صار إدماناً. ألا يمكن أن يطرق الحظ بابي؟ هل الاخرون محظوظون وأنا كُتبت علي التعاسة؟ يحاول سيد معي دائما أن أشتري أكثر من ورقة. فأقول له تلك العبارة التي صرت أحفظها عن ظهر قلب بزهوٍ بادٍ على وجهي. استولت تلك العبارة على تفكيري. امتدّ اهتمامي إلى البحث عن قائلها. لا بد أن ياسين سمعها من شخص ما أو قرأها في صحيفة هنا أو هناك. لعلها لبرناردشو. هذا هو أسلوبه الساخر. ثم اكتشفت أنها ليست له. بحثت ولكني لم أعثر على قائلها. ولماذا أهتم بمن قالها؟ يكفي أنها ترتبط في ذهني بياسين وهذا كافٍ بحد ذاته.


مرت سنوات ونحن نطارده، ولم نعثر عليه. كنت أفقد الامل في بعض الشهور وأشعر بأنني أنفق دنانيري بلا طائل. ولكن ياسين بقي عند ايمانه الذي لا يتزعزع به. صرت أتناسى ورقة اليانصيب في بعض الاحيان وأتظاهر أمامه أنني اشتريتها. لم يعد من حديث بيننا عندما نلتقي سواه. واكتشفت ذات يوم أن ياسين يلاحق أخباره في كل مكان. بل إنه صار يحفظ مقولات شتى حول المسألة. أعدت التفكير في الامر. أيقنت أن من الحماقة ألا أشتري ورقة. فصرت أتفنن في اختيارها. وتولدت عندي مهارات في الحكم على الرقم من النظرة الاولى.


منذ أسابيع لم أعد أرى سيد الهامي. شعرت بانزعاج. أخذت أدور في الشوارع بحثاً عنه. ولكنه اختفى. بحثت عن آخرين كنت أراهم دائماً لكنني لم أجد واحداً. أين اختفوا؟ كانوا دائما يذرعون شوارع الحي. لا استطيع أن أتخيل بعد الان أن يفوت شهر دون أن أشتري ورقة. صارت تجبرتني الرغبة على الذهاب الى قاع المدينة. إنه يقف عند الزواية ذاتها كل يوم. يلبس معطفاً سميكاً وقبعة ملونة عجيبة تميزه عن غيره. لاحظ ترددي الدائم عليه فصار يستوصي بي في اختيار الورقة. يعرف أنني لا أحب شراء نصف ورقة. لا يستحق الأمر ندم العمر كله لو ربحت! يقترح "جودة" علي أرقاماً ويقول إنها حلوة ويجب ألا تفوتني. ولكنني دائماً أعتذر وأردد تلك العبارة التي أراحتني من إحراجه والحاحه! أحسست بيد تربت على كتفي من الخلف.. سمعت صوته وضحكته الساخرة: "ليست المسألة مهارة بل مجرد حظ! إقطع أول ورقة وخذها".


أصر ياسين أن نذهب الى المقهى. كانت روائح الارجيلة تعبق في المكان، والايدي مشغولة في ترتيب الاوراق. الوجوه واجمة كأنها تمارس الحياة برتابة طقوسية بلا متعة أو معنى.


- ألا ترى أننا ما زلنا مكاننا. عشر سنوات وأنا وأنت ننتظر الفرج. ماذا يفيدني إن طرق بابي في آخر العمر؟!


- ما الذي حرّك فيك الامر الان؟ لست أنت من يقول ذلك.


- ألا تذكر طلبي القديم برغبة الانتقال للعمل في المصنع باليمن؟ لقد اتصلوا بي وعرضوا علي النقل.


- معقول؟ لقد مضت عليه خمس سنوات.


- ألم اقل لك بأن أصحاب التوصيات يصعدون القائمة سريعاً؟!


- وكيف صعدتها أنت؟ هل من أوصى بك؟


ضحك وهزّ رأسه ولم يقل شيئاً. سألته بقلق: وهل تفكر فعلا بالسفر؟


- المسألة حظ. أريد أن أجرب حظي.


- وكيف ستعيش هناك بدون يانصيب؟!


- لا عليك، أخي سيتكفل بالامر هنا. لقد أوصيته!


مضت عشر سنوات طويلة منذ ذاك اليوم. لم أعد اسمع أخبار ياسين خلالها، وفتر الاتصال بيننا حتى انقطع مع مرور الزمن. لا بد أن أموره تحسنت فلم يعد يتصل بي. انتقلت من المصنع الى المبيعات وازدادت مشاغلي ومسؤولياتي. وشيئاً فشيئاً بدأت أنسى التفكير في اليانصيب. عندما انتبهت بعد ثلاث سنين اكتشفت أنه قد مضت عليّ سنة بكاملها لم أشتر ورقة واحدة. لا أعرف كيف أقنعت نفسي أن المسألة برمتها لا تستحق. أنفقت مالاً كثيراً طوال سنوات بلا نتيجة. إزداد حجم العمل وصارت العمولة تنقذني في نهاية كل شهر. خامرني شك في جدوى تلك العبارة. أحسست أنني كنت أحمقاً! صرت أمرُّ عن جودة ولا يحرك نداؤه في ّ شيئاً. أظن أنني هجرته للابد.


كان يوماً في بداية صيف حار العام الماضي. كنت منهمكاً في العمل. فجأة سمعت صوته في الممر يقترب. شككت في نفسي أول وهلة. لكنه دخل من باب المكتب يصيح مبتسماً بصوته الأجش: أين رفيق الورقة؟! هل ما زال هنا؟ خيّل اليّ أنني عرفته. نهضت لاستقباله. لقد تغيرت ملامحه وصار مكتنزاً وبديناً وأصلع الرأس. ولكنه ما زال ياسيناً كما عرفته. ما زال سيد الشكوى والتذمر. قلت له: ألن تغير من طبعك؟! قال: "بل هذه هي الحقيقة. لقد كانت المغامرة قاسية ولم أجن منها سوى الغربة والحرمان". شعرتُ بالرثاء لظروفه البائسة. بعد كل هذه السنوات لم يستطع أن يشتري شقة متواضعة. ما زال يعيش بالأجرة، وأصيب بألم مزمن في ظهره. "عليكم أن تتحملوا ثرثرتي فأنا في إجازة لمدة أسبوعين"؟! قال، ثم سألني عن اليانصيب. خجلت من قول الحقيقة. قلت بصوت خفيض أنني ما زلت أجرب حظي. قال إنه سيسافر الى بيروت. استغربت وقلت: "منذ برهة وأنت تشكو الفقر والان ستسافر الى لبنان"؟! قال: "لا، سأذهب ليوم أو يومين لأشتري يانصيبا من هناك"! فغرتُ فمي من الدهشة وضحكت مقهقهاً. ولكنه أضاف: "لا تتعجب فقد اشتريت بطاقة يانصيب بالفيزا من ايطاليا أيضاً"! وقبل أن تبدر مني أية ردة فعل سألني: هل تتذكر سيد الهامي الذي كنا نشتري منه الأوراق؟


- نعم، ولكنه اختفى بعد أن سافرت لليمن.


- ربح الجائزة الاولى وعاد لبلده.

* اللوحة أعلاه بعنوان بائعة اليانصيب للفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي (1934- 1978)

نشرت جريدة الدستور الاردنية القصة في ملحقها الثقافي الصادر يوم الجمعة بتاريخ 11/12/2009. يمكن الضغط على الرابط أدناه لقراءة القصة من موقع الجريدة:
الدستور - رجل كثير الشكوى

أو الضغط على العنوان أعلاه أو الصورة أدناه لتحميل الصفحة الكاملة والاطلاع عليها:









السبت، ديسمبر 5

"قليل من الحظ" في جريدة الرأي الاردنية



نشرت جريدة الرأي الاردنية موضوعاً حول صدور مجموعتي الثانية "قليل من الحظ" في صفحة ثقافة وفنون في عدد يوم السبت الموافق 5/12/2009. وكانت صحيفة الدستور الاردنية قد نشرت موضوعاً حول صدور المجموعة في وقت سابق. كما نشرت عدد من الصحف العربية مثل صحيفة اخبار الخليج الاماراتية وصحيفة الوطن القطرية وعدد كبير من المواقع العربية الثقافية والاخبارية الالكترونية على شبكة الانترنت.
يمكنك عزيزي القاريء الضغط على الرابط التالي لقراءة الموضوع في جريدة الرأي

"قليل من الحظ" في جريدة الرأي الاردنية 

كما يمكنك رؤية المادة المنشورة من خلال الضغط على صورة الصفحة أعلاه.

الثلاثاء، ديسمبر 1

"قليل من الحظ" في صحيفة "الوطن" القطرية



"قليل من الحظ" في صحيفة "الوطن" القطرية

نشرت صحيفة الوطن القطرية في القسم الثقافي من عددها الصادر يوم الجمعة 27/11/2009 موضوعاً حول مجموعتي القصصية الثانية "قليل من الحظ".
يمكن قراءة الموضوع على الرابط التالي:


الجمعة، نوفمبر 20

درج الورد


درج الورد


بقلم: اياد نصار

عادت المدينة ذات زمان قريب من عمق التاريخ وتثاءبت ومدت يديها على قمم وسفوح جبالها السبعة.. كانت ما تزال أطياف الحوريات مرتسمة على جدران سبيلها والربّة في أطلال معبدها. ولدت طفلة جميلة تحت ظلال الحور والسنديان والسرو عند راس العين، وصارت تكبر وتكبر معها حكاية إنسان. نحَتَ في صمتٍ صبورٍ قصته في الحجر. جعل من حجارة جبالها وتراب سفوحها داراً مفتوحة على السنابل وهي تعانق أهداب الشمس. أخذت تحبو المدينة.. مدت أطرافها حواليها.. كبرت جدايلها وضجت بالحياة شرايينها. صارت الدار دوراً وكبر الحلم. مضى العمر، وصارت الجبال حكاية تاريخها. تمددت فوق ذرى الجبال وراحت تكبر في المدى فوق سهولها، وبقيت حكاية جبالها السبعة تستوطن الذاكرة.


حمل سيزيف الصخرة على ظهره وصعد بها جبالها فأرهقته.. تدحرجت وعادت للسفح فعاد يحملها من جديد. حمل الصخرة وصعد بها يريد أن يبني بيته على قممها. كانت الرحلة شاقة متعبة، والصخرة تفلت من يديه وتعود للقاع، ولكن حلمه لم يفارق خياله. نحت طريقاً ملتوية متعرجة من القاع الى القمة كي يستطيع أن يحمل معه الحلم ويهبط به كل يوم الى وسط المدينة، وحين يحل الغروب يعود حاملا اياه الى أعالي الجبل. أرهقت الطريق ساكنيها وهم يصعدون ويهبطون الجبال كل يوم مثل سيزيف ولكنهم لم ييأسوا. صارت المدينة بدروبها الصاعدة والنازلة قدرهم. وبنى العمّاني ذات يوم بعيد درجاً من الحجارة كي يصعد وينزل عليه الى قلب مدينته عند سبيل حورياتها.


كبرت المدينة وصار يبني في كل عام درجاً. وتناثرت على جوانبها بيوت صغيرة متلاصقة. صارت الادراج ساحات طفولة الاولاد، ومجلس السيدات والعجائز على عتبات البيوت تحت ظلال الياسمين. منذ زمن لا نعيه، صارت عمان مدينة الادراج السبعمائة بل السبعة الاف. في كل مكان تراها.. صارت الادراج جسور المدينة الصغيرة التي تشهد عذابات الفقراء وكدّهم وحبات عرقهم.. تقف صامتة بلا رتوش.. أحيانا تبدو جميلة مرصوفة بالحجارة تظللها أشجار الياسمين وتعبق برائحتها، وأحيانا تبدو مغبرة اسمنتية كالحة، وفي أحيان أخرى ترى على جدرانها الاستنادية الطويلة الفن الطفولي بألوانه وطباشيره وعبثه. وأحيانا تبدو جافة عطشى تنتظر سيدات البيوت ليقمن برش سطوحها بالماء، فتزكم رائحة التراب المندّى والغبار الانوف.. هل يا ترى ما تزال نساء عمان يسكبن الماء على أدراجها كما كانت تفعل أمي؟ في أيامٍ ترى المياه تسيل على درجاتها لتستقر في الشوارع، فتعرف أنه الصيف وأن المياه لا تصل بيوتها في الاعالي الا بصعوبة كخيط الحياة الواهن.. كم فكرت وأنا أصعد وأهبط أدراجها الطويلة أن كل بيت من هذه البيوت يخفي قصة معاناة انسانية خلف جدرانه. تسيل المياه على الادراج فتدخل الى فناء البيت بالاسفل. تخرج السيدة صائحة حانقة على جارتها. وتكاد الادراج أن تسلب وداً متوتراً كضوء شمعةٍ في مهب ريح، أو تضع نهايةً لحسن جوارٍ قتلته المعاناة، وقلة الصبر، والفقر! ترى القطط تذرع الادراج بحثاً عن صيد تسدّ به رمقها، فتعبث بأكوام النفايات وتبعثرها. صارت الادراج ملاذها وبيتها ومطعمها من عنف الشوارع التي تسحقها فيها السيارات النزقة.


تحكي أدراج عمان سيرة المدينة وتاريخها منذ أن تفتحت عيناها على العصر الحديث، ومنذ أن وفدت العائلات السلطية والشامية والفلسطينية والشركسية والأرمنية اليها. إنها جزء لا يتجزأ من مفردات عمان القديمة التي ربما تدخل ذات يوم كتاب غينيس في أعداد درجاتها التي تساوي عدد سكانها، بل لقد تم اطلاق أسماء رسمية عليها اعترافاً بها مثل درج فروة الجذامي. كانت فيما مضى الادراج من الحجر الذي يعطي احساساً بالفخامة والاتقان والحميمية في علاقة الانسان بالمكان، كما هي الحال في مناطق جبل عمان القديمة، وصارت الادراج الان من الاسمنت ذي القلب البارد. هو ذاته التغير الذي عرفته عمان من مدينة صغيرة تتسم علاقات أهلها بدفء ومعرفة عميقة الى مدينة واسعة تتسم بصفات المدن المعاصرة كالبرود واللامبالاة!


ما تزال أدراج عمان ترتبط في الذاكرة الشعبية ارتباطاً وثيقاً حتى اليوم. تشهد أدراج حي المهاجرين التي تصله بحي خرفان وبامتداد سفح جبل عمان على قصة احتضان المدينة لموجات المهاجرين اليها، وتعبّر البيوت الاسمنتية المتراكبة فوق بعضها عن أجيال سكانها الذين تعاقبوا على المكان فزادوا غرفة هنا وطابقاً عشوائيا هناك. وما زال درج الكلحة يروي قصة وسط البلد عند التقاء شارع السلط بنهاية جبل اللويبدة الجميل.. هذا الحي المليء بأدراجه الذي أحبه الادباء والفنانون فاتخذوا منه مقرا لروابطهم ذات يوم.. إنه ذاته الذي استهوى مؤنس الرزاز ويوسف ضمرة وماجد ذيب غنما فأقاموا فيه وشعروا أنهم مثل السمك الذي لا يقدر أن يغادر بحره. ويقف الجبل الاخضر شامخاً بأدراجه الطويلة التي يكاد النظر لا يصل الى نهايتها، فتتعجب من قدرة احتمال العمّاني على الصبر عشقاً للمكان. كم سارت عليك أيتها الادراج أقدام المتعبين وهي تدب في سبيل لقمة العيش بين هبوط في أول النهار عند صياح الديك وصعود عند الغروب. آه يا عمان كم من شيخ أو عجوز قضى عمره يصعد أدراجك.. وكم من أحد أتعبته أدراجك في الصيف، فوقف يستند الى جدار أو باب أو عمود أو قعد عليها يستريح، والعرق يتصبب من جبينه.. أو احتمى من المطر بمظلات مداخل البيوت في الشتاء فداهمته مياه الدرج الجارفة. وبرغم ضيق المكان، ومشقة الطريق، فان للدرج خصوصيته وذكرياته ولمسته الحانية حيث تصبح حكايات البيوت الحزينة حكاية كل واحد من الساكنين على الدرج. وبرغم الازدحام والاكتظاظ والضجيج، هناك شرفة صغيرة في كل بيت تقريبا تعتبر متنفسه الذي يطل منه على منظر الدالية أو أسطح الجيران حيث أبراج الحمام أو شوارع المدينة المزدحمة. لعلها تلك الشرفة هي التي أعطت الناس أملا ومنظرا جميلاً يتحملون كل شيء لأجل رؤيته كل يوم. آه كم قضيت سنوات من عمري على أدراجك يا عمان.. درج المحكمة الشرعية الذي كنت أنزل منه الى شارع بسمان.. أو درج منكو الى سوق الملابس.. أو درج الاستقلال الى شارع البريد.. أو أدراج مخيم الحسين بين بيوت الصفيح والازقة والقنوات المكشوفة الموحلة في الشتاء.. أو أدراج جبل عمان حوالي الدوار الاول.. أو أدراج المهاجرين التي كانت تطل ذات يوم على مبنى شركة الدخان التي دُرست معالمها.. ربما ليس هناك درج ليس لي عنده ذكريات. فهل نالت أدراج عمان حظاً من روائييها وقصاصيها وشعرائها؟ سؤال مفتوح.. وتظل عمان كما قالت فيروز "درج الورد مدخل بيتنا".


inassar98@hotmail.com

نُشرت في جريدة الرأي الاردنية / الملحق الثقافي ليوم الجمعة 20/11/2009. يمكن قراءة النص على موقع الصحيفة على الرابط التالي:
درج الورد - جريدة الرأي
 
كما يمكن تحميل الصفحة الكاملة وقراءة النص من خلال الرابط التالي:
جريدة الرأي - الصفحة الكاملة
 


يوسف الشاروني.. عميد القصة العربية






في عيد ميلاد عميد القصة العربية الخامس والثمانين
يوسف الشاروني .. كاتب أخلاقيات الزحام وطقوس الحياة المدينيّة

بقلم: اياد نصار

لا أعرف أحداً من كتاب القصة القصيرة العرب ممن بقي منتمياً ومخلصاً لفن القصة القصيرة أكثر من يوسف الشاروني. عندما تذكر القصة، يذكر معها اسم يوسف الشاروني. كأني بإسمه والقصة صنوان لا يفترقان لأي دارس وباحث وقاريء متابع ومتعمق لتاريخ القصة العربية. مرت الذكرى الخامسة والثمانون لميلاده مؤخراً وما زال يحمل الراية ويكتب القصة القصيرة. ندعو له بالصحة والعمر ومزيد من العطاء الذي لم ينضب أو يخفت أو يتراجع منذ أن أمسكت أنامله القلم وخط أول قصة قصيرة له في أواخر الاربعينيات من القرن العشرين. ولكن "الزحام" كان سبب شهرته! فقد أراد أن يعكس موضوع القصة ألا وهو الزحام وأزمة المواصلات والاكتظاظ وبالذات في مدينة القاهرة في قصة ليس في المضمون فقط، بل وفي الشكل أيضاً! فقد نشر قصة "الزحام" سنة 1963 وهي تروي حكاية فلاح جاء للمدينة وعمل سائقاً للأتوبيس. وأسلوب القصة نفسه يتسم بالزحام، حيث حذف حروف العطف وأسماء الوصل فكانت الجمل متلاصقة متزاحمة! كأنما أراد أن تنقل القصة موضوع تزاحم الناس في المواصلات في كل مظهر من مظاهرها. ولقيت القصة إهتماما كبيراً وترجمت لعدة لغات وكانت أحد أسباب شهرته.


بدأ يوسف الشاروني كتابة القصة في السنة ذاتها التي نشر فيها يوسف ادريس مجموعته الاولى "أرخص ليالي" في عام 1954 حيث نشر مجموعته الاولى "العشاق الخمسة" بعد صدور مجموعة إدريس بشهر واحد. ولكنه إبتعد عن الواقعية الاشتراكية التي إنتهجها يوسف إدريس في أعماله. ومن الطريف أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رفض أن يكتب له مقدمة لمجموعته القصصية الاولى في حين كان يفضل يوسف إدريس عليه!


ومن المضحك المبكي أن المجلات والصحف المصرية كالرسالة، وكعادة الصحف والمجلات العربية، رفضت في بداية مشواره الادبي أن تنشر له أعماله، فأخذ ينشر أعماله في مجلة الاديب اللبنانية. ثم ما لبثت المجلات المصرية وبعد أن أخذ إسمه يتردد في الاوساط الثقافية أن أخذت تنسخ عنها وتنشر له قصصه تحت اسم الاديب اللبناني يوسف الشاروني!


فاز الشاروني بجائزة سلطان العويس الادبية في الامارات العربية في دورتها العاشرة للعام 2007 في حقل القصة تكريما له على مساهمته الجلى في نشر وتطوير القصة العربية في العصر الحديث. فقد قضى حياته كلها مخلصاً للقصة القصيرة ولم يقتحم عالم الرواية الا مرة واحدة عام 2006 حينما نشر رواية "الغرق" وهو في الثالثة والثمانين من العمر، والتي تستند الى حادثة غرق العبارة المصرية "المحروسة" في كانون الاول عام1991 . وتصف الرواية الدقائق الحرجة المأساوية التي حدثت فيها كارثة السفينة. وقد ذكرت لجنة التحكيم أنه واحد من أهم رواد التجديد في القصة العربية الحديثة، الذي رصد توترات الواقع وأزمة الإنسان المعاصر في رؤية حياتية مفعمة بالتناقضات والصراعات.


ما زال يوسف الشاروني يكتب بالهمة ذاتها والامل رغم مرور السنوات. وأجمل ما فيه أنه وعلى خلاف ما درج عليه كبار الكتاب عندما يبلغون من السن عتياً، أنهم يعيشون في الماضي ويقتلهم الحنين اليه والترحم عليه، إلا أن الشاروني كتب ذات مرة في مقالة قبل سنتين يقول: "أكتب هذه الكلمات وأنا في الثالثة والثمانين، وأنا أذكر ذلك لأنه يقال إن من هم في مثل هذا العمر لا يعجبهم الحاضر عادة ويولون وجوههم نحو الماضي يلوذون به باعتباره الأنا السعيدة المفقودة".


ولد يوسف الشاروني في عام 1924 في منوف بمصر، لكنه إنتقل مع أسرته الى القاهرة وعمره ثلاث سنوات. وهكذا نشأ في جو المدينة المزدحم الصاخب وتشرب عادات الحياة اليومية بفقرها وطقوسها ومحلاتها الشعبية. وعن سبب تسميته بالشاروني فهو نسبة الى قرية أبيه "شارونة" في محافظة المنيا، وقرية والدته التي شاءت الصدف أن تكون هي أيضاً من قرية اسمها "جزيرة شارونة" وهي عبارة عن جزيرة في وسط النيل.


كان ليوسف السباعي دور في تحويل مسار حياته للابد، فقد إكتشف موهبته عندما كان يتردد على مجلس نجيب محفوظ في كل يوم جمعة، وساعده على الانتقال ليعمل موظفاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بعد أن كان مدرساً للفلسفة. وقد تدرج بالعمل في المجلس الذي صار يسمى بعد ذلك "المجلس الأعلى للثقافة" حتى وصل منصب وكيل الوزارة قبل أن يحال الى المعاش.


وكعادة كثير من الادباء الذين يجربون حظهم باديء الامر في الشعر قبل أن يكتشفوا أنه لا باع لهم فيه ولا ذراع، فقد كتب الشعر النثري الذي سماه النثر الغنائي ونشر ديوانه الوحيد "المساء الاخير"عام 1963 . كتب عددا كبيرا من المجموعات القصصية منذ عام 1954 كان أولها العشاق الخمسة، ومنها ورسالة إلى امرأة 1960، والزحام 1969، وحلاوة الروح 1971، ومطاردة منتصف الليل 1973، وآخر العنقود 1982، والكراسي الموسيقية 1990، والضحك حتى البكاء 1997، وأجداد وأحفاد 2005.


حاز على جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة عن مجموعته القصصية (الزحام) عام 1969م، وعلى جائزة الدولة التشجيعية في النقد الادبي عن كتابة (نماذج من الرواية المصرية) عام 1978م، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2001.

ترجمت أعماله إلى عدد كبير من اللغات العالمية. وكان دائم النشر في مختلف المجلات الثقافية العربية الدورية كالعربي والدوحة وغيرها. وله عدد كبير من الكتب والدراسات والترجمات والتحقيقات والكتابات التاريخية والسير الادبية. وقد كُتب عنه وعن أدبه العديد من الكتب والدراسات باللغة العربية والانجليزية.



ينتمي يوسف الشاروني الى الاتجاه التجريبي في القصة. تسيطر على قصصه أجواء المدينة الصاخبة المزدحمة وهو ما سماه مرة "أخلاقيات الزحام". وتعكس التطور الذي حصل بسبب تطور وسائل المواصلات التقليدية والصحافة ووسائل الاتصال، ولكن هذا التطور جلب معه التناقض والاضطراب، فاصبح الانسان يمر بظروف عاطفية ويتأثر بمؤثرات متناقضة بين الحزن والفرح وبين الامل واليأس وبين الحياة والموت في اللحظة ذاتها التي يتأثر بها بهذه الظروف المتناقضة والحالات الشعورية المختلفة. وقد تأثر في بداية مشواره الادبي بمقولات وفلسفات مدارس الحداثة والتجريب كالسوريالية التي كانت تسعى الى تحطيم الاطر التقليدية للفن والادب وأقامة علاقات جديدة. كما تحفل قصصة بالاجواء الكابوسية والمأساوية. يجمع في قصصه الكثير من متناقضات الحياة اليومية العادية للدلالة على طقوس الحياة المدينية التي تشهد المتناقضات كل يوم، وتعبر عن الاغتراب وتفكك العلاقات الاجتماعية وانكفاء الانسان على ذاته أو محيطه الصغير. يؤمن يوسف الشاروني باسلوب التناص من خلال توظيف الشخصيات التي سبق تقديمها في أعمال سابقة لكتاب آخرين بأعمال جديدة ومضامين جديدة لكنها تتكيء على القصة الاصلية.


وإذا كان الحذاء قد إكتسب شهرة كبيرة بعد حادثة القاء الحذاء على الرئيس الامريكي جورج بوش من قبل الصحفي العراقي منتظر الزيدي‘ فإن يوسف الشاروني قال إنه قد كتب قصة عن الحذاء في عام 1952 يقول أنه تنبأ فيها بثورة يوليو أو تموز 1952! وفي هذه القصة فإن البطل وهو موظف حكومي فقير إعتاد أن يصلح حذاءه بالترقيع، حتى لم يعد فيه مكان صالح لدرجة أن الاسكافي أخبره أنه لا ينفع معه الرتق، وأنه يجب استبداله. وعندما يعود الى بيته يشعر بأن حدثاً كبيراً وعظيماً سوف يقع ويغير حياته.

وبرغم انتاجه الوفير في عدة مجالات كالقصة والنقد والدراسات الادبية والترجمات والسير، إلا أنه مقل في أعماله! قال في لقاء: "أنا كاتب مقل فعلا‏؛ لم أكتب خلال أكثر من عشرين عاما إلا حوالي خمسين قصة قصيرة، بمعدل قصتين أو ثلاث في العام الواحد‏.‏ وترجع هذه الظاهرة عندي إلي عدة عوامل أهمها‏:‏ أنني لا أكتب القصة في جلسة واحدة‏. بالرغم من أن الفكرة العامة للقصة قد تكون واضحة بحيث إنني قد أكتب بدايتها ونهايتها قبل أن أكتب ما بينهما،‏ إلا أن عملية الكتابة بالنسبة لي هي نفسها عملية الإبداع الفني‏. فعن طريق الكتابة والكتابة وحدها تتم اكتشافاتي التعبيرية. كما أحس بأنني لا أتعرف علي شخصياتي الفنية مرة واحدة‏،‏ بل تحدث الألفة بيني وبينها شيئا فشيئا، تماماً كما تلتقي بشخص غريب لأول مرة‏، فإنك لا تعرف عنه كل شئ مرة واحدة حتي يأتي اليوم الذي تعرف عنه فيه أدق تفاصيل حياته‏. لهذا فإنني أكتب القصة مرة بعد أخرى بحيث أعيد نسخها أكثر من خمس وعشرين مرة‏. فتستغرق كتابتها نحو ثلاثة أشهر‏. بل إنها مادامت لم تنشر فإنني أظل أعدل وأبدل فيها ويكون النشر هو طريق الخلاص الوحيد منها‏".




* اللوحة أعلاه بعنوان الصياد وطيور البحر للفنان المصري فاروق وجدي 1997
* نشرت المقالة في جريدة الدستور الاردنية ليوم الجمعة 20/11/2009. فيما يلي رابط المقالة على موقع صحيفة الدستور:
يوسف الشاروني - الدستور الثقافي

والرابط التالي أدناه للانتقال الى الصفحة الكاملة في الجريدة وتحميلها:




الاثنين، نوفمبر 16

"قليل من الحظ" في جريدة الدستور

نشرت صحيفة الدستور الاردنية في عددها الصادر يوم الاثنين 16/11/2009 خبراً حول صور مجموعتي القصصية الثانية "قليل من الحظ" كما يظهر من صورة صفحة الثقافة. يمكنك الضغط على الرابط التالي للانتقال الى الصفحة في الجريدة وتحميلها مباشرة

"قليل من الحظ" في جريدة الدستور



الأحد، نوفمبر 15

العشق ليس له خاتمة



العشقُِ ليس له نهاية
اياد نصار

عيناكِ ساحة ُ التاريخ ِ
وأرجوحة ُ النّجم ِ
وشهقة ُ ميلادي
يا أسطورة َ عشق ٍ
دائمة.


في وجهِكِ الباسمِ
رأيتُ زرقة ِ البحر ِ
واخضرارَ اللوزِ
وحمرةَ الثغرِ
تحرسُهُ قلاعٌ
نائمة.


عادَ الشتاءُ
مباغتاً كالحبِّ
رقيقاً كما تشتهينه
من رمادِ سماءٍ
غائمة.


سقى رياحينَك العطشى
وغفا على أسوارِكِ العالية.
تقرأُ الدنيا
في عيونِك أسراراً
فتصمتُ في جلال ٍ
ضفائرُك
الناعمة.


ويلمعُ الحجرُ المصفرُّ
وردياً موشّى
بعبقِ الماضي
كأهدابِ عينيك
الحالمة.


من خلفكِ عادت قرونٌ غافيةٌ
ذابَ الندى على أوراقِ البرتقالِ
وقرأَ نشيدَ الترابِ والخُزامِ
في دفاترِ عشقٍ
هائمة.


كتبتُ تاريخي
بحبرِ عطرِك
ورَحَلُ البحرُ في الافقِ
أخذتني الدروبُ
الى بريقِ عينيكِ
الساهمة.


يا أميرة ً جبلية ً
سارت الفراشاتُ
خلفكِ وحطّتْ
على معطفِكِ
الانيق..
مَنْ سرقَ منا في فجرِ الوعد
قصة َ عشق ٍ 
حكيناها؟
آه أيتها الوساوسُ
الآثمة


أشرقتْ ملامحُ عينيكِ
كشعاعٍ أثيري
بلّله المطرُ
على شرفاتِ زهرٍ
حطتْ عليها نوارسٌ
ورحلتْ الى البحر
نادمة.


أحرقتني أنفاسُك الحرّى
حملتني الى
بابِ الشمسِ خلفَكِ
والظلالِ التي عادت
من زوايا التاريخِ والصورِ
والاقواسِ
ما تزالُ
قائمة.


وردةٌ
نبتتْ ذاتَ يومٍ
على قمةِ
رباكِ الاطلسية
وتحتَ سنى أهدابِكِ
هنا ولدتْ
أميرةٌ أندلسية..
غارَ القدرُ حين غنينا
حكايتَنا معاً
فقطفتها يدُهُ
الغاشمة.


يا شهرزاد
عودي
من زوايا النسيانِ والكتبِ
الى حكاياتِ لياليكِ
وقولي للمحبِِّ
حرامٌ ما صنعتْ يداكَ
العشقُ ليس له
خاتمة.

* اللوحة أعلاه بعنوان جمال شرقي للرسام الامريكي فريدريك آرثر بريجمان (1847 - 1928)

السبت، نوفمبر 14

مجمع رغدان.. حوارات المهمشين من قاع المدينة



مجمع رغدان..

حوارات المهمشين من قاع المدينة

بقلم اياد نصار

أصدر الصديق الكاتب والقاص نواف نصار مؤخرا مجموعته القصصية الاولى التي حملت عنوان "مجمع رغدان". واذكر أنه عندما انتسبت لرابطة الكتاب الاردنيين أنني سئلت أكثر من مرة من بعض الاصدقاء ومن بينهم الاستاذ محمد المشايخ إن كان نواف نصار شقيقي أو قريبا لي، فكنت اقول إنها قرابة القلم وليس الدم التي جمعت بيننا بعد أن جمع بيننا تشابه في الاسماء. تسيطر على المجموعة التي تعد باكورة أعمال الاستاذ نواف نصار في القصة القصيرة أجواء الحياة الشعبية في الاردن وفلسطين ويغلب على قصصها نمط البطولة المشتركة المتعددة الاقطاب أو البطولة الثنائية بدلا من شخصية البطل الفردية المألوفة، حيث أن الكثير من شخصياتها هي نماذج بشرية اعتيادية بل وهامشية لأناس تراهم في الواقع في كل مكان، أكثر من كونهم أبطالا فرادى، وما يترتب على ذلك من تحالف بريء أو عدواني بينها لمواجهة قسوة الواقع والتحايل عليه، وكذلك ما يترتب على البطولة المتعددة الاقطاب من صراعات الشخصيات وتجاذبها وتنافرها في أجواء من الندية والمنافسة التي ربما تتحول الى نوع من التعاطف أحياناً، أو من التشفي حينا آخر.


تطرح المجموعة بشكل أساس هموم ومشكلات الانسان في الواقع الاجتماعي للحياة الشعبية للطبقات الوسطى والفقيرة المهمشة، وقدرته على التكيف وابتكار الوسائل للخلاص بغض النظر عن نبل الوسائل من عدمها، وتقدم بلغة موجزة ورشيقة تخلو من الزوائد اللفظية والاغراق في التهويمات الفلسفية والاختلاجات النفسية الكابوسية التي تتسم بها القصة المعاصرة ألواناً من أنماط الثقافة الاجتماعية السائدة التي ترسم أطر العلاقات الانسانية بين أفرادها، كما تقدم نماذج نمطية لأبطال هم في واقع الامر ضحايا وأشقياء في الوقت ذاته، وتتناول بشكل خاص المشكلات اليومية على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تعتري العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل عام، وبين الرجل والمرأة في إطار الزواج والاسرة بشكل خاص، وبين الاباء والابناء، وبين الاخوة أنفسهم، وبين رفاق الصنعة وأولاد الشارع ورؤساء العمل ومرؤوسيه وبيئته وما ينشأ عن ذلك من العلاقات المتوترة المضطربة، وما تنطوي عليه من مشكلات وصدامات.


نجح الاستاذ نواف نصار في تقديم عالم متجانس يتسم بسمات مشتركة رغم اختلاف المكان والاحداث والشخصيات بما يؤكد في نهاية المطاف أن هموم ومعاناة المعذبين والفقراء والمهمشين واحدة وان اختلفت الصور، وبما يبرز أيضاً أن الالم لا يعرف سوى لغة انسانية واحدة يصرخ بها وان اختلف الاسماء والوجوه والكلمات. وهكذا يصبح مجمع رغدان رمزا لكل بقعة وشارع وحي ومخيم ينطوي على قصص المعاناة المتشابهة. ورغم أن المجموعة تقدم شخصيات عديدة في مواقف مختلفة من عالم الكبار من الرجال والنساء، إلا أن هناك خيط مشترك يكاد ينظم كل قصص المجموعة ألا وهو طرح هموم الطفولة البائسة الفقيرة التي تصبح ضحية المجتمع مع شيء من التركيز على مجتمع أولاد الشوارع بما يسمح للقاريء أن يتلمس الاسباب الحقيقية لانحراف الطفولة ومعاناتها. في كل قصص المجموعة هناك أبطال صغار من الفتية والاشقياء الذين يمثلون الادانة للواقع. ورغم أن المجموعة تندرج تحت أدب الواقعية السوسيولوجية بفضل ما تقدمه من مشاهد من عالم الالم والمعاناة وقسوة العيش والظلم الذي تقاسيه هذه الفئة من الناس، إلا أن شخصيات المجموعة جذابة متحركة متطورة تمر بتجربة اكتشاف الذات وكشف الوعي الذي ينقلها الى مستوى أعمق في فهم التجربة الانسانية بكل أبعادها وعلاقتها بظواهر المجتمع الاخرى كالاستغلال والفقر، وتضفي حواراتها الذكية المستفيضة أبعاداً أخرى من قدرة المؤلف على رسم لوحات عامرة تضج باللون والحركة والصوت مثل أمكنتها.


كما توحي أحداث قصص المجموعة وأمكنتها وشخصياتها بأنها مهتمة بتقديم نماذج واقعية من الحياة اليومية الاعتيادية المألوفة من طبقة المهمشين فاختار عالم قاع المدينة في سقف السيل ومجمع رغدان في الاردن، كما قدم نماذج من معاناة الفلسطيني في عدة أماكن كالمخيم مثل مخيم عقبة جبر وعين السلطان، والقرى والمدن الفلسطينية مثل أريحا وبيت حنينا وقرية المغار.


تفتتح القصة الاولى في المجموعة المسماة صفير الليل على ما يبدو أنه نوع من اللعب الطفولي الذي يريد تأكيد الذات المجهولة في الاحياء الشعبية، الذي يقوم على مهارة الصفير والصفير المقابل بين عدد من الصبية. ولكننا سرعان ما نكتشف أن الراوي في حالة استدعاء الذكريات لماضيه الطفولي بما يكتنفه من لعب ومباريات ومبارزات وتحدٍ تهدف الى اثبات الذات التي أخذ يتفتح وعيها حديثاً على العالم أمام الكبار وبين الاقران الذين يبرز من بينهم نضال. نضال ذلك البطل الغامض الذي يشكل حضوره نوعا من التحدي للاخرين، وكذلك محمد الصالحي الذي يفوق الاخرين سناً ومهارة فيعطيهم نوعاً من الامان. وتتحول المبارزة في اليوم الموعود الى مبارة كرة قدم حامية أشبه ما تكون بمعركة اثبات الوجود. ولكنها تطرح بشكل أعمق من ذلك، موضوع الصراعات الخفية بين الشخصيات وهي تبحث عن ذاتها وعن اثبات ثقتها في نفسها وقبول التحدي والنضوج المبكر. ولكن حديث الذكريات ليس منولوجاً بل يقوم على الحوار وايراد تفاصيل كثيرة تجسد صورة الحياة في المخيم الفلسطيني قبل النكسة مثل مخيم عقبة جبر، ليس بدءأ بالحديث عن جلوس الناس امام البيوت، وليس انتهاء بما تعانيه المرأة عندما تجد نفسها وحيدة في هذه الحياة من منة وسوء معاملة من قبل عائلة الزوج. تمتاز القصة الاولى كما هو الحال في كل قصص المجموعة بتوظيف الحوار بشكل أساسي ومطوّل بين شخصياتها المتعددة كمصدر يكاد يكون وحيدا وبديلا لتطوير الحبكة وطرح القضايا المختلفة والذي يأتي في الغالب على حساب الوصف الذي افتقدته أغلب القصص تماماً من جهة ، وعلى حساب السرد من جهة أخرى.


واذا كانت القصة توحي أنها ذكريات اللعب الطفولي الذي ينقل جانبا من أجواء المدرسة الشعبية بحكم خبرات المؤلف الطويلة في التدريس في الاردن وفلسطين، وتعكس جانباً من توثيق صور مختلفة للحياة الشعبية وتجسيد أسلوب عيش الناس في المخيم والقرية والمدينة، إلا أننا نكتشف أننا إزاء قصة أخرى داخل القصة أعمق من ذلك حيث تطرح معاناة الطفولة وعذاباتها كجزء من تفكك الاسرة وما ينطوي على ذلك من معاناة للمرأة مثل حكاية أم نضال ومعاناتها المريرة مع شقيقات زوجها بعد أن توفي زوجها صابر وما تعرضت له من سوء المعاملة من أهل زوجها دفعا لها كي تهجر البيت وبالذات إزاء محاولات شفيقة وهي أخت صابر التي كانت تريد أخذ نضال من أمه ليعيش في بيت أهله بينما ترغب في طرد أمه من البيت فتذهب الى بيت أخويها في عمان وهناك تجد نفورا وكرها لها من زوجتي أخويها مما يدفعها الى الالتجاء الى بيت خالتها في مخيم عين السطان وتتزوج. لا بل تشير القصة بشكل غير مباشر الى قصة أخرى تتشكل معالمها بهدوء وبطء وغموض لا تمنح نفسها بسهولة للقاريء وهي الانتقال من حالة التوجس والتوقع بين الراوي الذي يشارك الاولاد لعبهم بصفته واحدا منهم وبين البطل القادم نضال الى حالة من الاحساس بالتقارب الروحي بينهما.. فالراوي يصف صفير نضال في البداية انه قوي يسخر منهم، ثم يتحول الى نوع من الدهشة من ثقته بنفسه، ولكنه لا يلبث ان يتحول الى نوع من التعاطف معه عندما تمسك شفيقة بيده وتحاول أخذه معها فيمنعها الاولاد، ولكن الراوي يكتشف على نحو خفي ذاته في شخصية نضال ويرى فيه الجانب المفقود ويبادر بشكل فردي من غير معرفة الاخرين الى التعرف عليه وزيارته في حارته ويبدو سعيدا باللقاء. تضع القصة القاريء في خضم الحدث مباشرة بدون مقدمات في بداية مقطوعة توحي فنياً أن شيئاً قد بدأ قبل أن يسمع القاريء صوت الراوي. لاحظنا ذلك في صفير الليل التي تبدأ بالقول:".. وعاد الصفير مرة ثانية... ولاحظناها في درس خصوصي أيضاً حيث يشرع الراوي: ".. وانفجر العجل الخلفي الايسر".


لا يهتم الراوي كثيرا بتقديم وصف للمكان بما يجعل منه مكانا فريداً بذاته أو ما يدل على خصوصية للمكان في ذهن او وجدان الشخصيات، أو ما يجعل منه مكانا واقعيا بهوية معروفة لدى سكان المدينة، مما يجعل المكان تجريديا يؤدي وظيفة مكانية عامة يمكن أن يؤديها في أية جزء آخر من هذا العالم. ففي قصة درس خصوصي كل ما نعرفه أن الاحداث تجري في الحي الشرقي من المدينة، وحتى عندما يغادر الاستاذ وسام بيت أبي لطفي بعد انتهاء الدرس الخصوصي فإن الراوي يقول أنه ركب سيارته وأخذ الشارع الهابط الى وسط البلد.


تدور قصة "درس خصوصي" حول موضوع الخيانة الزوجية التي لا تتكشف خيوطها للقاريء الا في أواخر القصة بأسلوب يقوم على التشويق وتأزيم الامور تدريجيا وكشف معالم الصورة للقاريء تدريجيا حتى يدرك أن القصة التي يرويها أبو لطفي للراوي هي أعمق مما كان يظن من أنه مجرد خلاف عائلي يدور أساساً حول رغبة الرجل في السيطرة على مقاليد الامور في البيت وحساسيته من تصرفات زوجته الراغبة في توفير معلم يعطي درسا خصوصيا لابنها في الرياضيات وما يتبعها من خلافات اجتماعية وخاصة أن القصة تطرح موضوع التفاوت في المستوى التعليمي بين الرجل وزوجته الذي يميل لصالح المرأة، مما يمهد البذرة لشعور الرجل بالغيرة وانزعاجه من اسنقلالية زوجته التي تدعو المعلم لمباشرة الدروس بل وتدعوه للعشاءايضا دون معرفة مسبقة من زوجها، مما يجعله متوترا طوال الوقت.


تقدم القصة نموذجا حيا من واقع حياة الطبقة الشعبية في المجتمع حيث تسود مفاهيم الثقافة الذكورية التي لا تسمح بهامش للمرأة وتربط حريتها بمشكلات أخلاقية واجتماعية فجاءت القصة لتعزز هذا المفهوم حيث جسدت القصة حرية المرأة في اتخاذ القرار بصورة استغلال الحرية لقضاء مآربها حيث تستغل أم لطفي الظروف العائلية لتحقيق رغباتها من خلال افتعال حاجة ابنها للدرس الخصوصي وكل ما تلا ذلك من وجود علاقة سرية مع المدرس. لا يتعاطف الراوي مع المرأة التي لم تعد مجرد امرأة مطلقة بل ومنبوذة، حيث أهملها من أحبته وتركت زوجها لاجله فتخلى عنها، ولكن زوجها رفض بالطبع اعادتها رغم توسلات أهلها.


تنتقد القصة برود العلاقات الاجتماعية وسطحيتها وزيفها من خلال البداية الثلجية ، حيث تبدأ القصة بموقف طاريء عند هطول الثلج وتعطل سيارة الراوي وصفي في الطريق عند عودته من تغطية مهمة صحفية متعبة ومملة بناء على طلب رئيس التحرير، فيضطره الطقس الى ترك سيارته والالتجاء الى بيت متعهد توزيع الصحيفة أبي لطفي. ويلاحظ هنا أن الراوي لم يكن ليهتم بما جرى لمضيفه أو لمشكلاته الاجتماعية لولا الثلج الذي أرغمه على زيارته في وقت غير متوقع. بل ان اهتمامه بمضيفه ليس أكثر من باب الفضول حين رآه يقدم له الضيافة المرة بعد الاخرى بنفسه من غير زوجته. تقوم القصة على توظيف الحوار بشكل رئيسي ومطوّل وعلى حساب الوصف في تناول قضايا الخيانة الزوجية والخلافات والطلاق مما يعد درساً خصوصيا أكثر ايلاماً من درس الاستاذ وسام حيث يسعى كل طرف الى توجيه درس قاس لا يُنسى للطرف الاخر، كما فعل ابو لطفي مع زوجته.


أما القصة التي أعطت المجموعة اسمها فهي "مجمع رغدان" التي تطرح مجتمع قاع المدينة من المهمشين والمنبوذين والفقراء، ولعل اختيار مجمع رغدان لم يكن عبثاً، فهو أكثر من مجرد مكان كوعاءٍ تجري فيه الاحداث، بل هو صورة رمزية لمجتمع يمور بالمشكلات الاجتماعية والاخلاقية والاستغلال وطرق العمل غير الشريف أحياناً والصراعات العديدة التي تفرض نفسها على المكان. ويذكر الراوي في أكثر من مرة صورا مختلفة عن المعاناة والمشكلات التي تجعل منه بيئة فاسدة حتى بات يرتبط في الذاكرة الشعبية ويتردد في الخطاب العام بأن المكان يرمز الى المشكلات العديدة التي تتسم بها حياة العاملين في وسائل المواصلات وعلاقاتهم ببعضها، وبما يعكس الصورة النمطية للمهمشين الذين يحترفون كل صور الفساد والانحراف والاستغلال المالي وغياب قيم الوفاء والالتزام الاخلاقي تجاه الاخرين. يقول السائق برهم بطل القصة، رغم أن القصة ليس بها ابطالا بالمعنى الحرفي بقدر ما فيها من ضحايا مهمشين معذبين يتبادلون فيما بينهم أدوار البطولة الوضيعة: كل المجمع .. مجمع الاوغاد والمطلوبين للعدالة. ويقول مناجيا مساعده شنوان: " لا أظن أن أحدا من اصحاب مهنتنا يحبها يا شنوان، أنا أكرهها، .. كل يوم شجار.. كل يوم نسمع عن عراك". بل لا يتورع عن وصفه بأنه مجتمع مقرف. ولهذا نجحت القصة في ايراد العدد الاكبر من الشخصيات في حوارات متعددة طرحت قضايا مختلفة متشابكة ترسم لوحات من اشكالية العلاقة بين الفرد في مجتمع قاع المدينة وبين الاخرين، ولكنها لم تدع خيط القصة الاساس يفلت من الزمام.


توظف القصة أسلوب المفارقات والنماذج المتضادة لتأكيد الاحساس بالظلم والتهميش، حيث قدمت القصة نماذج مختلفة من الشخصيات المتناقضة في ثنائيات عديدة فهناك الشخصيات التابعة وهناك القيادية ، وهناك السائق وهناك المحصل الكونترول، وهناك صاحب العمل والعامل، وهناك الاخ المتعلم الغني الذي يحل مشكلات الاخرين بالمال ويحظى باحترام الاخرين بسبب مظهره وعمله الذي لا يلقى فيه جزءا بسيطا مما يلقونه هم من كد وشقاء في وظائفهم، وهناك الاخ الفقير الذي فشل في الدراسة فوضعه المجتمع في أتون نمطية ترسم معالم الشخصية وتؤطرها باخلاقيات رغما عن ارادتها فتصبح متهمة قبل أن تفعل شيئاً، وغيرها. يقول برهم في موضع آخر: "لم أدخل السجن في حياتي الا عندما عملت في هذه المهنة.. وكثيرون من العاملين معنا تعرضوا للتجربة نفسها".


تنجح القصة في اثارة اهتمام القاريء بتوظيف اسلوب التشويق والكشف التدريجي البطيء لملامح الصورة الكلية بما يسمح ببناء الحدث تصاعديا نحو الازمة، كما توظف القصة أسلوب البدء من نقطة متأزمة في السياق أو بداية تنطوي على الغموض والفضول مما يكسبها درجة من الامساك بتلابيب القاريء لكي يعرف خفايا المقدمات الذكية التي تمتاز بها هذه المجموعة، وتعود القصة كما في قصص المجموعة الاخرى بالقاريء من خلال تنقل متكرر بين صيغ الزمان المختلفة ما بين الماضي والحاضر واحيانا المستقبل لرسم معالم بيئة مجتمع قاع المدينة بشروره وآثامه وصراعاته. هناك كثرة واضحة في الشخصيات في القصة ولكن ذلك لم يضعف القصة بل منحها قوة التمثيل حين لم تعد الشخصيات نماذج فردية تعبر عن قضايا مشكلات فردية، فأغلبها شخصيات هامشية مهمشة ليس لها من قضايا ذاتية خاصة بها سوى القضايا التي تتشارك بها مع الاخرين من الفقر والمعاناة والاستغلال والبيئة الفاسدة وتحكم أصحاب العمل بهم واستغلال مستواهم التعليمي.


ينطوي كلام برهم على كثير من تفاصيل الحياة اليومية من مجتمع مجمع رغدان، مثل الخوف من فقدان العمل، والنزاعات مع العاملين الاخرين، والاحساس بفقدان الهوية وقيمة الذات، وهناك الكثير من الاحداث والمقارنات والمفارقات بينه وبين أخيه سعيد، وهناك المشكلة الرئيسة الاخرى المتمثلة في النزاع العنيف بين برهم وابي السيخ حول الشريط الغامض الذي يخشى منه برهم ويؤدي بهما الى الشرطة.. كل هذه التفاصيل ليست مهمة كثيرا بحد ذاتها بل هي مجرد صور رمزية مصغرة ومعبرة عن قضايا أخرى عديدة مكرورة للحياة في هذا المجتمع. برغم أهمية الجانب النفسي للصراعات الداخلية واشتباكها مع الذات، وبرغم الاحساس بالظلم والقهر والرغبة في البوح للاخرين، وبرغم معاناة الشخصيات في المكان، الا أننا لا نلمس كثيرا من الرتوش التي تحاول أن تجسد للقاريء عالم الشخصيات الجواني بما يكتنفه من احساس بالتهميش. لقد ساعدت طبيعة المشكلات والصراعات الصغيرة اليومية المتكررة والحوارات بين شخصيات القصة في التغطية على غياب الجانب النفسي.


أما في قصة أبناء الشوارع، فنعيش عالم المشردين والمعذبين واليتامى ومحترفي السرقة والابتزاز الذين حولهم المجتمع من ضحايا الى مشروع لصوصٍ صغار بين الازقة وواجهات المحلات والسجون والمخافر وعالم سقف السيل السفلي. في أبناء الشوارع نلتقي بثلاثة أبطال فقراء معذبين ما بين التشرد واليتم: سعدو وحريز وحمودة. تطرح القصة معاناة الطفولة البائسة نتيجة الفقر وغياب الاب واستغلال المجتمع، مما يضطر هولاء الثلاثة الى مواجهة عالم قاس لا يرحم. يختار حمودة الجانب السلمي فيمارس البيع على عربة لساعات طوال في الشارع، ويحظى برعاية اصحاب المحلات والشرطة لسلوكه وأمانته، في حين يلجأ سعدو وحريز الى الجانب الانحرافي في السرقة من المحلات كوسيلة للعيش. يتعرض سعدو وحريز الى عدة تجارب قاسية تتمثل في ملاحقتهم واستغلالهم من أبي سليم وأبي سريع، ويعيشان رعب القاء القبض عليهم بعد أن القت الشرطة القبض على صديقهما رشوان. يضرب حمودة مثلاً رائعا في مد يد المساعدة لهما حين يعرض عليهما مشاركته العمل بالبيع على العربة، وهكذا تنتهي القصة نهاية سعيدة في اجتماع الاصدقاء وترك السرقة. التحول في نهاية القصة سريع، وربما اراد الكاتب التركيز على الجانب الخيّر في الانسان لينتصر للطفولة المشردة كأحد الحلول المطروحة أو توجيه رسالة بأن الشر لا يولد في الانسان بل يُصنع من البيئة.


توظف القصة الحوار بشكل رئيس كما اسلفنا، ولكننا هنا أمام عين تهتم بتفاصيل الحياة لهذه الفئة من المهمشين والمعذبين، فالراوي يأخذ القاريء الى التفاصيل الدقيقة لخفايا وألاعيب هذا العالم بشكل واقعي، كما تنجح القصة في اثارة تعاطف القاريء مع شخصياتها برغم سلوكياتها لأنها تجابه العالم وحيدة. أبناء الشوارع قصة واقعية ممتعة بامتياز في لغتها وحواراتها والخفايا التي تقدمها.


أما قصة "شبح في المخيم" المتميزة موضوعاً واسلوباً واستهلالا مشوّقاً، فهي تعود لتطرح معاناة الفلسطيني في المخيم الذي سبق أن طرحته المجموعة بشكل غير مباشر في قصة صفير الليل.


- يبدو أن هذه الرسالة لن تصل أبداً


قالتها أمي بيأس وتبرم، فرد والدي وهو ينظر الى ساعته ليقرأ التاريخ:


- الوقت ما زال أمامنا، وعادل ما زال في مطلع سنته الاولى.


ومرة أخرى يسند الكاتب صوت الراوي الى واصف، شاب ما يزال في سنته الثانوية الاخيرة وهو يرى معاناة أسرته في المخيم بانتظار تدبير تكاليف تعليم أخيه الاكبر. ويبدو الصراع بين أفراد الاسرة ما بين التمسك بالمخيم الذي صار يرتبط بالذكريات والماضي وحب المكان، وبين الرحيل عنه كما في موقف الاخ الاكبر محمود. لقد ركز نواف نصار في هذه المجموعة على جانب مهم يتمثل في تقديم هموم الجيل الناشيء بأصواتهم، بل ودخل الى تفاصيل مغامراتهم وحياتهم كما رأينا سابقاً في قصة أبناء الشوارع. وكما لاحظنا في هذه المجموعة، فإن نواف نصار يبدو منشغلا في تقديم صور معبرة عن الحياة اليومية المثقلة بهموم الواقع الاجتماعي في الاردن وفلسطين، ونقد المفاهيم الشعبية بشكل غير مباشر من خلال ابراز وطأتها على مصير الشخصية. يلاحظ القاريء فكرة الانتظار الذي لا ينتهي الذي اتسمت به كل نواحي حياة الفلسطيني في الداخل وفي مخيمات الشتات، وفكرة الامل الضائع الذي لا يأتي. وبرغم الفقر والحاجة يتمسك أبطال القصة بتعليم عادل في الجامعة لأنه الامل الوحيد الباقي للخروج من محنة الفقر والمخيم وضياع الوطن. كما تقدم القصة من خلال الحوار نموذجاً من الاساطير الشعبية والحكايات الفلكلورية التي تبحث في موضوع الاشباح وأرواح القتلى التي تسكن البيوت وتظهر بين حين وآخر وتصبح حديث الجميع في القرية، لنكتشف أن الشبح لم يكن سوى محمود الشاب الشقي الذي يريد أن يرغم أهله على الرحيل عن المخيم الى أريحا.


ويعود القاص نواف نصار مرة أخرى الى فضاء مجمع رغدان في قصة "الصباح الاسود". واذا كان السائق برهم والكونترول شنوان هما ثنائيا قصة مجمع رغدان، فإنهما في الصباح الاسود يصبحان عدلي وخالد. ولكن هذه المرة يبتعد عن طرح حكايات الشكوى والعذاب التي تصبح القاسم المشترك الاعظم بين شخصياته، بل يعود لطرح معاناة الطفولة التي سبق أن قدمها في صفير الليل، وفي أبناء الشوارع وفي شبح في المخيم. سعيد يجد نفسه متسرباً من المدرسة ليعمل في كراج بعد أن دخل والده السجن نتيجة خديعة من فريد الذي وضع ثقته فيه فصار في نظر الشركة لصاً بعد أن كان حارسا نهارياً. ولكن سعيد يصبح ضحية سوء المعاملة من صاحب الكراج فيتحول الى نشال يسرق محافظ السواقين من سياراتهم. في هذه القصة المؤثرة يؤكد نواف نصار أن الخير سيبقى في الانسان مهما تعرض للالم والفقر. بل إن عدلي الذي تعرض للسرقة من الصبي سعيد، اصبح يمثل اليد البيضاء التي تنتشل والد سعيد من محنته وتعيد البسمة لأسرته. تمثل التجربة التي يمر بها عدلي حمدان في القصة مفهوما متقدما في النضوج الذي يمكن أن يمر به الانسان حينما يتحول وعيه من شعور الضحية بالخديعة والالم الى شعور الضحية بالتعاطف مع جانيها ادراكاً أنه هو الاخر ضحية المجتمع والبيئة. وفي الختام اقول شكرا للاستاذ والقاص نواف نصار الذي آثر ألا يصمت فحمل قلمه وجعل أدبه نابعاً من نبض الشارع.


* اللوحة أعلاه بعنوان الموسيقي العجوز للفنان الاسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973)
* نلقت جريدة الدستور الاردنية في عددها ليوم السبت 13/11/2009 خبر المشاركة في حفل توقيع مجموعة رغدان مع مقتطفات من المقالة أعلاه
يرجى الضغط على الرابط أدناه لتحميل صفحة الجريدة وقراءتها

مجمع رغدان - جريدة الدستور


الجمعة، نوفمبر 6

نخلة الواشنطونيا


"نخلة الواشنطونيا" لعواد علي..

كوابيس بغداد وفشل محاولات الخلاص الذاتي

بقلم: اياد نصار

يشكل عنوان رواية "نخلة الواشنطونيا" للروائي والناقد المسرحي العراقي عواد علي التي صدرت مؤخراً عن دار فضاءات في عمان كما في روايته الاولى "حليب المارينز" التي صدرت العام الماضي أهمية رمزية كبيرة ترتبط بالحالة العراقية. وإذا كانت نخلة واشنطونيا يمكن أن تصادفها في شوارع أية عاصمة عربية أو أجنبية، فإنها في الرواية ليست مجرد نخلة. تشغل نخلة الواشنطونيا بال البطل (كمال) مثلما تشغل بال الراوي وبعض الشخصيات الرئيسة الاخرى على امتداد الرواية، ويمكن النظر اليها تخيليّاً على أنها إحدى "الشخصيات" أو العناصر المهمة في الرواية.


يتردد وصف نخلة الواشنطونيا في الرواية باستمرار منذ البداية وحتى النهاية حسب الحالات النفسية للشخصيات الي تنظر اليها وخاصة كمال الاستاذ الجامعي العلماني ذي العلاقات النسائية المتعددة، و(راهبة) الارملة الخمسينية الصابئية المندائية صاحبة صالون الشعر للسيدات الذي تحول الى بقالة للمواد التموينية تحت تهديد الجماعات الدينية المسلحة، و(ألماس) الارملة الثلاثينية التي قتل زوجها الذي كان يعمل مع شركة بلاك ووتر الامريكية وعشيقة كمال التي تتأمل الزواج منه، و(فيفيان) الارملة المسيحية التي قتل زوجها لأنه كان يبيع الخمور.


لشجرة الواشنطونيا في الرواية قيمة رمزية دلالية في غاية الاهمية تشير الى الاحتلال الامريكي للعراق وتتبدى في الوصف المتغير للنخلة على لسان الشخصيات أو الراوي بما يعكس حالة الشخصيات النفسية في حواراتها ومذكراتها وكوابيسها وتطورات الاحداث على أرض الواقع. تمر نخلة الواشنطونيا بتحولات في نظر الاخرين مثلما تمر الشخصيات ذاتها بتحولات تحت وطأة أزمات الحرب المأساوية، وتتحول النخلة في الرواية من رمز للقوة والاستعلاء الى رمز بشع غريب في تعبير رمزي عن التحول في النظرة الى الاحتلال الامريكي في العراق من الاحساس بالضعف أمام صدمة القوة الى الاصرار على المواجهة وانطلاق المقاومة. يبرز هذا المقطع المهم كيف ظهرت النخلة الغريبة فجأة في شوارع بغداد وكيف أحس الناس تجاها، مستمداً من الايحاء الواضح في الاسم المرتبط بواشنطن عمقاً رمزياً أكبر يعبر عن الاحتلال، وعن ردة الفعل العراقية:


"أطل ذات صباح الى الشارع من نافذة شقته، فذهله وجود نخلة ضخمة غريبة على الرصيف، تحمل سعفاتٍ مروحية ً داكنة الخضرة، وتتدلى أوراقها على شكل خيوط كبيرة، ولها ساق طويلة غليظة عند القاعدة ومنتفخة من الوسط، وثمارها كروية صغيرة سوداء.
- من الذي اقتلع نخلة الكناري وغرس محلها هذه النخلة البشعة؟ سأل الصيدليَ، الذي كادت النخلة تغطي واجهة صيدليته، فأجابه:
- لا أدري، بالأمس لم تكن موجودةً.
- وهل تعرف أي نوع من النخيل هي؟
- اسمها نخلة الواشنطونيا.




إنها ذلك الغريب والهجين -كما تصفها الرواية - الذي يصبح مرادفاً للمحتل والويلات التي جاءت معه ولهذا فهي تبقى غريبة في شوارع بغداد. وتتعزز أهمية الرمز في الرواية فيما يجري للشجرة من أحداث تبدأ باستنفار بعض شبان الحي الذين سكبوا عليها نفطاً وأضرموا فيها النار ولكنها لم تحترق بل بقيت تقف بخيلاء، ولكن يستمر رفضها ومقاومتها حتى تنتهي بقطعها واجتثاثها بعد تفجيرها وحرقها، ولكن تتم زراعة شجرة واشنطونيا أخرى مكانها من قبل جنود المارينز وهكذا تكثر وتزداد في شوارع بغداد مما يزيد من أهميتها الرمزية.

ذكرت نخلة الواشنطونيا في سبعة عشر موضعاً في الرواية التي تتألف من 14 فصلا قصيراً، بدءاً من صفحة 26 وانتهاء بالصفحة قبل الاخيرة 169. حين ذكرت أول مرة كانت في نظر كمال صورة لشيء غريب بشع ظهر على المشهد فجأة، ولكنها "منتصبة بخيلاء تهز سعفاتها اللامعة وكأنها تسخر ممن حاول إفناءها" في إشارة الى غطرسة القوة التي تهزأ بردة الفعل. بل تصبح في نظر كمال نقيضه المفقود الذي يشعره بالعار والعجز حيث يقارن بين "ضعفه المخجل وقدرتها على التحدي، واصرارها على البقاء". يصفها كمال بأنها شجرة مشؤومة حيث انهالت الكوارث على العراق منذ أن غرسوها. يبدأ كمال يزدريها، كما يبول على سياجها كلب مارٌ من الشارع، وتصبح غبراء الوجه كسعلاة مصابة بالوهن يتجمهر حولها الاطفال ويرجمون تاجها بالحصى. ثم تنتشر في كل شوارع بغداد لتستبدل أشجار النخيل الاخرى. ولكن كمال يرى لافتة معلقة عليها تقول: "ارفعوا هذه القمامة وأعيدوا لنا نخلتنا".
أما في نظر ألماس فقد صارت الشجرة عملاقة وبدأت تتحول الى ما يشبه ناطحة سحاب. ولكن هذه الناطحة في سماء حالكة تغطي كل أسطح البنايات والمنازل على امتداد البصر بما يوحي بانتشار الظلم والفوضى وهيمنة القوة وما أفرزته من مآسٍ. وتقول ألماس عنها لراهبة: "ربما تكون شجرة سامة. إنها تجثم على صدور الناس وتخنقهم". كما يرى كمال في أحد كوابيسه نسرين موثقة بجذع النخلة، والامريكان يطفئون سجائرهم في بدنها، بينما يتردد صدى الالم والصراخ في الفضاء. ورغم أن كمال يراها لآخر مرة وقد قُطع تاجها وتدلى على جذعها مثل رأس مذبوح، الا أنها تبقى مصدر هواجسه وكوابيسه، الى درجة أنه يرى في كابوسه الاخير نفسه معصوب العينين، موثقاً بحبل سميك الى جذع نخلة الواشنطونيا، تلامس كتفه كتف ألماس، وقد أحاط بهما حشد من المارينز المدججين ببنادق أل أم 16 ... وبعد لحظات وجّه اثنان منهم رشقات رصاصٍ متتالية صوب النخلة".

تجري أحداث الرواية في بغداد ما بين الشتاء الدموي والصيف الملتهب من عام 2006 وقد مضى على الاحتلال ثلاث سنوات وهو الصيف الذي تصفه الرواية بأنه "حدث ما يشبه القيامة في بغداد.. أصابت تفجيرات رهيبة قلب المدينة وأطرافها.. تفجيرات ذات دافع انتقامي أعمى. سالت دماء كثيرة من أجساد غضة ويافعة ومنهكة.. أجساد من كل الشرائح والطوائف: في الاسواق والشوارع والمساجد والحسينيات والاحياء المكتظة بالسكان. وفي اليوم التالي ظهرت ردة الفعل، هستيريا طائفية لا تقل عماءً: مداهمة منازل، قطع رقاب، حفلات شوي أجساد حية، تهديدات وتحذيرات..."، ولكن الزمن في الرواية متعدد ومتشعب.

تفتح نوافذ الزمن المتعدد في الرواية من خلال أحاديث وذكريات وتداعيات ومذكرات الشخصيات ويعود أحياناً في لمحات سريعة الى الفترة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بالحديث عن الزهاوي ورشيد القندرجي والحكم الملكي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بالحديث عن حي نجيب باشا الذي تحول بعد فيضان دجلة وانكسار السدة الترابية الى حي الكسرة، مع التركيز على العراق في فترة صدام حسين منذ ما يسميه الراوي ترهات وحماقات النظام وما تلاها من أحداث مأساوية مثل سقوط بغداد وحتى عام 2006. بل إن كمال يعترض على مصطلح سقوط بغداد بقوله: "يقولون إن بغداد سقطت. لماذا يختزلونها الى تمثال"؟ في إشارة الى إسقاط تماثيل صدام عقب دخول المارينز بغداد، فيجاوبه صديقه (سلام الياسري): "هو اختزلها قبلهم".

بطل الرواية كمال ترزي وهو أستاذ جامعي عربي أصله من كركوك ويدرّس اللغة الاسبانية، وقد سبق له أن عاش فترة في اسبانيا وزار قرية الشاعر الاسباني لوركا وهو واسع الاطلاع على الثقافة الاسبانية التي تظهر في مذكراته والكتب التي يقتنيها ويقرأها ويستشهد بها الراوي في كثير من الاحيان وفي الموسيقى التي يعشقها وفي الحفلات التي يحضرها وحتى الأكلات التي يصنعها لعشيقاته. يعيش كمال في بغداد ويمر بكل الكوابيس والاحداث الرهيبة التي مرت بها بغداد، ولكنه يرفض الهجرة لأنه يعتقد أن الغربة ذلٌّ للانسان. ولكنه يبدأ في الشك في صحة موقفه عندما رأى ما حل بصديقته نسرين التي تحولت الى بائعة هوى في اللاذقية ودمشق. قال فيما يبدو نادماً على قراره: "لماذا لم أرافقها؟ ألم يكن بإمكاني أن أسافر أنا وإياها بعد سنة أو سنتين على بدء الاحتلال؟ ما الذي كنت آمله منه أن يمنحنا؟ يا لي من أحمق.. لقد اضعت امرأةً أعدتُ تكوينها بيديّ مثلما أعاد هيجنز تكوين بائعة الزهور أليزا في مسرحية برنادشو".

تعيش كل شخصيات الرواية أزمات نفسية واجتماعية ودينية، وتدل تصرفات كمال كما هي تصرفات ساكيني البناية الاخرين من النساء الارامل على أنهم يبحثون عن حلول فردية للخلاص من أزمات الحرب وويلاتها فيصبحون ضحايا الخوف والذعر والغربة والتطرف العبثي.

يبدو واضحاً توجهات كمال السياسية التي تحمّل الاحتلال الامريكي وممارسات النظام السابق كل آثام ما جرى، بينما تسعى لإظهار أن المقاومة هي عراقية وليست تابعة لقوى اقليمية مثل ايران ويبدو ذلك واضحاً من حديثه مع (راهبة) جارته الأرملة المندائية، فحين تقول راهبة: "رأيتهم قبل مجيئك يقفون هناك على مقربة من النخلة، وقد شبهتهم بايرانيين يقفون في السوق"، فإنه يقول لها: "هولاء ليس لهم يد في تفجيرها".

تتناول الرواية تأثير الحروب والسياسات التي شهدها العراق وتدخلات القوى الخارجية على الانسان العراقي بغض النظر عن أصله أو طائفته الذي ينعكس في صورة القلق والخوف والضياع والغربة وانتفاء الاحساس بجدوى القيم الوطنية، كما تطرح تفكك النسيج الوطني والاجتماعي والديني والثقافي. كما تتناول غياب الاستقرار النفسي لأبطالها وغرقهم في وطأة الكوابيس والاحلام المنهارة والبحث عن الجنس لأجل استعادة الحب المفقود والطمأنينة حيث لا يعود هناك قيمة جمعية للحياة يتعلق بها الانسان سوى الرغبات الذاتية، مثلما تبرز سخرية أبطالها من القيم الدينية والتقليدية المحافظة عندما يرون حوادث القتل والانتقام والخطف تحت شعار الدين.
تطرح الرواية مسألة الاحساس بعودة العراق للوراء وتخلفه في ظل هذه الاجواء على صعيد حقوق المرأة والتسامح الديني حيث تضطر فيفيان المسيحية الى ارتداء الحجاب خوف الانتقام من المليشيات في حين تتذكر هي وكمال أبياتاً من شعر الزهاوي في القرن التاسع عشر وفيها دعوته للمرأة للتحرر والسفور. وقبلها كان كمال قد كتب في مذكراته حواراً جرى بينه وبين سلام الياسري حول الاغاني العراقية القديمة لرشيد القندرجي والاغاني الحديثة التي يبدو كأنها ارتدت للوراء، فيقول: "أي ارتداد هذا؟ من ما بعد الحداثة الى الكلاسيكية؟"

يعاني كمال من حالة غريبة تنتابه طوال الرواية وهي انتصاب عضوه كلما سمع صوت انفجار، ولهذا يتعرض لعدة مواقف محرجة عندما يقع انفجار سيارة أو قذيفة أو صاروخ وخاصة عندما يكون في زيارة لإحدى جاراته أو أصدقائه. تستمر معه هذه الحالة التي قال له الطبيب أن أسبابها نفسية وتسبب له أرقاً. يبدو البعدان الرمزي والنفسي واضحاً في أن ويلات الحرب والاحتلال الجاثم تثير لدى الانسان غريزة التمسك بالحياة، والمقاومة وتصبح ردة الفعل متجهة أكثر نحو اشباع الذات في غياب القيم الدينية والاخلاقية وسقوطها بفضل النموذج العبثي تحت ضربات الطائفيين الذين يفرغون هذه القيم من محتواها الانساني. وهكذا يصبح الجنس والمحافظة على الحياة واشباع الذات المقهورة المحرومة هو الاكثر تحركاً وتجاوباً مع التحدي. ولهذا نرى في نهاية الرواية كمال حيث لم يعد عضوه ينتصب رغم الانفجار في دلالة مزدوجة على النهاية: نجاح الاحتلال في تعزيز وجوده كأنه شيء طبيعي والقضاء على مبدأ الرفض لوجوده، وفي الوقت ذاته سقوط كمال ضحية معبراً عن الاستكانة وفقدان الرجولة وتراجع غريزة التحدي والبقاء حيث يتعرض للخطف على أيدي جنود الاحتلال بعد أن وشى به الشيخ العلاّسي.

تعتمد الرواية على أسلوب السرد بضمير الغائب، ولكن هناك بالاضافة الى المذكرات والرسائل التي يرويها أصحابها، فصلان مهمان في الرواية يرويهما كمال وألماس بضمير المتكلم تحت عنوان (ما لا يعرفه الراوي) يكشف كل منهما فيه عن مرحلة سابقة من صباه ومراهقته. وتظهر في هذين الفصلين إشكالية الدين مبكراً لكل واحد منهما. فكمال يعثر على صندوق مغلق يثير فضوله ليكتشف فيما بعد على إثر قيامه بكسره أنه يحتوي "ألواح حضرة بهاء الله" وهو الكتاب المقدس عند البهائيين ويقع تحت تأثير اندهاشه أول الامر من نصوصه ومضامينه، لكنه يستغرب علاقة والده به، ليكتشف أن أباه وجدّه وكل عائلته كانوا بهائيين ولكن أباه اضطر للتحول الى الاسلام ليتزوج من امرأة مسلمة في كركوك. ومع الخشية من رعب المليشيات يقوم الاب بحرق الكتاب في الاتون. كما تتعرض ألماس الى موقف مواجهة وجدال حول معتقد الانسان ودوره في حياته مع زوج خالتها الخوري الذي يرفض وبشدة زواجها من ابنه ساندر اذا لم تتحول للمسيحية رغم الحب الشديد الذي يجمعهما، وتحاول بكل ما أوتيت من منطق أن تقنعه بجدوى الحب والزواج برغم اختلاف الدين، إلاّ أنه يرفض باصرار، وعندما تكشف له سر ممارستهما الجنس فانه يتوعدهما بالويل والثبور وطردهما مما يؤدي الى افتراقهما وموت الحب. واضح هنا توظيف مبدأ المفارقة في تقديم موقفين متشابهين متضادين ليعكس التراجع في حرية المعتقد والتسامح في أربعينيات وثلاثينيات القرن الماضي مقارنة بما يجري الآن، وتأكيد فكرة أن الامور عادت للوراء.

تعتمد الرواية على تقنية كتابة الرواية داخل الرواية، فكمال يكتب رواية هي أشبه ما يكون بكتابة المذكرات تختلط فيها الوقائع بالخيال ولكننا نكتشف كلما تقدمت الرواية أن أحداث رواية كمال هي جزء من ماضيه وحاضره، كما يفكر صديقه الفلسطيني جهاد البشير والذي يعرض عليه كمال أن يحميه في شقته على إثر الاضطهاد الذي تعرض له الفلسطينيون في بغداد في خضم العنف الطائفي فيما يسميه شاتيلا بغداد أن يكتب مشروع رواية هي أشبه ما تكون رواية كابوس يرى فيه أنه يقيم علاقة جنسية مع تسيبي ليفني كتعويض له عن القهر وفقدان الكرامة الذي يشعر به تجاه أفعالها القبيحة التي يخفيها جمال وجهها، من أجل إذلالها والانتقام منها في الخيال اذا لم يكن ذلك ممكناً في الواقع! كما يكتب صديقهما الحميم سلام الياسري الذي اغتالته عصابات القتل الطائفي مدونته وفيها يحكي عن فتاة رائعة يحبها اسمها غزالة يخطفها منه جنرال عسكري ويجعلها جارية له! ولكن سلام متعلق بها لأنه تذكره بغزالة في ديوان الاغاني الغجرية للوركا الشاعر الاسباني الذي قتل خلال الحرب الاهلية. ومن المفارقات أن سلام يقتل أيضا خلال الحرب الطائفية في العراق. كما تكتب نسرين رسائل الى كمال من مكان غربتها تروي له فيها معاناتها وإذلالها في سبيل لقمة العيش.

تمتاز لغة السرد في الرواية بالانسيابية والسلاسة والشعرية من خلال لغة بسيطة سهلة بعيدة عن الفلسفات الفكرية والحوارات التجريدية المغرقة في تأويلات الفكر والمطلق، ولكنها في الوقت ذاته مثقلة بالمعاني والاشارات والرموز ونقل ظلال نفسية تتمثل في الغوص في عالم الشخصيات الجواني لنقل معاناتها وأحزانها المكبوتة وأحلامها المقتولة التي تحولها إلى شخصيات بائسة يرثى لها. تنجح الرواية بلغة مشحونة في إظهار أزمات شخصياتها مما يمكن معه تصنيفها بالرواية النفسية أو السيكولوجية رغم زخم الاحداث فيها ولكن ما يجري في العالم الداخلي من كوابيس وأفكار سوداء وخوف وأمنيات لا تتحقق والتعبير عنها أهم من أحداثها الخارجية. 
يبدو واضحاً في الرواية تأثير القضية الفلسطينية والبعد القومي الذي يغلب على تفكير بعض الشخصيات وخاصة كمال وصديقه سلام الياسري برغم انهماكهما ومعاناتهما من مأساة الواقع العراقي، لكأنما تؤكد الرواية الارتباط بين القضيتين العراقية والفلسطينية. فسلام يشعر بالتشاؤم لأنه سافر الى اسبانيا يوم الخامس من حزيران الموافق لذكرى النكسة، كما أن كمال وسلام قد عاشا ودرسا مع صديقهما الفلسطيني جهاد البشير الذي أصبح من أعز أصدقائهما وتقاسما معه كل شيء. كما يبدي كمال تعاطفاً حقيقيا مع صديقه جهاد حين يتعرض للاضهاد ويتفاعل كثيراً مع فكرته حول الشروع في رواية حول تسيبي ليفني.

توظف الرواية الجنس وتبرزه كأحد افرازات الاحتلال الامريكي لبغداد وكأحد طرق التعبير عن العواطف المكبوتة في ظل الخوف بصورة مفرطة للغاية حتى يكاد لا يوجد فصل في الرواية دون ذكر أو اشارة أو تصوير لقاء جنسي. بل إن الاغرب من ذلك أن الرواية فيها حوالي خمس عشرة شخصية نسائية ما بين شخصية رئيسة مثل نسرين أو راهبة أو ألماس أو أنثى عابرة في الرواية مثل تلك المرأة التي يذكرها جهاد البشير لأنها باعته زجاجة من العرق وتنام معه ليلة مقابل عشرة الاف دينار.. لا يوجد ولا إمرأة واحدة في الرواية لا تمارس الجنس كعشيقة أو بائعة هوى حتى فيفيان العجوز الارملة المسيحية توحي كلمات كمال أنها على علاقة ببنيامين الخوري!


يلاحظ أن هناك تسارعاً في إقحام الشخصيات في الجزء الاول حيث تم تقديم سبع عشرة شخصية في الصفحات التسع الاولى. كما نلاحظ أن الراوي يسرع وتيرة السرد في الفصل الاخير المكون من خمس صفحات. ففيه يرحل زهراب هاكوبيان وزوجته الى أرمينيا، كما يرحل جهاد الفلسطيني الى مخيمات الحدود بعد أن يترك رسالة قصيرة لكمال دون أن يودعه، مثلما تتصل زهراء من إسبانيا بكمال لتخبره عن فشل محاولاتها في التوسط للحصول على عمل له في السفارة العراقية في مدريد مما يعني انتهاء علاقته بها، كما اختفت ألماس التي كان مقرراً أن يتزوج بها كمال، ويتعرض كمال نفسه للاختطاف على أيدي جنود المارينز أمام مدخل البناية في نهاية مفتوحة على التأويلات إن كان ذلك مجرد اختطاف أم اغتيال كما تقول الجملة الاخيرة: "التفت بسرعة الى يمينه والى يساره فإذا بالكفّين اللتين تمسكان به هما لكائنين يفوقانه طولاً، يرتديان بزتين مرقطتين شبيهتين بجلد أفعى..."

وفي الختام، فقد نجحت الرواية في تناول شفيف وذكي لأبعاد متعددة لويلات الحرب بما يترك للقاريء إدراك أزمات أبطالها النفسية والحياتية والتعاطف معها بأسلوب بعيد عن التقريرية أو الرثائية وتقديم شخصيات متنوعة تعكس الواقع الفيسفسائي للمجتمع العراقي بتعدد أصوله ودياناته وثقافاته والتي حولت الحرب حياتها الى كوابيس متواصلة وحولتها هي الى ضحايا مذعورة خائفة تبحث عن الخلاص الذاتي. ولعل رسالة جهاد البشير قبل رحيله عن بغداد تلخص فشل حلول الخلاص الذاتي: "لقد ايقنت تماما أن القوة تصنع الحق كما يقول شكسبير. " كل الامكنة هنا تنطوي اليوم على غدر متخفٍ تباغتنا به في كل لحظة عشوائية لترسلنا الى الموت على غفلة من تدابيرنا وتوقعاتنا".

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة بتاريخ 6/11/2009
يرجى الضغط على الرابط التالي لقراءة المقال في الصحيفة:
الدستور الثقافي

كما يمكنك تحميل صورة الصفحة المنشورة على الرابط التالي:
صورة الصفحة الكاملة