الأربعاء، أغسطس 6

نهاية رجل فقير


نهاية رجل فقير

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

مصاعد المستشفى بطيئة ومزدحمة بالناس. توقفت أنتظرها حتى مللت الانتظار! أخذت أصعد الدرج حتى شعرت أن نَفَسي سينقطع من اللهاث! وحين وصلت الطابق الخامس تنفّست الصعداء. موسيقى هادئة بعيدة تصل إلى أذني. تتسلل بكل هدوء وسلاسة كالرائحة الناعمة. نغم حزين من عزف ناي يقتحم مسامات جسدي ونهايات أعصابي فيثير فيّ شعوراً بالإنقباض والترقب المتشائم. يعلو حيناً ويخفت حيناً آخر. أثار فيّ أفكاراً مبهمة مختلطة متداخلة عن قصة حياة توفيق ومعاناته فانتفض جسمي على نحو خفي. أنتقد نفسي أحياناً على برودة مشاعري، لكنني لا أحتمل أجواء المرض والموت. لا أحتمل صور العذاب التي تقفز أمامنا بفظاعتها صباح مساء.

أسمع لحن الناي وأشعر بقلقٍ شديد. أتخيل أحياناً الأسوأ فأحاول طرد الافكار من رأسي. أحاول أن أتفاءل ولكن قلبي غير مطمئن. تخيلت توفيق وقد أطل من خلف الباب وهو يفتح عينيه وابتسامة منهكة متعبة على شفتيه. لكنني بقيت قلقاً. تخيلت أنني أرى جسماً ملفوفاً بثوب أبيض لا يبدو منه شيء. حاولت أن أشغل نفسي عن التفكير بالأمر. أمشي في الممر ، ورائحة الأدوية تملأ أنفي. جدران الغرف معتمة كئيبة. صور المعاناة والبؤس تملأ غرف المستشفى.

رأيتهم واقفين عند الباب خائفين مذعورين والدموع في عيونهم وعلى وجوههم. كان لقاءً غير عادي. لم أعرف ماذا أقول وكيف أبدأ أو أسلم عليهم. عانقت مصطفى بحرارة وأنا أتمتم ببعض كلمات المواساة. وجوههم تحكي كل شيء. قال مصطفى والدموع في عينيه إنه بدأ يشكو من الالم منذ عدة أيام ، ولكن حالته ازدادت سوءاً. وأضاف إن الاطباء حوله منذ ليلة أمس. رأيت الخوف في عيونهم وهم ينتظرون أي أحد يخرج من خلف الباب كي يطمئنهم عن نتيجة العملية.

تذكرت ما حصل معه قبل سنة. ظننت أن الامر له علاقة بما حصل له على رصيف الميناء. ما تزال خالتي أمينة تبكي. تحاول أن تمسح دموعها قبل أن يلاحظها أحد. تشد غطاء رأسها من طرفيه. تبكي ليلى، إبنته الكبرى، بصوت مكتوم. مصطفى حزين دامع العين، يحاول أن يخفف عن أمه وأخته.

لا أذكر كم مرة جئت لهذا المستشفى! في كل مرة أشعر برهبة عند دخوله وتستولي صور المرض والعجز على تفكيري. في هذا المكان ترى كل أصناف البشر، كأنما تقف الاشجار المعمرة التي تملأ التلة حول المبنى وعلى جانبي الطرق المؤدية إليه شاهدة على تاريخ طويل من معاناة البشر. كم مرّت من تحتها قصص محمولة تئن وتتوجع من الألم ، فعاد بعضها ولم يعد الآخرون!

كنت في مكتبي هذا الصباح مع نبيل مهندس المشروع نتحدث عن تصميم المبنى الجديد عندما رنّ هاتفي. كانت أمي على الخط الاخر. توجّست من الأمر شراً. ليس من عادتها أن تتصل في هذا الوقت المبكر. لم يكن صوتها طبيعياً. أعرف أمي عندما تتصل بي. نبرات كلامها تدل على حالتها النفسية. لديها طريقة في التمهيد للموضوع دائماً. ولكنها هذه المرة لم تكن على ما يرام. شعرت أنّ في الأمر خطباً ما. رجوتها أن تخبرني. قالت إن زوج خالتي توفيق قد أدخلوه المستشفى وأن وضعه سيء للغاية. صدمت من وقع الخبر.

بقيت أفكر وأنا في الطريق إلى المستشفى بتوفيق. شعرت بخوف من وقع كلمات أمي. شعرت أنها تعرف شيئاً ولا تريد إخباري كي لا أقلق. لم تزل تلك الحادثة محفورة في ذاكرتي. يومها وقف ما بين شاحنة محملة بألواح الرخام والحاوية وظهره إلى الجدار. لم ينتبه سائق الرافعة إلى وجوده. أنزل لوح الرخام. حاول الهرب من مكانه فلم يستطع. أصيب في صدره. صرخ ولكن السائق لم يسمعه من صوت المحرك والشاحنات. انتبه بعض زملائه فأخذوا يصرخون على السائق. تمكنوا أخيراً من سحبه وإبعاده. كان يصرخ ويتألم. حملوه فوراً إلى المستشفى. أصيب توفيق بكسور في أضلاع صدره. لو لم يكن هناك أحد عندما ألقى السائق الحمولة، لانتهى به الأمر جثة هامدة.
مكث في المستشفى لمدة عشرة أيام. ولكنه بقي بعدها مقعداً في البيت خمسة أشهر. تولّت الشركة علاجه في المستشفى ثم تخلوا عنه. عمل معهم ثماني سنوات وحين أصيب تركوه. كان وضعه يثير الحزن والشفقة. مرت فترة طويلة قاسية ذاق فيها وأسرته طعم الشقاء. خمسة أشهر وهو جالس في البيت بلا عمل. ما يزال يشعر بالألم في صدره. ولكن من سيطعم الأفواه الجائعة؟ سمع الكثير من الوعود التي لا تأتي! بقي يبحث عن عمل بلا طائل.

يزوره إبراهيم بين حين وآخر ويرى معاناته وهو بلا عمل. لم يبق له في الدنيا من أصدقاء سواه. تعرف إليه منذ سنوات طويلة. عملا معاً في مشغل للسيارات وصارا صديقين. ترك توفيق السيارات وعمل في شركة للشحن في الميناء أما ابراهيم فبقي يتنقل بين ورشات السيارات.
ننتظر بقلق عند الباب خروج الاطباء من العملية. الكل متوتر وخائف. ما تزال خالتي تبكي ومصطفى يحاول أن يكتم دموعه. شعرت أن في الأمر شيئا خطيراً لا أعرفه. بدأ بعض الاقارب بالتوافد لرؤيته. أمسكت مصطفى جانباً وقلت له: هل حدث شيء مفاجيء لأبيك؟ أعرف عندما أصيب قبل سنة في الميناء وانكسرت أضلاعه، ولكنه تغلّب على إصابته. فهل حدثت معه مضاعفات؟ هل وقع له حادث آخر؟ حاول مصطفى أن يتجنب الاجابة، فلم أدعه. بقيت ألحّ عليه وهو يحاول تخفيف الامر.
"بقي أبي بلا عمل فترة طويلة. كانت المصاريف تزداد ومتطلبات البيت لا ترحم وهو يكظم إحساسه بالمرارة. لكننا كنا نحس به وبمعاناته ، وهو جالس في البيت. كان يرجو كل من يأتي لزيارته أن يساعده في ايجاد عمل، ولكن لم يكن أي عمل يدوي يناسبه بعد إصابته. لقد اعتلت صحته منذ ذلك اليوم. لم تغطّ الشركة سوى فاتورة المستشفى. رموه بعد كل هذه السنوات. فزاده ذلك شعوراً بالاحباط وبالظلم.عرّفه إبراهيم على صديق يعمل في الاستيراد والتصدير. عرض على أبي أن يعمل مسؤولا ًعن مكتبه في عمان. غيّر العمل من نفسيته وشغل وقته. أناس يأتون للمكتب ويأخذون أوراقاً وجوازات. رحلات سفر إلى الهند. عرض عليه صاحب المكتب بعد فترة أن يسافر هو شخصياً. الامر سهل جداً وليس به خطورة. كثيرون قبلك سافروا وحلوا أزمتهم المالية. حاول إقناعه بشتى الوسائل. لم يخبرنا أبي باديء الامر. كل هولاء العشرات قد حلوا أزماتهم المالية! فلماذا لا تفعل مثلهم؟ رفض أبي الموضوع ، ولكن محاولات الالحاح الاقناع، بدأت تتسرب الى نفسه. بدأ يقلّب الفكرة بعد أن طحنته ظروفه المادية.أخبرنا ذات يوم أنه سيسافر إلى الهند في سبيل إستيراد بعض البضائع من هناك. أوصلته بنفسي للمطار يومها. غاب عنا أسبوعاً وعاد. في اليوم التالي لوصوله بدأ يشعر بألم في خاصرته. كان الألم بسيطاً ، فكان يتحامل على نفسه. ولكنه اشتد في الايام التالية، فصار يأخذ أقراصاً خفية عنا. صار الألم شديداً وصرنا نسمع تأوهاته. كنا نسأله عن السبب فيقول ربما مغص أو إلتهاب سيزول. ازداد ألمه وازدادت معه تأوهاته وصرخاته المكتومة. حاولنا إقناعه بالذهاب إلى الطبيب أو المستشفى فرفض. قال أنها مسألة وقت. بعد عدة أيام، لم يعد قادراً على المشي. لقد أنهكه المرض كثيراً. أخذناه للطبيب في الليل. كانت صدمة ثقيلة علينا. لم يكن ليخطر ذلك ببالي أبداً. بعد قليل جاء رجال الشرطة وأخذوا يحققون في الموضوع.كانت ظروف عملية نزع الكلية بدائية. أخبرنا الأطباء أن الالتهابات قد انتشرت في جسمه وقد تضررت كليته الاخرى. كانت صدمة عنيفة أخرى".
كان مصطفى يروي ما حدث وأنا أستمع له وأنظر اليه كالمذهول.. بعد قليل فُتح الباب وخرج الطبيب وبعض الممرضات والممرضين. كان الطبيب متجهماً خالياً وجهه من أي تعبير. لم يكد الطبيب يتفوه بكلمة حتى سمعت صرخات مصطفى. بقية من أمل ضاعت. استمر مصطفى يتفجع ويصرخ. التفتُّ إلى خالتي ، فاذا بها قد شرعت في العويل. ووقعت ليلى مغشياً عليها.

* اللوحة أعلاه بعنوان "الصياد الفقير" للفنان الفرنسي بيير دي شافان (1824-1898)

هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف3:16 م

    أتمنى لك دوام التوفيق

    ردحذف
  2. غير معرف4:35 م

    اولاًالف مبروك مقدماً...
    أهنئك على القصة(المأساه)فانت بارع حقاً فى طرح قضايا العصر بطريقة جميلة ومشوقة
    لكن فى ظل الظروف التى تعيشها الناس مش حتبيع كليتها بس حتبيع نفسها
    اتمنى لك المزيد من الابداع وتمنياتى بالنجاح(امال)

    ردحذف
  3. تحياتي لك آمال على تعليقاتك التي تنم دائماً عن فهم متقدم للعمل وعن اهتمام جميل بالأدب عموماً. يسعدني مرورك الدائم وأشكرك على عباراتك اللطيفة.

    ردحذف