الثلاثاء، أكتوبر 19

لغة التواصل الصامت في عالم الوحدة


"من يؤنس السيدة" لمحمود الريماوي

لغة التواصل الصامت في عالم الوحدة

اياد نصار

* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم الثلاثاء 19/10/2010


تقدم الرواية الأولى للقاص والصحافي محمود الريماوي، "من يؤنس السيدة" التي صدرت العام الماضي عن "دار فضاءات" في عمّان بناءً روائيا جذاباً في بساطته الشكلية من حيث الاحتفاء في جو تشيكوفي بتفاصيل حياة الانسان العادي، التي تستحق أن يُكتب عنها، بحيث تصبح القضايا الكبرى في الظل، لكنها باقية لا تمحى من الذاكرة، وتؤثر بشكل جسيم في حياتنا، بل وترسم مصيرها، ومن جانب آخر، تركيزه على الجانب التأملي لعالم النفس الداخلي، التي تعيش صراع الوحدة، واستيعاب الدروس في ختام تجربة حياة طويلة، بما يكتنفها من التفكير العميق في معنى حياة الانسان الموزعة بين الحاضر والماضي والمستقبل لشخصيتين رئيسيتين، وبطلة أخرى من نوع آخر، لا تقل أهميتها في الرواية عن البطلتين الأخريين، ألا وهي السلحفاة، التي تصبح محور الاهتمام طيلة الرواية. ويبدو الانشغال واضحاً عبر فصول الرواية العديدة بالبحث عن طرق التعبير والتواصل الأكثر فعالية.



يقوم بناء الرواية على تعدد الاصوات السردية، وخصوصاً ذلك الصوت الذي يأخذ فصلا قصيراً، لكنه في ظني من أكثر الفصول امتاعاً، وهو الذي ترويه السلحفاة ذاتها. تكمن أهمية الرواية في تناول حياة الانسان العادي، وهي في هذه الحالة وعلى نحو ليس مألوفاً كثيراً، امرأة عجوز سبعينية تدعى حسيبة أم يوسف، في إطار محيطها اليومي البسيط الذي تملأ جانبا كبيراً منه جارتها ورفيقة عمرها أم عوني، وذلك الحاضر الغريب المتمثل في السلحفاة، التي تكاد تعكس صورة البطلة إذ تنظر الى نفسها في المرآة.


يقوم السرد على توظيف البحث في أعماق النفس البشرية أكثر من انشغاله بالأحداث الكبرى التي تشكل مفاصل الحبكة المألوفة. وإذا كان بعض النقاد يعتبرون ذلك نوعا من السرد الثقيل الذي يتبع نسقاً هادئا بطيئاً، إلا أن تداعي الذكريات وحوار الشخصيات يغوصان في المعاني الكبيرة لأحداث كبرى عصفت بالمنطقة، وغيرت من سيرة حياة أبطالها وطموحاتها وأحلامها الضائعة. تفتتح الرواية باقتباس من مجموعة قصصية سابقة للمؤلف. يتضح في هذا الاقتباس استغراب الراوي من سلحفاة بطيئة تستطيع أن تكبح أشواقها، وتضع قناعاً صلداً لضميرها الشفاف. ويبدو أن المؤلف يواصل ارتياد ذلك الأفق الذي سبق أن قدمه في مجموعات قصصية سابقة مثل "رجوع الطائر" و"سحابة من عصافير" ليؤكد أننا نستطيع في خضم الحياة أن نعيش تجربة تعلم فريدة من نوعها، من كائن فريد حول معاني الصبر واختمار التجربة والدأب وتنمية أساليب مواجهة الحياة.


يضع الراوي القارئ في قلب الحدث بدون مقدمات، بتقديم شخصية البطلة مباشرة في أولى كلماته: "السيدة السبعينية بالكاد رأت سلحفاةً في سنيِّ عمرها الطويلة". يتضح في ما بعد أن هذه العلاقة المفقودة لسنوات طوال بين المرأة والسلحفاة، كان يمكنها أن تغيّر من مسرى حياة المرأة في ما مضى ومرّ بها من تجارب، بدلالة ما سيجري للمرأة من تطور في وعيها، وبداية إدراك عميق لفلسفة الحياة بعد الرؤية الأولى؛ سلحفاة تدب من غير أن ينتبه لها أحد للدلالة على انشغال الآخرين بهمومهم ومشكلات حياتهم، ونقد جانب مهم من جوانب الحياة المعاصرة المتمثل في عدم المبالاة والانشغال بالذات على حساب البيئة والآخرين، حينما يعيش الإنسان في وسط لا يعيره اهتماماً، فتمر التفاصيل والجزئيات عابرة مجهولة، فلا وقت للإنسان ليتأمل فيها مما يوحي بنقد السلوكيات المعاصرة.


تعقد الرواية مقارنة بين بطلتها الانسانية، وهي السيدة السبعينية، وبين بطلتها الحيوانية، وهي السلحفاة، فيما ينطوي على نقد لعالم الانسان. تبرز السلحفاة كنقيض للإنسان تكشف عريه وضعفه وخوفه وشكوكيته. فكما يقول الراوي فإن السلحفاة مخلوق صغير "يدبّ ببطء واستقامة نحو هدف غير معلوم، لا يلتفت الى الوراء كحال البشر وبعض الحيوانات، وبدا هاربا من خطر يكمن وراءه، دون أن يلوذ بشيء غير اندفاعه الى الأمام". في حين أن السيدة تسير هائمة بلا هدف محدد تواجه خوفها وضعفها ووحدتها بالعودة الى الماضي وذكرياته.


تبرز الراوية أهمية الاتصال وأدواته ولغته، ليس بين البشر وحسب، بل بين البشر والحيوان. ولعل الفصل الذي ترويه السلحفاة حول شعورها بالوحدة، وافتقادها الى أمها، والخوف الذي تعيشه بين أقدام البشر، يثير في النفس مشاعر التعاطف والتفهم. أما أم يوسف فلم تكن تعجز في الماضي عن مناداة أي حيوان أو طير باستخدام نداء صوتي ما، بل كانت عندما يفشل صوت ما، تلجأ الى نداء صوتي آخر. وحين تصمت السلحفاة ويسود البيت سكون، تقلق أم يوسف من أن ضيفتها تأسرها معها بهذا السكون، وهي التي تأملت أن تؤنسها، فالسلحفاة في نظرها صارت مثل طفلة صغيرة وحيدة، وهي اشتاقت لتلعب دور الأم. يبدو الاتصال هنا في أرقى درجاته حينما تهم أن تحتضنها كالأم، بل وتمارس دور الأم حينما تقف أمام السلحفاة وتمشي ببطء كي تتبعها مثلما فعلت عندما كانت تعلم أطفالها المشي.


تكتشف أم يوسف أنها يفوتها الكثير لتتعلمه في طريقة تواصلها مع هذا الكائن على رغم كل خبراتها وتجاربها. وقد سلطت الرواية الضوء بشكل واضح على مفهوم مهم في معنى التواصل، مفاده أن لكل إنسان أو حيوان أسلوباً للتواصل، ويجب عدم التقليل من فهم الأشياء الصغيرة البسيطة حولنا. تسأل حسيبة السلحفاة بابتسامة، فتهز السلحفاة رأسها ويلمع بريق في عينيها الناعستين. بالنسبة الى حسيبة هذا البريق يمثل بريق الحياة والاستجابة: "أهل الحارة لا يدرون شيئاً عن السلاحف". لكن الأمر أعمق من ذلك، فهم لا يعرفون شيئاً، ولكنهم يتفلسفون ويثرثرون حول كل شيء يخطر ببالهم. وسيثيرون كل ما أمكنهم من أسئلة تتخيلها عن ماهية حياة السلحفاة ليس حباً في المعرفة بل لقتل الوقت في حياة رتيبة مكرورة.


تهتم الرواية بالتأكيد على لغة التواصل في الحي، ليس بين السيدة والسلحفاة وحدهما، بل تقدم نماذج من علاقات الجيران وتوتراتها الصغيرة وتكتيكاتها الغريبة. عندما يأتي ابنها ماجد وعائلته لزيارة السيدة، فهناك مشاعر خفية من عدم الارتياح ما بين زوجة ماجد وحماتها، في حين تتسم علاقة السيدة حسيبة بجارتها المسيحية أم عوني بالدفء والقوة والصدق، مما مكّنها من أن تصمد ما يزيد على سبعة وعشرين عاماً. وتكاد تعوضها عن حضور أبنائها العابر في حياتها في هذه السن. "الأولاد يأتون عندما يأتون زواراً، ولا يلبثون أن يرجعوا مهرولين الى بيوتهم". تنادي السيدة حسيبة على جارتها باعتبارها مثل ابنتها، ولكن الجارة تعترض وتقول لها إنها قد أصبحت جدة في الخامسة والخمسين، وتحيطها بذراعيها وتقول لها نحن أختان على دين المحبة والنية الصافية.


يقدم الراوي ملامح شخصية السيدة ببطء تدريجي للقارئ يناسب بطء إيقاع الحدث، وخصوصاً أن بطلتي الرواية الرئيسيتين تتصفان بالبطء المتوقع منهما: السلحفاة والسيدة. تقيم الرواية علاقة مقارنة بينهما لإبراز أوجه الاختلاف والتقارب، لكنها تعقد اتصالا روحيا بينهما، فعندما تتوقف المرأة تتوقف السلحفاة، آنذاك يحدث أول اتصال، وتفكر السيدة عندذاك في حاجتها الى من يؤنس وحدتها. يساور المرأة شعور أن حياتها على وشك التبدل، وأنها لن تكون وحيدة بعد اليوم مع مخلوق لن يزعجها بصوته أو بحاجته للطعام والشراب دائماً.


يحس القارئ بذلك الاهتمام من الكاتب بتجسيد الانطباعات الأولى، واللقاءات الأولى، وما تتركه في النفس من أثر. وتقدم الرواية مقاربة ممتعة وشيقة لتفاصيل اللقاء الأول بين السيدة والسلحفاة. تحول اللقاء فرصة لاستعادة الذكريات. وصار الأمر أشبه بالذاكرة التي تشحن من جديد بعدما كانت فارغة إلا من صور وترجيعات قديمة. سرد دقيق يهتم بتفاصيل الأشياء، وينقل البعد النفسي المتمثل في أحاسيس الشخصية ومخاوفها وهواجسها، ويخلق انطباعاً حول التوتر الذي يهيمن على العلاقة بينهما. كما ينقل السرد مشاعر الخوف والرهبة والاستيحاش التي أصابت السيدة عندما خرجت السلحفاة من مكانها وهي تصلي، ومشاعر الفزع التي انتابتها.


تتميز الرواية بقدرتها على سبر غور شخصية السيدة أم يوسف وإبراز احتياجاتها الإنسانية النفسية التي فقدتها خلال رحلة العمر، وتلقي الضوء على الشعور بالاغتراب والعزلة والضياع والوحدة الذي تعاني منه. ولكن الأهم هو ربط مشكلاتها الناشئة عن الفراغ والعزلة وغياب الطمأنينة بمشكلة النكبة والتشرد من فلسطين وما نتج عنها من فقدان الأماكن والأصوات وسلام الروح. ونراها في الوقت نفسه مشوشة الذاكرة، فلا تفرق بين ما سمعته وبين ما رأته، تسير مشتتة الذهن لمجرد التجوال والتقاط الأخبار من غير غاية لإبراز الحاجة الى التواصل الإنساني.


للرواية قيمة توثيقية شعبية مهمة للقرية الفلسطينية، إذ تضعنا في الجو عشية النكبة في عام 1948 وتفاصيل دخول العصابات اليهودية للقرى الفلسطينية وبدء عملية التهجير من قريتها (بيت نتيف) الى (بيت أُمّر) الى مخيم (عقبة جبر) بأريحا الى مخيم الحسين في عمان: "..لقيت أكبر ترويع وأعظم كراهية من أشخاص غريبي الوجه واليد واللسان". وهكذا وجدت السيدة نفسها لاجئة. هذه الكلمة التي تكرهها ويقشعر لها بدنها وتعدها صفة ذميمة طال عهدها مثل معاقة أو مريضة. كما تصف الرواية طقوس الفلاحين في فلسطين ما قبل النكبة في استخدام ما كان يسمّى راجمات الألغام، وكذلك الموكب الصوفي برجال العدة وراياتهم الخضراء من قرية السيدة والقرى المجاورة حين يخرجون الى مقام النبي بولس للاستسقاء وهم يحملون الدفوف ويقرعونها ويتمايلون بالأدعية من الضحى الى المغيب والبنات تسير خلفهم تقلدهم وهن يأكلن الخبز بالسمن والسكر والقطين. ثم ينتظرون نزول المطر وهم يشعرون بالسعادة أن السماء كانت أقرب اليهم. يلعب الماضي دورا كبيرا في الرواية بالنسبة الى الشخصيات، فنعود بالذاكرة الى ماضي السيدة حينما كانت طفلة في فلسطين قبل النكبة في عام 1948. لكن الراوي يعمد الى عقد المقارنات بين عالم البشر والحيوان بعدما قُتل الضبع في قرية السيدة عندما كانت طفلة، ليبين المفارقة ويربط مسار حياتها بمسار قضية بلدها: "لم ترَ بعد ذلك ضباعاً ولو من بُعد رأت بشراً أشد سوءاً من ضباع ووحوش، منهم أولئك الذين هجّروها من بيت نتيف تحت حراب البنادق".


تهتم الرواية بإبراز إيقاع الحياة في مدينة الزرقاء وسماتها. إيقاع بطيء رتيب مغرق في الانتظار. بيد أن هناك الروح التعاونية التي تساعد الناس على التأقلم. فالعجوز تساعد في تفلية الأرز والعدس وتكييف بنطلون أو تقصير ثوب، وفي المقابل تقوم أم عوني بكل ما تستطيع من باب المشاركة الإنسانية الوجدانية في الفرح والحزن. الشجيرات المزروعة في داخل بيتها تكسر جفاف الزرقاء وتمتص غبارها. كما تبين الرواية طبيعة رتابة الأشياء ومصير الانسان البائس والمحتم بين خيارات محدودة لا يمكن رفضها.


تتسم لغة السرد بالطابع الشعبي الذي يمزج ما بين الفصيح والعامي المستمد من صميم الواقع الاجتماعي. الكلمات بسيطة مفهومة من واقع أحاديث الناس اليومية في الأحياء الشعبية والزقاق والاسواق. تبتعد لغة الرواية عن التحليلات الفلسفية للتغيرات والأحداث الكبرى التي أثرت في مصير شخصياتها أو المدينة التي تعيش فيها. لكن المقارنات والمفارقات التي تجسدها ببراعة تدفع القارئ الى التفكير فيما وراء السطور وإدراك تأثير القضايا الكبرى على الإنسان البسيط. لغة الحوار واقعية عادية مألوفة بما تشتمل عليه من توظيف للأمثال والمقولات الشعبية وتضمين المفردات التي تشير الى أسلوب الحياة في زمن ماض قريب.


رابط المقالة بجريدة النهار



هناك تعليقان (2):

  1. أخي العزيز اياد نصار

    كما هي العادة جهد تستحق عليه التقدير، لمحمود الريماوي القدرة وببراعة على الفصل بين لغة المقال الصحفي واللغة القصصية في القصير منها ثم هذا الإنفلات الحذر والخجول كما اعتقد شخصيا نحو اللغة الحرة والبسيطة التي صاغ بها هذه الرواية...

    تقديري ومحبتي لك

    ناصر الريماوي

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا صديقي العزيز المبدع ناصر الريماوي على كلماتك اللطيفة كطبعك. أحييك على نشاطك الدؤوب في التواصل مع الابداع أولاً، ومع الادباء ثانياً رغم وجودك على تخوم الصحراء. أرجو أن نلتقي قريباً، وأتمنى لك المزيد من النجاح والانتشار

    ردحذف