الأربعاء، يونيو 17

مارلين روبنسون.. عودة الابن الضال


بمناسبة فوز روايتها "البيت" بجائزة أورانج للسرد النسائي لعام 2009
مارلين روبنسون .. عودة الابن الضال

بقلم اياد نصار

فازت الروائية الامريكية مارلين روبنسون في بداية شهر حزيران لعام 2009 بجائزة أورانج للسرد النسائي عن روايتها المسماة "البيت". وقد قُدمت الجائزة البريطانية التي تمنح سنوياً لأفضل رواية تكتبها روائية باللغة الانجليزية الى مارلين في حفل أقيم في قاعة الاحتفالات الملكية في لندن. ويأتي فوزها بالجائزة بعد فوز روايتها السابقة المسماة (جلعاد) بجائزة بوليتزر للسرد لعام 2005.

تعد جائزة أورانج التي منحت لاول مرة عام 1996 من أرفع الجوائز الادبية في بريطانيا التي تمنح في مجال السرد النسائي ، حيث تمنح لروائيات من أية جنسية عن روايات كتبنها باللغة الانجليزية وصدرت في بريطانيا في العام السابق بناء على إختيار لجنة التحكيم. وقد منحت عام 2008 للروائية الانجليزية روز تريمين عن روايتها "بيت الطريق"، وفي عام 2007 منحت للروائية النيجيرية شيماماندا نجوز أديشي عن روايتها "نصف شمس صفراء".

ولدت الروائية والكاتبة مارلين روبنسون في عام 1943 في بلدة ساندبوينت بولاية أيداهو الامريكية في أقصى الشمال الغربي المحاذي لكندا. درست في كلية بمبروك التي كانت مخصصة للنساء في جامعة براون ونالت البكالوريوس عام 1966. ونالت شهادة الدكتوراة في اللغة الانجليزية عام 1977 من جامعة واشنطن. أصدرت روايتها الاولى بعنوان "التدبير المنزلي" عام 1980 وروايتها الثانية بعنوان "جلعاد" عام 2004. وقد نالت عن روايتها الاولى جائزة مؤسسة هيمنجواي عام 1981 وجائزة مؤسسة فوكنر عام 1982. وفازت عن روايتها الثانية بجائزة حلقة نقّاد الكتاب الوطني للسرد عام 2004. وتعمل حالياً في التدريس ضمن برنامج ورشة الكتابة في جامعة أيوا.

تؤرّخ روايتها "البيت" التي تقع في 336 صفحة، وصدرت عن دار فرار وشتراوس وجيرو في أوائل شهر ايلول لعام 2008 لحياة عائلة باوتون، وخاصة القس روبرت باوتون وابنته وابنه الكبيرين جلوري وجاك في بلدة جلعاد الصغيرة في ولاية أيوا في فترة الانقسامات الثقافية التي عرفتها أمريكا في الخمسينيات. ونرى فيها أن مارلين روبنسون تعود لذات المكان والزمان في هذه الرواية اللذين سبق أن قدمتهما في روايتها السابقة "جلعاد". وعلى الرغم أن رواية "البيت" تعتبر مكمّلة لرواية "جلعاد" إلا أنها رواية مستقلة تجري أحداثها بالتزامن مع أحداث الرواية الاخرى. وقد تم إختيارها واحدة من ضمن أهم مئة كتاب لعام 2008 من قبل صحيفة نيويورك تايمز، وإختيارها ضمن أهم عشرة كتب مفضلة لدى ناقد الكتب في صحيفة النيويوركر جيمس وود لعام 2008.

تجري أحداث الرواية في بيت عائلة روبرت باوتون عام 1956 وترويها إبنته جلوري وهي في الثامنة والثلاثين من العمر. وفيها يكون صديق والدها الحميم جون آيمز قد بلغ السبعين من العمر. ومن الجدير بالذكر أن آيمز هو الراوي في الرواية السابقة وتجري أحداثها متزامنة مع هذه الرواية في عام 1956.

نشأ باوتون وآيمز معاً في نهاية القرن التاسع عشر وصار كل منهما سر الاخر. وقد إنخرطا في سلك الكنيسة البروتستانتية متأثرين بشيء من تراث حركة المتطهرين البيورتان. وأصبحا رفيقين وسنداً لبعضهما في أوقات السراء والضراء. وللدلالة على متانة علاقتهما فقد سمى كل واحد منهما إبنه بإسم صديقه. وهكذا فإن إبن جون آيمز الذي ولد وقد بلغ والده من الكبر عتياً صار يدعى روبي (نسبة الى روبرت باوتون)، في حين أن إسم الابن الاكبر بين أولاد وبنات روبرت الثمانية هو جون آيمز ولكنه معروف بين الناس بإسم جاك.

تبدأ رواية "البيت" بعودة الابنة جلوري الى بلدة جلعاد لرعاية والدها المحتضر. ويلتحق بها مباشرة أخوها جاك، ذو الثالثة والاربعين، إبن العائلة الضال الذي مرّغ سمعة الاسرة بسلوكه وعاد تائباً بعد غياب عشرين عاماً باحثاً عن ملاذ. يصارع جاك للتصالح مع ماضيه المليء بالمشاكل والالم والفشل في نمط العيش التقليدي. وفيما بدا أنه التئام شملهما الاخير، يسعى جاك وروبرت الى فهم علاقتهما ببعضهما، في حين تحاول جلوري التصالح مع الآمال الضائعة لشبابها. وهكذا يبدو أن جلوري الابنة المؤمنة وجاك الابن الضال التائب يعودان الى بيت الطفولة ليس للتصالح مع بعضهما ولكن لطلب الصفح والمغفرة. تدور في الرواية الكثير من الحوارات حول العائلة، والمسؤولية الاجتماعية، وفجوة الاجيال، والحب، والموت، وغياب الايمان، وعلاقات الاباء بالابناء ، والاغتراب، والمشكلات العرقية، وتأثير الدين في حياة الفرد.

وقد أشادت رئيسة لجنة التحكيم فاي جلوفر برواية روبنسون ووصفتها بأنها ذات طبيعة رقيقة وحكيمة وغنية وذات حرفة عالية. وقد ذكر أحد النقاد بأن روبنسون "واحدة من أبرز كتاب النثر في السنوات الاخيرة التي تطمح أن ينظر اليها مثل الروائي الروسي نابوكوف أو البولندي جوزيف كونراد.

هناك قليل من الحركة في الرواية، الى الحد الذي سماه أحد النقاد سرد خانق وقليل من الدراما، حيت أن الكثير من الاحداث هي استدعاء ذكريات. وأغلب ما يمكن تسميته بالاحداث هي تحركات الشخصيات الرئيسة: جلوري، ووالدها وأخوها جاك حول بيتهم الكبير القديم من المطبخ الى غرفة المعيشة ومن الحديقة الى الشرفة. ويتكلمون أحياناً بتأدب متأنق مصطنع بينما يشغلون أنفسهم في روتين الاشياء الاعتيادية.

تبدع روبنسون في تصوير وقع الحياة في البيت الذي تسيطر عليه الرتابة اليومية للأب العجوز: الصيحات الآمرة للمساعدة في ارتداء الملابس أو تناول كأس من الماء، عدا عن الساعات التي يشتت فيها صوت المذياع أفكارهم، وألعاب الورق، وأباريق القهوة. حتى الاثاث يصبح قاسياً ومتجبراً لأنه يرفض الحركة من مكانه! والتحف الرخيصة العديدة معروضة من باب الاحترام لمقدميها وحسب! تحتفي الرواية بأكثر الاشياء إعتيادية بما يمكن تسميته تقديس اليومي. ولكنها تبرز بأن النثر الهاديء ذي الاحداث القليلة يمكن أن يشتمل على قصص درامية ذات عمق أخلاقي.

أما على صعيد الشخصيات، فتجسد الرواية أبطالها بصورة دقيقة. وإعتبر بعض النقاد أن جاك واحد من أكثر الشخصيات الروائية جاذبية في الادب الحديث. طفل شقي منذ الصغر. متشرد، وهارب من المدرسة، وفاشل لا يتقن صنع أي شيء ولا يستقيم في مهنة واحدة. مدمن للكحول، وسارق دخل السجن فترة من حياته. وهو على خلاف دائم مع المحيطين به ومع والده التقليدي، رغم أنه الاقرب الى قلب والده. وقد توّج عاره بأن صادق فتاة شابة من أحد المزارع وتسبب في حملها ولكنه هجرها وطفلها الى مصير مجهول. غادر البيت وهو صغير وغاب عنه سنوات طويلة. بل إنه لم يرجع ليحضر جنازة أمه. ولكنه رجع الان بشكل مفاجيء. ومما يثير الانتباه أن حب أبيه العجوز له لا يتزعزع رغم ما سببه له من ألم لا ينتهي، حيث يعتقد الاب بأن سلوك جاك جاء من إحساسه الغريزي بالاغتراب. تورد الرواية إشارات دينية عديدة حول علاقات الاباء بالابناء. وفي أحيان كثيرة يلجأ الراوي الى إقتباس الكثير من نصوص وقصص الكتاب المقدس بما يعكس جو العائلة وقيمها.

إن شخصية جاك من النوع الدلالي التعبيري فهو عالي الثقافة ولكنه غير مؤمن ويجد أن من الصعب خوض معركة لاهوتية مع والده المتقلب. وحين يعود للبيت فإنه يلبس بدلة وربطة عنق بطريقة رسمية، وهو يستخدم دائماً تعبيراته بحذر بالغ وأدب مصطنع مما يوحي باغترابه عن المكان. ويسعى جاهداً للتأقلم مع عادات بيت الطفولة، ولكن كل مواجهة مع والده تترك أثرا لا يمنحي في داخله. يسعى جاك أن يثبت نفسه، لكنه يتعثر ويعود لحالته الاولى ويشعر بالضيق النفسي الشديد. وفي النهاية يترك البيت مرة أخرى. ولهذا مغزى كبير يتمثل في أن قيم البيت التقليدية القائمة على الخضوع والتدين وإحترام الاباء وتصرفاتهم الفظة وإن كانت تنطوي على الحب فإنها غير قادرة على حل أزمة الجيل الجديد الروحية والمعرفية.

إن إحدى جماليات الرواية هو الحوار بين جاك وجلوري بما ينطوي عليه من القسوة، والمرارة الممتزجة بالحب، والقلق، والتعبير بتلك اللغة البسيطة السلسة المتوهجة التي تستخدمها جلوري. عندما يسأل جاك أخته لماذا تكره جلعاد وترغب في الرحيل، فإنها تقول: "لأنها تذكرني بتلك الايام التي كنت فيها سعيدة". وخلال إعداد الغداء تقول بأنها "تمنت لو أنه كان يعني أكثر بالنسبة لها ولأبيها وأخيها من مجرد أن يحب أحدهما الآخر.. لقد حطم الحزن أباها وأخاها، ولم يكن باستطاعتها أن تقدم لهما أكثر من الدجاج والمرق".

تعتبر الرواية في أساسها قصة عميقة وحزينة لحياة شخصياتها. جلوري حزينة لأنها عادت للبيت بعد فشل ما إعتقدت أنه خطوبتها من رجل تبين أنه متزوج. وتبقى الفتاة المخلصة لواجبها تجاه والدها وتخضع لطلبات طاغية عجوز. يسيطر عليها حزن دفين إذ تخشى أن يكون هذا البيت هو بيتها الاخير، ولهذا تحسد جاك على حريته المتمردة.

"ما الذي تعنيه العودة للبيت؟ لقد ظنت جلوري على الدوام بأن البيت هو منزل أقل فوضى بهذه الكراكيب المبعثرة فيه في بلدة أكبر من جلعاد أو في مدينة ما حيث يكون لها هناك فيها صديق حميم ووالد لأطفالها الذين تتمنى ألا يزيدوا عن ثلاثة... ولن تأخذ معها قطعة واحدة من الاثاث من بيت والدها حيث لا يوجد أي معنى لأي منها في غرف البيت الفارغة المشمسة".

والكثير مما يجري في رواية "البيت" يحل لغز ثورة جاك باوتون واغترابه الروحي. فمنذ سنواته الاولى فقد بدا غريباً بين عائلته التي كانت تتوقع رحيله وقد فعلها. ولكنه بقي أساس حكايتهم. لقد ذهب أخوه الاكبر ست مرات الى مدينة سانت لويس للبحث عنه بلا طائل. بل إن جلوري ما يزال ينتابها أحياناً "شيء من القلق عليه كلما مشى خارج الباب، أو كلما ناداه والده الى مثل تلك النقاشات التي تنغص البال". وخلال سير أحداث الرواية نعرف عن طفله غير الشرعي من علاقته بتلك المرأة السوداء (ديلا) التي يعيش معها مدة ثماني سنوات، والتي هي ذاتها إبنة رجل دين.

يشتبك الاب والابن بالكلام خلال مشاهدتهما لتقرير إخباري عن الشغب العرقي في مدينة مونتجمري في ولاية ألاباما الجنوبية على التلفاز. لقد كانت هناك مشاهد رجال الشرطة البيض وهم يحملون الهراوات ويدفعون ويجرون متظاهرين سوداً. ويسعى الاب لتبديد غضب إبنه ببرود غير مبال بقوله: "لا يوجد ما يستدعي أن تدع ذلك النوع من العنف يزعجك. بعد ستة أشهر لن يتذكر أحد شيئاً مما يجري الان". ويقول فيما بعد بأن "الملونين يثيرون المشكلات لأنفسهم بكل هذه الفوضى". في عام 1956 لم تكن مشكلة العرق تحرك أحداً في جلعاد سوى جاك باوتون. ولهذا يمكن تفسير عودة جاك للبلدة أنه كان في جانب منه ليعرف عن قرب إن تغيرت مواقف البلدة في نظرتها للسود وصار بإمكانه إحضار صديقته السوداء وطفلها لتعيش معه.

مما يعطي الرواية قوتها هو شخصية الاب. فهو رجل عجوز قاسٍ ومتجهم ومغرور يرغب في أن يصفح عن إبنه ولكنه لا يستطيع. وحينما تتدهور حالة الرجل العجوز تنشأ حالة غريبة في البيت. وإذا كان يفترض أن تدعو حتمية الموت المسيطر على المشهد الى الصفح، فإن الاب لا يفعل ذلك. فهو يعرف أنه إبنه لم يعد للابد. يقول شاكياً: "إنه سيبقى هنا لفترة قصيرة ثم يرحل من ذاك الباب". لقد أرادت مارلين روبنسون أن تبين أن الصفح والعفو يجب أن يسبقا الفهم وليس بعده. فعندما تكون قادراً على أن تسامح الاخرين فإنك تستطيع أن تفهم دوافعهم مهما كانت.

في بداية الرواية، يرغب الاب أن يناديه إبنه أكثر من مجرد تلك الكلمة التقليدية الغريبة "سيد" كأن يناديه بابا أو أبي. وفي مكان متأخر من الرواية حينما ينادي جاك أباه بقوله "أبي"، فإنه ينفجر غضباً ويقول: "لا تناديني بذلك. لا أحبها أبداً. الكلمة تبدو سخيفة. إنها ليست حتى كلمة". ويقول كذلك: "لقد عملت دائما عكس ما تمنيته. تماما عكسه. لذلك حاولت ألا أتمنى أو آمل شيئاً أبدا باستثناء الامل ألا نفقدك. ولكن بالطبع فقدناك. لقد كان هذا هو الامل الوحيد الذي لم أستطع أن أضعه جانباً".

في ختام الرواية يبدو جاك وكأنه محكوم عليه بالبؤس دائماً. فهو معذب شقي في طفولته، وغير سعيد ومتمرد يعاني الاغتراب في رجولته. يشعر أن عليه أن يترك بيت العائلة مرة أخرى. ويقول معللاً ذلك بأنه لا يجب أن يبقى في البيت كي لا يبقى يذّكر والده بالافعال التي ندم عليها، ولكن رحيله مرة أخرى يجلب المرارة لوالده أكثر مما كان.

تحفل الرواية بالمواقف التي تعكس الازدواجية والمفارقات. روح جاك مغتربة، ولكن روحه هي بيته كما يقول لأخته: الروح "هي ما لا تقدرين التخلص منها". واذا كان الابن الضال هو الاكثر محبة من أسرته لأنه الاكثر ضياعاً، فإن ضياعه يصبح ضمناً هو المحبوب سراً! في أحيان تكون المفارقات صامتة جليلة وفي أحيان أخرى تكون متفجرة ثائرة، وأحيانا تكون قاسية وأخرى متسامحة. وهي إدانه صارخة للجبن الاخلاقي والخطيئة غير المعترف بها أو المكفّر عنها.

تطرح روايتا روبنسون الاخيرتان قضايا العائلة والصداقة والشيخوخة وتأثير العرق والدين في الحياة الامريكية. كما تطرح موضوع الاحساس بالوحدة لدى غير المؤمن، أو قلق المؤمن، وعلاقات الاباء بالابناء، وقد ذكر بعض المعلقين أنها تقترب في أسلوبها وقضاياها الاحتماعية التي تطرحها من أسلوب الروائية الانجليزية في القرن التاسع عشر جورج إليوت.
تختلف روايتها الاخيرة عن روايتها الاولى "التدبير المنزلي" التي كتبتها عام 1980 ولقيت انتشاراً واسعاً. في روايتها الاولى هناك الكثير من الحكايات والاستعارات والصور المجازية التي تذهل القاريء بفنياتها، أما في "البيت" فهناك الحوارات واسترجاع الذكريات في مشاهد تلو المشاهد بين جلوري وجاك وأحيانا والدهما يتحدثون عن شكوكهم وندمهم وأحلامهم المنهارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق