الجمعة، يناير 15

هذيان امرأة مجنونة



هذيان امرأة مجنونة


قصة قصيرة
اياد ع. نصار

لم يكن من السهل عليّ إقناعه بالفكرة. لديه نزعة فطرية تثور تلقائياً كلما اختبرتها فيه. منذ أسبوع وأنا أحاول معه. يقتلني كعادته بمواعظه. عادل عنيد وكثير الكلام. يتصرف كمن يظن أن لديه حقاً أن يسيطر على إمرأة مثلي. كنت خائفة من مجرد التفكير بالامر. أطرد الفكرة من رأسي، فأجدها أمامي كلما جلست وحدي. قاومت إرثاً ثقيلاً كان يمنعني أن أفكر بالامر. خفت من مجرد تخيّل النهاية. ولكن الاسبوع الماضي أتتني لحظات شجاعة غير عادية. قلت لنفسي سأخبره وليكن ما يكون. لا أظن أن عادل سيخذلني. ولكن سرعان ما شعرت بالتردد. أعرف نفسي شكاكة .. آه.. وخرجت تنهيدة حارة من صدري. أعرفه. لن يوافق. سيفسد كل شيء، وسأندم أنني فاتحته بالامر. ولكني أحتاجه لكي يتصل بهم ويطلب منهم الحضور.


كم أنا بائسة. صدق حدسي. أشعر بالندم أنني صارحته. كتمت الامر في صدري شهوراً عدة، ولكنني لم أعد أطيق التحمل أكثر من ذلك. لقد حول عادل المسألة الى هموم أرقتني والى صداع يكاد ينفجر منه رأسي.


غيوم العصر تهرب بصمت مثل بقايا ثلوج متناثرة تذوب وتتلاشى دون أن يحس بها أحد. تهب نسمة قوية تحرك أوراق الشجر العالية، تتساقط أوراق بنية ومصفرّة ميتة على الارض. تقع من حولي فينقبض قلبي. تدور كالدوامة ثم تستقر في الزوايا. كم هي قاسية رؤية الاحياء يموتون بكل هدوء وصمت ولا يحس بهم أحد. حطمني صمت الناس المريب ونسيانهم. الى متى نموت في صمت مثل هذه الاوراق الذابلة التي تسقط؟ غداً ربما يسمع الناس صوتي ، وربما يقرأ العالم نقطتي في آخر السطر بلون الدم القاني.


كل شيء يبدو صغيراً في الاسفل. تبدو الاشياء نُقطاً لا معنى لها. هنا أشعر بالحرية. أشعر أنني أقرب الى السماء. فهل تسمعني يا ترى؟ كم ناديت وبكيت في ليالي البرد والقهر ولم يسمعني أحد. البشر المتجمعون في الاسفل يبدون صغاراً من هنا. لا أرى ملامح وجوههم، ولا أرى ما يدور في عيونهم. هل يملؤها يا ترى الخوف والترقب؟ أم لا تعرف سوى النظرات الباردة المتشفية؟ ليقولوا ما يريدون. منذ متى كانوا يهتمون بنا أو لأجلنا؟


خمس سنوات وهو مقعد طريح الفراش لم يخرج من غرفته. فلماذا يهتمون الان؟ الامر ليس الا نوعاً من الفضول. تعبت وأنا أراجع لأجل معالجته بدون نتيجة. ليس سوى حبوب ومهدئات. كلما نفدت يعطوننا غيرها. لم يمكث الموظف سوى ربع ساعة. ملأ نموذجاً وطلب العديد من الاوراق والصور. دخت أنا وأمي في سبيل إتمامها. وفي النهاية دنانير معدودة بالكاد تكفي أبي ثمن سجائره الرديئة التي تملأ رائحتها البيت. كم أكرهها. صار سقف الغرفة أصفر اللون من دخان رمادها. يسعل ويتحشرج صدره كلما أشعل سيجارة. أصابعه مصفرة وأسنانه صارت بنية اللون. كل يوم أرى أبي يذبل. لعله يفرغ حزنه المكبوت في حرق السجائر والعبث في الرماد في المنفضة أمامه. لا أعرف كيف يحس في داخله. لم يبق له سوى إجترار الذكريات في صمت. نظراته الحزينة تقتلني من الداخل.


لا أعرف كيف أنهيت السنة الاولى. البيت ضيق مثل قفص. ثمانية أفراخ أنا أكبرهم. بيت صغير قديم متهالك على أطراف المدينة ليس فيه أكثر من قوت يوم. خبز وماء ودرنات يابسة. عندما تقدمت لامتحان القبول أحسست أنني لا أنتمي الى هذه الدنيا. أسئلة عدة عن مقاسات عرض وارتفاع الشبابيك والسقف والابواب وأبعاد حوض الاستحمام والمجلى في المطبخ! خجلت أن أقول للمهندسة التي كانت تمتحنني أنني لا أعرفها. إرتبكت .. كيف أجيب عن أشياء أسمع بها ولا أعرفها .. لا توجد هذه الاشياء في بيتنا ولم استخدمها في حياتي. شعرت أنه لا مستقبل لي. كيف سأخطط بيتاً حديثاً أو بنايةً أو قصراً وأنا لا أعرف أبسط الاشياء فيها. وفرت على نفسي رحلة معاناة ستكون طويلة. وضعت القلم وخرجت. نادتني وقالت لي: ما بك؟ لماذا لم تكملي الامتحان؟ بكيت وبقيت صامتة. قلت لها أرجو أن تساعديني أن أدرس التمريض. على الاقل عندي خبرة في رعاية أبي. واذا ضاقت بي السبل ولم أجد وظيفة، سأخدم أبي في البيت.


لولا البعثة لما درست التمريض. بالكاد تدبرت أمي مصروفي وثمانية أفواه تنتظر لقمة الطعام. لا أعرف كيف نجحت في السنة الاولى. لا أدري ماذا سأفعل في هذا الفصل. لقد مر أسبوع على بدايته وليس لدينا شيء. إذا رسبت سيسحبون البعثة مني ويطالبونني أن أدفع ثمن الساعات التي درستها. لا أعرف ماذا سأفعل. باعت أمي أساورها الاخيرة التي بقيت لها. كانت تتمسك بها في السنوات الماضية. كانت بالنسبة لها أكثر من مجرد ذكريات. رأيت حزناً عميقاً في عينيها يوم أن باعتها. باعت معها بقايا باهتة من أيام فرح مضت بلا رجعة.


يكثر الناس في الاسفل. يتطلعون اليّ باستغراب. بعضهم يصرخ ويتهكم. تنزل دمعة من عيني وأنا أحدق في الارض. هل سيكون السقوط مؤلماً؟ هل ستتحطم أضلاعي أم تتكسر قدماي؟ ماذا لو وقعت على رأسي؟ يا الهي ما أقسى الامر. شعرت برعدة تجتاح بدني كله. لكنها صرخة ودماء وأسرة مفجوعة ثم ينتهي كل شيء. فكرت ماذا سيقول الناس عني؟ ستكثر الاقاويل وسيقولون عني مجنونة. لن أكون هنا لأكترث بما سيقولونه وما ستكتبه الصحف عني. لكني أفكر في أبي المسكين. من سيرعاه؟ وماذا سيحصل له عندما يعرف؟ أخشى عليه من الصدمة. أفكر في وقع الصدمة على أمي وإخوتي الصغار. ستكون كارثة وربما يقتلهم الحزن. ذكرى مرعبة ستحطم نفوسهم مدى الحياة. ولكن ما قيمة حياتي البائسة؟ تذكرت الاوراق التي سقطت في صمت يوم أمس.


نظرت الى الخلف.. رأيت عادل يقف بعيداً على التلة خلف المبنى. عرفته منذ سنة تقريباً. لمست إهتمامه بي. لم أبح له بما شعرت به. منعتني عزة نفسي وخجلي. لكنه صار رفيقي. عندما صارحته بما أفكر به، ثار وغضب كالبركان.. لكنني كنت مصرة.. هدد أن يتصل بالشرطة لمنعي من ذلك. قلت له: بل أريدهم أن يأتوا ليشهدوا نهاية مأساة. قال: ولكن مأساة أخرى ستبدأ بعد ذلك. قلت: لست أنانية ، ولكن الموت لمرة واحدة أفضل من الموت البطيء. لا أطيق أن أخذل أمي وأحطم حلمها.. حلمها الذي باعت أساورها لأجله. وأبي كيف أستطيع أن أنظر في عينيه؟ ألا يكفيه ما به؟ أشعر أنني مشوشة الذهن. لا أعرف ماذا أفعل. كيف يمكن أن أوقظ مدينة تنسى أبناءها يموتون في صمت؟ البناية مرتفعة وأشعر بالتعب والارهاق. قدماي لا تحملانني من شدة التعب.


سمعت صوت سيارات الشرطة ورأيت اضواءها الخاطفة المتقافزة. رأيت سيارات الاطفاء تقف بالاسفل. نزل رجال كثيرون وأخذوا يفترشون الارض فرشات كبيرة، ويرفعون سلماً من شاحنة على جانب المبنى العالي. سمعت أصوات رجال يصعدون الدرج. رأيت واحداً يقترب مني وهو يحمل بوقاً. كنت على حافة إطار السور العلوي. صرخت في وجهه كي يتوقف. وقف مكانه وأخذ يطلب مني الهدوء. شعرت بتوتر كبير.. تزاحمت أفكار في رأسي المتعب دفعة واحدة فأحسست أنني مضطربة. شعرت بخوف يملأ صدري. أصوات المئات المتجمعين في الاسفل تخترق أذنيّ، فأشعر بالغضب والدوار. أخذ الرجل يقترب مني شيئاً فشيئاً. صرت أصرخ كي يبتعد وأهدد بالقفز عن السور. توقف مكانه. ولكنه إستمر في حديثه محاولاً إقناعي بأن أقلع عن الفكرة. أخذ يقترب أكثر. صرخت عليه كي يتوقف والا سألقي بنفسي الى الاسفل. كانت قدماي ترتجفان. عندما نظرت الى الاسفل شعرت برهبة عظيمة تجتاحني مثل إرتعاشة في يوم قارس. غامت عيناي وأنا أنظر الى الناس تحتي. تحول المنظر الى أمواج عاتية في بحر متلاطم. غافلني الضابط وأراد أن يهجم علي. اضطربت في مكاني. إهتزت قدماي المرتجفتان. خرجت مني صرخة مدوية كالرعد ورأيت بقعة حمراء كبيرة تحتي. كانت خصلات شعري متناثرة حول رأسي.


إنتفضت في مكاني. صرخت. رفعت رأسي فجأة بلا وعي عن المخدة. كان الظلام يملأ الغرفة وإخواني يغطون في النوم من حولي مصفدين كالسمك بالكاد تتسع لهم الغرفة. فجأة أحسست بيد أمي الحانية وهي تمسح وجهي بيدها المبلولة. كانت تتمتم بكلمات لم أفهمها ولكنني لمحت أثر الاساور التي كانت ذات يوم في معصمها.


- ما بك طوال الليل وأنت تتقلبين مضطربة؟


- لا أعرف يا أمي. يبدو أنه كان كابوساً مريعاً.

* اللوحة أعلاه للصديق الاديب والفنان التشكيلي السوري بشار زيد نوفل
** نشرت القصة في جريدة الدستور الاردنية / الملحق الثقافي الاسبوعي في عدد يوم الجمعة الموافق 15/1/2010. يمكنك عزيزي القاريء رؤية الصفحة الكاملة على الرابط التالي:
جريدة الدستور - الصفحة الكاملة

كما يمكنك قراءة القصة في موقع الجريدة من خلال الرابط التالي:
جريدة الدستور - هذيان امرأة مجنونة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق