السبت، ديسمبر 13

مؤنس الرزاز


مؤنس الرزاز .. اعترافات "مكتوم" الصوت!
(1951 – 2002)


بقلم: اياد نصار


يعتبر مؤنس الرزاز أبرز الروائيين الاردنيين الذي إكتسب شهرة عربية واسعة في القرن العشرين. من الصعب الفصل بين حياة مؤنس الرزاز الخاصة وبين رواياته، مثلما يصعب الفصل بين الادب والسياسة في مشوار حياته حتى وفاته. ولد مؤنس الرزاز في مدينة السلط عام 1951. وهو إبن منيف الرزاز المفكر والقيادي الاردني الذي ساهم في تأسيس حزب البعث. درس في مدرسة "المطران" المعروفة في حي جبل عمان بمدينة عمان. ورحل في العام 1965 إلى دمشق في أعقاب إنتخاب والده أميناً عاماً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي.


حصل على الثانوية العامة "التوجيهية" المصرية، ثم سافر في عام 1970 الى جامعة اكسفورد في بريطانيا حيث درس مستوى اللغة الانجليزية لمدة عام ونصف العام، ثم انتقل بعدها إلى بيروت، ودرس الفلسفة في جامعة بيروت العربية لمدة ثلاثة أعوام لكنه لم يتمكن من إكمال الدراسة بسبب اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية. إنتقل بعدها إلى بغداد، حيث تابع دراسته هناك وتخرج في جامعة بغداد حاملاً شهادة ليسانس فلسفة. شهدت تلك الفترة ولادة مجموعته القصصية الأولى بعنوان "البحر من ورائكم" عام 1976. سافر بعدها إلى جامعة جورج تاون في واشنطن لاستكمال دراساته العليا، إلا أنه تركها بعد عام واحد، سنة 1978 وعاد إلى بغداد ليشهد انتخاب والده أمينا عاماً مساعداً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.


ولكن تغير الحال بعد ذلك حيث عانى والده من ظلم الرفاق وانقلابهم عليه، فأصبح والده رهين الاقامة الجبرية في بغداد لحين وفاته. وقد شكل هذا الامر هاجساً وحزناً عميقاً ظل يؤرق مؤنس طوال حياته. وقد عكس هذه المحنة في روايته «اعترافات كاتم صوت» التي عرّت تلك المرحلة وأساليبها البشعة من تصفيات الى إغتيالات وتكميم افواه للمعارضين. شكلت الظروف التي تفتح وعي مؤنس عليها منذ صغره جزءاً من تاريخه وحددت معالم موقفه منها ورسمت إطار نهجه الادبي. فقد عاش مؤنس في كنف أسرة عانت من التنقل والترحال من بلد الى آخر بسبب طبيعة انتماء أبيه السياسي. كما دخل بسبب مبادئه وآرائه في أكثر من معتقل، وفُرضت عليه وعلى أسرته الإقامة الجبرية، وعانى من الملاحقات التي كانت تستهدف حياته.


بدأ مؤنس حياته العملية في الملحق الثقافي لجريدة الثورة العراقية في بغداد، ثم انتقل للعمل كباحث في مجلة شؤون فلسطينية في بيروت. وفي عام 1982 عاد الى عمان واستقر فيها. وقد عمل في عدة جهات مثل مجلة الأفق، وفي مكتبة أمانة العاصمة، وفي مؤسسة عبد الحميد شومان. ثم عين مستشاراً في وزارة الثقافة، ورئيساً لتحرير مجلة أفكار التي تصدر عن وزارة الثقافة. كان عضواً في رابطة الكتاب الاردنيين في دورتين في الثمانينات قبل أن ينتخب رئيساً لها في عام 1993 لكنه إستقال من منصبه قبل أن يكمل الدورة في عام 1994. كما أنتخب عام 1993 أيضاً أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني، لكنه استقال من موقعه هذا في أواخر عام 1994. وفي كلتا الحالتين فقد استقال من المنصب إحتجاجا على ما سماه العقليات الفئوية والجامدة.


كان يكتب عموداً يومياً في جريدة "الدستور" الاردنية منذ منتصف الثمانينات، ثم في جريدة "الرأي" في التسعينات، كما كان يكتب باستمرار في جريدة "الزمان" في لندن، وبقي يمارس الكتابة في الصحافة حتى وفاته في عمان في يوم 8 شباط / فبراير 2002.


نال جائزة الدولة التشجيعية ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2000 في حقل الرواية. كما ترجمت روايته أحياء في البحر الميت الى الانجليزية عام 1997. وقد نشرت أعماله كاملة بعد وفاته في عام 2003. اختارت اليونسكو روايتة الذاكره المستباحة لتقدمها للقارئ العربي في ثلاثة ملايين نسخة ضمن مشروع (كتاب في جريدة ) إضافة الى أنه كتب عنه وعن رواياته العديد من الدراسات وأطروحات الماجستير والدكتوراه في الآداب. وقد غدت كتبه الأكثر مبيعاً بين أعمال الادباء في الأردن بعد وفاته. وأطلقت أمانة عمان اسمه على أحد شوارع مدينة عمان.


يسيطر الهم الوطني على أعمال مؤنس الرزاز وخاصة قضايا الانسان العربي المقموع والمضطهد الذي يتعرض للتعذيب ومصادرة أبسط حقوقه في الرأي والتعبير وكتم الصوت والموت من قبل السلطة الديكتاتورية. وتبرز قضايا الاستبداد السياسي وأساليب القمع البوليسية والحزن والموت والاحساس بالعجز والاغتراب وفقدان الهوية والتشرد والمعاناة السياسية والانقسامات الحزبية واستغلال السلطة والمنصب بشكل واضح في كل أعماله. يتسم أدب مؤنس الرزاز باستخدام السخرية والرمز وتوظيف الاساليب الحداثية في الرواية من خلال تقديم الصور المقطوعة والمجزوءة والانتقال المفاجيء في عنصر الزمن والتركيز على الجوانب النفسية والداخلية للشخصيات واسلوب التداعي والاحلام والافكار والهذيان والهلوسات. وهناك الكثير من نقاط الالتقاء في الطرح والاساليب بين أعمال مؤنس الرزاز وعبدالرحمن منيف.

عاش مؤنس في خضم معاناة نفسية وحياتية ومادية شكلت معالم وملامح شخصيته وأدبه الذي يقدم رؤية سوداوية تتصف بالشعور بالاحباط والاحساس بأن الامور على حافة الهاوية. كان مثل شخوص رواياته يتسم بالتوتر والحساسية وتقلب المزاج. ولكنه كان قادرا أن يجمع النقيضين في آن واحد فتراه أحيانا مثل قديس مثالي وأحيانا أخرى مثل متمرد غرائزي. وقد دأب على البوح في كتاباته باعترافات عن جوانب من سيرته الذاتية التي سماها السيرة الجوانية. فقد اعتاد مراجعة الاطباء النفسانيين لمعالجة الاكتئاب المزمن والحاد الذي عانى منه وإدمان الكحول. وقد راجع عيادات نفسية في الغرب مرتين كذلك لهذا الغرض. وأخيرا توصل الى نتيجة عبر عنها بقوله:
"بعد نصف قرن من المكابدة والاشتباك بالسلاح الأبيض مع أمراضي، ها أنا أعلن وضع حد للصراع اقبلني كما أنا أحب أمراضي".

كتب مؤنس في الايام الاخيرة قبل وفاته: " ولكن ماذا يفعل المرء نفسه إذا ما اجتاحته نوبة اكتئاب حادة منطلقة من عالمه الجواني؟ كيف يبتعد صاحبنا، عندئذ، عن نفسه؟ كيف يفارقها وكيف ينزاح عنها وهي فيه ومنه وعليه؟ ماذا يفعل صاحبنا هذا عندما تشتجر الروح في كيانه مع جسده؟ الروح تقول: دبت الشيخوخة في هذا الجسد في وقت مبكر، فبات عاجزاً عن أن يحملني. فيرد الجسد مغضباً مرهقاً: لماذا سجنتني الأقدار مع هذه الروح القلقة المضطربة التي لا تعرف السكينة ولا تألف الاستقرار. لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد الجهنمي الفاجع، وإنما يمتد الصراع ليشمل أقطار الكيان الجواني كله، فالروح تشتجر مع الغرائز، والغرائز تشتبك مع الأعصاب، والأعصاب تتقصف وتقصف جهازها في شبه حرب أهلية أو انشقاق حزبي داخلي."


وتوضح الفقرة التالية من مخطوط تركه مؤنس بعنوان اعترافات روائي طبيعة الحياة والعزلة والاحساس بالتشاؤم والكآبة التي اتسمت بها حياته، حيث يصف المنطقة التي عاش فيها وهي حي جبل اللويبدة في عمان: "جبل اللويبدة شيخ مسنّ متهالك يلهث. يمشي محدودب الظهر، والريح تعبث بمعطفه الثقيل القديم. معطف كان عريقاً أرستقراطياً فصار عتيقاً شاحباً قد انتفخت الجيوب تحت عينيه. لم يشرب الدهر عليه ويأكل فحسب، بل ودخن أرجيلة ما بعد الأكل ورقد بكل ثقله عليه عند القيلولة. يا إلهي، أنظر إلى المرآة فأرى جبل اللويبدة يحدق فِيّ بعشرات العيون.


جبل اللويبدة مركز محيط دائرة حياتي المفرغة... ثمة عائلات من عمان الشرقية حسّنت أوضاعها المادية فانتقلت إلى جبل اللويبدة. ملامح الجبل تتغير، تفذ الخطوَ مع خطواتي نحو شيخوخة مبكرة وهبوط طبقي واضح. كيف ارتبط مصيري بمصيرك أيها الجبل المكدود؟ سوف أغادر معمعان القتال بعد أن خسرت كل معاركي وربحت حربي، فأعتزل الدنيا والناس وأقضي ما تبقى من حياتي مع أبطال الروايات وبطلات القصص، سأقطع خط الهاتف، وأعطب جرس الباب، فاعذروني.


أعتذر من البشرية كلها عن وجودي، عن إشغالي حيز قدمين على هذه الكرة الأرضية، أعتذر عن كميات الهواء التي تنشقتها، فقد كان غيري من أصحاب مرض الربو أو سرطان الرئة أَوْلى بها والله أعلم. أعتذر عن اقتناصي فرصة غيري في احتلال موقع موظف ذي راتب شهري يكفي لإقامة الأود، كان ينبغي أن أتبرع برواتبي كلها للبشرية، لكنني لم أعثر على بنك للبشرية.


انتهت قصة حياتي عام 1994 حين ربحت الحرب بعد ما خسرت المعارك وخرجت من الميدان مثخناً مظفراً، فكتبت ثلاث روايات، ثم تبينت موتي الأدبي المعنوي مع مطالع 1998. لن أنتظر الموت يقرر لخطة مصادرة عمري. هذا ترف لن أمنحه للموت. لقد قرّ قراري على ممارسة هذا الترف بنفسي. وبما أنني لن أضع حداً لحياتي العضوية (الأكل والشرب والنوم واستخدام بيت الراحة أو الحمّام والقيام بوظيفة الدوام في وظيفة)، وبكلمة أخرى أقول: وبما أنني لن أنتحر بات، إذن، من حقي أن أختار لحظة موتي المعنوي والأدبي، ثم الاسترخاء على كنبة وثيرة كما يسترخي المتقاعد، وألعب وألهو مع أصدقائي مثل الإخوة كرامازوف مثلاً، أو أغازل نساء حميمات مثل الليدي تشاترلي أو مدام بوفاري أو أنا كارنينا. نعم، هذا ما سأنهمك به إبان انتظاري للفرج النهائي الذي يختار الموت العضوي ساعته بالنيابة عني".


ساهم مؤنس الرزاز بشكل كبير في تطوير الرواية الاردنية والارتقاء بها إلى مستوى متقدم بين الروايات العربية لما تتسم به من النضج من الناحية الفنية. وتنتمي رواياته إلى اتجاه الرواية الحديثة التي تتسم بالتفكك والتشظي. وقد كان مؤنس يسعى دائماً وراء البحث والتجريب وإبتداع أشكال جديدة تتسم بالتركيز على الجانب الداخلي النفسي والعلاقات غير التقليدية من خلال تقديم نصوص متراكمة متناثرة تتصف بالغموض والاشكالية والتعقيد. وقد تأثر مؤنس بمدرسة الرواية النفسية ورواية «تيار الوعي» وخاصة جيمس جويس وكافكا ونظريات فرويد في التحليل النفسي للشخصيات. ويذكر أنه كانت هناك أطروحة دكتوراة في عام 2002 بالجامعه الاردنيه تتناول مقارنه أعمال الروائي الإيرلندي جيمس جويس بأعماله من حيث تحليل ومقارنة (صورة الفنان في شبابه 1916) و(عوليس 1922 ) لجيمس جويس و(أحياء في البحر الميت 1982) و(متاهة الأعراب في ناطحات السراب 1986) لمؤنس الرزاز مع بيان نقاط التشابه والاختلاف بين الكاتبين.


كان مؤنس الرزاز إضافة نوعية وصوتا متميزًا في الرواية العربية الحديثة. فقد انتقل بالرواية من جوها المحلي او التقليدي الى مواضيع ذات بعد عربي تمس مصير الانسان العربي أينما كان كالبحث عن العدل والكرامة والتخلص من قمع واستبداد السلطة وآفات العمل الحزبي. فرواياته تقدم مواضيع سياسية واجتماعية متوترة في مزج بين لغة التراث ولغة المعاصرة. وقد ساعده في ذلك دراسته للفلسفة وثقافته وعمله الصحفي ككاتب ومترجم، علاوة على ترحاله الدائم وراء الحلم القومي في عواصم عربية، وخوضه لتجربة المقاتل، وإنهماكه في العمل السياسي والحزبي.


أعماله في مجال القصة والرواية:


1- مد اللسان الصغير في مواجهة العالم الكبير (خواطر)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1973.
2- البحر من ورائكم (قصص)، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1976.
3- النمرود (قصص)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1980.
5- أحياء في البحر الميت،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
6- اعترافات كاتم صوت،(رواية)، ط1، دار الشروق، عمان، 1986. ط2 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986.
7- متاهة الأعراب في ناطحات السراب، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1986
8- جمعة القفاري.. يوميات نكرة ، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1990.
9- الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1991.
10- مذكرات ديناصور، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1994.
11- الشظايا والفسيفساء، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1994.
12- فاصلة في آخر السطر، (قصص)، المؤسسة العربي للدراسات والنشر،بيروت، 1995
13- سلطان النوم وزرقاء اليمامة،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1996.
14- عصابة الوردة الدامية،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1997.
15- حين تستيقظ الأحلام،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1997.
16- ليلة عسل،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2000.


هذا مقطع في بداية روايته (أحياء في البحر الميت) التي اصدرها عام 1982 لتذوق نكهة كتاباته! "هذه الأوراق التي قر قراري على أن أدفع بها إلى المطبعة هي أوراق كتبها صديقي عناد الشاهد وهو يعبر في حالات من التحولات والتنافر والانقلابات النفسية والروحية والمادية... لا تنتهي ولن تنتهي إلا بموته. فهذه الأوراق - حسب إجتهادي الشخصي - تتشكل رواية ولا تتشكل، تتقمص سيرة ذاتية وضد السيرة الذاتية. فاللغة فيها تتضارب، وإيقاع نبضها يتنافر، والوجوه تتحد لتنفصل وتتحلل لتعود فتتحد ثم تتشظى، وهذا يعود في رأيي الشخصي إلى عدة أسباب. أولها فوضى عناد نفسه، فقد كان يصف أمامه على الطاولة أوراقاً بيضاء ثلاثًا. واحدة تجاور الأخرى.. فيكتب بضعة أسطر من مشروع روايته التي كان يسميها "عرب" تارة ويسميها "أعراب" طوراً آخر.. تيمناً بـ دبلزجويس. ثم ينقلب على نحو مفاجىء إلى الورقة الثانية المحاذية، فيكتب فيها ضرباً من السيرة الذاتية، ثم ينفتل بغتة إلى الورقة البيضاء الثالثة فيسجل كلمات الآخرين. و "الآخرين" كلمة فضفاضة تشمل أقوال صديقة أبو الموت وأنا والمشير - وهو ليس المشير الذي قد تتوهمه أذهان القراء - وعبد الحميد - وهو ليس الذي نعرفه في التاريخ والواقع - وأفلاطون وهاملت وعنترة وديمتري كرامازوف وسعيد حزوم. حتى الآن يبدو هذا الكلام مع قليل من الملح والبهارات مهضوماً مقبولاً. لكن الكارثة الأممية هي أن عناد صاحبي كان يخلط بين هذه الأوراق مرة ويخلط بين كلماتها مرات".

* اللوحة أعلاه للفنانة العراقية ناديا محمد ياس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق