الجمعة، أغسطس 26

زيارة من الزمرة الحمقاء


"زيارة من الزمرة الحمقاء" لجينيفر ايجان
تحطيم الشكل التقليدي للرواية

إياد نصار 
نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الأردنية بتاريخ 26/8/2011

فازت الروائية الأميركية الشابة جينيفر إيجان بجائزة بوليتزر الأميركية لهذا العام عن روايتها "زيارة من الزمرة الحمقاء" التي تقع في 288 صفحة وصدرت العام 2010، وكانت روايتها فازت، قبل ذلك بأسبوعين، بجائزة حلقة نقاد الكتاب الوطني الأميركية.


يثير عنوان الرواية تساؤلات حول ماهية هذه "الزمرة الحمقاء"، وطبيعة الزيارة التي تقوم بها ولمن. كما تعد الرواية محيرة، لأنها عصية على التصنيف المريح ضمن فنون السرد، فهل هي رواية؟ أم مجموعة من القصص المترابطة على نحو فضفاض في فصول مستقلة؟ إنها في كل الاحوال ليست رواية بالمعنى التقليدي للرواية، من حيث الحبكة والشخصيات والزمن والانتقال الزمكاني عبر مسرح الأحداث. ويمكن تصنيفها ضمن الأدب التجريبي الذي يوظف التقنية في بنية العمل. فلا حبكة فيها بالمعنى الاعتيادي، ولا بطل معين، والزمن في حركة انتقال دائم، والشخصيات في تبدل مع كل فصل.

تبدو نصوص الرواية ذات اللغة الشعبية السهلة البعيدة عن التأنق الأدبي، كما لو أنها كُتبت لأغراض المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال تحطيم البناء الروائي والحبكة والزمن وحتى الشخوص، إذ لا تركز الرواية على شخصية واحدة أو قصة واحدة، أو حتى على عدد قليل منها.

تتناول الرواية تراجع العلاقات الإنسانية وانتشار ميل الإنسان إلى العزلة نتيجة التطورات التقنية، وتؤشر على قضية مهمة هي المفارقة نتيجة اعتماد الإنسان بشكل متزايد على التقنية وشعوره في الوقت نفسه بالاغتراب، إذ أصبح الناس مثل جزر متباعدة؛ يتواصلون بلا معنى أو هدف، كما تبين أن الموسيقى أصبحت سلعة، والشباب الذين يشترون الأغاني عبر الأجهزة اليدوية الحديثة هم سوقها المستهدفة.

الرواية التي تطرح تأثير الموسيقى في المجتمع الإنساني، تبدو من الناحية الشكلية ألبوماً موسيقياً من قصص الحياة الفاشلة، والنرجسية، والعلاقات التي تنتهي بالخيبة، ومحاولات الانتحار. وتنقسم الرواية إلى جزأين: (أ) و(ب)، يضم كل منهما مجموعة من القصص المتداخلة، لكنها في الوقت نفسه منفصلة بعضها عن بعض. ويحمل كل فصل في الرواية وجهة نظر مختلفة، يرويه راوٍ، وهناك شخصية مركزية في كل فصل تسرد قصص الآخرين معها. تعد الرواية، باختصار، حكايات مجموعة من الشخصيات التي تتأثر حياتها بالظروف المحيطة بها، فتصبح مشهورة أو تبقى مغمورة، لكنها جميعها تصبح ضحايا.

تمتد أحداث الرواية عبر خمسين عاماً منذ طفرة موسيقى الروك في سان فرانسيسكو في سبعينيات القرن الماضي وتنتهي في العام 2020 في مستقبل مليء بالبؤس والفقر. تنسج المؤلفة القصص حول زمن غير واضح المعالم ولا يسير خطّياً، وتظل تقفز بالزمن من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل.

تركز الرواية على سبر تأثير الزمن في حياة البشر أكثر من اهتمامها بالحبكة. وتستخدم إيجان كلمة "حمقاء" أو "بلهاء" لتعني الزمن. يقول الراوي: "الزمن أحمق. أليس كذلك؟ هل ستدع ذلك الأحمق يتغلب عليك؟" (ص 96). لا يوجد في الرواية أبطال بالمعنى التقليدي، إنما هناك بطل لا إنساني مشترك؛ إنه الزمن، ذلك "الأبله" أو "الأحمق"، كما يشير العنوان، لأنه يغيرنا ولا يبقى لنا من الماضي سوى ألم الذكريات الذي نتجرعه كلما أحسسنا ببؤس الواقع. والشخصيات التي كانت تمتلئ حيوية في شبابها، تبدو مصدومة من الحال التي انتهت إليها بعد سنوات. يسأل أحد شخصيات الرواية بعد أن كان ذات يوم أحد نجوم الموسيقى: "السؤال الذي أريد أن أصل إليه: كيف تغيرت حالي من نجم موسيقي إلى شخص بدين تافه لا يسأل عنه أحد؟ دعونا لا نتظاهر أن ذلك لم يحدث".

تطرح الرواية مفهوم مارسيل بروست للزمن، والذي يلمح إلى إمكانية إعادة معايشة الذات التي كنا عليها منذ وقت طويل، وتبدأ باقتباس من رائعة بروست "البحث عن الزمن الضائع": "يزعم الشعراء أنه يمكننا أن نستعيد في لحظة ذكرى ذاتنا التي كنا عليها في ماضي الأيام عندما ندخل بيتاً أو حديقة اعتدنا أن نعيش فيهما في شبابنا. لكن هذه الاستعادة تعد أكثر أنواع الحج خطورة والتي قد تنتهي بخيبة الأمل بالقدر نفسه الذي قد تنتهي فيه بالنجاح".

تظل فصول الرواية تتنقل بين صيغ الزمن المختلفة من خلال الانتقال في الحديث عن أناس في حياة نجم موسيقى الروك الشهير الذي تحول إلى رجل أعمال يدير شركة تنتج الأسطوانات الموسيقية في نيويورك، واسمه "بيني سالازار"، ومساعدته المريضة نفسياً "ساشا". والقصة التي تسردها الرواية معقدة ومتشابكة، لأنها تروي بداخلها الكثير من القصص لعدد كبير من الناس.

تبدأ الرواية بقصة "ساشا"، وهي شابة في أواسط الثلاثين من العمر نلتقي بها في جلسة معالجة نفسية في مدينة نيويورك لمساعدتها على التخلص من عادتها في سرقة أشياء الآخرين، بل نراها في فصل لاحق يدعى "العثور على الأشياء" وهي تسرق محفظة رجل قابلته على "النت" وتخرج معه في موعد غرامي! تكشف "ساشا" عن ميولها الغريبة في سرقة الأشياء من الأشخاص الذين تصادفهم كوسيلة لتخليد اللحظات.

يتعرف القارئ لاحقاً على الخلفية المضطربة التي عاشت فيها "ساشا"، ويبدو بشكل واضح أن "دليل متاعب" هذه الفتاة كما تسميه الرواية، هو اختصار لمتاعب جيل بأكمله. كانت "ساشا" الطفلة ضحيةَ زواج عنيف، وتهرب بعد ذلك من أسرتها لتعيش في إيطاليا وتمارس الدعارة، ثم تدخل الجامعة وتسعى بكل جهدها كي تساعد صديقتها في التغلب على نوبات التفكير بالانتحار التي تنتابها. كما ندخل عالم الرغبات الخفية لعمها "تيد"، وهو مؤرخ لتاريخ الفن يعاني من زواج فاشل، ويسافر إلى إيطاليا لتخليص "ساشا" من العالم السفلي للمدينة.

في الفصل الثاني من الرواية نلتقي "بيني". تعمل "ساشا" مساعدة لـ"بيني" منذ سنوات، وفي إحدى المرات يحاول التحرش بها، لكنها تصده بطريقة حكيمة، ورغم علاقتهما القوية إلا أن أيّاً منهما لا يعرف الكثير عن حياة الآخر. كما نلتقي بشخصية "بيني" مرة أخرى وهو كبير يعاني الاكتئاب، ويحاول أن يجد صلة للتواصل بمن حوله، وعندما يعود بنا السرد إلى الماضي نراه في عنفوان شبابه، يعيش صخب طفرة موسيقى الروك.

يشعر "بيني" بتوتر أمام زحف التقنية، إذ تصبح الموسيقى أقل لمسة شخصية وأكثر برمجة حاسوبية، فيشعر أنه ليس ذا قيمة أو أهمية. تعد الرواية إدانة للعصر الرقمي التي تصفه بأنه "سريع، نزق، فوري، لكنه مليء بالفجوات والتوقفات".

تتراوح القصص الأخرى في الرواية بيم المغامرات الجنسية لشباب سان فرانسيسكو إلى ديكتاتور إفريقي يبحث عن جهة إعلامية لتلميع صورته. وينتقل ضمير السرد بين الغائب والمتكلم، ومرة يصبح بضمير المخاطب. وتتراوح نبرة السرد بين التراجيديا والسخرية.

يمتاز أسلوب الرواية بتوظيف التقنية في العمل كمضمون وكأسلوب، فهناك فصل غير تقليدي هو في حقيقته مقالة لها هوامش في مجلة! أما الفصل الأطول في الرواية الذي يزيد على سبعين صفحة ويحمل عنوان "وقفات عظيمة للروك آند رول"، فهو عبارة عن شرائح عرض "بوربوينت"، فيها رسوم توضيحية وأشكال ونقاط. تحكي الشرائح أفكاراً غريبة لاثنين من المراهقين الذي يتضح في ما بعد أنهما ابنا "ساشا"، وتوحي أفكارهما عن المستقبل أن الرواية تقترب من أسلوب الخيال العلمي، فترى أنه بعد خمسة عشر عاماً من الحرب، تأتي فترة تشهد طفرة في كثرة المواليد، كما عملت التقنية على اختراع آلات تحب الأطفال، ويصبح مستقبل نجوم الموسيقى تحت رحمة الأطفال الذين يملكون القوة الشرائية.

تستعيد الرواية الزمن الحاضر من خلال حفلة موسيقية قرب موقع الحادي عشر من أيلول في منهاتن، ويقدم أحد عازفي موسيقى الروك من العصر ما قبل الرقمي "مقطوعات غنائية للخوف وغياب التواصل اللذين يخرجان من صدر رجل تعرف من مجرد النظر إليه أنه لم يكن له حضور.. لم يكن جزءاً من تاريخ أحد، رجل عاش في الشقوق طوال هذه السنوات، منسي ومليء بالغضب بطريقة توحي أنه نقي، لم يلمس".

المستقبل في الرواية الذي يمتد حتى العام 2020، يقول الراوي عته: "بعد جيلين من الحرب والمراقبة التي تركت الناس تتوق إلى تجسيد قلقها في صورة رجل وحيد ضعيف يتكئ على جيتار مائل".

من أكثر فصول الرواية إمتاعاً ذلك الذي يصف المواجهة بين "بيني" و"سكوتي هاوسمان" الذي كان زميلاً لها في الفرقة الموسيقية، لكنه لم ينجح في شيء بعد ذلك، إذ عمل بوّاباً في مدرسة ابتدائية وتحول إلى شخصية عدوانية بسبب الفشل.

يسرد "سكوتي" في هذا الفصل المسمى "نكرات ومعارف" قصة علاقته بـ"بيني" وكيف بدأ الاثنان معاً، وفي حين ظل "سكوتي" يراوح مكانه فقيراً بلا اسم، صار "بيني" غنياً ناجحاً يعمل في مكتب وثير في إحدى البنايات العالية في نيويورك. يكشف حوارهما الكثير من مظاهر الزيف في العلاقات، كما يكشف طبائع الناس.

تقول جينيفر إيجان في مقابلة معها في شهر نيسان 2010: "أظن أن كل واحد يكتب بشكل منتقد ساخر عن مستقبل الحياة الأميركية سيبدو كأنه يكتب نبوءة.. أعتقد أننا كلنا جزء من روح الزمن، ونحن نستمع إلى الأشياء نفسها ونستوعبها بوعي أو من دونه".

"زيارة من الزمرة الحمقاء" رواية حزينة ومضحكة وغير تقليدية في الوقت نفسه. وكما تساءلت صحيفة "نيويوركر الأدبية" في تعليقها: "رواية غير خطية وذات رواة متعددين، ومواقع متباعدة للغاية، وحبكة ترتبط بالموسيقى الصاخبة الغريبة في المظهر واللباس والألوان والشعر، وتحدي المظاهر الاجتماعية التقليدية، هل تستطيع أن تصنع الفرق؟".

رابط الموضوع بجريدة الرأي الاردنية

رابط الصفحة الكاملة






الجمعة، أغسطس 5

ثورات وروايات


ثورات وروايات

اياد نصار

نشرت في قسم شرفات ثقافية بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 5/8/2011

لا شك أن الثورات العربية، التي نشهدها، الآن، ستصبح ـ في مقبل الأيام ـ موضوعاً مهماً وأثيراً للكتابة، ليس السياسية أو التاريخية، فحسب، ولكن الإبداعية بأجناسها المختلفة. فالأحداث الكبرى، التي تغير مصير الشعوب، تعد ملهمة لوجدان الأدباء والفنانين والفلاسفة والمفكرين، ومحفزة تثير شهية الكتابة بما تجسده من مفارقات، ومواقف متناقضة بين وجهي تلك الثنائية التي يمكن أن تضاف إلى كل ثنائيات الأدب التي بتنا نرددها؛ كالظلام والنور، والأبيض والأسود، والوجود والعدم، والخير والشر، والحقيقة والوهم، ذلك لأنها تمثل قمة المفارقة، كما نراها في حراك المجتمع العربي الاحتجاجي. وهل هناك من حل وسط بين حق الإنسان في الحياة والاختيار والمشاركة في صنع المستقبل، وبين الإصرار على إبقاء الاستبداد والدفاع عنه، بالرصاص وبمختلف حجج المنطق السياسي، الذي يرى أن الشعب ليس جديراً بامتلاك قراره، بَعْدُ؛ لأنه يمارس مراهقة خطرة لا تدرك أبعاد المؤامرات.


فهل من الناضج أن تفجر الثورات العربية شهية الكتابة، خاصة في الرواية؟ وهل من الحكمة أن يبادر الأدباء لتقديم أعمال تستند إلى مشاهد المظاهرات، وحكايات البطولة الفردية، وقصص الضحايا المأساوية، وتتحرك شخوصها في إطار الأمكنة التي شهدت الثورات، بوصفها ميداناً التحرير؟ أم إن التسرع في كتابتها سيؤدي إلى إغراقها في الميلودراما، والتركيز على الجانب الآني، المشحون بإثارة اللحظة، وغياب الصورة الواضحة؟ هل ستكون الرواية ـ الآن ـ ذات نظرة انفعالية قاصرة، أم إن الانتظار ـ حتى تنضج الرؤية ـ كفيل أن يعطي الرواية عمقاً فكرياً بحيث تنتقل من رواية الحرب إلى رواية النهضة؟

الثورات العربية

كانت هناك، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، ثورات عربية مجيدة ضد الاستعمار في الجزائر، والعراق، واليمن، وسوريا، وفلسطين، وغيرها من الأقطار، وقد تناولها الإبداع كثيراً في أعمال عظيمة ـ شعراً، ونثراً، ومسرحاً، وفناً، وسينما، وغيرها. كما كانت هناك انقلابات عسكرية أطلق عليها اسم «ثورات»، من مثل: ثورة يوليو، في مصر؛ وثورة الرابع عشر من تموز، في العراق؛ وثورة المشير عبد الله السلال (ضد حكم الإمام البدر)، في اليمن، وغيرها. غير أنني أقصد، هنا، الثورات الشعبية الواسعة ضد أنظمة الحكم العربية، من مثل: ثورة الخبز، في مصر؛ وثورة الخبز، في تونس (عام 1984)، ضد حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، وصولاً إلى الثورات الأخيرة.

تناولت روايات قليلة الثورة الشعبية، التي عرفت بمظاهرات الخبز، والتي جرت في عام 1977، ضد نظام الرئيس السادات، بسبب الغلاء، وانتشار، الفقر، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، نتيجة سياسة «الانفتاح»، ويجري جانب من أحداث هذه الروايات في ميدان التحرير، غير أن بعض الروايات ـ هذه ـ لم تعط تلك الثورة حقها من المعالجة، بل مرت عنها مرور الكرام، مثل رواية رضوى عاشور المسماة «أطياف»، التي تعد رواية سيرذاتية تتناول التطورات السياسية والاجتماعية في مصر وفلسطين، في القرن العشرين. ويبرز ـ من خلالها تفتح وعي جيل الشباب على تردي الأوضاع القائمة، واستبداد السلطة، بوصفها أحد مواضيع الرواية الرئيسة، وفيها أوردت عاشور جانباً من المظاهرات الطلابية ضد نظام السادات، في مطلع السبعينيات من القرن الفائت، لكونها شاهدتها من قرب، وشاركت فيها، لكنها أشارت إلى مظاهرات الخبز، عام 1977، إشارة عابرة في معرض حديثها عن ميدان التحرير، الذي كانت تسكن على بعد أمتار منه، والمظاهرات التي مرت فيه منذ أربعينيات القرن العشرين.

اهتمت رواية إبراهيم أصلان، المسماة «مالك الحزين»، بمظاهرات ثورة الخبز بشكل أكبر، حيث يهتف الآلاف ضد الحكومة والأسعار، وتنقسم الجموع إلى ما يشبه نهرين هادرين: يتجه أحدهما إلى ميدان عرابي، في طريقه إلى ميدان رمسيس؛ والثاني يتجه إلى العتبة الخضراء، كما تبرز محاولات رجال المباحث والإعلام، وحتى الفنانين والأدباء المنتفعين لإظهار أن ما يقوم به الطلبة عبث وفوضى لا يليقان بالمواطن العاقل، وأنهم يفعلون ذلك لأنهم أناس بلا همّ يشغلهم، ويجدون أباء ينفقون عليهم، فلا عمل لديهم سوى إثارة القلاقل. كما تصور الرواية جوانب من مشاهد المظاهرات، وكتابة الشعارات على الجدران، واصطفاف عساكر الأمن المركزي الذين تبين الرواية أنهم متشابهون؛ لأن السلطة تفرّخهم، في إشارة ساخرة إلى أنهم بلا معالم واضحة، كأنما فقدوا هويتهم الإنسانية، وأصبحوا مجرد أدوات للقمع، غير أن البطل يبقى يصف ما يجري، ويشارك ـ أحياناً ـ بخجل في الهتاف، متلفتاً مِن حوله، خشية أنه يراه أحد، ويرقب، على اعتباره شاهداً، وفي حلقه غصة من إجهاض الثورة.

وفي الإطار ذاته تتناول رواية محمود الورداني، «أوان القطاف»، جانباً من المظاهرات التي جرت في أثناء ثورة الخبز، من خلال صبي يشترك فيها مع اثنين من رفاقه، ويرى قتل أحدهما بضربة سيف طيرت رأسه. يسرد الصبي الأحداث بصوته. كما ينقل السرد جانباً من الهتافات الشعبية العامية ضد حكم أنور السادات، ومدى الوجود الأمني المكثف، والقسوة في استخدام القوة لتفريق المتظاهرين، مقابل إصرارهم على التجمع في ميدان التحرير، ما يذكّر بتفاصيل مشهد ثورة 25 كانون الثاني، ذاتها، وإن اختلف السيناريو. لكن التركيز، في «أوان القطاف»، كان أكثر على سرقة عيش الفقراء، ونهب خيرات البلاد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، ما سميت معه تلك الثورة بثورة الجياع ، أكثر مما يجري ـ الآن ـ من مطالبة بالحرية.

أما عن ثورة 25 كانون الثاني، في مصر، فقد أصدر الصحفي المصري سعيد حبيب، في شهر شباط من هذا العام، أول رواية حول الثورة، وتؤرخ للمراحل المختلفة للمظاهرات، لكنها تسعى إلى تغيير الصورة النمطية عن الإسلاميين. عنوان الرواية هو «لا يا شيخ»، وتتناول صور القمع وأقنعته المختلفة، التي كان النظام يمارسها. أعتقد أن رواية الثورة المصرية العظيمة ستأخذ وقتاً قبل أن ترى النور.

الثورة الأميركية

أدت الثورة الأميركية إلى بروز مرحلة من السوداوية الموسومة بأجواء التشاؤم، والغموض في الأدب الأميركي؛ بسبب قصص المآسي والفظائع التي تخللتها، وآلام العبيد المضطهدين، الذين كانوا يتعرضون للقتل، خلال هربهم في سبيل الحرية، كما صورت ذلك ـ في ما بعد ـ روايات مارك توين، وكذلك بسبب حرمان سكانِ المستعمراتِ إبداءَ الرأي في القوانين التي كان يفرضها عليهم البرلمان البريطاني، وإجبارهم على دفع الضرائب، كما في حادثة «حفلة شاي بوسطن».

استمرت الثورة الأميركية حوالى ثماني سنوات، حيث بدأت عام 1774، وانتهت ـ رسمياً ـ عام 1783، تم خلالها إعلان استقلال الولايات المتحدة، وهزيمة الجيوش البريطانية. لم يُكتب، خلال تلك المرحلة، سوى كتابات سياسية وخطب. وظهرت أول رواية أميركية في نهاية القرن الثامن عشر، في عام 1790، بالتحديد، وكانت تدعى «قوة التعاطف»، كتبها وليم هيل براون، ولم يكن لها أية علاقة بالثورة، بل تندرج ضمن الرواية العاطفية. كانت قصة حب مأساوية بين حبيبن يكتشفان، في ما بعد، أنهما شقيقان.

لم يظهر، خلال تلك الفترة، وفي السنوات اللاحقة، أي عمل أدبي مهم عن الثورة. ويمكن القول إن الأعمال الأدبية ذات المكانة المهمة، في تاريخ الأدب الأميركي، لم تبدأ في الظهور إلا من بعد الثورة بأكثر من أربعين عاماً، وقبيل الحرب الأهلية الأميركية، ولم تكن ـ أيضاً ـ عن الثورة. ظهر خلال تلك الفترة، بعد الاستقلال، مجموعة من الأدباء الأميركيين المهمين، من مثل: رالف والدو إيمرسون، وديفيد ثورو، وإدجار آلان بو، وناثانيل هوثورن، وهيرمان ميلفل، إلا أنه لم تكتب رواية عظيمة أو مشهورة، عن الثورة، بشكل واضح. بل إن هوثورن آثر مرحلة سابقة على عصره كي تجري فيها أحداث روايته «الحرف القرمزي»، التي تعد معلماً في تاريخ الأدب الأميركي، وهي فترة ظهور ما يسمى بالمتطهرين (Puritans)، في منتصف القرن السابع عشر.

أسهم تردي الأوضاع السياسية، والصراع بين الشمال المتطور، والجنوب الزراعي المتخلف، في إذكاء شرارة الحرب الأهلية، خاصة من خلال موقف الشمال المساند لتحرير العبيد، مقابل موقف الجنوب المعارض. وهكذا وقعت الحرب الأهلية، التي استمرت زهاء أربع سنوات؛ بين 1861 و1865. وأول رواية مهمة كانت «كوخ العم توم»، لهاريت بيتشر ستاو، التي نشرت قبل الحرب بحوالى عشر سنوات.

الرواية الأولى، التي تجري أحداثها خلال فترة الثورة الأميركية، كتبت عام 1899، وقد كتبها روائي أميركي يدعى ونستون تشرشل (1871-1947)، وهو غير رئيس الوزراء البريطاني المعروف، الذي برز خلال الحرب العالمية الثانية، وكان عنوانها «ريتشارد كارفيل». تعد الرواية قصة رومانسية، وتندرج ضمن الأدب التاريخي، وهي عبارة عن مذكرات لرجل من القرن الثامن عشر يدعى رتشارد كارفيل.

بلغ مجموع الروايات التي تجري أحداثها في فترة الثورة الأميركية سبع عشرة رواية. وأما الروايات التي تجري أحداثها خلال الحرب الأهلية الأميركية فبلغت 56 رواية، ولكن معظمها كتب في القرن العشرين. ومن أهم الأعمال التي كتبت عن تلك الفترة الرواية المشهورة «ذهب مع الريح»، التي كتبتها مارغريت ميتشل عام 1936، ورواية «غير المهزومين» للروائي المعروف وليم فوكنر، عام 1940، والتي تحكي قصة آل سارتوريس في الجنوب الأميركي، وتجسد فترة تداعي ثقافة الجنوب وهزيمته.

الثورة الفرنسية
أثرت الثورة الفرنسية في آداب الكثير من شعوب العالم وثقافاته، ومن المعروف أن الثورة الفرنسية لعبت دوراً حاسماً في نشوء التيار الرومانتيكي، في الأدب، في القرن الثامن عشر، بسبب دعوتها إلى تحطيم الأطر التقليدية، وتمجيد روح الثورة والتغيير، مهما غلا الثمن، والاحتفاء بالفقراء والمعذبين بوصفهما ملهمين للإبداع، والثورة على القديم والكلاسيكي والأرستقراطي، وإبراز الجديد. لم يتوقف تأثير الثورة الفرنسية عند حدودها الزمنية الصارمة، التي يحفظها المؤرخ خلال عشر سنوات: بين 1789 و1799. ولم تتوقف التغيرات عند سقوط الملكية، المدوي، وانهيار النظام الإقطاعي، وانتهاء سيطرة الطبقات الأرستقراطية على السلطة والثقافة والنفوذ، بل صارت ملهمة لكثير من المفكرين، والمثقفين، والفنانين، والشعوب في كل أنحاء العالم.

من الأعمال الأدبية المشهورة، التي تجري أحداثها خلال الثورة الفرنسية، رواية ألكسندر دوما الأب «فارس البيت الأحمر»، وكتبت بعد الثورة بستة وأربعين عاماً. تجري أحداث الرواية خلال الفترة التي أعقبت انطلاقة الثورة، والتي عرفت بفترة عهد الرعب، واتسمت بمقتل عشرات الآلاف تحت ذريعة أعداء الثورة، وأفرط خلالها الفرنسيون في استخدام المقصلة، وكان من ضحاياها بشر كثر. وفي الرواية يحاول شاب جريء القيام بمغامرة لإنقاذ الملكة من السجن، رغم أنه من مؤيدي الجمهورية، لكن حبه لامرأة شابة يدفعه كي يصبح فارس البيت الأحمر. وقيل إن دوما كتب الرواية من وحي قصة حب اعتاد بطلها أن يكتب رسائل سرية، إلى الملكة، على أوراق الورد.

كما كتب الروائي الفرنسي أناتول فرانس، عام 1912، روايته المسماة «الآلهة عطشى إلى الدماء»، التي عكس فيها تلك الجوانب المظلمة من فترة عهد الرعب. وكتب ـ أيضاً ـ فيكتور هوغو روايته الأخيرة، المسماة «تسعة وثلاثون»، وقد نشرها عام 1874، بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على الثورة، وبعد سنوات قليلة من قيام ما عرف باسم حكومة عمال باريس، من الفوضويين والماركسيين. وطرح هوغو فيها جوانب من تلك الانتفاضات المضادة للثورة الفرنسية.


وهناك الرواية العظيمة، «قصة مدينتين»، للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز. نشر ديكنز الرواية عام 1859، أي بعد الثورة بستين عاماً، وتجري أحداثها خلال الثورة بين مدينتي لندن وباريس، وتبرز معاناة الفلاحين البسطاء، الذين استغلتهم الطبقة الأرستقراطية، في السنوات الأولى للثورة. كما تبرز الرواية ضحايا الثورات ـ كما يحدث عادة ـ فشارلز دارني، رغم طبيعته الخيّرة الفاضلة، أصبح هدف الفلاحين الثائرين لمجرد كونه ارستقراطياً. تنسج الرواية قصة حب عاطفية خلال مسير الأحداث الاجتماعية والسياسية. وتعد الرواية من أهم الأعمال الأدبية، التي وثقت لمجريات الثورة الفرنسية، ليس في باريس وحدها، لكن في أوروبا، عامة.

الثورة الروسية

كتب المفكر الشيوعي المنشق، ليون تروتسكي، في عام 1924، كتاباً بعنوان «الأدب والثورة»ـ حول قضايا الثقافة والفن في دولة العمال الناشئة حديثاًً، آنذاك. وبعد طرده من الحزب الشيوعي، في عام 1928، منع تداول كتابه. وفيه يرى أن سقوط النظام الروسي، ما قبل الثورة، لم يكن يعني مجرد سقوط حكومة، بل سقوط نظام بأكمله، بما في ذلك النظام الثقافي السائد، آنذاك. كما أكد أن أصحاب المبادئ والمثل النظرية هم وحدهم من يعتقدون أن طبقة المثقفين هي من تصنع الثورة، فبرأيه أن الفكر ـ عبر التاريخ ـ يلحق الواقع.

من أهم الروايات التي تجري أحداثها خلال الثورة الروسية تأتي رباعية الروائي المنشق عن النظام الشيوعي، والحاصل على جائزة نوبل للأدب، الكسندر سولجينيتسين، وهي: «العربة الحمراء»، وتشكل عملاً روائياً ضخماً استغرق الإعداد له حوالى ثلاثين عاماً. تعد رواية «أغسطس 1914» أولى أجزاء الرباعية (وقد فرغ منها عام 1970، ولكن تم منع نشرها، في روسيا، فنشرها في باريس، في العام التالي). وكانت الرواية من الأسباب التي أدت ـ في ما بعد ـ إلى تجريد سولجينيتسين من جنسيته، في عام 1974، فقامت زوجته وأصدقاؤه بتهريب نصوص رواياته إلى الخارج. تعد الرواية مزيجاً من الخيال، والحقائق التاريخية، وتصور الحياة في روسيا الإمبراطورية، لكنها تركز على حياة الكولونيل فوروتينتسيف، الضابط في الجيش الروسي، الذي قام بغزو بروسيا، وهزم الجيش بقيادة الجنرال سامسونوف، في معركة تاننبيرغ، ومن ثمّ انتحاره. ركزت الرواية على الظروف التي سادت في بداية الحرب العالمية الأولى، وعلى ثورة عام 1905، التي سبقت الثورة البلشفية، وقد تلا الجزء الأول الروايات الثلاث الأخرى، المسماة: «نوفمبر 1916»، و»آذار 1917»، و»نيسان 1917».

من الروايات المهمة، في القرن العشرين، والتي ارتبطت بالثورة الروسية، ثمة رواية «نحن» للروائي يفغيني زامياتن، وهي رواية ساخرة من الثورة، رغم أن الكاتب أيدها، غير أنه، عندما رأى أنه تم خيانة أهداف الثورة، وسيطرت عليها القوى الشمولية، كتب هذه الرواية في عام 1921، وهي ـ في الأساس ـ قصة حب بين اثنين عاشقين في أجواء من الخيال العلمي، لكنهما يجدان نفسيهما مجرد رقمين في دولة قامعة.

وهناك رواية «ماري»، للروائي الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف، الذي هرب ـ في شبابه ـ من روسيا إلى الغرب، وقضى حياته في المنفى، خاصة الولايات المتحدة، وكتب معظم أعماله باللغة الإنجليزية، وأشهرها رواية «لوليتا»، رغم أنه كتب عدداً من الروايات ـ في العشرينات والثلاثينات من القرن الفائت ـ بالروسية، ومن أهمها رواية «الهدية»، التي كتبها في عام 1936، وأبرز فيها تناقضات المنفى وعذاباته. ينتمي نابوكوف إلى جيل الحداثيين التجريبيين، الذين تمردوا على الإطار الواقعي الاشتراكي للأدب، خاصة في عهد ستالين.

هناك رواية «دكتور زيفاجو»، للروائي الروسي برويس باسترناك، الذي منح جائزة نوبل للأدب، لكنه اضطر لرفضها بناء على ضغوط من السلطات الشيوعية. كتب باسترناك الرواية في عام 1957، وهي ـ في الأساس ـ قصة حب في إطار عمل ملحمي ضخم يتناول الثورة الروسية. يسعى الشاعر والطبيب زيفاجو إلى أن يفعل الخير، وأن يعيش حياة بسيطة بكرامته، لكن مسعاه ينتكس بسبب الحرب، والثورة، وقصة الحب التي تجمعه وامرأة تدعى لارا، وهي زوجة ضابط شيوعي.


رابط الموضوع بجريدة الدستور
 
رابط الصفحة الكاملة
 

الثلاثاء، أغسطس 2

الكتاب السري




قصة قصيرة

الكتاب السري!

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية بتاريخ 30/7/2011

كنت أمشي خلفه من غير أن يحسّ بي. أتباطأ في سيري. أدعه يبتعد قليلاً. أتلهى بالتوقف. أنظر حولي. أتطلع خلفي. أمشي على الجانب الاخر من الزقاق. رأيتُ نار الفرن مشتعلة في التنور. لا تزال ألواح الخشب مصفوفة فوق بعضها. ترددتُ قليلاً خشية أن يراني. رأيتُ أبي يمسك العجين، يرقّه بيديه، ثم يرفعه في الهواء، ويفرده على سطح البلاط أمامه. مشيتُ ملتصقاً بالجدار على رؤوس أصابعي كي لا يحسّ بوجودي. اذا رآني فسأمضي المساء في الفرن. تباعدت المسافة بيني وبين خليل، خشيتُ أن يتوارى قبل أن ألحقه. يتسلل كعادته خفيةً عني ليلتقي بأصحابه. يرفض أن آتي معه. كلما حاولت، صرخ بي. شكاني الى أبي، فأسمع محاضرة، وأمضي المساء أحمل الأرغفة وأرتّبها على اللوح الخشبي. صرت ألاحقه متسللاً حتى أفاجئه بين أصحابه. يثور ويزبد، ثم لا يلبث أن يقبل بالأمر الواقع! في أحيانٍ ما لا يقبل، فتلاحقني الحجارة حتى أهرب بعيداً!

دخل خليل في زقاق ضيق. أسرعتُ الخطى قليلاً. ركضتُ خلفه. وقفتُ على الزاوية. لمحتُ ظهره قبل أن يتوارى في آخر لحظة. ذهب الي اليمين. مشيتُ حتى وصلتُ نهاية الزقاق. كانت الطريق منحدرة الى الأسفل وعلى جانبيها سيارات وأشجار مزروعة على الرصيف. لم أره. اختفى مرة أخرى. أسرعتُ نازلاً الطريق. كان في نهايتها درج إسمنتي. أين ذهب يا ترى؟ نزلت الأدراج مسرعاً. بيت صاحبه علوان في نهاية الدرج. كانت البوابة الحديد مغلقة. لا يمكن أن يكون قد دخل بهذه السرعة. وقفتُ محتاراً. رحتُ أبحث عنه، ولكني لم أجد له أثراً. عدت أدراجي مقهوراً.

في الليل عاد الى البيت. نظر اليَّ نظرة فيها ابتسامة التشفي. وأخذ يقهقه. شعرتُ بالغيظ. عرفتُ أنه أحسّ بي أسير خلفه فتوّهني. قمتُ من مكاني وهجمتُ عليه. سمعتُ صوت الباب الحديد يُفتح. لا بد أنه أبي. ركنتُ الى مكاني وكظمتُ غيظي، وأنا أتوعده في الغد! بقي يضحك في سرّه، ويكيدني بحركات من يديه من غير أن يرى أبي.

خليل في السابعة عشرة وأنا في الرابعة عشرة. لكنه المدلل بيننا. لا أعرف لماذا يحظى بهذا الدلال؟ نحن سبعة أخوة وأخوات. لكن أبي يفضله في المعاملة علينا، على رغم أنه نادراً ما يساعده في الفرن. يستطيع خليل الخروج من الفرن في أي وقت يشاء. لا يردّ له طلباً، وأمي تحنو عليه وتدلّله أكثر منا. أبي يقول إنه ولي العهد ورجل البيت في غيابه. لكني لا أسكت. يحاول أن يفرض زعامته علينا فأعارضه. صرتُ كثير المشاغبة والجدال! لا تعارض أخواتي وأمي تصرفاته كأنه سيد البيت. لكن إحساسي يأبى ذلك. لماذا لا أكون أنا رجل البيت؟ أنا أمهر منه في شغل الفرن، وفي استيعاب الزبائن الغاضبين كما يقول أبي دائماً.

عندما عدت من المدرسة في اليوم التالي، رأيتُ خليل يهمّ بالخروج. أدركتُ أنه ينوي أمراً ما! كان يخرج الى البوابة ثم يعود. لن يغيب هذه المرة عن ناظري. اذا صعد الدرج فسأراه! مئة درجة كفيلة أن أراه قبل أن يختفي. درج طويل يصل بين الشارع في الأعلى وبيتنا. أشعر أحيانا أن نَفَسي سوف ينقطع منه. أبقى ألهث حتى أستردّ أنفاسي من جديد. رنّ جرس الهاتف. تظاهرتُ بالانشغال فلم أردّ. بقي يرنّ وأنا جالس جنبه. جاءت أمي مسرعة من المطبخ. رأتني. هبّت في بصوتها العالي: "لماذا لا تردّ؟ ماذا تفعل؟ ألم تسمع؟". قلت لها متحجّجاً: "كنت أقرأ في كتابي ولم أسمع". نهرتني: "ردّ بسرعة قبل أن ينقطع". كانت جارتنا أم محمد العامرية في الشارع الخلفي. بدا على وجهي التبرم. كم أمقت حديثها. كثيرة الكلام والفضول. لديها فضول يقتل كل القطط في حيّنا! بقيت تسألني عني وعن دراستي وتدعو لي بالتوفيق والنجاح! تخلصتُ منها بصعوبة، وناولتُ أمي السماعة. عدت أمسك كتاب التاريخ. تذكرتُ خليل. رميتُ كتابي جانباً وقفزتُ من مكاني. اللعنة. كيف نسيته؟ تبّاً للعامرية!

فتشتُ عنه داخل البيت فلم أره. بحثتُ في كل الغرف وفتحتُ كل الابواب المغلقة! اختفى مثل شبح. خرجتُ من الباب. وقفتُ في حوش الدار، نظرتُ الى الدرج الطويل الصاعد الى الشارع. لم أر له أثراً. لقد غافلني وخرج. صعدتُ الدرج قفزاً. ما إن وصلتُ حتى كنت ألهث مقطوع الأنفاس. لم يكن أحد في الشارع سوى سيارات متهالكة تقف على جانبي الطريق. لم أر خليل. أين أفتش عنه؟ لا أريد أن أجهد نفسي في بحث عن شبح بلا طائل. خليل له أساليبه في التخفي. لا تعرف متى يخرج من البيت ومتى يعود. وأبي يفلقني بصبره عليه. عدت أنزل الدرج خائباً. أمسكتُ كتابي. ليس فيه سوى أخبار الحروب والمعارك. كنتُ مستغرقاً في الكتاب، عندما رأيتُ خليل يدخل الغرفة وبيده كأس ماء يشرب منها. رفعتُ حاجبي وفغرتُ فمي من الدهشة. كيف عاد وأين كان؟ لم أحبّ أن أسأله كي لا يعرف أنني خرجت في إثره! عدت أدرس وأتشاغل عنه في كتاب آخر. كان يدخل ويخرج بلا قرار. أحسستُ أنه سيخرج مرة أخرى. بقيتُ متيقظاً وأذني مرهفة لأي صوت قد يصدر من الباب.

بعد قليل سمعتُ صوت الباب. تركتُ كتبي وقمت خلفه. فتحتُ الباب بسرعة فسمعتُ صوت خطوات على الدرج الخلفي المؤدي للسطح. تسحّبتُ بكل هدوء خلفه وصعدتُ الدرج. سمعتُه يدخل غرفة الخزين، فمشيتُ حتى وقفتُ عند بابها. غرفة ضيقة وفي سقفها سدة. ملأت أمي الغرفة بكل عدّة الشتاء: صوبات الكاز وجرارها والسجاد العتيق. وملأ أبي السدة بالعدد والصناديق وألواح الخشب التي كان يستعملها في الفرن والأكياس والكتب القديمة. سمعتُ صوت تسلّقه على السلّم. دخلتُ غرفة الخزين من غير أن يحسّ بي. كان في الأعلى داخل السدة. لم أستطع رؤيته، لكنني سمعتُ صوت الصناديق الكرتونية. هدأ الصوت وساد صمت. استغربتُ ماذا يفعل هناك! عرفتُ الان أين كان يختفي عني في أحيان كثيرة كشبح. المكان ضيق كالزنزانة بوجود كل هذه الكراكيب. بعد قليل أحسستُ بصوت أنفاسه يتململ ويتحرك كأنما يريد النزول، فأسرعتُ خارج الغرفة. نزلتُ الدرج ودخلتُ البيت. انتابني الفضول. ماذا كان يفعل خليل في السدة؟ ماذا خبّأ هناك؟ بعد قليل خرجتُ، وصعدتُ الى غرفة الخزين. تسلقتُ السلّم وأنرتُ السدة. كانت رائحة الهواء الرطب والعفن تنبعث منها. منذ مدة لم أصعد الى هناك. الغرفة ملأى، فلم أعرف أين أضع قدمي. وأخيراً حشرتُ نفسي بين الصناديق. أخذتُ أنظر في زواياها. لم يكن هنالك شيء غير عادي. فتحتُ بعض الصناديق. كانت مليئة بكتب مصفرة قديمة. استوقفتني بعض الكتب بغلفها القديمة: "بين القصرين"، "السكرية"، "شجرة اللبلاب". وقعت عيني على كتاب آخر. من الذي أحضره الى هنا؟ أمسكتُ به. كان ضخماً مليئاً بالصور والرسوم. شيء جديد أراه للمرة الأولى. هل هو لأبي؟ ولماذا يحتفظ به؟ أم لخليل وخبّأه هنا؟ دارت في رأسي فكرة. عرفتُ لماذا يتسلل خليل الى غرفة السدة ويجلس فيها. تملّكني الفضول. أخذتُ أقلّب أوراقه وأنظر في رسوماته. اشتعل الفضول أكثر! كانت الكلمات أكثر مما يستطيع ولد في مثل سنّي أن يحتملها! شعرتُ بالخوف. خفتُ أن يأتي أبي فجأة، ويراني هنا أمسك الكتاب. ستكون فضيحة!

أعدتُ كل شيء مكانه خشية أن يكتشف أحد أنني كنت هناك! نزلتُ، ولكن لم يزل بي شوق وإثارة لقراءة المزيد! بقيتُ أفكر فيه المساء كله. عدتُ في اليوم التالي وجلستُ كطفل مقرور فوق الصناديق، وأنا ألتهم الكتاب. كان ضخماً جداً وحروفه صغيرة. لكن كلامه ورسوماته كانت لا تقاوم! أحسستُ أنني في عالم آخر. تكشفت لي اشياء لم أكن أعرفها من قبل! لم أعرف من أتى به الى هنا. ربما لأبي ووجده خليل، وصار يأتي ليقرأ فيه بين حين وآخر مثلما أفعل الان! وربما أحضره خليل من عند أصحابه، وهرّبه الى السدة! لم أعد ألاحق أخي مثل السابق. صرتُ مشغولاً باختلاس القراءة في الكتاب السرّي!

استمر خليل يتردد على السدة فصرتُ أكثر حذراً من ذي قبل. خفّ اهتمامي بالأمر بعد فترة. عدتُ أطارده مع أصدقائه مرةً أخرى. وذات يوم فاجأته بينهم. نظر اليَّ بغضب وعصبية، وراح يشدّ بي من قميصي ويدفعني بقوة، ويهدّدني. تناول حجراً وأراد أن يرميه عليَّ فهربت. أخذ يلاحقني وأنا أجري. أصابني حجر في رأسي. آآآخ... كان مؤلماً. وقفتُ أتحسس رأسي. رأيتُ على راحة يدي بعض بقع الدم. أخذتُ أصيح عليه ليتوقف، لكنه استمر. صرت أبكي وأتوعده بصوت نشيج مكلوم. قررتُ أن أردّ له الصاع صاعين! في المساء عندما عاد أبي متعباً من الفرن. أخبرتُه بما يفعل خليل في السدة. لم يعر أبي الأمر اهتماماً. ولكن عندما ذكرتُ له اسم الكتاب، انتابته نوبة غضب وتغيّر لون وجهه، وأصبح متورداً وعيناه تقدحان بالشرر. عندما رجع خليل في الليل لم يهدأ أبي من تأنيبه. أقسم أن يغلق السدة بمفتاح، والويل لمن يفكر في فتحها! لم يحر لخليل جواب، فقبع في زاويته يسمع وعيناه نحو الارض!

في نهاية السنة أنهى خليل دراسته الثانوية. كنا نجلس نشاهد التلفاز ذات مساء، فطلب من أبي أن يأخذ مفتاح السدة. استغرب أبي الطلب. قال إنه يريد أن يأخذ الدنانير التي كان يخبّئها هناك. نظرنا اليه باستغراب. منذ متى يعرف خليل التوفير؟ اعترف أنه كان يخبّئ مصروفه وكل ما تجمّع لديه في أحد الصناديق الكرتونية. قام أبي وأحضر المفتاح الذي كان يخبّئه، وأعطاه اياه، وقال لي بيني وبينه: "إذهب معه. لا بد أن هذه حيلة". ذهبتُ مع خليل وصعدنا الى غرفة الخزين. كان المكان ضيقاً ورائحته غريبة. لم نستطع الوقوف فيه لأن السقف منخفض. فتح خليل أحد الصناديق الكرتونية. مد يده. لم يكن هناك سوى نشارة من الورق. فتح صندوقاً آخر كانت هناك لا تزال بعض الكتب المصفرة وقد التُهمت أطرافها. لم يكن الكتاب السرّي هناك! سمعنا صوت جلبة بين الصناديق. شعرنا بخوف. أعرفها من حركة أرجلها. فتح خليل صندوقاً آخر بحذر. كانت هناك أربعة منها تختبئ فيه وحولها نشارة من الورق!