قصة قصيرة
الكتاب السري!
اياد نصار
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية بتاريخ 30/7/2011
كنت أمشي خلفه من غير أن يحسّ بي. أتباطأ في سيري. أدعه يبتعد قليلاً. أتلهى بالتوقف. أنظر حولي. أتطلع خلفي. أمشي على الجانب الاخر من الزقاق. رأيتُ نار الفرن مشتعلة في التنور. لا تزال ألواح الخشب مصفوفة فوق بعضها. ترددتُ قليلاً خشية أن يراني. رأيتُ أبي يمسك العجين، يرقّه بيديه، ثم يرفعه في الهواء، ويفرده على سطح البلاط أمامه. مشيتُ ملتصقاً بالجدار على رؤوس أصابعي كي لا يحسّ بوجودي. اذا رآني فسأمضي المساء في الفرن. تباعدت المسافة بيني وبين خليل، خشيتُ أن يتوارى قبل أن ألحقه. يتسلل كعادته خفيةً عني ليلتقي بأصحابه. يرفض أن آتي معه. كلما حاولت، صرخ بي. شكاني الى أبي، فأسمع محاضرة، وأمضي المساء أحمل الأرغفة وأرتّبها على اللوح الخشبي. صرت ألاحقه متسللاً حتى أفاجئه بين أصحابه. يثور ويزبد، ثم لا يلبث أن يقبل بالأمر الواقع! في أحيانٍ ما لا يقبل، فتلاحقني الحجارة حتى أهرب بعيداً!
دخل خليل في زقاق ضيق. أسرعتُ الخطى قليلاً. ركضتُ خلفه. وقفتُ على الزاوية. لمحتُ ظهره قبل أن يتوارى في آخر لحظة. ذهب الي اليمين. مشيتُ حتى وصلتُ نهاية الزقاق. كانت الطريق منحدرة الى الأسفل وعلى جانبيها سيارات وأشجار مزروعة على الرصيف. لم أره. اختفى مرة أخرى. أسرعتُ نازلاً الطريق. كان في نهايتها درج إسمنتي. أين ذهب يا ترى؟ نزلت الأدراج مسرعاً. بيت صاحبه علوان في نهاية الدرج. كانت البوابة الحديد مغلقة. لا يمكن أن يكون قد دخل بهذه السرعة. وقفتُ محتاراً. رحتُ أبحث عنه، ولكني لم أجد له أثراً. عدت أدراجي مقهوراً.
في الليل عاد الى البيت. نظر اليَّ نظرة فيها ابتسامة التشفي. وأخذ يقهقه. شعرتُ بالغيظ. عرفتُ أنه أحسّ بي أسير خلفه فتوّهني. قمتُ من مكاني وهجمتُ عليه. سمعتُ صوت الباب الحديد يُفتح. لا بد أنه أبي. ركنتُ الى مكاني وكظمتُ غيظي، وأنا أتوعده في الغد! بقي يضحك في سرّه، ويكيدني بحركات من يديه من غير أن يرى أبي.
خليل في السابعة عشرة وأنا في الرابعة عشرة. لكنه المدلل بيننا. لا أعرف لماذا يحظى بهذا الدلال؟ نحن سبعة أخوة وأخوات. لكن أبي يفضله في المعاملة علينا، على رغم أنه نادراً ما يساعده في الفرن. يستطيع خليل الخروج من الفرن في أي وقت يشاء. لا يردّ له طلباً، وأمي تحنو عليه وتدلّله أكثر منا. أبي يقول إنه ولي العهد ورجل البيت في غيابه. لكني لا أسكت. يحاول أن يفرض زعامته علينا فأعارضه. صرتُ كثير المشاغبة والجدال! لا تعارض أخواتي وأمي تصرفاته كأنه سيد البيت. لكن إحساسي يأبى ذلك. لماذا لا أكون أنا رجل البيت؟ أنا أمهر منه في شغل الفرن، وفي استيعاب الزبائن الغاضبين كما يقول أبي دائماً.
عندما عدت من المدرسة في اليوم التالي، رأيتُ خليل يهمّ بالخروج. أدركتُ أنه ينوي أمراً ما! كان يخرج الى البوابة ثم يعود. لن يغيب هذه المرة عن ناظري. اذا صعد الدرج فسأراه! مئة درجة كفيلة أن أراه قبل أن يختفي. درج طويل يصل بين الشارع في الأعلى وبيتنا. أشعر أحيانا أن نَفَسي سوف ينقطع منه. أبقى ألهث حتى أستردّ أنفاسي من جديد. رنّ جرس الهاتف. تظاهرتُ بالانشغال فلم أردّ. بقي يرنّ وأنا جالس جنبه. جاءت أمي مسرعة من المطبخ. رأتني. هبّت في بصوتها العالي: "لماذا لا تردّ؟ ماذا تفعل؟ ألم تسمع؟". قلت لها متحجّجاً: "كنت أقرأ في كتابي ولم أسمع". نهرتني: "ردّ بسرعة قبل أن ينقطع". كانت جارتنا أم محمد العامرية في الشارع الخلفي. بدا على وجهي التبرم. كم أمقت حديثها. كثيرة الكلام والفضول. لديها فضول يقتل كل القطط في حيّنا! بقيت تسألني عني وعن دراستي وتدعو لي بالتوفيق والنجاح! تخلصتُ منها بصعوبة، وناولتُ أمي السماعة. عدت أمسك كتاب التاريخ. تذكرتُ خليل. رميتُ كتابي جانباً وقفزتُ من مكاني. اللعنة. كيف نسيته؟ تبّاً للعامرية!
فتشتُ عنه داخل البيت فلم أره. بحثتُ في كل الغرف وفتحتُ كل الابواب المغلقة! اختفى مثل شبح. خرجتُ من الباب. وقفتُ في حوش الدار، نظرتُ الى الدرج الطويل الصاعد الى الشارع. لم أر له أثراً. لقد غافلني وخرج. صعدتُ الدرج قفزاً. ما إن وصلتُ حتى كنت ألهث مقطوع الأنفاس. لم يكن أحد في الشارع سوى سيارات متهالكة تقف على جانبي الطريق. لم أر خليل. أين أفتش عنه؟ لا أريد أن أجهد نفسي في بحث عن شبح بلا طائل. خليل له أساليبه في التخفي. لا تعرف متى يخرج من البيت ومتى يعود. وأبي يفلقني بصبره عليه. عدت أنزل الدرج خائباً. أمسكتُ كتابي. ليس فيه سوى أخبار الحروب والمعارك. كنتُ مستغرقاً في الكتاب، عندما رأيتُ خليل يدخل الغرفة وبيده كأس ماء يشرب منها. رفعتُ حاجبي وفغرتُ فمي من الدهشة. كيف عاد وأين كان؟ لم أحبّ أن أسأله كي لا يعرف أنني خرجت في إثره! عدت أدرس وأتشاغل عنه في كتاب آخر. كان يدخل ويخرج بلا قرار. أحسستُ أنه سيخرج مرة أخرى. بقيتُ متيقظاً وأذني مرهفة لأي صوت قد يصدر من الباب.
بعد قليل سمعتُ صوت الباب. تركتُ كتبي وقمت خلفه. فتحتُ الباب بسرعة فسمعتُ صوت خطوات على الدرج الخلفي المؤدي للسطح. تسحّبتُ بكل هدوء خلفه وصعدتُ الدرج. سمعتُه يدخل غرفة الخزين، فمشيتُ حتى وقفتُ عند بابها. غرفة ضيقة وفي سقفها سدة. ملأت أمي الغرفة بكل عدّة الشتاء: صوبات الكاز وجرارها والسجاد العتيق. وملأ أبي السدة بالعدد والصناديق وألواح الخشب التي كان يستعملها في الفرن والأكياس والكتب القديمة. سمعتُ صوت تسلّقه على السلّم. دخلتُ غرفة الخزين من غير أن يحسّ بي. كان في الأعلى داخل السدة. لم أستطع رؤيته، لكنني سمعتُ صوت الصناديق الكرتونية. هدأ الصوت وساد صمت. استغربتُ ماذا يفعل هناك! عرفتُ الان أين كان يختفي عني في أحيان كثيرة كشبح. المكان ضيق كالزنزانة بوجود كل هذه الكراكيب. بعد قليل أحسستُ بصوت أنفاسه يتململ ويتحرك كأنما يريد النزول، فأسرعتُ خارج الغرفة. نزلتُ الدرج ودخلتُ البيت. انتابني الفضول. ماذا كان يفعل خليل في السدة؟ ماذا خبّأ هناك؟ بعد قليل خرجتُ، وصعدتُ الى غرفة الخزين. تسلقتُ السلّم وأنرتُ السدة. كانت رائحة الهواء الرطب والعفن تنبعث منها. منذ مدة لم أصعد الى هناك. الغرفة ملأى، فلم أعرف أين أضع قدمي. وأخيراً حشرتُ نفسي بين الصناديق. أخذتُ أنظر في زواياها. لم يكن هنالك شيء غير عادي. فتحتُ بعض الصناديق. كانت مليئة بكتب مصفرة قديمة. استوقفتني بعض الكتب بغلفها القديمة: "بين القصرين"، "السكرية"، "شجرة اللبلاب". وقعت عيني على كتاب آخر. من الذي أحضره الى هنا؟ أمسكتُ به. كان ضخماً مليئاً بالصور والرسوم. شيء جديد أراه للمرة الأولى. هل هو لأبي؟ ولماذا يحتفظ به؟ أم لخليل وخبّأه هنا؟ دارت في رأسي فكرة. عرفتُ لماذا يتسلل خليل الى غرفة السدة ويجلس فيها. تملّكني الفضول. أخذتُ أقلّب أوراقه وأنظر في رسوماته. اشتعل الفضول أكثر! كانت الكلمات أكثر مما يستطيع ولد في مثل سنّي أن يحتملها! شعرتُ بالخوف. خفتُ أن يأتي أبي فجأة، ويراني هنا أمسك الكتاب. ستكون فضيحة!
أعدتُ كل شيء مكانه خشية أن يكتشف أحد أنني كنت هناك! نزلتُ، ولكن لم يزل بي شوق وإثارة لقراءة المزيد! بقيتُ أفكر فيه المساء كله. عدتُ في اليوم التالي وجلستُ كطفل مقرور فوق الصناديق، وأنا ألتهم الكتاب. كان ضخماً جداً وحروفه صغيرة. لكن كلامه ورسوماته كانت لا تقاوم! أحسستُ أنني في عالم آخر. تكشفت لي اشياء لم أكن أعرفها من قبل! لم أعرف من أتى به الى هنا. ربما لأبي ووجده خليل، وصار يأتي ليقرأ فيه بين حين وآخر مثلما أفعل الان! وربما أحضره خليل من عند أصحابه، وهرّبه الى السدة! لم أعد ألاحق أخي مثل السابق. صرتُ مشغولاً باختلاس القراءة في الكتاب السرّي!
استمر خليل يتردد على السدة فصرتُ أكثر حذراً من ذي قبل. خفّ اهتمامي بالأمر بعد فترة. عدتُ أطارده مع أصدقائه مرةً أخرى. وذات يوم فاجأته بينهم. نظر اليَّ بغضب وعصبية، وراح يشدّ بي من قميصي ويدفعني بقوة، ويهدّدني. تناول حجراً وأراد أن يرميه عليَّ فهربت. أخذ يلاحقني وأنا أجري. أصابني حجر في رأسي. آآآخ... كان مؤلماً. وقفتُ أتحسس رأسي. رأيتُ على راحة يدي بعض بقع الدم. أخذتُ أصيح عليه ليتوقف، لكنه استمر. صرت أبكي وأتوعده بصوت نشيج مكلوم. قررتُ أن أردّ له الصاع صاعين! في المساء عندما عاد أبي متعباً من الفرن. أخبرتُه بما يفعل خليل في السدة. لم يعر أبي الأمر اهتماماً. ولكن عندما ذكرتُ له اسم الكتاب، انتابته نوبة غضب وتغيّر لون وجهه، وأصبح متورداً وعيناه تقدحان بالشرر. عندما رجع خليل في الليل لم يهدأ أبي من تأنيبه. أقسم أن يغلق السدة بمفتاح، والويل لمن يفكر في فتحها! لم يحر لخليل جواب، فقبع في زاويته يسمع وعيناه نحو الارض!
في نهاية السنة أنهى خليل دراسته الثانوية. كنا نجلس نشاهد التلفاز ذات مساء، فطلب من أبي أن يأخذ مفتاح السدة. استغرب أبي الطلب. قال إنه يريد أن يأخذ الدنانير التي كان يخبّئها هناك. نظرنا اليه باستغراب. منذ متى يعرف خليل التوفير؟ اعترف أنه كان يخبّئ مصروفه وكل ما تجمّع لديه في أحد الصناديق الكرتونية. قام أبي وأحضر المفتاح الذي كان يخبّئه، وأعطاه اياه، وقال لي بيني وبينه: "إذهب معه. لا بد أن هذه حيلة". ذهبتُ مع خليل وصعدنا الى غرفة الخزين. كان المكان ضيقاً ورائحته غريبة. لم نستطع الوقوف فيه لأن السقف منخفض. فتح خليل أحد الصناديق الكرتونية. مد يده. لم يكن هناك سوى نشارة من الورق. فتح صندوقاً آخر كانت هناك لا تزال بعض الكتب المصفرة وقد التُهمت أطرافها. لم يكن الكتاب السرّي هناك! سمعنا صوت جلبة بين الصناديق. شعرنا بخوف. أعرفها من حركة أرجلها. فتح خليل صندوقاً آخر بحذر. كانت هناك أربعة منها تختبئ فيه وحولها نشارة من الورق!
شكرا للموضوع
ردحذف