الجمعة، مارس 26

زهر الشرفات لرفعة يونس



زَهرُ الشرفات لرفعة يونس
لوحات لطقوس الفصول وأغاني الشهداء

بقلم: اياد ع. نصار

في ديوانها الثاني "زهرُ الشرفات" الذي أصدرته دار أزمنة في العام 2008 تفتتح رفعة يونس المشهد الشعري على شرفة حزينة تطل على ذكرى مجزرة قانا وتختتمه على مشهد من سجن ما، وما بينهما تغلب على الديوان روح شعرية وطنية في أغلب قصائده الخمس والعشرين. وتروي قصائده الملونة بألوان الارض حكايات الحنين ومواويل العشق وآهات الالم والدم التي تبحث عن وطن هارب في الغياب، بينما يقتات المنتظرون أحزانهم، ويشربون دموعهم تحت نجوم ليل يعذبهم، وفوق حقول نهار قد مات.


تقارب الشاعرة قصيدها كفنان تشكيلي يرسم معالم اللوحة باحتراف تدريجياً، ولهذا تجيء معظم قصائدها كلوحات ترسم مشاهداً لطقوس الفصول ولكنها تكتمل وتتكامل عبر مقاطع القصيدة التي تستمد ألوانها وخطوطها وتشكيلاتها ومعانيها من معالم الارض والبحر والقمر والشمس والرياح ومن أصوات الطبيعة ومواسمها. وتوظف القصائد في بعض الاحيان لغة حوارية ولكنها أقرب للمناجاة مع النفس. وحتى عندما توجه الخطاب للآخر فهي ليست أكثر من بثّ شكوى أو تقديم اعتراف.


ويمكن بكثير من اليقين القول أن الديوان تنظمه ثلاثة معالم تحدد هويته الشعرية: أولها روح الشهيد الحاضرة دائماً بطولةً وعشقاً للوطن ومعاناةً في سبيله في وجدان وخيال المعذبين الذين ينتظرون المصير بقليل من الامل وكثير من القلق، وتصبغ هذه الروح معظم مضامين القصائد، وثانيها معجم مفردات يصبغ لغة الديوان من قاموس الارض وأزهارها وعطورها ونداها وعوسجها وعصافيرها وأمواج بحرها ونوارسها ..الخ مما يضفي عليه سمة رومانتيكية ممتزجة بالقضايا الوطنية الكبرى، وثالثها حنين متأصل متوطن بعمق التاريخ للمكان الذي يأسرنا بتفاصيله وحكاياته وشرفاته ورفوف حمامه وذكرياته التي لم تزل تملأ الصدور، حنين يتنقل بنا بين دمشق وبردى وبغداد والجليل وحيفا ويافا وعيبال وعمان فيشعل فينا نار الحيرة والانتظار في ظل خراب الامكنة واحتضار المدن المنسية.


تبدو الشاعرة مسكونة بهمّ الوطن وصور الشهيد التي تتكرر في عدد من قصائدها. ولكن قصائد الشهادة تبتعد عن المشهد البكائي الرثائي التقليدي، وتهجر لغة الندب والنحيب والافتخار بالبطل، إذ تسيطر على المجموعة لغة ذاتية رومانسية مثقلة بصور الطبيعة ومفرداتها، وهي ملأى بالصفصاف والدحنون والبنفسج والاقحوان والعبير والعبق وبخور الارض والعشب، حتى لتكاد تشم العطر خارجاً من القصيدة، وترى العالم في شرفات من طراز بيوتنا في المدن القديمة كدمشق. ويصبح الشهيد عبير الارض ومواويلها وأهداب السنابل في الجليل. وفي غمرة أحزاننا وانكسارنا يأتي الينا باقات نجوم وأقماراً ليطهرنا ويحيل حاضرنا المتعب الى أسطورة فرح.


في قصيدة "من أنتَ؟" تحتفي رفعة يونس بايحاءات جميلة بالشهداء ونبلهم وتضحيتهم فهم بذور الحلم الجميل وسر الخميرة في الخبز، وهم تعويذة الحب التي تصنع الحاضر والمستقبل. وتبقى الاسئلة تدور: منْ أنتَ؟ وتبقى الاجابات تقول ضمناً الشهيد. وفي "خيط الدم" تعود صور الضحايا الابرياء الذين اغتالتهم يد سوداء في عمان في تلك الليلة الدامية من العام 2005. وفي قصيدة "لوحات" تهدي رفعة يونس كلماتها الى شهيدات الارض: آية الاخرس ووفاء ادريس ودارين. تقدم القصيدة مشاهد للبراءة التي اغتالها الرصاص. في تلك الليلة اعتلى القمر صهوة السماء ولم يجد أجمل من أجساد الشهيدات رداءً. وفي قصيدة "من وحي الالوان: في الاحمر" توظف القصيدة الاسطورة ودلالات اللون الاحمر وهي ترسم صورا شتى في مقاطع منفصلة من المشهد الفلسطيني، وتشكل هذه المقاطع لوحة يصبح فيها دم الشهيد غزالات في الافق ترسم معالم الطريق الى الوطن، وخيولاً تطل على كل سفح وسهل مثل طائر الفينيق الذي يبعث حياة في رماد الضمائر.


في الأحمرِ
جسرُ حدائقَ يحمِلُنا

كرزٌ في الشِّفاه

وعرسُ بلابل... الحانَ الأرجوانِ

تكلَّل في فجرِنا

......

في الأحمرِ

زهرُ حريرٍ في ثوبِ أمي

تشرقُ أنجمُهُ ...في كلِّ مساءٍ

دحنوناً حينَ تزهو بهِ


تنقّب القصائد في مفرادت الارض ومكوناتها؛ فلا تترك شجرة أو زهرة أو بحراً أو تلة أو غزالات أو حساسين أو بنفسجاً ولا توردهم، وتحلق في السماء فلا تترك فيها نجمة أو شمساً أو قمراً أو طائراً وهي تحتفي بطقوس الفصول ما بين أمل بالحياة يجسده الربيع فيصبح رمز الانبعاث من بعد موات، ورمز النصر من بعد انكسار. وبين عواصف وليل ورياح وشتاء قاسٍ تشي بالموت البارد في ليل التشرد والمخيم وأنات المعذبين. ومن القصائد ذات النكهة المميزة التي توظف طقوس الفصول وأسلوب تشكيلات معالم اللوحة وألوانها قصيدة "مناجاة" التي تستخدم هذه التقنيات في محاولة للولوج الى عوالم محمود درويش. وبرغم صور الجمال والسناء والاشراق وتفتح الزهر المنتشي بالعطر على دروب الحياة، التي تملأ ثنايا الديوان حتى لتشعر للوهلة الاولى أنه مغرق في الرومانسية الذاتية، إلا أنك سرعان ما تكتشف وهمَ تصوراتك، فالقصائد تحاكي طقوس الفصول على شكل تأملات تقرأ واقع المرحلة حيث يصبح الانسان وقوداً في أتون الحقد وقرابين للموت. وتسترجع القصائد تواريخ القهر والموت في فلسطين ولبنان والعراق ، وتمعن القصائد في رسم صور السواد والسكون والقبور والحزن.


إلا أنت وحدَك...قيثارة للرّبيعِ

نشيدُ المواسمِ

رحمُ الحقولِ

واسعُ النبيذِ وسرُّ الخميرةِ

مهرُ الغريزة.. شحذُ الخطوةِ في دربِنا

إلا أنت وحدكَ في صحراء الوهم تسيرُ

فقد خاصمَتكَ النجومُ وخانَتكَ كلُ سماءٍ

عَلَت فوقَنا

لا شيء سوى

ذرٍّ للرملِ

جنونٍ للعوسج الغافي.. في العينينِ


يبرز الصوت الانثوي في القصائد بشكل واضح، فالحديث عن الذات الانثى في هذيانها وتساؤلاتها واعترافاتها وأغانيها وبوحها الشفيف تبرز نبراته في صور وأشكال شتى. فالتساؤلات المفترضة على لسان المرأة التي تتخيل أن الاخر يسائلها ، وأسلوب مخاطبة المذكر، والتعبير عن معاناة الذات الانثى تملأ القصائد. وحينما يختفي الصوت الانثوي أو يخفت، يبرز الصوت الجمعي فينا ومنا والينا، و"نحمل جمر الرجوع... ونلملم في الصمت أحداقنا". ويبدو الصوت الأنثوي في هذا الديوان غير معني بطرح قضايا المرأة كما جرت العادة في دواوين الشاعرات المعاصرات، فالهموم الوطنية وذكريات المآسي والحنين الى الارض قد غطت على أي صوت آخر.


وحين تؤوب عصافير حُزني اليَّ

وتنشرُ ألحانَها قصةً عنْ:

فضاءاتِ عُمْرٍ ذوى

سأعلن: أنِّي

مع الريح أغنيةٌ

مع الموت قهرٌ

مع الليل بدرٌ... شهيُّ

وأحمل كلَّ ذبالاتِ شمعي

وأمضي... لأزرع كلّ الدوربِ

حقولَ ضياء.


تقف قصيدة "شرفة دمشقية" شاهدة على المعلم الثالث للديوان، ألا وهو الحنين للمكان الذي يأتي للوجدان محملاً بكل روائح التاريخ ويثير فينا الشوق والاسى، ونحن نرى مدن الخراب الصامتة تنظر الى عذاباتنا. قصيدة جميلة تقطر حنيناً لدمشق بياسمينها وقاسيونها وبرداها وحكاياتها وعمق تاريخها، وتنتقل القصيدة من مجرد حنين الى ذكريات في المكان الى تصوير المكان وتجسيده كروح عليا نهفو اليها. وتصبح المدينة ملهمة الابداع والاحتراق والجنون. وحين تحس الذات بالالم والغربة والحيرة، وتشقى وتنشطر على صدى أنات التعب، تمد المدنية يديها وتلملمنا. وتصبح دمشق، كما يافا والجليل، رمز بقاء الحلم برغم طول الفجيعة، وتتحول دمشق من مجرد مدينة الى ملاذ مقدس يمنحنا الحنان والطمأنينة والالهام ويسمو بنا. وتصبح المدينة نقيض مدن الخراب والصمت. وهذا التحول شبيه بتحول الشرفات التي تطل على المشهد كله أو على الفضاء العربي برمته الى مستوى تجريدي أكثر، فتصبح الشرفات محطات عمرنا الضائع التي تطل على ذكريات الماضي، و يصبح الزهر حكاياتنا التي كتبناها في تلك المحطات.


ديوان زهرُ الشرفات هو الثاني لرفعة يونس بعد "أغانٍ لزمن معافى" يمتاز بعذوبة رومانتيكية رقيقة برغم الظلال الوطنية الحزينة ، وايقاعات موسيقية وتكوينات بصرية جميلة توظف كل الحواس في تقديم صور ملونة ذات روائح عابقة من روائح الارض والطبيعة وتكوينات فنية ناعمة وأصوات تعلو وتنخفض كصهيل خيول في براري أو كتغريد بلابل.


ونأتي

نحمل جمرَ الرُّجوع

اليكِ... نعود نجوماً

تشعُّ عذاباً

سراباً.. وطهرَ خشوع

* اللوحة أعلاه بعنوان "أحبك أكثر" للفنان التشكيلي الفلسطيني يوسف كتلو
* نشرت المقالة في جريدة الدستور الاردنية / الملحق الثقافي في عدد يوم الجمعة 26/3/20101. يمكنك عزيزي القاريء الاطلاع على الصفحة الكاملة وتنزيلها على الرابط التالي:
 
صفحة المقالة - جريدة الدستور
 
 

السبت، مارس 6

رأي نقدي في مجموعة "قليل من الحظ"


 

رأي نقدي في مجموعة "قليل من الحظ"

كتب محرر القسم المعروف باسم أبواب في جريدة الرأي الاردنية السيد سامح المحاريق في الصفحة المعروفة باسم مكتبات عمان يوم السبت الواقع في 6/3/2010 عن مجموعة "قليل من الحظ" ما يلي:


هي المجموعة الثانية للقاص الأردني إياد نصار بعد المجموعة الأولى «أشياء في الذاكرة» التي صدرت قبل عامين، تبدو المجموعة الجديدة على المستوى الشكلي المتحفظ امتدادا للمجموعة الأولى، تحمل ذات الدفعة من الاحتشاد للعمل القصصي على مستوى الرغبة في الإدلاء بشهادة مغايرة عن العالم، الدخول إلى مناطق جديدة واتخاذ زاوية رؤية خاصة، بتجاوز لغة نصار الحريصة على العناية بإيقاعها الخاص وربما التمسك بتقاليد القصة في الشكل الكلاسيكي، فإنه يصر على تحقيق تميز في الحدث القصصي، في موضوعه، تركيبه، وإحداث نقلة في مستوى التعاطي معه، هذا ما يتبدى في قصص المجموعة وخاصة «قليل من الحظ» و»بركات»، حيث تصبح القصة مشهدا منفصلا لا يمكن البحث فيه عن ذروة معينة أو تقسيمه إلى تحركات، فالسياق التقريري يجعل القارئ يقع في الفخاخ الخاصة بالقص وعالمه، لعبة لم يمارسها نصار باللؤم الضروري للتجريب وحاول أن يصنع قصة صادقة، مع أنه تساءل في مجموعته عن العلاقة الجمالية للحقيقة مع الواقع العبثي المليء بالأكاذيب.


هذه الحالات التقطها الناقد د.محمد عبيد الله في سياق نقده لقصص نصار التي وضعها في إطار القصة النفسية أو السيكولوجية، التي تحاور أعماق الإنسان ووجدانه في العالم الراهن الذي يملك القاص الخبرة في التعامل مع تفاصيله وسراديبه وحيله، إنها أيضا إلى ذلك أحد تجليات كتابة الوعي والكتابة المسؤولة التي تعتبر طرح الأسئلة الكبرى ذات الطابع الفلسفي المتشكك في المعاني الاعتيادية لزاما على الكاتب، ليس مجرد اصطياد المتعة في النص هي الغاية، وإنما توظيف العمل الإبداعي ككل في سياقه الاجتماعي، ونتفق مع الناقد عبيد الله أن المجموعة على خلاف عنوانها حملت الكثير من الحظ في طياتها حيث مكنت نصار من التقدم في مشروعه القصصي خطوة مهمة واثبات وجوده على خريطة القصة الأردنية الحديثة.

* بامكانك الاطلاع على المنشور في الصحيفة من خلال الرابط التالي:

قليل من الحظ - جريدة الرأي الاردنية

رابط الصفحة الكاملة - جريدة الرأي


الجمعة، مارس 5

دالـي: السـوريالــية أنـا


الزرافة المحترقة: فنون أم جنون؟
دالـي: السـوريـالـــية أنــا

بقلم ايـاد نصـار
قد تبدو لبعض المشاهدين لوحة خرافية أو لامنطقية أو حتى أقرب للهلوسات وللجنون منها للواقع. وقد تبدو لهم أنها تستعصي على التحليل والفهم، وربما يرى بعضهم الآخر أنها تحمل الكثير من المعاني الغامضة، بينما يرى آخرون أن كل هذا التحليل هو مجرد استبصار وتأويلات يقدمها النقاد ودارسو الفن لفهم لوحة تعج بالاشكال الغرائبية البعيدة عن الواقع. ورغم أنها في الحقيقة قد لا تبتعد كثيراً عن هذه الاوصاف، الا أن ما يميزها أنها جزء من منظومة كبيرة تتشكل من ما يقرب من الف وستمائة عملٍ فني هي إرث الفنان، مما يجعل لها قيمة فنية كبيرة كونها تمثل رؤية الفنان وإصراره على التعبير عن أفكاره بأساليب مبتكرة يحطم فيها قوانين العلاقات الواقعية المنطقية بين الاشياء والظواهر، ويهجر دلالات المعاني المتعارف عليها للصور والرموز الى أخرى يبتدعها هو، ويحطم ارتباط الاشياء بقيم معرفية أو بتراكيب لغوية استقر العقل الجمعي على استخدامها الى قيم أخرى يؤسس لها في أعماله الفنية.


وصاحب اللوحة فنان ملأ الدنيا وشغل الناس. كان فناناً غريب الاطوار بالنسبة لكثير من الناس ليس في محيطنا العربي وحسب، ولكن حتى في محيطه الاوروبي أو العالمي ، ولكنه لم يكن كذلك في مفهومه هو أو في إطار نظرته للحياة أو في أسلوبه الفني الذي وضع أهم قواعده كرائد من رواد الحركة التي انتمى لها فصارت تقترن باسمه أكثر من اسم مؤسسها. بل إن تصرفاته تنسجم تماماً مع أهم مباديء المدرسة الفنية التي كان ينتمي لها. لقد قال ذات يوم: "السوريالية أنا". واليوم يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه كان علمها الاول، وأشهر رساميها على الاطلاق. كان يطلق شاربين طويلين معقوفين على ذقنه وخديه، وكان يتصرف حسب قناعاته مهما أغضبت الاخرين. لقد ذهب ذات يوم الى حفل أقيم لتكريمه بمناسبة اقامة معرض للوحاته بملابس النوم! كانت حياته التجسيد الحي للسوريالية في تناقضها الرئيسي مع الواقع وفي تطرفها نحو اللاواقع!

واذا كان أصل الكلمة اللغوي يعني التعالي عن الواقع، فإن الاتجاه السوريالي لم يكن يهتم كثيرا بتقليد الواقع او المحافظة على العلاقات المنطقية بين الاشياء في الكون. كانت السوريالية قد ظهرت في عشرينيات القرن الماضي كحركة ثورية في الفن والادب والموسيقى والسينما من رحم الحرب العالمية الاولى التي رأت أن منظومة القيم الاجتماعية والسياسية والفكرية والدينية والادبية قد تهاوت وأورثت الانسان حربا هائلة تركت وراءها الملايين من الضحايا، فلا أمل في طلب التغيير منها. ارتبطت بالدهشة والغرائبية وصياغة علاقات جديدة وجمع متناقضات لم يكن يجمعها رابط ، كأنما ارادت إعادة صياغة الواقع المتهاوي على لامنطق جديد! ولدت السوريالية من رحم الحركة الدادائية في باريس، فقد أصدر الاديب والمفكر الفرنسي أندريه بريتون بيانه السوريالي الاول او المانيفستو في العام 1924 محدداً فيه ملامح هذا التيار الجديد في التعبير عن ذاته في الادب والرسم والفنون الاخرى بأنواعها. لقد اعتمدت السوريالية على نظريات التحليل النفسي لعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد في الكشف عن مكنونات اللاوعي الذي يختزن تجارب الطفولة بمرارتها وعذاباتها ومكبوتاتها وعقدها، ويسعى الى الكشف عن رغبات الانسان المكبوتة، وأحلامه التي تصطدم مع التابوهات الراسخة للمجتمع، أو تبدو غير واقعية ، وأفكاره التي يحملها ولا يستطع البوح بها خوفا من ردة فعل المجتمع أو خوفا من عواقبها. ولكنها تغافله وتظهر مهما حاول إخفاءها على هيئة أحلام وكوابيس، وخربشات القلم، وسقطات اللسان وهفواته، ونسيان اسماء من يعرفهم أو يحبهم.

لم يكن هو الذي أسس قواعد تلك المدرسة، لكن كثير من النقاد يجمعون أنه هو الذي أعطى قوة الدفع الاكبر للسوريالية في الرسم عبر لوحاته الكثيرة التي تزيد عن 1570 لوحة ورسماً واسكتشاً ولوحة مائية أو تشكيلات مختلفة عبر حياته الطويلة التي امتدت نحو خمسة وثمانين عاماً بين سنة 1904 وسنة 1989 . لقد استوحى أفكاره من عدة مؤثرات في حياته ولكن أهمها كانت ثقافته الكاتالونية الاسبانية، وموت أمه وهو ما يزال صبياً، وفظائع الحرب الاهلية الاسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين، وعلاقته الرائعة بزوجته جالا التي عاش معها سنوات طويلة، وكانت سبب الهامه وبقيت الى جانبه حتى وفاتها عام 1982، ففقد بعدها حب الحياة، وحاول الانتحار عدة مرات نتيجة إحساسه الكبير بفقدانها. وكان من إخلاصه لها أنه صار لا يلبس الا اللون الابيض. كان دائماً يقول أنه يمت بصلة لاصول عربية تعود الى قبائل المورسكيين الذين كانوا من بقايا العرب الخارجين من الاندلس. إنه باختصار الفنان الاسباني المثير للحب والجدل سلفادور دالي.

الزرافة المحترقة: مدرسة فلسفية ترسم معالم مصير الانسان.
من الوهلة الاولى تبدو اللوحة شيئاً غير مفهوم. فما هي هذه الاشكال الغريبة التي لا تمت لعالم الواقع بصلة؟ وماذا جرى لصورة المرأتين في اللوحة حتى أصبحتا بهذا الشكل الغريب؟ وهل يعقل أن تكون هناك أدراج تخرج من ساق إمرأة أو من صدرها؟ وهل هو شيء طبيعي أن نرى زرافة وقد شبت في ظهرها النار؟ ولماذا نرى أغصان شجرة بلا أوراق وقد نبتت في رأس المرأة الاخرى في عمق اللوحة؟ ولماذا تمسك بقطعة لحم تتدلى من يدها وقد رفعتها للسماء؟ وما هي هذه العكازات الخشبية التي تسند ظهرهما؟ وماذا جرى للوجه حتى اختفت ملامحه؟ أسئلة كثيرة تبدو غريبة. وربما يسارع بعض الناس الى اعتبار اللوحة ضرباً من الجنون أو اللامنطق أو غير المفهوم أو العبث الفني الذي حطم كل المعايير الكلاسيكية الراسخة.

ولكن هذا يتعارض مع جوهر السوريالية. فالسوريالية هي ابتعاد عن منطق الواقع، وقد اعتمدت على مفاهيم أقرب للتأويلات واستخدام الرموز وتصوير ما يخطر في الاحلام التي تبتعد في الغالب عن قوانين الواقع في حركة خيالاتها وشخوصها وقصتها أو ما يدور في عقل الانسان الباطن من تخيلات وأوهام وأفكار وصور لا يحكمها قانون الوعي الملتزم بمعطيات الواقع وقيمه الاجتماعية التي لا تسمح بالخروج عنها وخاصة المحظورات أو التابوهات. كانت اكتشافات فرويد في مجال التحليل النفسي فتحاً كبيرا أمام سلفادور دالي على وجه الخصوص وملهما عظيماً لأغلب أعماله.

لنبدأ معا في محاولة البحث عن تفسير "معقول" للوحة، بالرغم أن دالي لم يكن بالتأكيد يسعى الى تصوير ما هو معقول! بل اللامعقول! ما نريده هو محاولة فهم اللوحة واكتشاف مباديء السوريالية فيها كما كان يعكسها دالي في أعماله، وفهم الرؤية التي كان يحملها ويدافع عنها.

لقد رسم دالي اللوحة بين عامي 1936-1937 وهو في المنفى في الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الاهلية الاسبانية التي امتدت بين الاعوام 1936-1939 . وقد سبق أن قال إن اللوحة هي احساس أو نذير بالقلق من وقوع الحرب. وبالتالي فلا بد أن للوحة علاقة بالحرب. فاللون الغالب هو اللون الازرق الباهت الذي يوحي بالكآبة وعدم الوضوح. كأنما يشير الى المنطقة الرمادية بين الشك اليقين، وبين الحرب والسلام، وبين النهار والليل.

يلاحظ أن الارض عبارة عن رمال كأنما صحراء جرداء لا تنبت فيها أية أشكال للحياة، دلالة على اليباب والعقم الذي أصاب حياة الانسان، فكأنما استحالت الحياة الى خراب ، وكأنما تدين الحرب التي لا تورث الا الدمار. أما المرأة في اللوحة فقد خرجت أدراج من جسمها وصدرها، ويبدو واضحا أنه تم فتح هذه الادراج، وهذه رموز تشير الى أسرار تم الكشف عنها. ويبدو أن دالي كان يشير الى نتائج دراسات فرويد التي اعتبرت أن فهم مكنونات عقل الانسان الباطن وأسرار احلامه وخيالاته وأوهامه وما يدور في تفكيره اللاواعي هي الاساس لفهم مشكلات الانسان وتحليل شخصيته وادراك أزماته التي ربما تعرض لها في الطفولة فلم تختف نهائيا بل سكنت في عقله الباطن وصارت تؤثر في حياته لاحقا. كما يلاحظ أن الملابس الزرقاء التي تلبسها المرأة شفافة تبين ما تحتها وخاصة في ساقها حيث تبرز الادراج، وكأنما علم النفس التحليلي هو المنظار الذي يتيح لنا فهم دواخل الانسان.

ومما يفيدنا في فهم اللوحة أن دالي لما سئل مرة عن هذه اللوحة قال: "ان علم النفس التحليلي هو الوسيلة لفهم النموذج الافلاطوني وعلاقته بالحياة المعاصرة". فالمرأة الواقفة تمثل أوجه الفلسفة والجمال الافلاطوني الاغريقي، ولا بد من علم النفس التحليلي لكي يفتح لنا اسرار تلك المرحلة. ولكن هذا النموذج قد تعرض للتشويه بفعل أزمات الحياة المعاصرة كالحروب والقلق. لهذا نرى أن هناك ذيلاً أو زوائد طرفية نمت وبرزت من ظهر المرأة، مما يعني التحول من الانسانية الى الوحشية البدائية. والعكازات التي كان يستخدمها دالي كثيرا في لوحاته أصبحت رموزا تبين ضعف وهشاشة هذا النموذج المعاصر للمجتمع الانساني وما أصابه من مرض. وكلا المرأتين يبدو عليهما أنهما في وضع الانحناء أثناء الوقوف أو على وشك السقوط لولا العكازات ، والاخرى التي في عمق اللوحة يبدو عليها كأنها واقفة متجمدة بلا حياة تسندها العكازات.


كما يبدو أن الجسد قد ظهر اللحم منه دلالة على فظائع الحرب، وهذا ما يؤكده منظر المرأة التي ترفع قطعة لحم تتدلى كأنما تشيرالى قدرة الانسان على ارتكاب الفظائع من خلال افتراس لحم الضحايا. كما تشير ايضا الى الانسان في أي مكان في العالم وفي أي زمن بشكل عام وقد تجرد من كل ما له علاقة بالمادة. وغياب ملامح الوجه يؤكد ناحيتين: أولهما أن المقصود هو الانسان بشكل عام بغض النظر عن ملامحه التي قد توحي بخصوصية معينة، وثانيهما إن غياب ملامح الوجه يشير بنفس الاهمية الى أزمة غياب هوية الانسان المعاصر، والاحساس باليأس. كما تشير الاشجار التي لم يبق منها سوى الاغصان والساق التي نبتت فوق رأس المرأة في عمق اللوحة الى عقم الافكار التي سيطرت على رأس الانسان وتفكيره وأدت الى هذا الشقاء.


أما الزرافة المحترقة فتدل على ويلات الحروب التي وصل تأثيرها الى كل مناحي وأشكال الحياة على الارض وليس البشر فقط. فاذا كانت الزرافة كرمزٍ يدل على الحياة الطبيعية والبدائية والالفة والانسانية باعتبارها حيواناً غير مفترس، فان هذه الانسانية صارت ضحية واكتوت بنار وفظائع الحرب. ويبقى السؤال المطروح أمام متذوقي الفن والادب والنقاد على السواء: هل الزرافة المحترقة في نهاية المطاف فنون أم جنون؟! لا بد من اجابة واضحة بعد كل ما قيل أعلاه فهنا لم يعد متسع للحياد أو اللاموقف. وخلاصة الامر أن "فهم" اللوحة وادراك جوانب رؤية الفنان التي قد تبدو غرائبية لا منطقية خارجة عن اشتراطات الواقع هي في الجوهر تستند الى تحليلات واقعية منطقية. واذا كانت السوريالية هي مرحلة الوصول الى ما وراء الواقع كما أسلفت، فإن فهم السوريالية في تجلياتها الدالية تحتاج بلا شك الى منظومة تحليل واقعية منطقية! وهكذا يبقى فهم اللوحة والاحساس الوجداني بها كما ينبغي من قبل مبدعها ومنظومته الفكرية شيء لا بد منه باستعمال أدوات الفنان التي ابتكرها.

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة 5/3/2010.
عزيزي القاريء، فيما يلي رابط المقالة في الملحق الثقافي لصحيفة الدستور ورابط الصفحة الكاملة للاطلاع وحفظ النسخة.
 
دالي: السوريالية أنا - الدستور الثقافي
 
رابط الصفحة الكاملة - الدستور الثقافي