الجمعة، أكتوبر 3

بركات

بركات
قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

تطلع في الوجوه واجماً بخوف وترقب. بقي واقفاً في مكانه خائفاً أن يتقدم. خشيَ أن تكونَ مملكةُ أحد من النزلاء الدائمين فيحلُّ عليه غضبٌ منه. قال سميح بصوت مرتعش فيه شيء من الرهبة: مرحبا. رد التحية عدد قليل منهم. رأى فسحةً قريباً من الزاوية فمشى اليها ووقف هناك. كانوا ينظرون إليه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، يتفرسون فيه.. وهو ينظر اليهم بتوجس. مع كل قادم جديد يسود الجو ترقب ووجوم وخوف متبادل خشية أن يكون غريباً مدسوساً. بعد فترة من النظر والتأمل في أرجاء المكان، تعب من رتابة المنظر. أرخى ساقيه وأخذ ظهره ينزلق ببطء على الحائط حتى وصل الارض وجلس. بقي ينظر في وجوه الآخرين ويتفادى النظر في عيونهم. كلما إلتقت عيناه بعيني أحد من النزلاء أشاح بنظره بعيداً. رائحة الدخان ثقيلة. والرماد يملأ المنافض القديمة المصفرّة. السواد متحجر في أطرافها وزواياها كأنها من عهد الرومان! مجموعةٌ تلعبُ الورق في الزاوية الاخرى فلم تُعِرْ الامرَ إهتماماً. شعر بضيق. مضتْ برهةٌ وهو جالس في مكانه بلا حركة سوى من زفراته الحارة وأفكاره السوداء فأحسَ بالاختناق. حفزته رائحةُ الدخان أن يتناولَ سيجارةً من جيبه. وضعها في فمه وتطلع في الوجوه حوله كأنما يعلن عن تمرد قبل حدوثه منتظراً ردة فعل. أشعلَ السيجارةَ ونفث دخانها بزفرة غضب مكتومة. أحس بيدٍ تتسللُ خلسةً لتلمس كتفه. نظر إلى يساره.. رجل في نهاية الخمسينات ترتسم على وجهه هموم الايام.. كثُّ الشعر.. غزا الشيبُ رأسه. أومأ برأسه وأصابعه يريد سيجارة! تناول واحدة وأعطاه إياها. كانت أصابعُه مصفرّةً من الدخان. ندّت عن الرجل ابتسامة محروم تعبيراً عن امتنان فبانت من بين شواربه الرمادية الكثيفة أسنانٌ نخرة سوداءُ!

تملأ السيارات الطريق كالسيل الهادر. تتحرك ببطء شديد. استسلم الناس للأزمة الخانقة فلم تعدْ تسمعُ صوتَ بوقٍ يبدد سكون الليل. لكن الليلةَ ليست ككل ليلة. إنها ليلة العيد. المحلات مليئة بالمتسوقين ، والشوارع بالمتسولين! الاضواء تنيرُ ظلام الليل. كل الطرق مزدحمةٌ في الجانب الغربي من المدينة. أوقف الناس سياراتهم أينما طاب لهم فكل شيء الليلة مباح!

جلس عدد من الرجال والشيوخ في أماكنهم وهم يتلفّعون معاطفَهم وعباءاتِهم من البرد تحت شادر ذي مزيج من الالوان الحمراء والصفراء والبرتقالية نُصِبَ تحت أشجار الزيتون لاستقبال المعزين. ممر مفروش بالسجاد الاحمر يصل بين الطريق والشادر كي لا تتسخَ أحذية الضيوف. تهبّ الريح قوية، ويصفر صوتها حين تتسلل بين قطع قماش الشادر. اختراع ابتدعه الوافدون ترى فيه ألوانَ قوسِ قزح والالوان الحيادية لينفع لكل المناسبات!! كانت أضواء الشادر ساطعة تنير كل شيء فتحيل الليل نهاراً. عدد كبير من السيارات وقف بشكل عشوائي على جانبي الطريق. طريق ترابية ضيقة موحشة ومظلمة تحيط بها الاشجار من كل جانب.

يجلس شادي وسط المعزين لكنه ليس بينهم! شارد الذهن يلاحق شطحات خياله وأفكاره. يعرف أنه يختزن في ذاته كماً هائلاً من شك ديكارت! رجع يفكر في ذلك المسكين. رن الهاتف بين يديه. فرح بأعماقه لهذا الصوت الذي انتشله من ضياعه. رأى اسمها على شاشة هاتفه.
- الو كيف الجو عندك؟
- موقف عادي جداً سهى. لم يعدْ يثيرُ فينا الحزن أو الدموع.
- ربما لم تعد لدينا دموع لنذرفَها
- أعتقد أننا إستهلكنا دموعنا في موت ديانا ودودي!!!
- أخبرني ماذا لديك؟
- لا شيء أتأمل في وجوه الآخرين!

عاد إلى جو الوجوم والصمت. يجلس إلى جانب شادي رجلٌ في أواخر الاربعينات وقد وضع فمَه في أُذنِ جالسٍ آخرَ يجلس إلى يمينه. مضى عليهما مدةٌ على هذه الحال. يبدو أن بينهما حواراً طويلاً. تنفلتُ بعضُ الجمل من حديثهما السري! كلامٌ مبعثر كالالغاز عن المال والتجارة والسيارات! المقاعد أمامه خاليةٌ. بدأ الناس بالتوافد. جلس عددٌ من الرجال والشيوخ أمامه. مضت فترة تبادلوا فيها النظراتِ في وجوه بعضهم وتأملوا في الشادر المعلق بألوانه وردّدوا عبارات المجاملة المكرورة حزناً على موته. يقف شاب يبدو عليه الحماس ويستحوذ على تفكيره واجب الوعظ. شاب في مقتبل العمر يلبس ثوباً داكن اللون يبدو عليه أنه تخرج حديثاً. يستغل المناسبة والصمت في حضرة الموت ليلقي موعظة بكلمات لا تخلو من السجع. يبدأَ الملل بالتسلل إلى نفوس الجالسين. بعد قليل كان الكل مشغولاً بأحاديثهم الجانبية.

لم يعد يتحدث عنه أحد. لكن شادي كان مشغولا بصديقه القديم. بركات في أواسط الثلاثين من العمر. تزوج منذ ستِ سنوات من موظفة بسيطة تعمل محاسبةً في البلدية. يعمل في محل للتصوير يملكه. واجهته ظروف قاسية مريرة في بداية حياته. لم يكن يملك سيارة فقاسي الامرين من زحمة المواصلات. ساعدته زوجته على مواجهة متطلبات الحياة في بداية المشوار. لم تكن تمضي السنة من غير أن تأخذ شيماء قرضاً أو تشترك بجمعية لتحصل على سلفة تعينه بها على ظروف لم تكن بالحسبان. ولكن عمله في السنوات الثلاث الاخيرة تحسن كثيراً وازداد زبائنه. بدأ ينتقل من تحت الخط الاحمر إلى فوقه. أخذ يفكر بالتوسع فأخذ قرضاً ورهن المحل. بدأ يتوسع بشراء المحل الذي بجانبه واشترى أجهزة جديدة وغيرّ الديكورات. سارت الامور على أحس ما يرام. وانتقل من تحت الخط الاخضر إلى فوقه! واستطاع أن يسدد قرضه خلال الاعوام الثلاثة التي مضت.

- بركات سانتظرك عند الجسر. أرجوك لا تتأخر عليّ. يجب أن أعود للمستشفى
- لماذا لا تنتظرني في مكتب الجمعية؟ أريد أن أسدد دفعةً من ثمن الارض بالمكتب
- لقد تركت الدوام في المكتب. لم يعد مجدياً. عندما أراك سأخبرك
- وعملك بالمستشفى؟ هل تركته؟
- لا ، ما زلت أعمل فيه. ولكن عملي يبدأ اليوم مساءً. وردية ليلية طوال الاسبوع
- وكيف سآخذ الكمبيالات من المكتب؟
- سأحضرها معي مع وصولات الدفع. لا تقلق!
- سأنتظرك عند الجسر، لا تتأخر.

أخذ معه دفعة نقدية ليسدد من ثمن قطعة الارض التي اشتراها من الجمعية بالاقساط. وصل الجسر ووقف على جانب الطريق ينتظر. وصل سميح بسيارته الفارهة الجديدة. يعرفها من لونها فقد رآها معه المرة الماضية. عندما كان يداوم في الجمعية سكرتيراً لم يكن معه سيارة. لقد انتظره بركات عدة مرات عند باب الجمعية فكان يشاهده دائماً ينزل من الحافلة. أعطاه الكمبيالات والوصولات وأخذ منه المبلغ ووضعه في جيبه. قال له سميح إنه افتتح وأخوه مكتباً لتقديم الاستشارات والخدمات المالية، وتناول بطاقة من جيب قميصه وناوله إياها.
- لقد أصبح لدينا الان عدد كبير من المستثمرين الذين وضعوا أموالهم لدينا. نشتغل في كل شيء. بورصات.. عقارات.. مزارع أبقار .. مناحل عسل وباصات للنقل!
- وهل...؟ وقبل أن يكمل سؤاله، أضاف سميح:
- منذ أن بدأنا لم تنزل الارباح الشهرية عن العشر!
- معقول إلى هذا الحد؟
- في أحد الأشهر وصلت إلى الربع!
- وهل الامور مضمونة؟
- هناك كثيرون كانوا مترددين مثلك. لقد سددوا إلتزاماتِهم وديونَهم واستبدلوا سياراتهم! لقد وظّفنا محللين متخصصين. أنظر إلى إسم شركتنا على البطاقة. الاسم وحده يدل علينا!
- دعني أفكر بالامر. أحتاج إلى وقت لأقرر.

عاد بركات للمحل والافكار تدور في رأسه. كان متشككاً أول الامر ولكن سميح صديقه ويعرفه منذ فترة طويلة. بدأت بوادر الاحلام تقترب من رأسه فيحس لها صدى في داخله. صورُ مستقبلٍ غامض أخذت تتشكل أمام مخيلته. بقع من ألوان زاهية راحت تملأ حيزاً رفيعاً وسط لوحة رمادية. خطرت له فكرة. سبق أن تحدث معه أحمد عن الموضوع عدة مرات وهو يرفض التصديق. أحمد زميل قديم من أيام الدراسة. اتصل بأحمد وأمطره بوابل من الاسئلة عن الموضوع! التمعت عيناه فرحاً.

في المساء كان يدخن الارجيلة وهو يشاهد التلفاز، ولكن ذهنه شارد. نادى شيماء لتجلس بجانبه. أخذ نَفَساً وعدّل جلسته وبدأ يحكي لها الحكاية. شعر بشيء غير عادي. لم تتفاجأ شيماء كثيراً. أخبرته أن جارتَهم وضعت هي وزوجها مبلغاً من المال لدى شركة ، وكل شهر يقبضون مبلغاً يسددون به قرض البيت الذي مضى عليه عدة سنوات ولم ينته بعد! شعر بركات بإرتياح، فقد وفرت عليه جهداً طائلا كان يستعدّ لاقناعها به. لم يكن من السهل أن تتقبل فكرة كهذه. فقد عانت الامرين في بداية زواجهما وتحرص على راتبها كثيراً!

في الصباح كان بركات يجلس في قاعة البنك ينتظر دورَهُ. وديعةٌ ربطها منذ سنة ونصف. جمعها ديناراً ديناراً كأنه إنتزعها من فم الاسد. احتضن بركات وديعته مثلما يحتضن أطفاله الثلاثة لحظة جاءوا إلى هذا العالم! بقي متلهفاً للقاء سميح حتى جاء المساء.
سمع كلاماً عن آخرين سبقوه بينما يصارع هو في هذه الحياة! سمع كلاماً لم يفهم منه كثيراً عن أسرار وخفايا الفرص الضائعة الكثيرة التي تنتظر من ينتهزها! ما يزال أولاده صغاراً ، ومصاريف الحياة صارت كابوساً. شعر بالراحة مما سمعه. تبدو الامور بأحسن حال والنسب في ازدياد!

بعد سنة صارت الشركة حديث بركات في كل جلساته. لم تكن الشركة لتجدَ أفضلَ منه ليتحدث عنها! بدأت الارباح تدخل جيوبه. كان يأخذها حيناً وحيناً يضيفها إلى رأس المال! لم يبق أحد من إخوته وأقاربه ومعارفه وأصدقائه في العمل إلاّ وذهب معه ووقع شاهداً على العقود! لم يعد هناك شك في نفسه. أخذ يفكر كيف يزيد من استثماراته ويضرب ضربته بسرعة قبل أن تتغير الظروف. كانت جلسة أرجيلة واحدة مع شيماء كفيلة باقناعها ببيع ذهبها. مرت ستة أشهر أخرى وهم يقبضون كل شهر أرباحهم. لأول مرة يشعر بركات بأنه قادر على العيش في مستوى مناسب. لقد زادت طموحاته ورغبته في الثراء. أليسَ من حقه أن يحققَ كل أحلامه بوقتٍ قصير كما يفعل الذين يسمع عنهم؟! كانت زوجته تؤيده وتشجعه وهي ترى عوائد ذهبها تجري في يديها. لم يمض سوى أسبوع حتى كان قد حصل على قرض من كبير من البنك مقابل رهن الشقة والمحل.

ما يزال سميح يتكيء بظهره على جدار سجن التوقيف، وينفث سيجارة من أعماقه. كانت العيون تتفرس فيه فشعر بالخوف. كان يمكن أن يمر يوم الخميس الماضي دون أن يثير انتباه أحد. وكان يمكن أن تمر العملية عادية، ويسحب مليون دينار من حسابه في البنك لولا مكالمة قصيرة حتى كان الرجال يحيطون به ويطلبون منه الحضور معهم! الليلة ليلة عيد والمدينة صاخبة يملأها الضجيج. يرقد بركات في قسم العناية الحثيثة منذ أسبوعين فاقدَ الوعي. أصابته أزمة مفاجئة وهو جالس في بيته يشاهد مسلسلاً عن الحواري القديمة وبطولاتها! لكنه رحل قبل أن يصل العيد.
* اللوحة أعلاه بعنوان "صراع من أجل الحياة" للفنان الاردني المبدع خالد عطية

خالد أصم وأبكم وقد عمل نجاراً وأخذ يقدم لوحات فنية في غاية الابداع دون أن يتحصل على أية دراسة للفنون. ثم قرر أن يتحول للرسم. حيث بدأ منذ عام 1987 بتدريس الرسم لطلبة كلية الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية. حصل في عام 2001 على الجائزة الاولى لمسابقة الفنون من جامعة الشارقة بالامارات المتحدة.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف8:51 م

    السلام عليكم استاذ/اياد
    تعودت منى دائماً ان اقول لك القصة جميلة ورائعة
    اسمحلى ان اقول لك انك كاتب لك مذاق خاص وعندك القدرة على لم هموم واوجاع العالم فى قصة قصيرة.
    تحياتى لك ايه الكاتب المخضرم
    (امال)

    ردحذف