الجمعة، مارس 6

الانطباعية: نشأتها وماذا بقي منها؟


الانطباعية: نشأتها وماذا بقي منها؟

بقلم اياد نصار


في عام 1986 كنا مجموعة من رفاق الادب والرسم الذين تستهويهم فلسفات المدارس الفنية لأن في فهم مبادئها وأهم ملامحها يمكننا متابعة تطور الفكر الانساني، ومن خلال إدراك مجالات الاختلاف والالتقاء بينها يمكنك أن تتلمس وتشهد كيف تصنع الافكار الجديدة التي تشكل معالم مستقبل الانسان، ولأنها الوسيلة التي تفتح لك آفاق الرؤية التي تمكنك أن تستوعب عالماً من البناء الفني الذي يقوم على مجموعة من مباديء الفكر والجمال والاحاسيس والتأثيرات النفسية لعناصر اللوحة. وقد شغلتنا بعض حركات الحداثة كثيراً كالانطباعية والرمزية والواقعية والدادائية والسريالية وغيرها.

سيطرت على الفن مرحلة طويلة تبحث عن الاتقان المثالي في نقل صورة الواقع بكافة تفاصيله الدقيقة ومحاكاة المشاعر والاحاسيس والالوان ومختلف الحالات النفسية التي تظهر معالمها على الانسان في صورته الخارجية. وكانت عظمة الفنان تأتي من قدرته على إختيار وتصوير هذه العناصر بدقة متناهية. ومنذ عصر النهضة في منتصف القرن الرابع عشر حين تم إعادة اكتشاف جماليات الابعاد الانسانية للفنون في الحضارة اليونانية والرومانية الى أواسط القرن السابع عشر فقد ظهر عدد من الفنانين العظام في أماكن متفرقة من أوروبا في ايطاليا وهولندا والمانيا وانجلترا الذين قدموا العديد من اللوحات والمنحوتات والتماثيل التي تنقل أدق وأجمل التفاصيل البشرية في جسم الانسان وفي تصوير المشاهد اليومية واللوحات ذات التأثيرات الدينية. ومن فليبو ليبي الى ليوناردو دافنشي الى رفاييل الى مايكل أنجلو الى جان فان ايك الى بيتر بروغل الى جان فيرمير ورمبرانت وفيلاسكويز وغيرهم انتشرت نهضة فنية امتد تأثيرها لاحقا خلال عصور الباروك والركوكو والكلاسيكية الجديدة حتى منتصف القرن الثامن عشر، حين بدأت تظهر تأثيرات المدرسة الرومانسية بالدعوة الى الاهتمام بالتعبير العفوي التلقائي عن المشاعر والخيال والاحاسيس ورفض القيم التقليدية وتمجيد الثورة والاهتمام بالطبيعة والدفاع عن المعذبين والمستضعفين وتمجيد النزعات الذاتية الفردية أمام سيطرة قيم المجتمع التقليدية.

في تلك الاجواء ظهرت الانطباعية التي كانت تهدف الى نقل الانطباع الحسي الذي يتولد في ذهن الفنان ببساطة دون الاهتمام بالمعايير الفنية المتبعة التي تنقل التفاصيل كما هي. كانت الانطباعية هي تأثير الاشياء على الفنان كما يراها في وعيه الحسي. ورغم أن الانطباعية لم تركز كثيراً على المضمون الفكري للوحات كما ظهر في المدارس التالية كالتعبيرية والرمزية والواقعية والسريالية وغيرها، إلا أن تركيزها على الجانب الذاتي لدى الرسام في رؤية الاشياء ومدى تأثير الالوان عليه والاهتمام بنقل حالات الطبيعة المختلفة ما بين الضوء والظلال والمطر والصحو والضياء وإحتفاء الانسان بهذه الحالات وتخليدها في لحظة هاربة من الزمن أعطاها حضورا متميزاً. لقد حفلت الفترة القصيرة منذ عام 1874 حين أقيم أول معرض إنطباعي وحتى 1889 حين بدأ يتشكل المذهب الرمزي وتتراجع الانطباعية وصارت الفكرة محل اهتمام الرسامين بدلاً من الاحساس الذي يخلفه تأثير الاشياء والالوان بتطورات عديدة وقيام معارض انطباعية عديدة وانضمام وانشقاق عدد كبير من أشهر الفنانين الذي ساهموا بدور كبير في انتشار المذهب الانطباعي.

لقد ساهمت الانطباعية في خروج الفنانين من مراسمهم الى حضن الطبيعة لنقل حركة أمواج البحر واشعة الشمس وتأثير ضوئها المتوهج والغيوم وتحركاتها وظلالها والمطر والثلج ونقل انطباعات الاثير والدخان والضباب في لحظات هاربة لا بد من تخليدها ليعيش ذلك الاحساس الذي تخلقه في وعي الفنان. وككل الحركات الفنية التي تشهد إفراطاً في استخدام مبادئها الى حد يبعدها عن عفويتها وبساطتها التي قامت عليها أساساً فقد أفرط الانطباعيون في نقل مشاهد انطباعات الضوء والحركة والالوان. وأخذوا ينقلون التحولات التي تطرأ على ذات المكان او الواجهات خلال ساعات النهار المختلفة.

لم تعد دقة التفاصيل وقواعد الاشكال الهندسية ووضوح الخطوط والالوان وتمايزها عن بعضها تعني الانطباعية كثيراً. فقد كانت تركز على درجات الالوان وإشراقاته. لهذا تحفل اللوحات الانطباعية بالالوان الزاهية المتداخلة كالاصفر ودرجاته المختلفة والازرق ودرجاته والاخضر ودرجاته ومن هنا كان تركيزهم على امتزاج هذه الالوان الزاهية كالفيروزي واللازوردي والرمادي والبنفسجي والبرتقالي. باختصار كانت العين وانطباعاتها الذاتية هي الاساس ولم يعد التفكير المنطقي العقلي بالاشياء وأبعادها الدقيقة ونقل جزئياتها هو الاساس.

وقد بدأت الانطباعية في الفن ثم انتقلت للادب والموسيقى. عكست أعمال الروائي والناقد الفرنسي مرسيل بروست وخاصة كتابه البحث عن الزمن الضائع وأعمال الاديب الفرنسي أندريه جيد وخاصة في كتابه قوت الارض دعوات الانطباعية، مثلما عكستها موسيقى كلود دو بوسي.

تعتبر لوحات الفنان جين ديلاكروا رغم أنه لا ينتمي للانطباعية ملهماً أساسياً لفناني المدرسة الانطباعية بتركيزه على تأثير مزج الالوان والظلال، ولو أن هناك مؤثرات أخرى غير مباشرة سبقت ديلاكروا مثل أعمال الفنانين فراغونار في فرنسا وكونستابل وتيرنر في إنجلترا، كما ظهرت مجموعة ممن عرفوا برسامي النور أو الضوء من منطقة بروفانس.

في تلك الاجواء التقى عدد من الفنانين بزعامة إدوار مانيه في محترف غلير في أحد ضواحي باريس. وقد شكل الحدث الابرز في مسيرتهم وقيام ما عرف فيما بعد بالانطباعيين هو المعرض الذي أقامه نابليون الثالث في قصر الصناعة في باريس عام 1863. وقد رفضت بعض الاعمال التي تقدم بها بعض الفنانين أمثال كميل بيسارو وبول سيزان ومانيه، فأقيم معرض آخر دعي بمعرض المرفوضين الذي إعتبره النقاد شيئاً مستهجناً ومجرد تلطيخ بالالوان. ومن اللوحات التي عرضت في ذلك المعرض لوحة مانيه الغداء على العشب التي اصبحت فيما بعد من أشهر اللوحات الانطباعية على الاطلاق. وقد حاول مانيه الاشتراك في عدد من المعارض بعد ذلك إلا أن عددا من لوحاته لم تقبل. وأمام هذا الرفض فقد إشترك عدد من الفنانين في إقامة معرض كان البداية الرسمية الاولى للمعارض الانطباعية في عام 1874 ومن أبرز من إشترك به كان: بول سيزان وكميل بيسارو وإدوار ديغا وكلود مونيه وبيير اوغست رينوار والفرد سيسلي ولم يشترك به مانيه. ويومها هاجم صحافي مغمور إسمه لويس لوروا المعرض ضمن موجة النقد والرفض التي جوبه بها الفنانون. وكان هو أول من استخدم كلمة إنطباعية في معرض سخريته من اللوحات وأساليب الفنانين الجديد في الرسم.

استمر الانطباعيون في محاولاتهم ودفاعهم عن مذهبهم الجديد في الرسم واقاموا عدة معارض وصلت الى ثمانية كان آخرها في عام 1889. تطورت أعمال الفنانين الانطباعيين ومرت بمراحل مختلفة من تطور مسيرتهم الفنية وشهدت في بعض الحالات خروجاً عليها ونقدها كما في حالة بول سيزان الذي بدأ يسير في إتجاه مغاير بدءاً من عام 1882 حين حاول الجمع بين تأثير المشهد على الحواس وربطه بالتفكير العقلي الذي ينظم وسائل التعبير. كانت لوحات كلود مونيه ورينوار وإدوار مانيه التعبير الاقوى والابرز عن مباديء هذه الحركة وقد مر كل منهم بتطورات في أسلوبه عرفت بالمراحل واشتق كل واحد لنفسه خطاً يتباعد عن البدايات. وهكذا بدأت تظهر مرحلة سميت بالانطباعية الجديدة التي قدمت الفنان جورج سورا تطور عنها فيما بعد الحركة ما بعد الانطباعية أو الرمزية في الرسم على يد بول غوغان وبوفي دو شافان وفي الادب على يد الشاعرين مالارميه وبودلير.

هناك العديد الكثير من اللوحات الانطباعية في تاريخ الفن التي قدمها الفنانون الذين وردت اسماؤهم في هذه المقالة وغيرهم من الاقل شهرة. حيث قدم كل منهم العشرات بل المئات من اللوحات التي اكتسبت شهرة واسعة وصارت من أركان معارض الفنون الحديثة وأصبحت لا بد عنها عند تقديم تاريخ الفن الحديث للدارسين والمهتمين. كما بلغت القيمة المادية لبعض هذه اللوحات في المزادات الفنية مبالغ باهظة لم تصلها من قبل.

والان وبعد ما يزيد على مئة عام على رحيل الانطباعيين الرواد الكبار، يظل السؤال الذي يلح على الخاطر: ماذا بقي من الانطباعية؟
ربما ليس كثيراً، فالانطباعية أبرزت الجانب الحسي الجمالي الفردي لكنها أهملت الجانب النفسي الداخلي الذي التقطته فيما بعد التعبيرية والسريالية، كما ركزت على الرؤية والحواس وتخليد الجمال اللحظي الهارب بمنظور ذاتي، ولم تهتم كثيراً بالجانب الفكري او الواقعي لمشكلات الانسان المعاصر.


* اللوحة أعلاه للفنان الفرنسي بيير اوغست رينوار بعنوان أختان على الشرفة، 1881.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق