"مجاز خفيف" لنضال برقان
البحث عن لغة أخرى للحب
إياد نصار
* نشرت في جريدة "النهار" اللبنانية بتاريخ 17/7/2011
في "مجاز خفيف" لنضال برقان كثير من الشاعرية المستندة الى رؤية تكاملية تطرح العلاقة بين كيمياء الحب في أطواره المختلفة، واللغة بوصفها وسيلة التعبير العاجزة ذات الاشكالية عن حالة الوصال المفقود بين العاشق والمرأة الحلم. "مجاز خفيف" نسيج شعري مشغول بعناية مستندة الى رؤية انسانية وفكرية واعية وغير تقليدية، وهو المحطة الرابعة في تجربة برقان الشعرية، الذي يبدو منشغلاً في ديوانه باستكشاف جوانب أخرى على صعيد فهم النفس الانسانية، وارتباط اللغة ذاتها ودلالاتها، في موضوع الحب والمرأة، لأجل بناء علاقة جديدة بين الشاعر العاشق والمرأة، التي لا تمنحه الالهام، أو تثير فيه شهية النظم وحسب، بل تصبح هي ربة الشعر التي تخلق اللغة والمعاني التي يكتنفها الغموض، في تعبير ضمني عن تباعد التواصل، وعجز انساني أمام ما يشبه قدرتها الأسطورية. هكذا يعبر عن أمنيته في أن تقوده كمعلّم الى حيث يستطيع الرؤية عندما تتكشف له الاسرار، فكأنما المرأة تصبح في أحد تجلياتها إلهة للشعر: "تقولين ما لا أرى من كلام/ وتمضين دون مصابيح في عتمة الحب/ .../ سأقول بأنك مبهمة كي تضلّ الحكاية/ بينا على مهل أتملّى وضوحك فيّ/ وأنأى".
تعكس معظم القصائد معاناة العاشق أمام تجربة الحب التي تتشح بصمت المرأة، وغموضها، وغيابها، فيتعمّق الاحساس بعبثية اللغة، كأنما تستحيل الكلمات الى ليلٍ من العتمة، فلا يرى المحب انعكاس تعبيره عن حبه وعذابه، وينتفي الاحساس بمعنى الحب ذاته، كأننا نمارس لعبة التخفي حتى يضيع الحب من بين أيدينا: "ونحن، إذ في ظلمة الكلمات نجلس/ هل عرفنا الحب؟". ويتابع في قصيدة "عتمة في الكلمات" موضوع الحب المصلوب على خشبة الزمن. يلتقي الحبيبان، لكن اللغة تبقى مغلفة بالغموض فلا تمنح نفسها لهما للتعبير كما ينبغي، كأنما الكلمات في عتمة، والحب لا يُرى. تتابع القصائد انهيال الصور التي تعمق الصمت والوحدة والاحاسيس التي تبقى رهينة الانتظار. وتؤكد في مستوى رمزي آخر أن اللغة هي أساس التجربة والاحساس بمعناها، فالصمت والمجاز والتلميح والايهام والغموض تقتل، بحسب القصائد، معنى الحب الحقيقي الذي يبحث عن لغة أخرى تمنح الخلاص والثورة، وتسير هادرة كالنهر نحو البحر.
ترسم قصيدة "مرثية أخرى" ملامح تلك العلاقة بين الحب والاحساس بتحقيق الذات واللغة. يمنح الحب شعوراً بالانطلاق والتحليق الى عالم اللغة العلوي حيث تصبح الكلمات قادرة على التعبير عن الحلم، ويضفي الحب على الشاعر احساساً بفرح كغيمة ماطرة. غير أنه سرعان ما يتبدد احساس الشاعر بالحب الذي صار قرين الحياة أمام اعتيادية الكلمات، ويقع مرة أخرى فريسة الكلمات الغامضة التي تقتل الرؤية، وتحيل كل شيء بحراً من الظلام، في اشارة الى الحياة التي تصبح مثل غابة موحشة لا يقين فيها في ظل غياب التعبير عن الحب الحقيقي. يطوّر برقان الاحساس في نفس قارئه تدريجيا لينتقل الى مستويات أعلى، فغياب الحب يشبه وقوع السماء على الارض التي غدت حطاماً مؤذناً بالنهاية: "وأينك؛ منذ كسرتُ السماء/ وليس على الأرض غير حطامي/ وأينك، ثمة نظم كثيف/ يجر دمي باتجاه الختام".
تقدم بعض القصائد حالة من التناقضات الغامضة الغريبة التي يمر بها العاشق. ففي حين يشعر بأن كل شيء حوله صامت لا يجيب، وبأن الكلام مات على شفتيه، وبأنه وحيد في عالمه لا يسمع سوى صدى صوته، يظل متمسكاً بحبيبته التي تصبح مثل تعويذة تحميه من الاخطار. لكنه بقدر ما يستشعر معنى وجودها لحياته، يلعنها، لأنها بعيدة، وهو يقاسي الجوع العاطفي. وبكثير من الرمزية التي تتفادى التصريح وهي تدخل موضوعاً يحاذي تخوم الجسد، فإن برقان ينجح في تجسيد علاقة العاشق بحبيبته الى أقصى حدود الكشف الحسي الخفي الشفيف، حيث تصبح مصدر الحياة والارتواء والتسامي وتحقيق الرغبة، وفي الوقت ذاته تنطوي على الموت، كأنما تسير الامور في دورة الحب والرغبة من ثوران الى خمود وهكذا: "فأسير خفيفا وأدفقُ حيث تفيض الحياة على/ ضفتيكِ/ وأمتد فوقهما كالحشائش/ أو مثل ليلٍ يفرّ الى حتفه".
تبرز قصيدة "حنين" التي تفتتح الديوان، الكثير من الاستعطاف والتمنيات التي ترتبط برغبة الشاعر في إدراك ذاته الكلية، وتحقيق أحلامه التي تمور في خفايا الصدر، لتنتقل من مستوى الكلام الى الفعل، لكنها تنطوي على مقارنة تعكس حال الحب ذاته. يشعر المتكلم أن المرأة لا تمنحه سوى الكلام، ولا تأخذه الا الى الاحلام، بينما يسعى الى لقاء من نوع آخر، وخلال هاتين الحالتين تظل المرأة بعيدة غامضة كالحب نفسه. مفردات القصيدة حداثية واستعاراتها ذات انزياحات، تركب صورتها الشعرية على أساس بصري من وحي الطبيعة.
يمتاز شعر نضال برقان بتوظيف صيغ الفعل المضارع كثيرا بشكل متتابع للدلالة على آنية الصورة المتحركة واستمرارها اللازمني. كما يتابع نحت الصور في عبارات متتابعة متلاحقة: "وينتظران من أبدٍ قطارَ الحب/ بينا الحب خلف الباب منصوباً بغير محله/ الريح تأكله على مهلٍ/ وينتظران من أبدٍ بصمت غامق".
تلجأ قصائد برقان الى توظيف الحوار والاسئلة المثقلة بالحيرة والتعجب لتعزيز احساس القارئ بمدى المعاناة، واظهار براءة الاحساس لدى المتكلم، الذي يخنقه ألا يرى الحقيقة التي تمنح مشروعية الحب. وتركز القصائد على ابراز الموسيقى الداخلية التي تستحضر في النفس ايقاع القصائد الغنائية الاندلسية، لكن الاحساس سرعان ما يتبدد أمام صوره الجديدة: "لا تبتعد يا نهر، لا تترك فمي/ من غير ما كلمٍ، ولا قلبي ظمي/ عيني بعينك في الزمان ولا أرى/ إلا سواك كأنني ليلٌ عمِ/ وكأن ما بيني وبينك واضحٌ/ حدَّ الغموض فلا أراك وأنت تحرس أنجمي/ لا تبتعد يا نهر إلا في دمي".
تطرح القصائد مفاهيم صوفية فكل شيء يعود الى الارض التي تغدو الام الكلية، وفي قمة لحظات الاحساس بالحب تتسامى الروح الى عرش من تحب، ويصبح المحبوب أساس الحياة، الذي يمسح عن المتعبين غبار الروح، كما تطرح بعض القصائد تساؤلات كونية مفعمة بالشك والحيرة والاحساس باللاجدوى حول وجود الحقيقة ومعناها.
تقدم قصائد برقان تنويعات على الصور الحسية التي تتداخل فيها الاصوات والالوان والحواس، غير أن الصور المحسوسة، هي مقدمات تحفز الذهن لإعطاء أبعاد مادية، وتجسد المفاهيم المجردة وخصوصاً ثنائية الحياة والموت، التي تتردد كثيرا في الديوان كبديل موضوعي من حضور الحب وغيابه في حياتنا. ويظل الشاعر يردد مفهوم الاحساس بالضياع وغموض اللغة التي لا تعرف كيف تستولد القصيدة الحقيقية. يقول في قصيدة "كلام في الحديقة": "في ظلمة، حطّ الصراخ على فمي/ فأضعت في بحر القصيدة خاتمي/.../ لو تعلمين، الموت يعصف جانباً/ وأنا أشمك، بينما قلبي عمِ".
تمتاز قصائد الديوان بتتابع الصور والاستعارات والتشكيلات الفنية وتداخل المؤثرات اللفظية والبصرية على نحو مكثف ينم عن قدرة الشاعر على بناء المشهد الشعري، وتدور معظمها في فضاءات علاقة الشاعر بالمرأة، وتأثيرها على اللغة، وتقدم مظاهر من لغز الحب السهل الممتنع. وتجمع قصائده بين الجدة في ابتكار الصورة وإنطاق المجرد، وبين اضفاء التأملات الفلسفية على معاني الحياة والحب والشعر، ولعل قصيدة "شرفات لا تخص نجومك" من النماذج المبهرة التي تجسد توجهاته.
تظل تتردد في كثير من القصائد مفردات رئيسية كأنها تشكّل معجم برقان الشعري الذي يستمد منه جملته التي تعبر عن فضاءاته وصوره. فهناك الصدى، والظلام، والحرب، والعتمة، والوحدة...الخ، كما يبدو للقارئ أن برقان يميل الى مفردات معينة في شعره تظل تظهر بين حين وآخر مثل كلمِ، ظمي، العدم.
تميل لغة الديوان الى المزج بين مفردات لغة شعرية حداثية تنزع الى بناء صور غير تقليدية فيها تشيكلات سوريالية، ومفردات مستمدة أحيانا من نادر اللغة وقديمها. تستدعي قصيدة "وجه مالك بن الريب" تلك القصيدة المشهورة من الشعر الأموي، وتتناص معها في اعادة تقديم قصة الموت وحيداً غريباً بعيداً عن الديار الا من الشعر الذي يلاحقه ويقيم معه أنى ذهب، لكنه يضفي على القصيدة ثوباً جديداً يلائم موضوعه. ومن أجمل قصائد الديوان أفكاراً وصوراً واستعارات وموسيقى داخلية وايقاعات هي تلك المسمّاة "مباهج فلكية"، وهي فعلا احد مباهج الديوان. تبدو احتفائية بالحب، والمرأة، وتعبيراً شفيفاً ذكياً بسلاسة عن تفاصيل جسد المرأة لابراز قوة تأثير الحب الحسي: "في صباحك أنسلُّ من خدري/ دافئاً ومضيئاً/ أغانيكِ صافية في فمي/ في يدي يترقرق جدولك الذهبي/ وقد عاد دون أذى لطفولته/ ما تزالين نائمةً دونما غبشٍ/ أتحسس جسمكِ/ ثمّ أعود الى خدري".
ينحو الشاعر في بعض القصائد مثل "قصائد قصيرة" الى التنظير حول ماهية الشعر وارتباطه بالرؤية والرمز والمجاز، وجماليته في التلميح لا التصريح ، وعلاقته بالشاعر جسداً وروحاً، وعلى رغم الجانب التأملي التجريدي، إلا أنه لا يتخلى عن جمالية العبارة الايقاعية المشحونة بالحب، وهنا يبدو موزعاً بين قطبين هما معنى حياته كلها: الشعر والمرأة. من هذه الاسطر يبدو أن الشاعر كان موفقاً في اشتقاق عنوان الديوان: "متأرجح بين الزمان وظلّه الممدود في الكلمات/ بين الكشف من غير انكشاف/ وانعتاق الرمز في الجسد الموارب للقصيدة/ هكذا آتي وأذهب في المجاز بخفة/ وأطل من جسدي عليّ بلا سواي".
تطرح بعض قصائد الديوان في الثلث الاخير منه قضايا أخرى غير الحب والمرأة، مثل الوطن ومحنة الضياع والتشرد والمنفى واغتيال الحلم، وتبادل الشجن مع الاصدقاء، ويبرز منها على نحو غريب تلك القصائد الى تعبّر عن الرغبة لمعرفة كنه الموت، واتخاذه صديقاً لمعايشة التجربة موقتاً من دون خوف منه. وعلى رغم أن الشاعر يقر بأنه ذلك الساحق الصامت الابدي، إلا أنه يعتقد أن الموت في حقيقته هو غير تلك الصورة التي نحملها عنه، وغير ذلك الاحساس الذي يرتبط في أذهاننا: "انما بي اشتياق لمعرفة الموت أكثر/ بي رغبة لزيارته كصديق/ نسير معاً".
مجاز خفيف نحت شعري ذو مستوى عال فنياً ولغوياً، يستلهم الرمز والايحاء والاسقاطات التأملية، ونقل المواضيع التقليدية للشعر الى آفاق ابعد من خلال التجديد وتطوير رؤى فكرية غير تقليدية للنظر بها اليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق