الجمعة، أغسطس 6

مسرح الحياة بين الشابي وشكسبير


مسرح الحياة بين الشابي وشكسبير

اياد نصار
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم 6/8/2010

عُرف أبو القاسم الشابي على نطاق واسع بدعوته للامل وللكفاح وللايمان بالارادة سبيلاً لتحقيق الخلاص حتى صار بيت الشعرالمشهور:
اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
رمزاً ومثلاً سائراً يتردد على كل لسان لتجسيد هذه المعاني. وارتبط البيت بالشابي ارتباطاً وثيقاً، فلا يذكر الشابي الا ويذكر معه، واذا ذُكرت ارادة الشعوب التي لا تقهر فسرعان ما يخطر الشابي في البال. وعرف الشابي بتعبده في محراب الطبيعة الجميلة يستلهم منها الجمال والالهام وانطلاق الخيال وسمو الروح، كعابدٍ يؤدي صلاته في هياكل الحب في الغابات وعند الجداول. وكان يجد في الهروب الى الطبيعة متعة الروح وبهجة البصر وشرود الفكر ونعيم العزلة والاحساس بلذة الترفع عن جموع النائمين في المدن النائمة.


ورغم الصورة المتفائلة المفعمة بالتحدي والامل، ورغم قسوة الشابي في نقده للضعفاء المستسلمين، وشدة بأسه على ظلم المستعمر، إلا أن الشابي، وعلى عكس ما يظن كثير من الناس، كان في أحيان كثيرة يستسلم لليأس، فتراه سوداوي النظرة، مكتئباً متشائماً، لا يرى أي بصيص أمل في قدرة الانسان على قهر القدر وتغيير المصير.
خذني إليكَ فقد تبخّر في فضاء الهمّ عمري
خذني فما أشقى الذي يقضي الحياةَ بمثل أمري
يا موتُ نفسي ملّت الدنيا ، فهل لم يأت دوري؟ !


وتعكس قصائد الشابي هذه الروح اليائسة، حيث عبّر عن ايمانه بأن الحياة لعبة ساخرة، تحركها أيدي ساحر، والانسان لا حول له فيها ولا قوة. بل يبقى يتجرع مرارة الأسى في مسرحية الحياة التي قدّر له أن يلعب دوراً فيها ويمضي، لا بل يصبح أضحوكة الزمن:
ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ
ستجعلُنا الأيامُ أضحوكة َ الآتي
وتلكَ هِيَ الدُّنيا، رِوَايَة ُ ساحرٍ
عظيمٍ، غريب الفّن، مبدعِ آياتِ
يمثلها الأحياءُ في مسرح الأسى
ووسط ضبابِ الهّم، تمثيلَ أمواتِ


في هذه الابيات يطرح الشابي رؤيته للحياة. فهي ليس الا مسرح يؤدي فيها الاحياء أدوارهم. وهم ليسوا سوى أموات في رداء أحياء، فهذه الرحلة من لحظة دخول المسرح حتى الخروج منه قصيرة، يكتنفها الاسى والهمّ والغموض، ويواجه الانسان فيها مصيراً محتوماً.


وبذا يصور الشابي حياة الانسان بأنها دور يؤديه على المسرح. يضحك من يشاهده على من يؤديه، وهكذا فكل انسان لا مفر له من أن يمثل دوره الذي قدّر له وسط ضحك وسخرية من يشاهده. كما يرسم مفارقة بين الماضي والمستقبل، وبين مقتبل العمر وآخره، وبين بداية التجربة ونهايتها، فكأنما الانسان يلهو قصيرَ النظر غيرَ مدركٍ ما تخبيء له الايام من مآسٍ وبؤس، فيصير محل تندر الاخرين وضحكهم الساخر. والحياة فضاء واسع يكتنفه الحزن والشقاء مثل ضباب فتنعدم أمام الانسان الرؤية فينشغل بهمومه عن إدراك فلسفة الوجود:
ليشهدَ مَنْ خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها
وَيَضْحَكَ منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي
وكلٌّ يؤدِّي دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ
على الغيرِ، مُضْحُوكٌ على دوره العاتي


كما تطرح رؤية الشابي فكرة التعاقب وتبادل الادوار وانقلاب الحال وتبدله من الضحك على الاخرين الى البكاء على الذات، مما يذكرنا بفكرة اسطورة إلهة دولاب الحظ "فيورتونا" الرومانية والتي اشتق من اسمها كلمات حسن الحظ وسوء الحظ. ومن الجدير بالذكر أن الاديب الايطالي بوكاتشيو الذي ظهر في القرن الرابع عشر حينما اجتاح أوروبا مرض الطاعون الاسود، وانتشر الخوف من الموت على نحو مأساوي واسع، إلا أن ينجو منه الانسان بقدرة قادر، تناول قصة فيورتونا في كتاب القصص الذي ألفه، وهو الديكاميرون، والذي يعد أول عمل قصصي نثري بالمفهوم الحديث.


ومما يلفت الانتباه هذه الرؤية المقارنة المتطابقة بين الشابي، كما عبر عنها في شعره، وبين شكسبير، كما عبر عنها في مسرحياته، إزاء الحياة ودور الانسان فيها، وتقدم صورة مغايرة لما اعتدنا أن نرى فيها الشابي. بل إنه نوع فريد من التوارد الفكري في النظرة للحياة، ودور الانسان فيها بين الشابي وشكسبير رغم اختلاف العصر الذي عاشا فيه والثقافة المؤثرة في بيئة كل منهما. فشكسبير عاش خلال الفترة 1564 - 1616 من العصر الاليزابيثي، بينما عاش الشابي كالشمعة حياة قصيرة معذبة يملؤها الاحساس بالالم والمرض 1909 – 1934 في إطار بعيد تماما عن أجواء الثقافة الانجليزية. وقد أصبحت كلمات شكسبير التي جاءت في ثنايا بعض مسرحياته، وخاصة تلك التي عبر فيها عن رؤيته للحياة ودور الانسان فيها، أقوالا مأثورة تتردد دائماً.


وقد عبر شكسبير عن ذلك بصورة رائعة في مسرحيته التراجيدية "ماكبث" Macbeth التي كتبها في العام 1603، والتي يشار اليها أحيانا بالمسرحية الاسكتلندية، حين صور أن الحياة شمعة توقد، ثم لا تلبث أن ينطفيء ضؤوها سريعاً في اشارة الى دورة الحياة والموت. ثم شبه الحياة بمسرح في فقرته الشهيرة على لسان ماكبث في المسرحية التي تحمل اسمه في المشهد الخامس من الفصل الخامس في المناجاة المشهورة:
ما الحياة الا ظل يمشي أو ممثل أخرق
يهذر ويزبد خلال ساعته على المسرح
ثم لا يسمعه أحد. إنها حكاية
يرويها معتوه ملؤها الصخب والعنف
ولا تعني شيئا.


في هذا المقطع يعبر ماكبث عن عبثية الحياة وهو يرى زوجته الحبيبة وهي تموت منتحرة، والجيوش وهي تتحرك ضده، وتنقلب نعمته الى نقمة. وفيه تعبير عن ادراك يكتنفه اليأس من دورة الحياة والموت، إذ أن المقطع يبدأ حقيقة من اشارة ماكبث الى موت زوجته، وفيه آهات أسى من عجز ماكبث عن تغيير مصيره. كما أن بداية المقطع الطويلة تشير الى مجرى الايام الرتيبة المكرورة حتى نهاية الحياة والتاريخ. وعلى مستوى آخر، يمكن القول أن فيه اشارة ضمنية الى وهم مسرح شكسبير ذاته، الذي كان يملأ الدنيا في عصره، بل إن اسم مسرح شكسبير كان "الدنيا" أو "العالم" Globe، مما ينم عن ادراك خفي عند شكسبير أن هذا العالم ليس الا ظل ساعة ثم يحمل عصاه ويرحل.


وفي مقطع من مسرحية أخرى معروفة لشكسبير، وهي المسرحية الكوميدية المسماة "كما تحبها" As You Like It التي كتبها في العام 1600، والذي يعد من أشهر مقاطع شكسبير عن مفهوم علاقة الانسان بالمصير والاخرين ودور الانسان في الحياة، يصور العالم مسرحاً، والحياة مسرحية تؤدى عليه. في هذه المسرحية يطرح شكسبير موضوعا أثيرا متكررا طالما تناوله في مسرحياته وعاد اليه مراراً، وهو مفهوم اغتصاب السلطة من المقربين، حيث يستولي الدوق فريدريك على الحكم وينفي أخاه. لقد عزز هذا السلوك الذي انتشر كثيراً في التراث الاوروبي عامة عبر العصور من الاحساس بأن العمر مجرد مسرحية، يكون فيها الممثل تحت الاضواء ومحل نظر الاخرين وموضع اهتمامهم برصد كل حركاته وسكناته، ثم لا يلبث أن يطويه النسيان والظلام.


وفي هذه المسرحية نجد المقطع الذي يعد اشهر مونولوج طرحه شكسبير عن مفهوم الحياة والمسرح، حيث يؤكد شكسبير أن:
العالم كله مسرح
وكل الرجال والنساء ليسوا الا ممثلين فيه!
يدخلون منه ويخرجون
يؤدي كل انسان في عمره أدواراً كثيرة
وأعماله تمثل فصوله السبعة


وواضح فيه تشبيه حياة الانسان بفصول المسرح حيث يعدد المراحل السبع لحياة الانسان منذ أن يولد الى أن يموت. ويوظف الاستعارات في وصف كل مرحلة من حياة الانسان وهو يلعب الادوار التالية: الطفل الوليد، وصبي المدرسة، والعاشق كثير الاسى على الحب الزائل، والجندي الباحث عن المجد، والقاضي الذي يمثل الانسان العاقل الحكيم الذي نضجت خبرته، واكتسب مكانة، والكبير حين يفقد السحر والرشاقة والقدرة العقلية والبدنية، والناس تتندر عليه لضعفه الجسدي والعقلي، وأخيرا الطفولة الثانية حيث يصبح الانسان عالة على الاخرين كالطفل، وهو ما سمّاه شكسبير "الطفولة الثانية"، حيث النسيان واقتراب النهاية، وحيث الانسان "بلا أسنان أو عيون أو قدرة على التذوق أو أي شيء". ولم تكن هذه الاستعارة من ابتداع شكسبير بل كانت شائعة في زمانه.


وفي مسرحية "الملك لير" King Lear يشبه شكسبير صراخ الولادة بنوع من الاحتجاج على القدوم الى مسرح كبير من الحمقى. وفي مسرحية تاجر البندقية Merchant of Venice يقول غراتسيانو "إن العالم مسرح، وكل انسان يجب أن يؤدي دوره، ودوري أنا حزين".


أستبعد أن يكون الشابي قد اطلع على مسرحيات شكسبير أو ترجماتها خلال دراسته، وأزعم أنه لم يسمع حتى بشكسبير، وخاصة أنه لم يتوفر سوى على تعليم بسيط بسبب عمل والده في القضاء متنقلاً بين المدن التونسية، فهو قد عاش في ظل الارياف والقرى التونسية. واذا كان قد أتيح له الاطلاع على جوانب من الثقافة، فلا بد أنها كانت بالفرنسية، رغم أن الشابي لم يتوفر سوى على ثقافة عربية في الكتّاب وفي جامع الزيتونة لفترة قصيرة، حيث درس الادب العربي القديم والفقه، وخاصة بتأثير والده الشيخ الازهري الذي قضى سبع سنوات يدرس في مصر، حتى عاد قاضياً شرعياً. كما أن حياة الشابي القصيرة بسبب مرضه الذي أودى به في ريعان شبابه وعمره خمسة وعشرون عاماً، لم تتح له الاطلاع على الثقافات الاجنبية، ولكن رغم كل ذلك فإن التشابه في الرؤية واضح.


كما نستشف بشكل واضح هذه الصورة بينهما التي ترى في الانسان مجرد ممثل يؤدي دوره على مسرح، لكنه ممثل غافل سادر، أو ممثل معتوه يضحك الاخرون عليه، أو ممثل ساذج لا يدرك عواقب الآتي. ولا بد أن جذور فكرة تشبيه الحياة بالمسرحية والانسان بالممثل الذي يؤدي دورا على خشبة المسرح ثم ينتهي كل شيء قديمة، وأعتقد انه كانت تتردد اشارات بهذا الخصوص في زمان شكسبير أو وردت في المصادر الكثيرة التي اعتمد عليها لأخذ القصة التاريخية الاساسية للمسرحية مثل كتابات الروماني بلوتارك والايطالي بوكاتشيو وغيرها، وامتدت هذه المقولات في الثقافة الانسانية حتى وصلت الشابي، واستقرت الفكرة في اذهانهما من خلال قراءاتهما وتجربتهما في الحياة.

* اللوحة أعلاه بعنوان تمارين مسرحية للرسام الفرنسي ادغار ديغا (1834-1917)

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق