الاثنين، ديسمبر 29

دفاتر الحب والذكريات


دفاتر الحب والذكريات

اياد نصار


يا زماناً عشتُ به للحبِّ أطوارا
لم أدرِ إن كان صدفة ًحبُّك
يا سيدتي أم أقدارا
ليس في العمر مثلُهُ
يا روعة َالحياة تُنْبتُ
في صقيع ِ العمر
أزهارا
وتسكبُ بعد جفافِ الروح
أمطارا.


طالَ الغيابُ
وجاء خريفٌ ومضى خريف
وأنا أُصارعُ ظنوني
وألتمس أعذارا
صوتُكِ صار صمتـَكِ الابديَّ
يا ملاكاً.. يا ساحرةً تلهم الدنيا
أشعارا
وتعزفُ للحنين والحبِّ
أوتارا.


إشتاقتْ لكِ الكلماتُ
يا ملكة َ الحرفِ والنشيد
يسائلني القلبُ عنكِ ليلاً نهارا
كنتِ أمام ناظري،
ولم أكنْ أطيقُ سلوى
فكيف يكونُ الان إنتظاري
ونارُ الشوقِ تستعر لهيباً وأوارا؟


كنتِ لي سماءً وأرضاً
وجنة ً وأشجارا
رأيتكِ في كلّ نجمةٍ ووردةٍ
وحشائشِ الارضِ البرية
رأيت فيك غالاتيا وفينوس
وفلورا
يا الهة ً عادت من التاريخ
عذوبة ًورقة ًوآثارا.


كنتِ لي في ليلِ وحدتي أنوارا
رأيتُ وجهَكِ اللؤلؤيَ يسامرُ غربتي
أينما ذهبتُ أقطارا
كنت لي في صحراءِ الحياة
حين يموتُ الحبُّ بين البشرِ
واحة ًونخلة ًوأنهارا.


لستُ أرى سوى وجهَكِ أمامي
أينَ الهروبُ منكِ الا اليك؟
لم يعدْ يطيقُ القلبُ من غيابِك
احتمالاً ومن هواجسي أفكارا
هل هذا هو قدري يا سيدتي
أن يصيرَ حبكِ بعد الجنة
أطلالاً ورماداً ونارا؟
أن يَغَصَّ القلبُ في وحدتِه ألماً
وينفطرَ حزناً وانكسارا؟


قد طالتْ غيبتكِ يا أجملَ النساء
فمتى تعودين يا أنشودة ً
أرسلتها السماء؟
أحملُ دفاتري كلَّ صباح
فلست أرى سوى الذكرى
والحزن أنظارا
أماكني كلُها صارت أطلالاً
وانتظارا
فلا الشوقُ يحملني اليكِ
ولا القلبُ يطيقُ إصطبارا.


يا توأمَ الروح مذْ كنا صغارا
كم من رسائلٍ حمّلتها
للقاصدين الديارا
وكم من مكاتيبِ العشق ضمّنتها
حروفَك المخملية َ
لعلي أراك في سطوري
فرأيتكِ في ساعاتِ الوجدِ
أقمارا
وسمعتُ همسكِ عند الفجر
أذكارا.


هل يضيعُ العمرُ يلوكُ الذكرى
أسراراً ويحترقُ القلبُ أجمارا؟
هل كان ذنباً أنني أحببتكِ
يا روعة َ العمر؟
هل كان الحبُ يوما أوزارا؟
كم تحمّلنا في ليالي الحب عيوناً
وحصاراً وأخطارا
وكم هطلتْ في ليالي الشتاء
القطراتُ
فلم ندرِ أنزلَ المطرُ أم بكتِ العينُ
من الشوقِ مدرارا


كم أحببتك يا فاتنة َ عمري
سيعيش الحبُ الذي بنيناه
خالدا ً في كتب الهوى والقصائد
بعد عمرنا أعمارا
ليعرف الزمن أننا كنا معنى الوفاء
في هوانا أحرارا



* اللوحة أعلاه للفنان الانجليزي إدوارد جون جريجوري (1850 - 1909)

الخميس، ديسمبر 25

جائزة البوكر العربية للرواية


جائزة البوكر العربية للرواية:

غياب الشفافية ولجنة التحكيم لم تقرأ كافة الروايات المشاركة بالجائزة!!

بقلم: اياد نصار

لقد أثار إستغرابي مؤخراً الاعلان الذي تم في العاشر من شهر كانون أول / ديسمبرالحالي عن أسماء الروايات العربية الست التي تأهلت للمرحلة النهائية للتنافس على جائزة البوكر العربية للرواية في دورتها الثانية 2008 /2009 وأسماء مؤلفيها من الروائيين العرب. مثلما اثار إستغرابي من قبل الاعلان الذي سبقه بحوالي الشهر عن ادارة الجائزة والذي تم فيه إعلان أسماء الروايات الست عشرة الفائزة في المرحلة الاولى من التصفيات لما اعتراه من غياب واضح للشفافية وما احتواه من الجمل القصيرة الموجزة والسقيمة التي قيلت بحق الروايات المختارة للدلالة على أحقيتها بالاختيار! وتساءلت بيني وبين نفسي هل قرأ أعضاء لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية كافة الاعمال الروائية التي قُدّمت للمشاركة بمسابقة الجائزة؟ وهل يعقل أن لجنة التحكيم التي تضم نقاداً معروفين في الساحة الادبية العربية ولهم باع في تحليل ونقد الرواية أن يصدر عنهم مثل هذه البيانات التي لا تغني أو تسمن من جوع وتفتقد لمعايير النقد الادبي المحكم مثلما تخلو من الشفافية في بيان أسباب الاختيار أو الاستبعاد بشكل لا يليق بروايات وروائيين عرب معروفين تقدموا للفوز بالجائزة؟! يخامرني شك كبير يصل حد الجزم أن أعضاء لجنة التحكيم لم يقرأوا كافة الروايات أبداًً. ولكن ما الذي يدعوني لقول ذلك؟ ولكن قبل سرد الاسباب التي تدعوني لقول ذلك ، أجد أنه لا بد من تذكير القاريء بأن أعضاء لجنة التحكيم ليسوا هم ذات الاعضاء في الدورة السابقة، بل يتم تغييرهم في كل دورة وهذا شيء جيد من حيث المبدأ، وأنا هنا أتحدث عن لجنة تحكيم الدورة الثانية. ولكن ما أقوله عن الدورة الثانية ينطبق تماما على الدورة الاولى، وربما سينطبق على الدورات التالية اذا كان هذا هو أسلوب العمل! وأضع يدي على قلبي من المصير الذي ينتظر هذه الجائزة إذا استمرت بالعمل على هذه الشاكلة، فستفقد ثقة الروائيين العرب بها وتصبح مجرد أداة إعلامية تثير الشكوى منها أكثر مما هو مأمول لها أن تحققه في دعم مسيرة الرواية العربية.


تتألف لجنة التحكيم للدورة الثانية كما ورد في اعلانات الجائزة من كل من: السيدة يمنى العيد، رئيسة اللجنة، وهي أستاذة أكاديمية لبنانية وناقدة أدبية معروفة، والسيد رشيد العناني من مصر، وهو أستاذ الأدب العربي الحديث ومدير معهد "الدراسات العربية والإسلامية" في جامعة إكستر، والسيد هارتموت فندريش، وهو مترجم ألماني للأدب العربي، والسيد محمد المرّ، وهو كاتب وصحفي إماراتي ورئيس "مجلس دبي الثقافي"، والاستاذ فخري صالح، وهو صحفي أردني وناقد معروف في الاوساط الثقافية العربية ويعد اسماً مرجعيّاً في مجال الأدب العربي المعاصر.


أولاً، لا بد لي من التأكيد أنني لم اشارك بهذه الجائزة لا من قريب أو من بعيد، كي لا يقال أنني غاضب من نتائج إختيار لجنة التحكيم. وثانياً، ليس لي أية غاية أو مصلحة تربطني بأي ممن تقدموا برواياتهم لهذه الجائزة، وليس لي أية غاية أو هدف في فوز أي كان بها منهم سوى أن يكون جديراً حقاً بها بغض النظر عن أية إعتبارات أخرى. وثالثاً، ليس لي أية صلة تربطني بأعضاء لجنة التحكيم ، كما أنه ليس لدي أي موقف من أي نوع كان تجاه أعضاء لجنة التحكيم. بل على العكس من ذلك، أكن لهم التقدير والاحترام على مكانتهم في الساحة الثقافية العربية ومساهماتهم الادبية الكبيرة فيها مما حدا بإختيارهم ليكونوا أعضاء لجنة تحكيم الجائزة، وأشكرهم على جهودهم التي يساهمون بها في تعزيز الدور المأمول لمشروع هذه الجائزة العالمية ، إن صح التعبير، في تكريم أصحاب الروايات الجديرة أدبياً ومادياً والمساهمة الفعالة في تسليط الاضواء عليها ودفع القرّاء وجمهور المثقفين ليس في الوطن العربي فحسب، بل لدى كافة المهتمين بالادب العربي المعاصر في كل أنحاء العالم الى قراءة هذه الاعمال وترجمتها الى لغات العالم المختلفة وإثارة النقد والتحليل حولها مما يسهم في دفع مسيرة الرواية العربية المعاصرة الى الامام ويضعها بمكان لائق بين الروايات العالمية الاخرى. كما يثري الحوار والنقد حولها. وأخيراً ليس عندي أي تحفظ على قرار اللجنة باختيار الاعمال التي تم الاعلان عنها ضمن القائمة النهائية القصيرة للروايات التي تأهلت للمرحلة الاخيرة سواء أكان التحفظ لاعتبارات روائية أو نقدية أو جغرافية أو شخصية أو غيرها. ولكن لدي الكثير من التحفظات على الاسلوب الذي يتم فيه التعامل مع الروايات المتقدمة، وعلى كيفية إختيار الروايات في مراحل التصفيات الثلاث، والنظرة التي تحكم إختيار الاعمال الفائزة وغياب الشفافية.


أعود للسؤال الذي طرحته قبل قليل وهو هل قرأ أعضاء لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية كافة الروايات والاعمال التي قُدمت للفوز بهذه الجائزة العالمية؟ وقبل الجزم بالاجابة إيجاباً أو نفياً، لا بد من عرض بعض الحقائق من أجل الوصول الى رأي محدد يمكّننا من تأكيد أو نفي أن ذلك قد حصل. لذلك دعونا نعود الى بداية الاحداث:


ربما يعلم بعض المتابعين لجائزة البوكر العربية أنه قد تم إطلاق الجائزة رسمياً في أبو ظبي بالإمارات العربية المتحدة في شهر نيسان / إبريل عام 2007 تحت إسم الجائزة العالمية للرواية العربية ، والتي أصبحت تعرف الان بجائزة البوكر للرواية العربية، بالشراكة مع "جائزة بوكر Booker " البريطانية وبدعم من "مؤسسة الإمارات" في أبو ظبي.


وقد تلقّت هيئة الجائزة مئات الروايات في دورتها الأولى من مختلف أنحاء العالم العربي، وتوزّعت جنسيات الروائيين والروائيات العرب المشتركين على ثمانية عشر بلداً عربياً. وقد إنعقد مؤتمر صحافي في لندن بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير 2008، أعلنت فيه إدارة الجائزة عن أسماء الروايات الستّ التي وصلت الى القائمة النهائية ، والتي كانت تتنافس على الجائزة الأولى. أما الروايات الستّ التي تأهلت في حينها فكانت: مديح الكراهية للروائي السوري خالد خليفة، ومطر حزيران للبناني جبور الدويهي، وواحة الغروب للمصري بهاء طاهر، وتغريدة البجعة للمصري مكاوي سعيد ، وأرض اليمبوس للاردني الياس فركوح، وأنتعل الغبار وأمشي للبنانية مي منسي. وقد فاز الروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة على روايته "واحة الغروب"، وذلك في إحتفال أقيم في ابو ظبي يوم 10 آذار / مارس 2008 إستضافته مؤسسة الامارات وهي المؤسسة الراعية لهذه الجائزة التي تمنح للمرة الاولى في نسختها العربية.


نعود لموضوع السؤال مرة أخرى وبالذات مع ملاحظة أحداث الدورة الثانية منذ الاعلان عنها مع التنويه الى ضرورة الانتباه الى التواريخ والأعداد والحيثيات. فقد فتح باب الترشيح للدورة الثانية بتاريخ 4 نيسان / ابريل 2008. وقد جاء في الاعلان عن فتح باب الترشيح للدورة الثانية أن إدارة الجائزة بدأت قبول الترشيحات وذلك حتى 31 تموز/ يوليو 2008 حيث تم إغلاق أبواب الترشيح لتلك الدورة بعد ذلك التاريخ. وقد إشترطت ادارة الجائزة إرسال سبع نسخ من كل رواية مرشحة مرفقة باستمارات الترشيح، على أن تكون قد صدرت بين عامي 2006 و2007.


وإذن كما تلاحظون فقد تم إعطاء فترة تقل عن أربعة أشهر ما بين آخر موعد لاستقبال الترشيحات بنهاية شهر يوليو وما بين شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2008 حين تم الاعلان عن لائحة التصفيات الاولى التي تضمنت ست عشرة رواية لروائيين من عشرة بلدان عربية. يبدو للوهلة الاولى أن الفترة كانت كافية تماماً لقراءة الاعمال المقدمة من قبل لجنة التحكيم! ولكن إذا علمنا أن إدارة الجائزة تلقت هذه السنة 131 عملاً روائياً من 16 بلداً مختلفاً هي مصر وسورية ولبنان وتونس والمملكة العربية السعودية والأردن والمغرب وفلسطين والعراق وليبيا والسودان واليمن والجزائر وعُمان واريتريا والكويت، وأن هذه المشاركات توزّعت بين 104 أعمال روائية لكتّاب، و17 عملا روائياً لكاتبات، فإننا سنصاب بالدهشة ونفغر أفواهنا إستغراباً لنعرف كيف تمكنت لجنة تحكيم من خمسة أشخاص غير متفرغين ويعملون في وظائف مختلفة وموزعين على خمسة بلدان هي لبنان ومصر وإنجلترا وألمانيا والاردن من أن تقرأ هذا الكم الهائل من الاعمال المشاركة.


يدل عدد النسخ المطلوبة للتقديم وهي سبعة أنه تم توزيعها على أعضاء اللجنة الخمسة والاحتفاظ باثنين منها لدى المديرة الادارية للجنة جمانة حداد في بيروت لاغراض التوثيق والنشر والارشفة! وهذا يعني ان كل عضو قد وصله 131 رواية وقد قرأها في مدى زمني يقل عن أربعة أشهر (أي حوالي أقل من 120 يوماً)! أي بمعدل رواية وجزء من رواية في اليوم الواحد!! وهناك بلا شك روايات دسمة كثيرة الصفحات ملحمية الاحداث والبعد الزماني والمكاني! فكيف أمكن للناقد أن يقرأ رواية كل يوم ويسجل ملاحظاته عليها! وكيف أمكن له ذلك اذا كان يعمل في مجاله الاكاديمي أو الاعلامي وغير متفرغ للقراءة! يبدو الامر أقرب للخيال منه للواقع! ولو افترضنا أنه تم تقسيم الروايات كلها بين أعضاء لجنة التحكيم، لكان نصيب الواحد منهم ستاً وعشرين رواية ليقرأها في ذات الفترة الزمانية! أي بمعدل حوالي سبعة روايات في الشهر! وهذا بعيد عن الواقع. فالناقد يمكث أياما وأحياناً أسابيع وهو يقرأ الرواية ويستكشف عالمها ومجرياتها وشخوصها وأسلوبها وجوانبها الفنية والابداعية ويحللها حتى يتمكن من كتابة نقد يدل على استيعاب العمل حتى لو كان موجزاً! وفي أحيان يحاول الاطلاع على كتابات الكاتب الاخرى ليحيط بعالمه الروائي وبنائه الفني وموضوعاته الرئيسية! وقد يقول قائل أن أعضاء اللجنة على إطلاع على بعض هذه الروايات من قبل أن تشارك في الترشيح للجائزة، وقد يكون هذا صحيحاً لعدد قليل فقط من الروايات، لأنه أُشترط أن تكون الروايات المشاركة حديثة العهد قد صدرت بين عامي 2007 و2008. أو أن يكون ممكناً لو كان كل أعضاء اللجنة من النقاد الذين يعملون في الصحافة الادبية ويتابعون باستمرار آخر اصدارات الروايات العربية! وأعتقد أنهم لو كانوا كلهم كذلك، فإنهم سيتابعون ما تصدره دور النشر في عواصم النشر القليلة المعروفة، أما إصدارات العواصم العربية الاخرى الاقل نشاطاً أو البعيدة فتصل متأخرة وقد لا تصل أبداً!


وهناك جانب آخر أود الاشارة اليه ويبدو من استعراض عناوين الروايات الست عشرة التي تأهلت الى اللائحة الاولية التي صدرت في شهر تشرين الثاني / نوفمبر وجنسيات الروائيين المشاركين. كما قلت آنفاً تتوزع جنسيات المشاركين بالترشح للجائزة الى 16 بلداً عربياً، وقد تم إختيار 16 رواية، ولكن لروائيين وروائيات من عشرة بلدان. فهل كان الاعتبار بالاساس جغرافياً يقوم على اختيار رواية من كل دولة مشاركة، وحين يتم استبعاد بعض الدول من المشاركة في الاساس نتيجة عدم انطباق الشروط أو لأسباب أخرى ، يتم توزيع الاماكن الشاغرة على الدول الاخرى الباقية؟! هكذا تبدو لي الامور! استعرضوا معي الروايات الست عشرة التي وصلت الى القائمة الاولية:


1- القمقم والجني / محمد أبو معتوق /سوري / الناشر: الكوكب


2- حارس التبغ / علي بدر / عراقي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر


3- جوع / محمد البساطي / مصري / دار الاداب


4- الاعترافات / ربيع جابر / لبناني / المركز الثقافي العربي


5- كتيبة الخراب / عبدالكريم الجويطلي / مغربي / المركز الثقافي العربي


6- رينيه الحايك / صلاة من أجل العائلة / لبنانية / المركز الثقافي العربي


7- المترجم الخائن / فواز حداد / سوري / منشورات رياض الريس


8- هذا الاندلسي / سالم حميش / مغربي / دار الاداب


9- عزازيل / يوسف زيدان / مصري / دار الشروق المصرية


10- روائح ماري كلير / الحبيب السالمي / تونسي / دار الاداب


11- غرفة العناية المركزة / عزالدين شكري / مصري / شرقيات


12- الحفيدة الامريكية / إنعام كجه جي / عراقية / دار الجديد


13- الورم / ابراهيم الكوني / ليبي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر


14- طعم أسود رائحة سوداء / علي المقري / يمني / الساقي


15- زمن الخيول البيضاء / ابراهيم نصرالله / أردني / الدار العربية للعلوم


16- ماء السماء / يحيى خلف / فلسطيني / الشروق الاردنية


فكيف تم التوصل الى هذه القائمة؟ لا يوجد أبدا ما يشير الى الاسلوب والمعايير وكيف كان يتم استبعاد أو استبقاء الروايات أو كيف كان يجري النقاش حولها بين أعضاء اللجنة في ظل وجودهم في أماكن مختلفة! ولا يوجد على موقع جائزة البوكر العربية على شبكة الانترنت رغم التفاصيل الكثيرة التي أوردها الموقع أي ذكر لأي معيار أو أسلوب تم استخدامه للوصول الى هذه القائمة أعلاه! وهكذا تم إستبعاد 115 رواية في المرحلة الاولى بكل بساطة وبدون أن يكلف أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم أن يذكروا كيف ولماذا؟ أو حتى ذكر أسمائها من جانب العلم بالشيء! ولو أنه عُرفت بعض العناوين القليلة وأسماء الروائيين من خلال تصريحات دور النشر المشاركة للصحافة! فهل هذا يليق بهذه الروايات المستبعدة ويليق بالروائيين المشاركين؟! تجاهل تام من ادارة الجائزة ولجنة التحكيم للروائيين العرب ممن كلفوا أنفسهم عناء إرسال رواياتهم!


ثم تم الاعلان في يوم 10 شهر كانون أول / ديسمبر أن أعضاء اللجنة قد إجتمعوا في لندن لعدة ايام وناقشوا الروايات الست عشرة واتفقوا على عناوين الروايات التي أُدرجت ضمن القائمة النهائية القصيرة التي تتكون من ست روايات وذلك عندما أعلنت رئيسة لجنة التحكيم الناقدة اللبنانية يمنى العيد أسماء الروايات خلال مؤتمر صحافي انعقد في في لندن في ذلك اليوم. والروايات الست التي تم ترشيحها للمرحلة الثالثة والاخيرة هي:


1- جوع / محمد البساطي / مصري / دار الاداب


2- المترجم الخائن / فواز حداد / سوري / منشورات رياض الريس


3- عزازيل / يوسف زيدان / مصري / دار الشروق المصرية


4- روائح ماري كلير / الحبيب السالمي / تونسي / دار الاداب


5- الحفيدة الامريكية / إنعام كجه جي / عراقية / دار الجديد


6- زمن الخيول البيضاء / ابراهيم نصرالله / أردني / الدار العربية للعلوم

ويبدو لي أن الاختيارات كانت شبه جاهزة قبل لقاء لندن القصير. فلا أظن أن أعضاء لجنة التحكيم قد كان لديهم الوقت لتناول الروايات الست عشرة بالتفصيل. أغلب الظن أن كل واحد منهم جاء وفي جعبته الاسماء الستة جاهزة ، وحيثما كانت هناك اختلافات في الرأي فقد جرى النقاش حولها! ويبدو أن هدف الاجتماع كان جلسة أدبية لتثبيت الاسماء النهائية والتوقيع عليها وكتابة سطور قليلة جداً لتكون بمثابة المبرر للاختيار كما تم نشره وقرأناه في الصحف ، وهو أبعد ما يكون عن نقد أدبي يفترض أن يصدر عن لجنة تحكيم أدبية متخصصة تكتبه كي يبرر سبب إختيار الروايات وتفردها عن سواها. ويبدو لي من استعراض أسماء الروائيين العرب الستة الذين وصلوا لمرحلة التصفيات النهائية في الدورة الاولى، وأسماء الروائيين والروائيات الذين وصلوا لما يمكن أن أسميه دوري الستة في الدورة الثانية أن الجائزة تنتقي الاسماء المعروفة بتاريخها في الرواية العربية. ويبدو أن الجائزة تراهن على البعد الاعلامي والانتشار من خلال مغازلة الاسماء الكبيرة والمعروفة في عالم الرواية العربية والاحتفاء بها كوسيلة لاعطاء الجائزة بعداً عربياً واسعاً. وأتفهم ذلك لو كانت الجائزة مثل جائزة نوبل تعطى على مجمل أعمال الكاتب ومسيرته الادبية. عندها تكون الجائزة تكريمية للكاتب على مجمل مشروعه الروائي. ولكن الجائزة هنا تقوم على ترشيح رواية صدرت العام الماضي أو العام الحالي فلذلك يجب أن تكون هي للرواية المرشحة أكثر من كونها للروائي نفسه. أي أن الاهتمام يجب أن يكون منصباً على الرواية ذاتها، وأن الاساس في المفاضلة هو مدى اكتمال ونضوج وتميز الرواية ومدى الاضافة النوعية التي تقدمها لمسيرة الرواية العربية بحيث تمنح على أسس أدبية متعلقة بالعمل ذاته بغض النظر عن صاحبه. ولكن يبدو أن أعضاء لجنة التحكيم ينظرون للمؤلف قبل أن ينظروا للرواية ذاتها. وهذا واضح في كل الاعلانات التي صدرت حيث كان يسبق اسم الروائي عنوان روايته.


وكما حدث في الدورة الاولى فقد حدث في الدورة الثانية وأتوقع أن يتكرر في الدورات اللاحقة وهو أن تكون الجائزة مجرد مناسبة "دولية" إضافية لتكريم الروائيين العرب الذين شبعوا تكريماً وشهرة وانتشاراً وليس لابراز أعمال روائية متميزة ربما يكون من بين أصحابها كتاب ناشئون لم يجدوا فرصة للوصول وخاصة في ظل انتشار الشللية بين الاوساط الثقافية العربية. لا أقول ذلك انتقاصاً من قيمة الروائيين العرب المعروفين، ولكننا هنا نتحدث عن جائزة للرواية قبل أن نتحدث عن جائزة للروائي.


وبانتظار الاعلان عن هوية الفائز بالجائزة النهائية خلال حفل رسمي سيقام في أبو ظبي، مساء يوم 16 آذار/ مارس 2009، عشية انطلاق نشاطات "معرض أبو ظبي الدولي للكتاب"، فهل نتوقع مزيداً من الشفافية ونشر المعايير وأسلوب عمل لجنة أو لجان التحكيم؟ وأعتقد أن تقديم نبذة مختصرة عن كل رواية غير كاف أبداً لتبرير سبب وصولها للمرحلة النهائية، إذا لم يكن هناك نقد مناسب وكافٍ بحيث يبرز للقاريء جوانب التميز فيها ويعلل أسباب إختيارها بالتفصيل.

* اللوحة أعلاه بعنوان قارئة الرواية للفنان الهولندي فان جوخ (1853 - 1890)

السبت، ديسمبر 13

مؤنس الرزاز


مؤنس الرزاز .. اعترافات "مكتوم" الصوت!
(1951 – 2002)


بقلم: اياد نصار


يعتبر مؤنس الرزاز أبرز الروائيين الاردنيين الذي إكتسب شهرة عربية واسعة في القرن العشرين. من الصعب الفصل بين حياة مؤنس الرزاز الخاصة وبين رواياته، مثلما يصعب الفصل بين الادب والسياسة في مشوار حياته حتى وفاته. ولد مؤنس الرزاز في مدينة السلط عام 1951. وهو إبن منيف الرزاز المفكر والقيادي الاردني الذي ساهم في تأسيس حزب البعث. درس في مدرسة "المطران" المعروفة في حي جبل عمان بمدينة عمان. ورحل في العام 1965 إلى دمشق في أعقاب إنتخاب والده أميناً عاماً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي.


حصل على الثانوية العامة "التوجيهية" المصرية، ثم سافر في عام 1970 الى جامعة اكسفورد في بريطانيا حيث درس مستوى اللغة الانجليزية لمدة عام ونصف العام، ثم انتقل بعدها إلى بيروت، ودرس الفلسفة في جامعة بيروت العربية لمدة ثلاثة أعوام لكنه لم يتمكن من إكمال الدراسة بسبب اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية. إنتقل بعدها إلى بغداد، حيث تابع دراسته هناك وتخرج في جامعة بغداد حاملاً شهادة ليسانس فلسفة. شهدت تلك الفترة ولادة مجموعته القصصية الأولى بعنوان "البحر من ورائكم" عام 1976. سافر بعدها إلى جامعة جورج تاون في واشنطن لاستكمال دراساته العليا، إلا أنه تركها بعد عام واحد، سنة 1978 وعاد إلى بغداد ليشهد انتخاب والده أمينا عاماً مساعداً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.


ولكن تغير الحال بعد ذلك حيث عانى والده من ظلم الرفاق وانقلابهم عليه، فأصبح والده رهين الاقامة الجبرية في بغداد لحين وفاته. وقد شكل هذا الامر هاجساً وحزناً عميقاً ظل يؤرق مؤنس طوال حياته. وقد عكس هذه المحنة في روايته «اعترافات كاتم صوت» التي عرّت تلك المرحلة وأساليبها البشعة من تصفيات الى إغتيالات وتكميم افواه للمعارضين. شكلت الظروف التي تفتح وعي مؤنس عليها منذ صغره جزءاً من تاريخه وحددت معالم موقفه منها ورسمت إطار نهجه الادبي. فقد عاش مؤنس في كنف أسرة عانت من التنقل والترحال من بلد الى آخر بسبب طبيعة انتماء أبيه السياسي. كما دخل بسبب مبادئه وآرائه في أكثر من معتقل، وفُرضت عليه وعلى أسرته الإقامة الجبرية، وعانى من الملاحقات التي كانت تستهدف حياته.


بدأ مؤنس حياته العملية في الملحق الثقافي لجريدة الثورة العراقية في بغداد، ثم انتقل للعمل كباحث في مجلة شؤون فلسطينية في بيروت. وفي عام 1982 عاد الى عمان واستقر فيها. وقد عمل في عدة جهات مثل مجلة الأفق، وفي مكتبة أمانة العاصمة، وفي مؤسسة عبد الحميد شومان. ثم عين مستشاراً في وزارة الثقافة، ورئيساً لتحرير مجلة أفكار التي تصدر عن وزارة الثقافة. كان عضواً في رابطة الكتاب الاردنيين في دورتين في الثمانينات قبل أن ينتخب رئيساً لها في عام 1993 لكنه إستقال من منصبه قبل أن يكمل الدورة في عام 1994. كما أنتخب عام 1993 أيضاً أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني، لكنه استقال من موقعه هذا في أواخر عام 1994. وفي كلتا الحالتين فقد استقال من المنصب إحتجاجا على ما سماه العقليات الفئوية والجامدة.


كان يكتب عموداً يومياً في جريدة "الدستور" الاردنية منذ منتصف الثمانينات، ثم في جريدة "الرأي" في التسعينات، كما كان يكتب باستمرار في جريدة "الزمان" في لندن، وبقي يمارس الكتابة في الصحافة حتى وفاته في عمان في يوم 8 شباط / فبراير 2002.


نال جائزة الدولة التشجيعية ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2000 في حقل الرواية. كما ترجمت روايته أحياء في البحر الميت الى الانجليزية عام 1997. وقد نشرت أعماله كاملة بعد وفاته في عام 2003. اختارت اليونسكو روايتة الذاكره المستباحة لتقدمها للقارئ العربي في ثلاثة ملايين نسخة ضمن مشروع (كتاب في جريدة ) إضافة الى أنه كتب عنه وعن رواياته العديد من الدراسات وأطروحات الماجستير والدكتوراه في الآداب. وقد غدت كتبه الأكثر مبيعاً بين أعمال الادباء في الأردن بعد وفاته. وأطلقت أمانة عمان اسمه على أحد شوارع مدينة عمان.


يسيطر الهم الوطني على أعمال مؤنس الرزاز وخاصة قضايا الانسان العربي المقموع والمضطهد الذي يتعرض للتعذيب ومصادرة أبسط حقوقه في الرأي والتعبير وكتم الصوت والموت من قبل السلطة الديكتاتورية. وتبرز قضايا الاستبداد السياسي وأساليب القمع البوليسية والحزن والموت والاحساس بالعجز والاغتراب وفقدان الهوية والتشرد والمعاناة السياسية والانقسامات الحزبية واستغلال السلطة والمنصب بشكل واضح في كل أعماله. يتسم أدب مؤنس الرزاز باستخدام السخرية والرمز وتوظيف الاساليب الحداثية في الرواية من خلال تقديم الصور المقطوعة والمجزوءة والانتقال المفاجيء في عنصر الزمن والتركيز على الجوانب النفسية والداخلية للشخصيات واسلوب التداعي والاحلام والافكار والهذيان والهلوسات. وهناك الكثير من نقاط الالتقاء في الطرح والاساليب بين أعمال مؤنس الرزاز وعبدالرحمن منيف.

عاش مؤنس في خضم معاناة نفسية وحياتية ومادية شكلت معالم وملامح شخصيته وأدبه الذي يقدم رؤية سوداوية تتصف بالشعور بالاحباط والاحساس بأن الامور على حافة الهاوية. كان مثل شخوص رواياته يتسم بالتوتر والحساسية وتقلب المزاج. ولكنه كان قادرا أن يجمع النقيضين في آن واحد فتراه أحيانا مثل قديس مثالي وأحيانا أخرى مثل متمرد غرائزي. وقد دأب على البوح في كتاباته باعترافات عن جوانب من سيرته الذاتية التي سماها السيرة الجوانية. فقد اعتاد مراجعة الاطباء النفسانيين لمعالجة الاكتئاب المزمن والحاد الذي عانى منه وإدمان الكحول. وقد راجع عيادات نفسية في الغرب مرتين كذلك لهذا الغرض. وأخيرا توصل الى نتيجة عبر عنها بقوله:
"بعد نصف قرن من المكابدة والاشتباك بالسلاح الأبيض مع أمراضي، ها أنا أعلن وضع حد للصراع اقبلني كما أنا أحب أمراضي".

كتب مؤنس في الايام الاخيرة قبل وفاته: " ولكن ماذا يفعل المرء نفسه إذا ما اجتاحته نوبة اكتئاب حادة منطلقة من عالمه الجواني؟ كيف يبتعد صاحبنا، عندئذ، عن نفسه؟ كيف يفارقها وكيف ينزاح عنها وهي فيه ومنه وعليه؟ ماذا يفعل صاحبنا هذا عندما تشتجر الروح في كيانه مع جسده؟ الروح تقول: دبت الشيخوخة في هذا الجسد في وقت مبكر، فبات عاجزاً عن أن يحملني. فيرد الجسد مغضباً مرهقاً: لماذا سجنتني الأقدار مع هذه الروح القلقة المضطربة التي لا تعرف السكينة ولا تألف الاستقرار. لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد الجهنمي الفاجع، وإنما يمتد الصراع ليشمل أقطار الكيان الجواني كله، فالروح تشتجر مع الغرائز، والغرائز تشتبك مع الأعصاب، والأعصاب تتقصف وتقصف جهازها في شبه حرب أهلية أو انشقاق حزبي داخلي."


وتوضح الفقرة التالية من مخطوط تركه مؤنس بعنوان اعترافات روائي طبيعة الحياة والعزلة والاحساس بالتشاؤم والكآبة التي اتسمت بها حياته، حيث يصف المنطقة التي عاش فيها وهي حي جبل اللويبدة في عمان: "جبل اللويبدة شيخ مسنّ متهالك يلهث. يمشي محدودب الظهر، والريح تعبث بمعطفه الثقيل القديم. معطف كان عريقاً أرستقراطياً فصار عتيقاً شاحباً قد انتفخت الجيوب تحت عينيه. لم يشرب الدهر عليه ويأكل فحسب، بل ودخن أرجيلة ما بعد الأكل ورقد بكل ثقله عليه عند القيلولة. يا إلهي، أنظر إلى المرآة فأرى جبل اللويبدة يحدق فِيّ بعشرات العيون.


جبل اللويبدة مركز محيط دائرة حياتي المفرغة... ثمة عائلات من عمان الشرقية حسّنت أوضاعها المادية فانتقلت إلى جبل اللويبدة. ملامح الجبل تتغير، تفذ الخطوَ مع خطواتي نحو شيخوخة مبكرة وهبوط طبقي واضح. كيف ارتبط مصيري بمصيرك أيها الجبل المكدود؟ سوف أغادر معمعان القتال بعد أن خسرت كل معاركي وربحت حربي، فأعتزل الدنيا والناس وأقضي ما تبقى من حياتي مع أبطال الروايات وبطلات القصص، سأقطع خط الهاتف، وأعطب جرس الباب، فاعذروني.


أعتذر من البشرية كلها عن وجودي، عن إشغالي حيز قدمين على هذه الكرة الأرضية، أعتذر عن كميات الهواء التي تنشقتها، فقد كان غيري من أصحاب مرض الربو أو سرطان الرئة أَوْلى بها والله أعلم. أعتذر عن اقتناصي فرصة غيري في احتلال موقع موظف ذي راتب شهري يكفي لإقامة الأود، كان ينبغي أن أتبرع برواتبي كلها للبشرية، لكنني لم أعثر على بنك للبشرية.


انتهت قصة حياتي عام 1994 حين ربحت الحرب بعد ما خسرت المعارك وخرجت من الميدان مثخناً مظفراً، فكتبت ثلاث روايات، ثم تبينت موتي الأدبي المعنوي مع مطالع 1998. لن أنتظر الموت يقرر لخطة مصادرة عمري. هذا ترف لن أمنحه للموت. لقد قرّ قراري على ممارسة هذا الترف بنفسي. وبما أنني لن أضع حداً لحياتي العضوية (الأكل والشرب والنوم واستخدام بيت الراحة أو الحمّام والقيام بوظيفة الدوام في وظيفة)، وبكلمة أخرى أقول: وبما أنني لن أنتحر بات، إذن، من حقي أن أختار لحظة موتي المعنوي والأدبي، ثم الاسترخاء على كنبة وثيرة كما يسترخي المتقاعد، وألعب وألهو مع أصدقائي مثل الإخوة كرامازوف مثلاً، أو أغازل نساء حميمات مثل الليدي تشاترلي أو مدام بوفاري أو أنا كارنينا. نعم، هذا ما سأنهمك به إبان انتظاري للفرج النهائي الذي يختار الموت العضوي ساعته بالنيابة عني".


ساهم مؤنس الرزاز بشكل كبير في تطوير الرواية الاردنية والارتقاء بها إلى مستوى متقدم بين الروايات العربية لما تتسم به من النضج من الناحية الفنية. وتنتمي رواياته إلى اتجاه الرواية الحديثة التي تتسم بالتفكك والتشظي. وقد كان مؤنس يسعى دائماً وراء البحث والتجريب وإبتداع أشكال جديدة تتسم بالتركيز على الجانب الداخلي النفسي والعلاقات غير التقليدية من خلال تقديم نصوص متراكمة متناثرة تتصف بالغموض والاشكالية والتعقيد. وقد تأثر مؤنس بمدرسة الرواية النفسية ورواية «تيار الوعي» وخاصة جيمس جويس وكافكا ونظريات فرويد في التحليل النفسي للشخصيات. ويذكر أنه كانت هناك أطروحة دكتوراة في عام 2002 بالجامعه الاردنيه تتناول مقارنه أعمال الروائي الإيرلندي جيمس جويس بأعماله من حيث تحليل ومقارنة (صورة الفنان في شبابه 1916) و(عوليس 1922 ) لجيمس جويس و(أحياء في البحر الميت 1982) و(متاهة الأعراب في ناطحات السراب 1986) لمؤنس الرزاز مع بيان نقاط التشابه والاختلاف بين الكاتبين.


كان مؤنس الرزاز إضافة نوعية وصوتا متميزًا في الرواية العربية الحديثة. فقد انتقل بالرواية من جوها المحلي او التقليدي الى مواضيع ذات بعد عربي تمس مصير الانسان العربي أينما كان كالبحث عن العدل والكرامة والتخلص من قمع واستبداد السلطة وآفات العمل الحزبي. فرواياته تقدم مواضيع سياسية واجتماعية متوترة في مزج بين لغة التراث ولغة المعاصرة. وقد ساعده في ذلك دراسته للفلسفة وثقافته وعمله الصحفي ككاتب ومترجم، علاوة على ترحاله الدائم وراء الحلم القومي في عواصم عربية، وخوضه لتجربة المقاتل، وإنهماكه في العمل السياسي والحزبي.


أعماله في مجال القصة والرواية:


1- مد اللسان الصغير في مواجهة العالم الكبير (خواطر)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1973.
2- البحر من ورائكم (قصص)، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1976.
3- النمرود (قصص)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1980.
5- أحياء في البحر الميت،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
6- اعترافات كاتم صوت،(رواية)، ط1، دار الشروق، عمان، 1986. ط2 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986.
7- متاهة الأعراب في ناطحات السراب، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1986
8- جمعة القفاري.. يوميات نكرة ، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1990.
9- الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1991.
10- مذكرات ديناصور، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1994.
11- الشظايا والفسيفساء، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1994.
12- فاصلة في آخر السطر، (قصص)، المؤسسة العربي للدراسات والنشر،بيروت، 1995
13- سلطان النوم وزرقاء اليمامة،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1996.
14- عصابة الوردة الدامية،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1997.
15- حين تستيقظ الأحلام،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1997.
16- ليلة عسل،(رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،2000.


هذا مقطع في بداية روايته (أحياء في البحر الميت) التي اصدرها عام 1982 لتذوق نكهة كتاباته! "هذه الأوراق التي قر قراري على أن أدفع بها إلى المطبعة هي أوراق كتبها صديقي عناد الشاهد وهو يعبر في حالات من التحولات والتنافر والانقلابات النفسية والروحية والمادية... لا تنتهي ولن تنتهي إلا بموته. فهذه الأوراق - حسب إجتهادي الشخصي - تتشكل رواية ولا تتشكل، تتقمص سيرة ذاتية وضد السيرة الذاتية. فاللغة فيها تتضارب، وإيقاع نبضها يتنافر، والوجوه تتحد لتنفصل وتتحلل لتعود فتتحد ثم تتشظى، وهذا يعود في رأيي الشخصي إلى عدة أسباب. أولها فوضى عناد نفسه، فقد كان يصف أمامه على الطاولة أوراقاً بيضاء ثلاثًا. واحدة تجاور الأخرى.. فيكتب بضعة أسطر من مشروع روايته التي كان يسميها "عرب" تارة ويسميها "أعراب" طوراً آخر.. تيمناً بـ دبلزجويس. ثم ينقلب على نحو مفاجىء إلى الورقة الثانية المحاذية، فيكتب فيها ضرباً من السيرة الذاتية، ثم ينفتل بغتة إلى الورقة البيضاء الثالثة فيسجل كلمات الآخرين. و "الآخرين" كلمة فضفاضة تشمل أقوال صديقة أبو الموت وأنا والمشير - وهو ليس المشير الذي قد تتوهمه أذهان القراء - وعبد الحميد - وهو ليس الذي نعرفه في التاريخ والواقع - وأفلاطون وهاملت وعنترة وديمتري كرامازوف وسعيد حزوم. حتى الآن يبدو هذا الكلام مع قليل من الملح والبهارات مهضوماً مقبولاً. لكن الكارثة الأممية هي أن عناد صاحبي كان يخلط بين هذه الأوراق مرة ويخلط بين كلماتها مرات".

* اللوحة أعلاه للفنانة العراقية ناديا محمد ياس

الجمعة، ديسمبر 12

وجه حبيبي


وجه حبيبي


اياد نصار
.. في عيدها

آهٍ لقلبي أتعبهُ الشوقُ
والحنينُ لعينيكِ
آهِ من سحرِ الشعرِ
على شفتيكِ
قد كان يغفو قبلَكِ وادعاً
فأيقظه عذْبُ السطورِ
من بين يديكِ


في كلِّ ركنٍ أرى
وجهَ حبيبي
يُزْهرُ ورداً وعطراً
في دروبي
يردُّ المنى الى
عليلِ نفسي
يبعثُ فيها أملاً
كريحِ الجنوبِ


قد ذبلتْ كلُّ الأشياءِ
في لغتي
الا صوتُكِ يشرقُ
في مخيلتي
قد كانت تنامُ معي
قبلَكِ أحلامي
فصرتُ رفيقَ السُّهدِ
في نهاري وليلتي


تخونني في وصفِ
رقتكَ أشعاري
يا حبيبي صنعتُ للقياكَ
اكليلاً من الغارِ
كم مزّقتُ أوراقي
وألقيتُ أقلامي
فليس يُرضيني وصفاً
لحُسْنِكَ بالنهارِ


يا آسراً بالهوى والشوق
فوُادي
قدري فيكَ السعدُ ..
يا نجمَ ميلادي
يا من عذبْتَ قلبي بوصالِكَ
أشتهي أن أرى في غربتي
وجهَك الهادي

* اللوحة أعلاه بعنوان فتاة شابة تلبس قفازات للفنانة البولندية تمارا دي ليمبيكا 1898 - 1980

الأحد، ديسمبر 7

دعاء الى الريح الغربية


دعاء الى الريح الغربية

Ode to the West Wind

قصيدة الشاعر الانجليزي بيرس بايش شيللي Percy Bysshe Shelley 

تقديم وترجمة اياد نصار

تُعد قصيدة "دعاء الى الريح الغربية" للشاعر الانجليزي شيلي من روائع الشعر الإنجليزي في القرن التاسع عشر. تحمل رغبة النفس التواقة الى الانطلاق، والتحرر من قصور الجسد، ضعفه وحزنه المزمن الى عالم الطبيعة والحرية التي تسبح في الكون مثل الريح الغربية. مات شاعرها بيرسي بايش شيلي Shelley في ريعان الشباب بمرض ذات الرئة، ولم يكن تجاوز الثلاثين عاماً ، في صورة حزينة تعيد ذكرى موت الشاعرين العربيين، في شرخ الشباب، أبي القاسم الشابي وبدر شاكر السياب. كتب شيلي هذه القصيدة عام 1819 خلال زيارة له الى مدينة فلورنسا بايطاليا، التي قصدها للعلاج في أجواء ايطاليا الصيفية المشمسة هرباً من أجواء لندن مدينة الضباب الكئيبة.
صنع شيلي مع رفيقيه جون كيتس، الذي مات أيضاً في ريعان شبابه، وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين، ومع الشاعر الشاب لورد بايرون أجمل القصائد الرومانتيكية في الشعر الانجليزي في القرن التاسع عشر. ومن قصائد شيلي المشهورة الأخرى أوزيمانديس، الى قبّرة، قناع الفوضى، أَلاستور، أدونيس، ثورة الاسلام، بروميثيوس حراً. وقد تزوج من الروائية ماري شيلي التي كتبت رواية "فرانكنشتاين" الشهيرة التي تبرز موضوعاً رومانتيكياً يبين قدرة الانسان على ابتكار الجمال، الذي سرعان ما يتحول الى وحش يخرج عن السيطرة، في اشارة الى قدرة الانسان على مقارفة الشر لتحقيق مجد على حساب الاخرين.
ولد شيلي بعد ولادة رائد الرومانتيكية الانجليزية وليم ويرزدورث Wordsworth باثنين وعشرين عاماً، وقبل ست سنوات من نشر فلسفة الرومانتيكية الانجليزية في الديوان الشهير المسمى قصائد غنائية Lyrical Ballads الذي كان عملاً مشتركا يضم قصائد ويردزورث وصديقه وشريك مذهبه صامويل كوليردج. ولد وعاش شيلي في الفترة التي شهدت فيها أوروبا انطلاق المذهب الرومانتيكي في فرنسا وألمانيا وروسيا.
قيل أن شيلي كتب القصيدة،  في أثناء توقفه بالغابات عند نهر أرينو بالقرب من مدينة فلورنسا في ايطاليا، في يوم عاصف من شهر تشرين الأول. كان الطقس صافياً والحرارة معتدلة، ثم فجأة بدأت الريح تستجمع قواها، وتنذر بعاصفة. فهطلت أمطار الخريف في وابل مطري صاحبه البرق والرعد. تكثر في القصيدة الاستعارات والصور المركبة في وصف الريح الغربية بحالاتها المختلفة، ومظاهر ثورانها، ووحشيتها، وتمردها الذي يجاوز قدرة الإنسان على تطويعها .
تتألف القصيدة من خمسة مقاطع، ويتكون كل مقطع من أربعة أدوار في كل دور منها ثلاثة أبيات وقفلة من بيتين. وبهذا فإن المقطع يتكون من أربع عشرة بيتاً. وقد عبّرت القصيدة عن دور الشاعر كما تخيله شيلي: أن تحمل الريح أفكاره وتبثها بين البشر كما تحمل البذور الجافة  فتمكث في الارض، حتى تأتي رياح الربيع اللازوردية فتبث فيها الحياة. ورغم ركون الشاعر للعزلة، والرغبة في الانطلاق والتحرر من قيود الجسد وقصوره، والتحليق في الكون كما تفعل الريح، إلا أنه رأى أنه له دوراً يؤديه في تغيير الحياة.
تتكون القصيدة من عدة توسلات الى الريح الغربية أن تسمع شكوى المتكلم في القصيدة. ينادي المتكلم على الريح في المقاطع الثلاثة الاولى، من غير أن يطلب سوى أن تسمعه. يصف في هذه المقاطع جوانب عديدة من فعل الريح؛ فهي تحمل الأوراق الميتة، وتكنسها وتطردها مثل ساحر يطرد أرواحاً شريرة. هذا التوظيف لدور الريح ستظهر أهميته لاحقاً، عندما يخاطب المتكلم الريح، ويقول لها كوني أنتِ أنا، للدلالة على دور الشاعر في التغيير وطرد القديم البالي. كما يستحضر شيلي صورة أخرى للريح الغربية، فهي مثل الاساطير اليونانية، تقود عربة مجنّحة تحمل في داخلها البذور الجافة، فتلقيها في مثواها بين شقوق الارض، حتى تأتي أختها ريح الربيع. كما يلاحظ استخدام صورة الرياح التي تنفخ في ناي أو مزمار، أكثر من مرة، للدلالة على دورها في بعث الحيوية، ونشر الفن والموسيقى كإيقاع جمالي للحياة.
يشير المتكلم في القصيدة الى الريح عدة مرات، على أنها هائجة، متوحشة، برية ومتمردة لا تخضع لعنان أحد، وهذا أحد دوافع هيامه بها وتمنيه أن يكون على شاكلتها، أو أن يكون مجرد ورقة ميّتة تحملها. ينتقل الى صورة أخرى، حيث تقوم الريح ليس ببعث الحياة في بذور النبات على الارض، بل النظر اليها بما هي أساس الحياة في أعماق المحيط، وتتبدى حركتها في السماء بتحريك الغيوم كالضفائر. وهنا يلاحظ توظيفه أسطورة المرأة المتوحشة البرية، مينيد، في الأساطير اليونانية، التي كانت ترافق ديونيسيس في رحلاته. مينيد ترقص بكل نشوة وصخب ووحشية، وترفع شعرها للأعلى. وفي المقطع الثالث يتحدث عن دور الريح الغربية في إيقاظ البحر الابيض المتوسط من أحلامه الصيفية الهادئة، فالريح أحالت الهدوء والأحلام الى تيارات عنيفة وأمواج عاتية. ويلاحظ تردّدُ صور الموت والذبول والجفاف والقبر والأوراق المحطمة الميتة في القصيدة، مما يتفق مع المزاج الرومانتيكي الذي يستشعر الحزن حتى في أكثر اللحظات فرحاً كما قال شيلي في قصيدته الجميلة الأخرى "الى قبّرة": "إن أجمل أغانينا هي تلك التي تحكي عن أكثر الافكار حزناً"، ويذكرنا أيضاً بما قاله الشاعر الانجليزي الرومانتيكي الآخر، وصديق شيلي، جون كيتس في قصيدته الشهيرة "دعاء الى العندليب" Ode to the Nightingale حيث ترد الى خاطر الشاعر لحظات الحزن والالم والتفكير بالموت في أكثر اللحظات سعادة:
أنني أستمع اليك يا عزيزي، وكم من المرات
كنت مغرماً بمعانقة الموت السهل
لقد ناديته بأسماء لطيفة في أشعار موزونة الموسيقى
لكي يأخذ أنفاسي الهادئة في الهواء
لم يكن الوقت مواتياً مثل الآن من قبل للموت

تتبدى فكرة قصيدة شيلي "دعاء الى الريح الغربية" بشكل أوضح في المقطعين الاخيرين، حيث يعبر المتكلم في القصيدة عن أمنياته التي يرجو الريح أن تحققها له. لو أنه يصبح ورقة ميتة تحملها، أو لو يصبح سحابة تطير معها، أو موجة تشاركها عنفوانها. وهذا يتفق مع قصيدة كيتس الآنفة ويعكس المزاج الرومانتيكي الذي يستعذب الموت والحزن والكآبة ويحتفي بها في التعبير عن اليأس وذاتية الشاعر المقهورة التي تجد خلاصها في التحرر من آلام الواقع والتعالي عنه. لهذا يدرك شيلي أن هذه الأحلام تبدو بعيدة المنال، فيتمنى لو أنه يعود كما كان في صباه ـ وهو ما عبر عنه أيضاً رائد الرومانتيكية ومنظرها الأول وليم ويردزورث ـ فيكون رفيق الريح في تجوالها، وساعتها، يبدو حلمه بتجاوز سرعتها أمراً ممكن التحقيق. وتتضح مكابدة المتكلم ومعاناته في الجزء التالي من المقطع الرابع، إذ يتحدث عن أرزاء ساعات ثقيلة حنت ظهر إنسان شرود فخور بذاته مثل الريح، حتى صار ينزف دماً من أشواك الحياة. ويتمنى فيها أن يغدو قيثارة الريح التي تعزف بها، مثلما تعزف الريح بأشجار الغابة حين تصفر خلالها. يرى شيلي أن أفكاره ميتة ذابلة مثل أوراق الشجر، التي تنتظر من يحملها، ويبعث بها الحياة مرة أخرى كالريح. بل إن حلمه يتعدى ذلك ليتمنّى أن يكون الريح ذاتها! ويحمل البيتان الأخيران التساؤل عن الوعد الذي لا يكذب صاحبه، فبعد زوال الشتاء هل سيتأخر قدوم الربيع، الذي يمثّل موسم الحياة، من جديد؟.
طرحت القصيدة فكرة الرغبة في التحرر الذاتي من قيود الواقع المؤلم، والتحولات نحو كينونة أكثر قدرة على التغيير، كما عرضت علاقة الانسان بالطبيعة في إطار الحديث عن الموت والخلود. وتناولت الرؤى الرئيسة للأدب الرومانتيكي الذي يعلي من شأن الفرد وذاتيته، ويطرح همومه كإنسان معذب، يركب الخيال الجامح، ويفجر العاطفة الثائرة، ويحتفي بها وبالتعبير عنها بألحان حزينة تستحضر صور الطبيعة. كما قدمت فكرة التغيير والنبوءة التي يحملها الشعر في سعيه لبناء عالم أكثر جمالاً وشفافية ورقة يصون الانسان من معاناة الواقع، ويعيد اليه البراءة المفقودة.
-1-
أيتها الريح الغربية المتوحشة، يا أنفاس الخريف

من وجودك الخفي تُساق الاوراق الميتة

مثل أرواح هاربة يطردها ساحر،

صفراء، وسوداء، وشاحبة، وحمراء قانية

مثل حشود منكوبة بالوباء! يا أنتِ


يا من تحملين البذورَ المجنحة َ مثل عربة

الى مثواها الشتوي المظلم،

حيث تستلقي باردة هامدة،

كل واحدة منها مثل جثة في قبرها حتى

تنفخ أختك رياح الربيع اللازوردية

في نايها فوق الارض الحالمة وتملأ

السهول والتلال بأشكال حية وروائح

(دافعة البراعم الحلوة مثل القطيع لتغتذي بالهواء)


أيتها الروح المتوحشة، يا من تتحركين في كل مكان

أيتها المدمرة، أيتها الحافظة، إسمعيني.. يا أنتِ إسمعيني


-II-

أنت يا من بتيّارها وسط اضطراب السماء العنيف

تدفعين الغيوم الواهية مثل أوراق الارض الذابلة

فتهتز وتسقط عن أغصان السماء والمحيط المتشابكة

ملائكة المطر والبرق! فتنتشر عندها ضفائر العاصفة الآتية

فوق سطح هوائك الازرق المندفع


مثل الشعر اللامع حينما يُرفع للاعلى فوق رأس

مينيد المنتشية، من حافة الافق المعتمة

الى أعلى كبد السماء!


أيها اللحن الجنائزي

للسنة المائتة، وحيث ستصير الليلة الداهمة هذه

قبة قبر واسع

صنعها جبروت قوتِك المتجمعة

من أبخرة، ومن أجوائك القاسية

سوف ينفجر وابل من المطر الاسود والنار. يا أنتِ إسمعيني!


-III-

أنتِ يا من أيقظت الازرقَ المتوسط َ

من أحلامه الصيفية حيث كان يغفو هادئاً

في خضم تياراته البلورية


بجانب جزيرة بركانية في خليج بايي

وكان يرى في منامه قصوراً وأبراجاً قديمة

تهتز في يوم الامواج العاتية


وقد كستها الطحالب اللازوردية والزهور الرائعة

فيتخدر الاحساس في تصورها.

أنت يا من تجمعُ قوى أمواج الاطلسي نفسها

في دواماتٍ في إثرِ مسارك ، وتَسْمعُ في القاع بعيداً

أزهارُ البحر وغاباتُه الرطبة التي ترتدي

حطامَ أوراقِ الشجرِ الكثيفةِ الميتةِ في المحيط

صوتَـَكِ فتصيرُ فجأة رمادية ً من الخوف

وترتجف وتسقط عنها أشياءها: يا أنتِ إسمعيني!


-IV-

لو أنني كنت ورقة ميتة تحملينها،

لو أنني كنت سحابة سريعة تطير معك،

أو موجة تتنفس تحت قوتك، وتشاركك

نبض قوتك، ولكن أقل حرية

منك، يا أنتِ أيتها المتمردة


لو أنني عدت كما كنت في صباي رفيق

تطوافك فوق السماء

حتى يبدو تجاوز سرعتك السماوية

حلماً يكاد يتحقق- لما كنت كابدت مثلما
أنا الان في إبتهالي وأنا في أمس الحاجة اليك.

يا أنتِ، فلترفعيني كموجةٍ، أو كورقةٍ، أو كسحابةٍ!

إنني أقع على أشواك الحياة! إنني أنزف دماً!


أرزاء ساعات ثقيلة قد قيّدت وحنت ظهر

إمريء مثلك أيضاً- شرودٍ، ونشيطٍ، وفخور.


-V-

فلتجعليني قيثارتك ، كما جعلتِ الغابة َ كذلك.

وماذا لو سقطت عني أوراقي مثلها؟

فصخبُ الحانكِ القويةِ

سوف يأخذ من كلينا لحناً خريفياً عميقاً

لكنه جميل في حزنه. فلتكوني أيتها الروح الجبارة

روحي! فلتكوني أنا أيتها الثائرة!


فلتحملي أفكاري الميتة فوق الكون

مثل الاوراق الذابلة، لتعجلي بولادة جديدة

وبسحر هذه الابيات

أنثري كلماتي بين البشر

كما تنثرين الرماد والشرر من قاع موقدة لم تنطفيء!


كوني مزمار نبؤة من خلال شفتي

لأرض لم تستيقظ بعد! يا أيتها الريح!

حينما يأتي الشتاء، أيتأخر الربيع بعده كثيراً؟




* اللوحة أعلاه للفنان النمساوي أوسكار كوكوشكا (1886 - 1980) بعنوان عروس الريح

السبت، ديسمبر 6

حـوار


حـوار

قصة قصيرة

بقلم: ايـاد نصار

المارد: لقد مكثت في القمقم ألف سنة وأنا أنتظر أحداً من البشر.

السندباد: وأين كنت خلال هذه المدة؟

المارد: كنت في أعماق البحر. كنت أحس بالاسماك وقناديل البحر والاخطبوط ونجم البحر تقترب مني، وأحيانا كانت تلمس القمقم النحاسي وتحركه وتقلبه، وأحياناً أخرى تداعبه بأذرعها أو تبقى تعوم حوله أو تقف عليه.

السندباد: كيف إستطعت المكوث هناك طوال هذه المدة حياً؟ ألم تشعر لوهلة باليأس والنسيان؟

المارد: شعرت أول الامر بالعزلة الرهيبة والوحدة المؤلمة القاتلة. ولكني عودت نفسي ووطنتها على الصبر .. الصبر المر الذي تحس به يعذبك من الداخل ويملأ جوفك بالاحساس المضني الذي يجعل الروح مكتئبة مبتئسة .. ولكن الكتابة على جدران القمقم كانت رفيقي الدائم. كتبت كل ما خطر ببالي من أفكار وأمنيات وهلوسات وحتى خربشات على جدران القمقم حتى امتلأت، بل تزاحمت الحروف بين المساحات الضيقة. قبل أن أفوت في القمقم ظننت أنني المارد العملاق الذي يخافه الاخرون. أو هكذا كنت أرى نفسي دائماً! لم أكن أظن أن هناك أحداً أعظم مني على هذه الارض!

السندباد: وكيف أحسست عندما كان يتحرك بك القمقم؟

المارد: أستيقظ من رقادي الطويل، وأبتهج. أشعر أن الخلاص قد إقترب. أتحرك وأقفز وأصرخ وأنادي. صرت أعرف حيوانات البحر من حركاتها ولمساتها وحتى أصوات أنفاسها.

السندباد: ألم تشعر بك تلك المخلوقات وأنت تصرخ بالداخل؟

المارد: أظل أصرخ وأنادي بأعلى صوتي من غير أن تسمعني. كانت تحرك القمقم وتقلبه، وتدور حوله ، وأنا أمني النفس أن ينفتح الغطاء فجأة. مرت سنوات ولم يحدث شيء. كاد اليأس يقتلني.

السندباد: ماذا كنت تفعل ساعتها؟ ألم تشعر بإقتراب النهاية؟

المارد: أحسست أنني كالميت الذي يصرخ في قبره فلا يسمعه أحد. بدأت أفقد الامل. عندما تبتعد كائنات البحر عن القمقم أنهار من اليأس والاحباط. أبكي في مكاني حتى تجف المآقي ، وأنام من شدة القهر والاحساس بمرارة النسيان.

السندباد: وكيف دخلت في القمقم؟ ألم تعرف أنه سينغلق عليك بابه؟

المارد: لقد كنت نائماً ذات ليلة بين القصور القديمة المهجورة. ما أجمل الحلم الذي رأيته. حلمت أنني السلطان أعيش بداخلها والناس من حول مجلسي تنتظر أوامري. كنت أسهر كل ليلة مع ندمائي. وكان يأتي الشعراء يلقون بين يدي قصائدهم فأغدق عليهم الاموال. وفي الصباح أستيقظ فأجد نفسي متشرداً بائساً منسياً بين الخرائب. كنت أقضي نهاري بالبحث عن لقمة طعام أو شربة ماء أسد بها جوعي وعطشي تائهاً كمن يدور في متاهة. بحثت عن طريق الخروج فلم أجده. كل يوم كان مثل الاخر. منذ الصباح وحتى الليل أحس أن الدنيا من حولي لا تتغير. صار الليل عالمي والاحلام هي ما يبقيني على قيد الحياة. وذات يوم قررت الا أستيقظ ، فليس في الصباح سوى الشقاء وليس تحت نور الشمس سوى الخرق البالية والأسمال والخرائب. تعودت على حياة الليل والظلام. شعرت بلذة الاحلام التي تنتشلني من واقعي المرير. فلم أستيقظ. ما ألذ النوم والرقاد. إستيقظت المخلوقات الاخرى وخرجت للعمل مبكراً. كان الجو بارداً وشتائياً ماطراً. شعرت بالدفء في فراشي وتخيلت حجم المعاناة في ذلك الصباح التي كانت تنتظرني لو أفقت.. شعرت بالشفقة على الكائنات الاخرى من البرد القارس وقد تجمدت أطرافها. وفجأة جاء فارس ملثم بالحلقات التي تغطي وجهه وجسمه راكباً على حصان أسود يحمل سيفاً قوياً ودرعاً، فوجدني نائماً.

السندباد: وماذا فعل بك؟

المارد: لقد حمل القمقم بطرف سيفه المدبب وفتح الغطاء. وعندما رآني بشعري الكث المجعد ورآى تجاعيد وجهي ، إنتابه الاستغراب مما رأى. أخذت أفرك عيني من الضوء الذي دخل فجأة الى الوعاء فآذاها. شعرت بالضيق. لقد أفسد علي منامي. لما رآني بهذه الملامح الغريبة، أقفل غطاء القمقم علي مرة أخرى. وحملني معه على حصانه وأخذ يسير بي حتى وصل الى شاطيء البحر وألقى بي في الماء.

السندباد: كنا في السفينة نصطاد السمك في عرض البحر. وكان الى جانبنا مركب صغير لنا وعلى ظهره ثلاثة غطاسين يغوصون في أعماق البحر بحثاً عن الدفائن والكنوز الغارقة. وفجأة رمى أحدهم الينا بالقمقم الذي كنت فيه. لقد التقطك من قاع البحر. حاول فتح القمقم فلم يستطع. كان الاغلاق محكماً بفعل الصدأ والاملاح. إحترنا أول الامر بهذا الوعاء الذي كان يبدو عليه أنه أثري قديم مضت عليه مئات السنين، ثم قررنا فتحه. أحضرنا بعض العدد والادوات حتى تمكنا من فتح الغطاء فكانت المفاجأة أننا وجدناك. شعرنا بالخوف والرهبة أول الامر من بشاعة منظرك فألقينا بالقمقم على الارض فخرجت منه. كنت ذات شكل غريب بلا ملامح واضحة، كثيف الشعر، غائر العينين كأنك مخلوق من العصور السحيقة أو كديناصور قزم غريب.
المارد: أذكر ذلك تماماً. لقد بدا كل شيء حولي غريباً مخيفاً. لأول مرة أرى السفينة وهي تتهادى فوق الماء. رأيت وجوهاً جديدة غير مألوفة. كل شيء حولي كان غريباً. شعرت أنني عدت من الماضي السحيق. ظننت أنني لن أخرج من القمقم. فلما خرجت شعرت بالخوف. كل شيء حولي غريب علي. تمنيت ساعتها في أعماق نفسي لو بقيت في القمقم.
السندباد: لقد أراد البحارة أن يعيدوك للقمقم مرة أخرى وأن يلقوا بك الى أعماق البحر.
المارد: لماذا؟
السندباد: لقد إحتاروا ماذا يفعلوا بك. شعروا أنك غريب عنهم. كانوا خائفين منك ولكنهم كانوا مشفقين عليك. لقد أحسوا بمأساتك. شعروا كيف قضيت الف سنة في الظلام في أعماق البحر كالسجين الذي لا أمل له بالخروج. لهذا قرروا أن يلقوا بك على الشاطيء ويتركوك.
المارد: وأين ذهبوا؟ ولماذا بقيت أنت هنا؟
السندباد: لقد ذهبوا في رحلة طويلة حول العالم في سبيل استكشاف طرق الملاحة واصطياد السمك والبحث عن الكنوز الغارقة والدفائن والآثار. ربما سيعودون ذات يوم ويمرون مرة أخرى من هنا. وإذا وجدوك قد عدت للنوم في القمقم مرة أخرى سيلقون بك في أعماق البحر ولن يخرجك أحد من البشر بعد ذلك.
المارد: ولكنك لم تخبرني من أنت؟ ولماذا بقيت هنا على الشاطيء معي؟
السندباد: إنها قصة طويلة ستعرفها بنفسك ذات يوم. ولكنني أنا ذلك الكاتب الذي سجنته ذات يوم في أحد سراديب قصرك عندما كنت سلطاناً يحسب لك الكل حساباً. لقد ألفت كتاباً ولكن قاضي القضاة وصاحب الشرطة إعتقلاني بسببه ، وإتهماني بالزندقة والتجديف. لقد تعذبت وذقت الامرين. ولم يكتفيا بذلك بل أرادا صلبي وقطع رأسي ، لولا أنني أدعيت الجنون لأنجو من الموت! لقد بقيت في السجن سنوات طويلة. وذات يوم جاء غزاة جبارون برابرة فأحرقوا المدينة وهدموا أسوارها وقلاعها وخربوا قصورها ونهبوها وقتلوا من أهلها الكثيرين. ولما هرب حراس السجن خرجت وهربت. لقد رأيت الفظائع بأم عيني والدماء تسيل في الطرقات والموتى مكدسين فوق بعضهم وصرخات الانين والنواح تملأ كل مكان. لقد سمعت أن السلطان قد تخفى بملابس متسول متشرد وهرب من بين الجنود. ثم تمكنت أن أخرج من المدينة.
المارد: وأين ذهبت عندما هربت؟ أين كنت طوال هذه الفترة؟
السندباد: لقد عرفت أنه لم يبق لي في مدينتي أي مكان. لقد ثاروا علي أهلي ونقموا مني وإضطهدوني بلا سبب لمجرد أنني أتأمل بالدنيا وحال الانسان ومصيره فيها. وأفكر بعقلي وأدون خلاصة تفكيري في كتاب. لقد إتهموني بإثارة الشك في نفوس البشر ووسموني بالكفر والزندقة! فألقوا القبض عليّ وأحرقوا كتابي وسجنوني! ولولا ما حل بالمدينة، لكنت الان مصلوباً على خشبة ومنصوباً في ميدان المدينة ليتفرج الكل عليّ. لقد هربت الى بلاد أخرى وإستمريت في التأليف وتعلمت السفر والصيد.
المارد: ولماذا لم ترحل معهم؟ لماذا بقيت معي؟
السندباد: تذكرت أيام زمان. وعزّ علي الماضي. وعزّت علي رؤيتك بهذه الصورة بعد أن كنت سلطاناً تحكم نصف الدنيا! فقلت في نفسي لعله تغير بعد كل هذه السنوات. فهل سأندم على إختياري؟! هل ستكون هذه نهاية السندباد؟ لقد مرت قرون على افتراقنا. فهل سنسير معاً في طريق واحد بعد الان؟ هل سيحاولون قتلي لديك مرة أخرى؟
المارد (سرح ببصره بعيداً فوق مياه البحر. إبتسم وبقي صامتاً): ............

*اللوحة أعلاه من رسم الفنان الالماني من المدرسة التعبيرية بول كلي (1879-1940) بعنوان السندباد البحري

الأربعاء، نوفمبر 26

الموشحات الاندلسية


الموشحات الاندلسية: يا زمان الوصل

بقلم: اياد نصار

هذا الفن الرائع الذي انفردت الاندلس بابتداعه يمثل قمة في النضوج الفني والشعري والموسيقى، ويعكس حالة من الاهتمام بالجانب الروحي والجمالي كما يدل على مدى الاهتمام بتطوير الغناء والطرب. الموشحات كلمات غنائية مفعمة بحب الحياة ومضمخة بعبق الطبيعة الاندلسية الجميلة في قالب شعري وينظمها تركيب موسيقي قصير قابل بكل سلاسة للتلحين والغناء ويحلق بها خيال مفعم بالهوى والعشق والوجد والعتاب في مجالس الحبيب في قاعات القصور وبين الرياض والنوافير ومجالس العزف والشراب. والموشحات يبدو أنها اشتقت من الوشاح أو القلادة التي تزين الوجه والصدر.، وقيل بل من التوشيح أي ترصيع الكلام وتنميقه على ألحان وأوزان سلسلة يجري بها اللسان بكل عفوية وتلقائية.

نقلت الموشحات الشعر العربي من التكلف والرسمية والمواضيع التقليدية للشعر في الفخر والمديح والرثاء والجزالة التي تكاد تقتصر على دارسي اللغة والنحو والصرف الى الاجواء الشعبية التي تفوح بروائح الزهر والخمر والموسيقى، فاصبح أكثر عذوبة وانتشاراً وتجاوباً مع حالات النفس المختلفة. كما ساهمت الموشحات في ازدهار شعر الغزل والوصف وحب الطبيعة والحياة.

ومما يذهل القاريء أن هذا الفن الرفيع الذي تنظمه أوزان خاصة به وقوافي متعددة وتركيب بنيوي منتظم لم يعرفه الشعر العربي من قبل، يكاد يغيب ذكره في بعض أهم المصادر الاندلسية، الا من إشارات على إستحياء، مما دفع بعض النقاد للقول أن الموشحات فن نشأ في المشرق العربي ووصل الاندلس. فقد تجاهله إبن بسام في كتابه الموسوعي " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، كما أغفله كتاب "العقد الفريد" لإبن عبد ربه، وغاب نهائياً عن كتاب" قلائد العقيان في محاسن الاعيان" للفتح بن خاقان. ولكن أدباء آخرين أفاضوا بالحديث عنها وايراد أمثلة كثيرة عليها مثل المقري في كتابه "نفح الطيب في غصن الاندلس الرطيب"، وإبن دحية صاحب كتاب "المطرب من أشعار أهل المغرب".. ومما عزز النظرة لدى بعض النقاد أنه قد يكون من ابتكار الشرق العربي في العراق أن أشهر الموشحات على الاطلاق وهي:

أُّيها الساقي اليك المشتكى -------- قد دعوناكَ وإن لم تسمع ِ

قد نُسبت للشاعر العباسي ابن المعتز، ولكن أغلب الظن أنها لإبن زهر الاندلسي الحفيد. ويتفق كثير من الدارسين وكتب المصادر التاريخية على أن الموشحات فن أندلسي النشأة وأن من إخترعه كان مقدم بن معافر، وقيل محمد بن حمود القبري. وأنا ممن يعتقدون أن هذا الفن الرائق والراقي الذي يقدم مقطوعات شعرية تنساب مع أحاسيس النفس في غنائية واضحة ولحنية جميلة وكلمات في قمة التأثير التي تجعل من الموشحات متعة الكثيرين في الاستماع اليها وقراءتها لم يكن ليظهر في بيئة فنية وأدبية غير الاندلس بما إمتازت به من حرية الفكر والابداع واختلاط الاعراق والشعوب والثقافات في بوتقة واحدة. ولهذا نرى عناصر إسبانية محلية في الموشحات. وهناك رأي يورده كثير من الباحثين والنقاد الذين يتناولون الادب الاندلسي يقول أن الشعراء الجوالين (التروبادور) الذين ظهروا في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا ونشروا شعرهم في أنحاء أوروبا هم تأثروا أصلا بالادب الاندلسي.

ولن أتحدث بتفصيل عن بناء الموشح وأقسامه. ولكن يمكننا التوقف عند تعريف الشاعر ابن سناء الملك للموشح حينما قال أن: " الموشح يتألف في الاكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات . ويقال له التام، وفي الاقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات ويقال له الاقرع". وأول هذه الاقفال يسمى المطلع، وآخرها يسمى الخرجة. فإذن يتكون الموشح في العادة من قفل يدعى مطلع يبدأ به الموشح وينقسم الى غصنين، ثم يأتي الدور وهو مجموعة من ثلاثة أسماط يعرف مفردها بإسم سمط. ثم قفل آخر يتكون من غصنين ينتهي بقافية هي ذات القافية في المطلع، يلحقه القفل الاخير ويسمى الخرجة بذات القافية المطلع.

ويطرب الانسان المتذوق للشعر والموسيقى عند سماع الموشحات لما تمتاز بها من الرقة والعذوبة والصفاء والسهولة والتأثير العاطفي والبعد عن الزخرفة والمحسنات اللفظية المفرطة وحضور المرأة بشكل بارز في الاداب الاندلسية، ومن الاحتفاء بالطبيعة الساحرة، والتعبير عن شدة الوجد والعذاب والعتاب. ومن الموشحات الذائعة تلك التي ألفها إبن سناء الملك:

يا شقيق الروح من جسدي ......... أهــوى بـي منــك أم ألــم

ضعت بين العَـذْلِ والعَذََل ِ

وأنا وحـــــدي علـى خبل ِ

ما أرى قلبــــي بمحتـمــل ِ

ما يريـد البيـن من خلــدي ............. وهو لا خصمٌ ولا حكـمُ

أيها الظبي الذي شردا

تركتني مقلتاك سدى

زعموا أني أراك غدا

وأظنُّ المــوتَ دون غـدي .......... أين مني اليوم ما زعموا

اُُدن شيئاًً أيها القمــــــرُ

كادَ يمحو نورَك الخفرُ

أدلال ذاك أم حــــــــذرُ؟

لا تخفْ كيدي ولا رصدي .......... أنت ظبيٌ والهوى حـَرَمُ

يا هِشامَ الحُسْنِ أي جوى

يا هوى أزرى بكل هوى

لم أجدْ مذ غبـتُ عنه دوا

علّمتـْـكَ النفثَ في العقـــدِ ............. لحظــاتٌ كـلـُّـها سقـــمُ

هل بشوقي ردعُ كلِّ صبا

تجتـليــها آيــــة ٌ عـجبـــــــــا

حين أشــــدوها بـكم طربــا

يا نسيم الروح من بلـــدي ........ خبّر الأحبابَ كيف هُـــــمُ

هذا الموشح الجميل الذي أبدعت في أدائه فيروز مختلف عليه. فبعض الدارسين من يعتبره للشاعر الأندلسي إبن زُهرِ الإشبيلي، نسبة إلى اشبيلية ؛ مدينة الغناء والطرب في الأندلس. ومنهم من يعتبره لابن سناء المُلك. وهو شاعر قاهري مشهور بديوانه ونظمه البديع، وأحد شعراء العصر الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، أي في ذات الفترة التي كانت الاندلس تشهد إزدهاراً أدبياً وفنياً وقد ذاعت الموشحات فيها. ومن آثاره كتاب دار الطراز في عمل الموشحات، و هو أول كتاب تناول الموشحات بالدراسة التاريخية والادبية عبر تاريخ الأدب العربي الى عصره. كما قام إبن سناء الملك بوضع أصول وقواعد نظم الموشحات كما فعل الخليل بن أحمد الفراهيدي مع الشعر. ويضم كتاب دار الطراز عدداً كبيراً من الموشحات الأندلسية القديمة، وموشحات ابن سناء الملك نفسه. ومن أشهر الوشّاحين الذين ظهروا في الاندلس كان عبادة بن ماء السّماء، والأعمى التُّطيليّ، وإبن زهر الإشبيليّ، وإبن سهل، ولسان الدين بن الخطيب الذي كان يلقب بذي الوزارتين: المنصب والشعر.

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان الفرنسي بيير لويس بوشار (1831-1889)

الاثنين، نوفمبر 24

عزالدين ميهوبي: عاشق أوراسي


عز الدين ميهوبي: عاشق أوراسي


بقلم: اياد نصار


لقد جذبتني اليه قدرته البارعة على تطويع مفرداته اللغوية الثرة وفي مقاربته المحترفة الخلاقة لأصعب القوافي بمهارة عالية من أجل تقديم قصيدة مشحونة عالية التوتر منسجمة الموضوع والطرح، وفي ذات الوقت يبدع في المحافظة على لحن موسيقى مذهل. لعلني أقترب من الحقيقة عندما أقول أنه هذه صفات شاعر عاشق ، لكنه عاشق أوراسي. يجمع في شعره بين اجواء القصيدة الموسيقية الغنائية التي تنساب لوحدها بكل سلاسة وموسيقية وابداع وبين أجواء الحكاية الذاتية الحداثية بإشاراتها ورمزيتها وتكثيفها التي ترمز الى قضايا وطنية وانسانية كبرى. فكأنه يبتكر قصيدة القصة وقصة القصيدة. إنها القصيدة التي تروي قصة مؤثرة بلغة ساحرة. إنه عزالدين ميهوبي الذي يكتب القصيدة بنفس قصصي قصير متتابع متألق رقيق ولغة شاعرية في قمة الابداع السردي.


عزالدين ميهوبي شاعر جزائري يكتب الشعر بنكهة خاصة ونفس طويل. لا يمكن أن تشعر بملل أو تكرار أو ضياع مهما طالت القصيدة، فهي تبوح بأسرارها وتكشف عن جمالها وهي مستمرة في بناء تكوينها الجميل والافصاح عن مكنوناتها. وكما يبدع في الشعر الحر، فإنه يبدع بذات القدر في الشعر الكلاسيكي لأنه يمتلك اللغة التي لا تنضب مفرداتها، والاحساس العالي الذي يطور القصيدة بلا ملل ويملأها بالمعاني والصور.


ولد في عام 1959 بعين الخضراء، بولاية المسيلة. درس الفنون الجميلة، والآداب. وتخرج في المدرسة الوطنية للإدارة عام 1984.
اشتغل بعد تخرجه بالصحافة منذ عام 1986، وتولى رئاسة تحرير جريدة الشعب حتى عام 1992. كما عمل في الاعلام وتقديم البرامج المتخصصة في التلفزيون الجزائري. أنتخب عضواً في البرلمان الجزائري 1997عام ممثلاً لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، كما أنتخب في السنة التالية رئيساً لاتحاد الكتاب الجزائريين 1998. يشارك بفعالية في اللقاءات والمؤتمرات والندوات الشعرية والادبية في الجزائر وفي عدد من العواصم العربية والاجنبية.


حصل على الجائزة الوطنية للشعر في عام 1982، والجائزة الأولى لأفضل نص مسرحي محترف 1998.
ومن دواوينه: في البدء كان أوراس، اللعنة والغفران، النخلة والمجداف، خيرية، شيء كالشعر، الرباعيات، الشمس والجلاد، عولمة الحب عولمة النار. كما قدم الأوبريت والمسرحية، ومنها: زابانا، قال الشهيد، الدالية. والجدير بالذكر أنه نال الجائزة الأولى للأوبريت عام 1987.


وأحب أن أقدم له في هذا المقام مقاطع من قصيدتين من أبدع القصائد في الشعر الجزائري المعاصر ومن أكثرها إحترافاً سواء لجهة مواضيعها أو روحها الحداثية القلقة التي ينطبق عليها ما ذكرته في الفقرات التي أسلفت.


عولمة الحب ..عولمة النار

أتنفس من رئة الكلمات،

وتخنقني هدأة الصمت،

أقتات مني

ومني يكون الفتات.

أنا طائر من ألق،

ولي بينكم وطن من ورق،

شارع من نزيف المسافات

يأخذني لحدود الغسق.

أنا طائر المتعبين بأحلامهم،

ليس لي أجنحة،

وطني ساحة للجنازات والأضرحة،

أنا طائر أتعبته النجوم، فمات.

أتنفس من رئة الصمت والكلمات،

فلتلبسني المقبرة،

وتحرق أشرعتي المجمرة.

هل أنا وردة من رحيق المساء

أم الوردة إنكسرت في نهايات صمتي، ولم

تحترق؟

أتنفس شيئاً من الحب،

لا الأوكسيجين يوزع في رئتي

بقايا الذي كان مني،

ولا القب يهرب من نبضه عندما يختنق.

خرجتُ من الكلمات،

لم يكن شارع الشهداء طويلا....

كما كان قبل مجيء صديقي الذي قال شعراً ومات.

وصلت النهاية...

كل الشوارع تغلق أبوابها في مسافات

عيني...

صديقي الذي مات،

لوّح بيديه

وألقي منديله في العراء وفات.


عاشق أوراسي


ناءٍ بصمتـــكَ معقـودٌ بـــكَ الأرقُ

تقلبُّ الطرفَ والأهدابُ تصطفـقُ


تصغي لهمسكَ في المرآة مكتحلاً

بملـح صبـركَ والسـاعات ُ تأتلـقُ


تقـول قلبــي مســافـاتٌ محنّـــطةٌ

بين الضلوع وتدري سِرَّكَ الطرقُ


تقول وحدي سوى الجدرانِ تعرفني

والصبرُ بينـي وبيـن الناس يُعتنــقُ


وحدي أفتش عن وجهٍ يسامرني

فَتُغلِـقُ الأرضُ أبوابـي فأنغلــقُ


أراود الشعر أيامـاً فتفضحنــي

عيون قافيةٍ خرســاءَ لا تثـــقُ


ويرحل الصمت مهزوماً وفي شفتي

بُقيا حديـث الأمانـي والرؤى مِزَقُ


وحدي على مرفأ الأيام تحملنـي

قواربُ التيه والأمـواج تحتــرقُ


يا واقفيــن ببـاب العمــــر أرّقنــــي

صمتُ القصيد..فأوهى صمته الشفقُ


" أُوراسُ" آتٍ كما الأمطار يحملني

نبض القوافي ويدنو من دمـي الألـقُ

"أُوراسُ" فتّشْ جيوبي تلك ذاكرتي

لا شيءَ غيرُ بقايا العمرِ.. تحترقُ


اللوحة أعلاه للفنان الجزائري فريد بنية