الخميس، مايو 15

صورة على الحائط


صورة على الحائط

قصة قصيرة
اياد نصار

- كل عام وأنتِ بخير عمتي.
- ومن أين يأتي الخير؟ .. ألا ترى حالتي كالميت الذي لا يقوى على الحركة؟ .. آخ .. آخ .. ما قيمة هذه الحياة البائسة وحيدة هنا .. لو وقعت ومت فلن يدري بي أحد .. أتمنى الموت .. لعلي أجد فيه راحة ً لم أعرفها في حياتي .. لقد نشأت على الشقاء والعذاب.

كان قلب خالد يحدثه طوال الطريق أن هذا الحوار سيقع لا محالة، وسيسمع الشكوى التي صارت تؤرقه .. فحال عمته خيرية يرثى لها، وهو لا يستطيع أن يفعل لها شيئا. كانت تنظر وهي تخاطب خالد بعيون فيها الحزن والحسرة الممزوجة ببصيصٍ ضئيلٍ من الأمل الى الصورة المعلقة على الحائط .. الله يرحمه عمك جمال .. كان زينة شباب البلد .. كان طيباً ووطنياً ويحبه كل الذين عرفوه.. نظرت الى الصورة .. حدقت فيها .. كانت صورته باهتة الجوانب باللونين الاسود والابيض وقد صارت أرضيتها مصفرةً بفعل الزمن ويبدو عليها كأنما أُخرجت من تحت أكوام التراب والغبار .. اه كم مرت سنوات عليها وهي معلقة مكانها..ولكن ملامح عينيه ووجهه ما تزال واضحة ً. صارت صورة جمال جزءاً لا يتجزأ من حياة خيرية .. لقد سمَّى إبنها الاوسط عدنان عندما ولد له أول صبي بعد انتظار سنوات على إسمه .. الكل ينادي عليه جمال ويذكره بالراحل الذي لم يعد .. يشعر أنه اكتسب محبة ً خاصة ً بين إخوانه بسبب الاسم. الكل يتحدث عنه بافتخار ومرارة.. لقد انتظرت وصفية سنواتٍ لأجله .. كانت ترفض من يتقدم لها .. تقول لهم إن جمال سوف يعود .. كانت تصر على لبس خاتم الخطوبة رغم مرور سنوات على غيابه .. صار الكل يعرف قصتها .. كانت كلما تذكرته، تشرع في البكاء بصوت مكتوم خشية أن تبدو على وجهها عواطفها واضحة .. كان هذا علامة ضعف غير مقبول وشيئاً إجتماعياً غير مألوف أن يصدر من البنت بين الناس!

- خالد، إن عمك جمال كان بطلاً درس في الكلية العسكرية بحلب .. قالت خيرية ذات السبعة وسبعين عاماً بصوت أجش مكتوم تبدو فيه نبرات الاسى. ليست هذه المرة الاولى التي تروي له قصة عمه جمال. في كل مرة تضيف شيئاً جديداً لم يكن يعرفه من قبل. آه لو حدث لها شيء لا سمح الله، فكم من الذكريات ستضيع معها. وأضافت بنبرة إفتخار .. التحق بقوات الثورة مبكراً. ترك دراسته.. لم يكن سيدك يرغب أن يفعل هكذا .. كان أمله أن يبقى معنا ليهتم بأحوالنا بعد أن تشردنا .. لقد تفتح ذهنه على النكبة مبكراً فصارت همّاً يؤرقه .. بدأ يدرك عذاب التعاسة والتشرد والفقر الذي نعيشه.

- أنظر الى بزته العسكرية، أنظر الى ملامح وجهه .. كان زينة شباب البلد .. وبدأت تبكي وتمسح دموعها .. شعر خالد بالحزن والاسى يملأ صدره .. كل مرة يزداد إحساسه بالمرارة والفخر في هذا الغائب الذي رحل قبل أن يراه.
" لقد ذهب سيدك الى بيروت عدة مرات دون جدوى .. لقد ذهب عمك عبدالله الى حلب والى دمشق .. بحثوا في كل مكان.. لم يجدوا له أثراً .. لقد كلفوا أشخاصاً عديدين للبحث عنه، دفعوا مبالغ طائلة لأجل خبرٍ صغيرٍ علّه يدلهم على مكانه. كانوا يعرفون أناساً لهم صلات بأجهزة الثورة، وآخرين في الشرطة والجيش والمخابرات من غير جدوى .. لقد سمعوا قصصا عديدة متناقضة" .. وأضافت: كان أبي رحمه الله كلما سمع طرف خيط من أحد يبدو أنه ربما يعرف عنه شيئاً أو رآه الاّ وبحث عنه واستفسر منه .. كان كل واحد يروي قصة مختلفة .. كانت تقوده الى البحث مرة اخرى. صار المسؤولون عن الامن والسجون والشهداء يعرفونه .. كغريق يتعلق بقشة .. يقولون له يا حاج لقد أتعبت نفسك كثيراً .. ألم تتعب من هذا السفر المتواصل؟ .. وهو يقول لهم جمال كان زينة شباب البلد".

كان الحاج حسين كلما عاد من رحلة البحث والعناء والنهايات المقطوعة يمر ببيت إبن عمه سالم ليطمئن على وصفية .. يحاول أن يطمئنها .. يقول لها لا بدّ أن نجده في يوم قريب .. يرى في عينيها حزناً يزداد كلما عاد من رحلة بحث خالي اليدين .. ولكن الامل ما زال ينبض في قلبها أنها ستلقاه في يوم من الايام. يخشى الحاج حسين أن يدب اليأس في قلب وصفية، فقد بدأ يلاحظ أن أهلها صاروا يلمحون باسلوب غير مباشر إن كانت ستطول هذه الفترة وكم يجب عليها الانتظار. يؤكدون إنها مكتوبة لجمال منذ كانت صغيرة، وستبقى له، ولكن شبابها يمضي، فالى متى تبقى الاحلام مؤجلة؟!

تحاملت الحاجة خيرية على نفسها ونهضت .. غابت في المطبخ قليلاً ثم عادت تحمل صحناً وقد وضعت فيه تفاحة ً وبرتقالة ً وسكيناً .. قالت لخالد خذ قشر وكل .. انا يا عمتي مريضة وليس بي حيل أن أصنع لك شيئاً .. زيارتك عزيزة علي. كان بيتها عبارة عن شقة صغيرة في بيت متواضع قديم البناء وقد تم بناؤه بشكل عشوائي عبر مراحل مختلفة. كان واضحاً أن بعض أجزائه أُضيفت فيما بعد في مخيم بالقرب من مدينة الزرقاء. أغلب البيوت هكذا .. تقف شواهد على المراحل المختلفة من سنوات التشرد والحرمان وبدء ظهور أصحاب الاموال ممن ذهبوا للخليج وعادوا يبنون بيوتاً وعماراتٍ كبيرةً ويقيمون مصالح ومؤسسات تجارية مختلفة. كانت أغلب البيوت تدل على الاضافات اللاحقة العشوائية. كلما كان يزيد عدد الاولاد والبنات وتكبر العائلة كانت تزداد الغرف والطوابق والمداخل والبلكونات والازقة بشكل فوضوي حتى صارت الاحياء مكدسة بكتل الاسمنت الباهت الكئيب التي لا ينظمها أي نسق نهائياً!

يعيش في هذا الحي غالبية ممن ألقت بهم النكبة في مهب الريح. كلما جاء لزيارة عمته خيرية، يرى في ملابسها تاريخاً يكاد يندثر. تلبس على رأسها أوكاة من القماش المطرز الثقيل كالقبعة المستديرة التي تحفها من كل جوانبها الدنانير العصملية، وثوبها الاسود الطويل المطرز على الصدر باشكال هندسية ونباتية بألوان شتى من خيطان الحرير والقصب المختلفة. لا تنسى دائماً أن تحكي له عن بيتهم الذي تركوه في سَلَمة. حملت أمها المفتاح معها حين هربوا من يافا. إستقر بهم المقام في مخيم جنين. ولكن أحلام العودة وصور الذكرى الحزينة بقيت تداعب خيالهم!

ولكن الحلم صار أبعد وأبعد. وكما قالت فيروز "غاب نهار آخر .. غربتنا زادت" ولم تقترب عودتهم!! فقد رمت بهم الاقدار مرة أخرى الى مخيم من الطوب والصفيح في الزرقاء. في الشتاء كانت طرقاته تصبح اوحالا ومستنقعات وتدخل مياه الامطار الى داخل البيوت المتكدسة. لم يكن للفقر والبؤس صوراً أبلغ من تلك التي رأوها طوال هذه السنوات.

قالت : رحم الله عمك جمال .. أصر أن يترك المدرسة ويلتحق بالفدائيين .. حاول سيدك الحاج حسين أن يقنعه أن يبقى، أو أن يمنعه، ولكنه ركب رأسه. قال كيف يبقى يعيش في مخيم بائس كهذا. وفي يوم من الايام بحثوا عنه فلم يجدوه في البلدة كلها .. ترك وصفية التي لم يكن قد اقترن بها سوى ثلاثة أسابيع.

توقفت قليلاً وهي تذكر إسمه .. أخذت تبكي .. تناولت محرمتها من جيب ثوبها على صدرها وأخذت تمسح دموعها وهي تنشج بحرقة.. قال لها خالد: يكفي عمتي .. الله يرحمه لن ننساه، ولكنك مريضة وصحتك لا تساعدك .. نخاف عليك ان بقيت هكذا تبكين.

قالت: هذا قدري .. تعودت على المآسي .. كم فقدت من أخوة وأخوات وأنا صغيرة نتيجة المرض والفقر، ولكن حزني على جمال لا يوازيه أي حزن .. مات أخوان إثنان وأخت لي ونحن صغار بالكاد نعي من الدنيا شيئاً من شدة الحرارة ولم يكن أبي و أمي يستطيعان فعل أي شيء لهم .. وماذا عسانا نفعل لهم ؟.. لم يكن هناك طبيب في بلدتنا .. كان الطبيب في المدينة .. ولم يكن باستطاعة الناس الوصول اليه بسهولة .

سألها خالد: وكيف أولادك؟ لماذا تعيشين هنا لوحدك ولا أحد يرعاك؟ لماذا لا تعيشي عند أحد منهم؟ أخذت تبكي بصوت أعلى وهي تمسح دموعها.
قالت: كل واحد مشغول بعائلته .. لا أجد راحتي إلاّ هنا في بيتي .. عدنان يتمنى أن أبقى عندهم في مدينة اربد .. ولكني لا أريد أن اثقل عليه.. لقد انتقل مع عائلته الى هناك ليكون قريباً من مكان عمله .. ووضعه بالكاد يكفي أسرته .. لقد أثقلت عليه كثيراً.
وتابعت: الله يرحمه ابو محمود كان سندي في هذه الحياة .. منذ أن رحل وانا أتنقل من بيت لآخر .. ألا يكفينا التشرد الذي عشناه؟ .. لهذا قررت أن أعيش وأموت في بيتي لوحدي .. لم يصدق خالد ولكن ما رآه هو ما حصل فعلاً .. إنها تعيش لوحدها في هذا البيت .. حاول أن يحذرها أنه قد يحدث لها شيء ما ولا تجد أحداً يدري بها .. قالت أهلاً بالموت .. لم أعد أطيق الحياة. وهل أنا احسن من أبي وأمي واخواني .. كلهم رحلوا عن هذه الدنيا .. ألم يرحل أبوك يا خالد .. ماذا نفعه الناس؟ وجمال سبقه .. لقد كان غياب جمال الجرح النازف في بيتنا طوال سنوات طويلة .. لقد بقي أبي يبحث عنه بلا كلل في كل مكان .. لقد ذهب معه ابوك مرة الى بيروت .. ذهبوا الى كل مقرات المنظمة هناك .. ذهب الى دمشق وحلب .. بعض رفاقه الذين عرفوه في اوقات سابقة قالوا إنهم سمعوا إنه إستشهد في اشتباك مسلح على مقربة من الارض التي عشقها .. لم يكل أبي من البحث عنه .. أخيراً لما رأوا إصراره .. أخذوه الى أحد المقرات في بيروت .. فتحوا صندوقاً وأفرغوا محتوياته على الطاولة .. نظر أبي اليها غير مصدق .. أجهش في البكاء .. كان عنده أملٌ حتى تلك اللحظة أن يراه حياً .. أن يقال له إنه معتقل عند الاسرائيليين أو في سجن ما من شرقنا المتوسط العزيز .. أمسك ساعته وأخذ يتحسسها .. تناول بطاقته وأخذ يقبل صورته.. أخذ ملابسه العسكرية وعليها بقع الدماء المتحجرة التي صارت سواداً مع الايام كالحقد الاسود .. كانت هناك بعض الحاجيات التي كانت معه.. أخذ أبي يبكي ويقول لماذا لم تخبروني عنه من قبل.. لماذا أخفيتم عني طوال هذه السنوات .. قال له الضابط وهو يضع يده على كتفه وأخذ يواسيه ويربت على كتفه.. رحمه الله يا حاج .. لقد مات شهيداً في إشتباك مع دورية اسرائيلية وهو يحاول التسلل للدخول للارض المحتلة.. خرجت كلمات متحشرجة من بين البكاء والدموع .. جمال كان زينة شباب البلد. عاد الحاج حسين ومعه بقايا الذكريات المختلطة ببقع الدماء .. خيم علينا حزن شديد وألم عاش معنا طوال هذه السنوات. أصيبت وصفية بصدمة عاطفية.

إغرورقت عيني خالد بالدموع .. تمالك نفسه .. أدار وجهه قليلاً كي لا ترى عمته دموعه .. قال لها مودعاً يجب أن يذهب الان .. مررت للسلام عليك .. انت تعرفي زيارة العيد قصيرة .. حاولتْ أن تبقيه عندها فترة أطول .. قال لها يجب أن أذهب ولكنه وعدها أن يأتي لزيارتها قريباً .. ندت عنه التفاتة الى صورة جمال على الحائط .. كان ينظر الى خالد بعينين فيهما الرضى والأمل .. خرج خالد من الباب وهو لا يزال يفكر فيما حدث...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق