الأحد، يونيو 22

هروب

هروب

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

كانت الغرفة كئيبة متسخة معتمة .. وقد أثارت حساسية أنفي برائحتها المتربة .. وكان فيها نافذة عريضة مفتوحة على مصراعيها من غير اي شبك او حديد للحماية .. كان هناك سريران في جانبي الغرفة. أشار الى السرير الذي بجانب النافذة وقال: هذا لك بامكانك ان تنام هنا. كانت الاغطية جرداء ذات لون بني كما لو كانت مثل أغطية الجنود في ثكناتهم. وكانت تنبعث منها رائحة كالعفن .. نظرت الى السرير الاخر كان هناك شخص ما متكوم تحت الغطاء. كانت ملابسه ملقاة على الكرسي بجانب سريره .. ورائحة الغرفة الرطبة نفاذة .. شعرت حينها بالمفارقة العجيبة بين الاسم الذي كنت اراه كلما مررت من جانب الفندق وبين منظره من الداخل! شعرت بالرهبة من وجود ذلك الشخص في الغرفة .. قلقت ولم أعرف كيف أتصرف. شعرت أن خصوصيتي قد انتهكت .. باغتني الصوت من خلفي هل تريد شيئا؟ التفت وقلت: لا ، شكرا .. سمعت اصوات خطواته يبتعد .. لم يكن معي حقيبة أو اي شيء آخر .. جئت كما أنا .. لم يكن معي حتى ملابس للنوم! أخذت أفكر كيف سيكون عليه منظري اذا نمت بملابسي، كيف سأبدو عندما استيقظ وتكون ملابسي متوعكة وشعري منكوشا!! لم يكن معي حتى مشط للشعر! أفكار كثيرة خطرت لي وجعلتني اشعر بالخوف .. أردت أن أنسحب وأترك الفندق .. خشيت أن يظن الاخرون أنني هارب من شيء ما! أخيرا قررت انه لا بد من شيء من الشجاعة .. خلعت قميصي وبنطلوني بسرعة واختبئت تحت الغطاء بملابسي الداخلية!

لقد حدث الامر فجأة .. كانت الدنيا صيفا حاراً والوقت ليلاً .. كنت أسير في الشارع متلفتا حولي .. كان هناك ضوء خافت من مصباح قد انكسر صحنه على عمود كهرباء قديم .. لم يكن غير هذا المصباح في الشارع كله .. كان الشارع شبه معتم وموحش .. مشيت بجانب سور الشارع العلوي المطل على البيوت الرابضة في سفح الجبل .. نظرت الى أسفل الجبل .. كانت أغلب الشوارع شبه خالية وكانت هناك سيارات قليلة تسير .. لا بد أن الناس متسمرون الان امام التلفاز، كما لو كان هناك حظر للتجول! كنت أسير بخطوات سريعة كي لا يلحقوا بي. بقيت أمشي والافكار تتصارع في رأسي .. شعرت بحزن شديد لانه سيفوتني مشاهدة السحرة وهم يرسمون لوحاتهم بالكرة .. كنت أفكر أين أذهب .. يجب أن أقرر سريعاً .. بقيت أمشي وانا أفكر بمشكلتي .. استبعدت أن أذهب لبيت أحد ممن أعرفهم .. سيستغربون قدومي في هذا الوقت المتأخر .. ولن يتوقف الفضول والسؤال ، وفي النهاية سأعود بخفي حنين .. كنت حينها في نهاية المرحلة الثانوية .. لم أتغيب مرة واحدة عن البيت في حياتي .. ولهذا كنت أشعر بالضياع لا أدري أين أذهب وكيف سأقضي الليل .. كنت أريد أن أغيب عن الانظار نهائياً .. لقد حاولت معه مرات عديدة ولكنه كان يرفض في كل مرة .. لم أكن أحس بالفارق الكبير الا تلك الليلة التي أمضيتها أمام جهاز التلفاز في بيت أمجد .. كان أمجد رفيقي منذ أن دخلت المدرسة في اليوم الاول. واستمرت علاقتنا طوال هذه السنوات .. أحسست بروعة المشاهدة .. الالوان رائعة والصورة مذهلة والكرة كأنما ستخرج من الشاشة وتستقر أمامي! شعرت بالفارق الرهيب .. الان يستطيع المرء أن يشاهد المباراة ويعرف كل لاعب لاي الفريقين ينتمي! في بيتنا الكل سواسية! لا تعرف مع أي فريق هو الا اذا شاهدت اتجاه حركة قدميه!

في تلك الليلة عندما رجعت للبيت في وقت متأخر، عادت معي احاسيس مختلطة متناقضة .. وأدركت الفارق الذي أضافته الالوان لحياتنا كما لو جعلت منها لوحة تفيض بالحياة وبريقها! ولكنني أدركت أيضا بأن المعاناة ستكون طويلة طالما بقيت بالابيض والاسود! وأن التغيير سيكون صعباً. منذ فترة طويلة وأنا أطلب من أبي أن يشتري لنا جهازاً آخر ملوناً وهو يرفض! وكنت كلما كررت الطلب، أسمع محاضرة عن فضائل التوفير ورذائل الفقر! كان أبي يستغل المناسبة لتوجيه درس لكل فرد فينا لا يخلو من التقريع .. وكان الدرس يطول حتى صرت أتمنى أنني لو لم أفتح فمي .. ولكن لم يعد هناك مجال للصبر والانتظار، ففي كل ليلة تفوت فرصة أخرى لرؤية العالم بالالوان! والاحساس بالقهر يزداد! كان أبي لا ينسى أن يختم درسه لنا بالقول: " سيأتي يوم يحتاج فيه الموظف الى أخذ سلفة من راتبه او قرض ليتمكن من شراء كيس من الخبز"!

كنا برغم قسوة التأنيب نضحك بالسر .. كنا نعتقد أن أبي يبالغ كثيرا وانه يريد ان يوصل لنا رسالة مؤداها أن ظروفه المادية لا تسمح بالتبذير! وأن من الاحسن أن ننسى أي تفكير بشراء جهاز جديد أو كل ما يمت لعالم الاغنياء بصلة! كان المغزى واضحاً وقد استوعبته ! ولذلك تطوعت بعد سنتين من انتظار الدراجة الهوائية التي وعدني بها الى الاستغناء عنها. لقد أعجبته تضحيتي واشاد بها امام الجميع. كنت أحس بفخر كلما اشاد بي، ولكني نسيت طفولتي في محل الدراجات الهوائية! وكبر معي حزن قديم يتمثل في الرغبة بركوب الدراجة!

بقيت عيوني مفتوحة وانا تحت الغطاء .. ولكن الرائحة كانت قوية تُسبب الصداع .. أحسست بها تدخل كياني كله .. كنت مشتت الذهن .. خفت من وجود انسان غريب يشاركني النوم بذات الغرفة .. خطرت لي هواجس شتى .. من يكون هذا النائم؟ هل أنام وأنسى التفكير بوجوده ؟ هل سأكون بأمان؟ اين سأضع هويتي ومحفظتي؟! هما كل ما لدي الان .. اسئلة كثيرة اجتاحتني وجعلتني أرفع رأسي وأتلفت بأرجاء الغرفة .. فكرت أن أنزل وأتكلم مع موظف الاستقبال كي يغير لي الغرفة .. لكنني كنت قلقاً .. خشيت أن يشك أن هناك شيئاً ما وقد يرفض اقامتي عندهم! فقد سألني اول ما دخلت وكنت أشعر بالقلق .. هذه اول مرة في حياتي الج فيها الى فندق خلسة تحت جنح الظلام! عندما سألني كم ليلة ستبيت عندنا، قلت له حتى الصباح! نظر الي باستغراب ولكنه لم يقل شيئأ!

حركت رأسي على الوسادة لاستكشف هيئة نوم مريحة .. أصدر السرير صريرا خشيت معه أن يوقظ النائم الغريب .. حاولت أن انسى التفكير بالرائحة .. طفح سيل من التساؤلات في رأسي. صرت أحاول لملمة الامر .. ولكنني كنت أفكر وذهني مشتت تلك الليلة .. كيف سأمضيها .. أفكر بالغد الذي سيأتي بعد عدة ساعات الى أين سأذهب .. صارت تلح على مخيلتي صورة أبي .. احيانا أراه يبتسم لي، وأحيانا أراه غاضباً حزيناً .. تراءت لي صور من حياتي الماضية التي اتشحت بالمعاناة .. شعرت أن تلك الليلة كانت بداية تاريخ جديد لي .. لا اعرف ماذا سيحدث بعد اليوم .. بدأت أحس بالضعف .. صرت أفكر بجدوى التمرد والجيبة خاوية الا من دنانير معدودة .. ولكني اقتنعت أنه لم يكن أمامي غير ما فعلت .. الى متى أنتظر ولا يتحقق شيء؟!

لم يعد عندي صبر على فلسفة أبي الاقتصادية .. كان يعتمد فلسفة كنت أسميها اقتصاد الحرب. وقد شاءت الصدف ان تكون أمي من أشد المؤمنين باقتصاد الحرب! بل إن أبي كان يغضب عندما يعرف أنه قد اشترى كمية من المواد التموينية ليجد أن خزانة أمي مليئة بها. كان يصيح ويحتج. الخزانة ملأى بعلب السردين. لماذا طلبتِ سردين؟ وأمي لا تعرف الكتابة والقراءة. تعرف الاعداد فقط! فلم تدرس سوى الى الصف الثاني! فكانت تحفظ في ذاكرتها قائمة طويلة من الاغراض وفي اليوم الشهري الموعود قبل صرف الراتب بيوم، كان أبي يحضر قلما وورقة ويجلس الى طاولة المطبخ ويقول لها: ماذا تريدين؟ اخبريني وهو يسجل. فكانت تملي عليه قائمة طويلة من المواد! فيغضب وينرفز ويحمر وجهه. لقد اشتريت الشهر الماضي عشرين قطعة صابون، فأين ذهبت؟! لماذا تحبين تخزين الصابون؟ هل ستقع الحرب ولن نجد ما نغسل به؟! لقد اشتريت المرة الماضية عشرة علب للجبنة الصفراء. هل نفدت كلها؟! هناك التزامات ومسئوليات كثيرة جداً. لماذا نشتري كل هذه الاغراض؟ كانت أمي تتحمل الاستفهام والعصبية بكل سكون وخنوع. كانت تشرح أحيانا أن المواد نفدت فالعائلة كبيرة مثل الجراد على حسب وصفها! والاولاد يتناولون الاغراض كأنما هم في بقالة. كانت تقول ان بقالة المطبخ لا تغلق أبدا والايدي والافواه غادية آتية تتناول ما تقع عليه! كانت أمي تعرف أن أبي يحب اقتصاد الحرب كثيرا! وقد يحتد اذا لم يجد كمية من كل شيء في البيت. ولكن قلة ذات اليد كانت تدفعه للعصبية .. عندما كان يحس ان الراتب قد تبخر في اليوم الاول كان يحتد ويزبد ويتهمنا باللاأبالية، والتبذير وعدم تقدير تعبه في سبيل تحصيل النقود! كان يجلس في المطبخ المزدحم، ليسجل ما تحتاجه .. وكانت أمي مثل وزير التموين .. يثق فيها ويسجل كل ما تطلبه .. امرأة بارعة في التدبير .. لا تحب أن ترمي شيئا. فلسفتها أنه يمكن الاستفادة من اي شيء في يوم ما. لم تكن ترمي العلب البلاستيكية الفارغة او زجاجات المربى أو سطول الجبنة او تنكات الزيت الفارغة او أكياس السكر والطحين الا نادراً.

كان المطبخ يزدحم بالكراسي القديمة المهترئة، وأكياس البصل والبطاطا وبقايا قطع الصابون التي كانت تجمعها لتستخدمها في الغسيل! وأوراق الصحف التي كانت تصفر مع الايام. كنت أركز وأسرح بقراءة الصحف التي تضع أمي عليها صحون الافطار او الغداء او العشاء حتى أنسى أمر الاكل ذاته. لم نكن نستعمل الشراشف المصنوعة من النايلون كما كان يفعل آخرون. لماذا التبذير في غير طائل؟! كنا نضع كل شيء على ورق الصحف. فكنت ألتهم الاخبار بالقراءة. كنت أقرأ تقريبا كل شيء! كانت الصحف المصفرة وسيلتي للمطالعة وقد أفادتني كثيرا! عرفت من خلالها أشهر أدباء العالم العربي وأشهر السياسيين. وعرفت تاريخ القضية الفلسطينية وأدركت أسباب الاحباط الذي يرزح تحته الانسان العربي! وكنت أعرف أسماء اللاعبين وهواياتهم. كنت أقرأ المقالات الدسمة عن أي شيء وكل شيء منها! وكثيرا ما كانت تؤنبني أمي وتصرخ في وجهي .. هل هذا وقت القراءة أم وقت الاكل؟! وأحيانا لم أكن أعي ماذا كانت تقول .. وقد لاحظ ابن جيراننا ان لدي عادة لم أكن اعرف انني ربيتها ونشأت عليها! فقد لاحظ انني التقط الصحف الملقاة على قارعة الطريق لاقرأ فيها! وقد حدث مرة أننا كنا نسير معا في الطريق فتناولت ورقة ممزقة من صحيفة قديمة ملقاة ، وحملتها وصرت أقرا فيها، فتركني أسير لوحدي وذهب في حال سبيله! اشتكاني يومها لأمي فكانت تلك اخر مرة نترافق في مشوار معا!

لم استطع النوم برغم التعب من رائحة الأغطية والتفكير .. كانت المخاوف من الغد أكبر من ان تغمض عنها جفوني .. كان الغريب نائما بلا حراك في سريره، مما جعلني اشعر بالاطمئنان .. تذكرت القصص التي كان يرويها أبي عن الحرص .. كان أبي يحفظ الكثير من القصص والامثال الشعبية والحكايات والاحداث وتواريخها ، وكان يحب أن يروي لنا وللضيوف الكثير من النوادر التي مر بها أو سمعها .. وكان اسلوبه يشد انتباه المستمع له حتى النهاية .. كان يعتبر ان هذه الامثال والعبارات التي تقال في المناسبات هي أساس الحياة واساس الرجولة التي يجب أن يتعلمها الشاب في بداية حياته! لقد حفظت بعض القصص من كثرة ترديدها .. ولكن هذه الامثال لم تمنع أبي من أن يقول عبارته الشهيرة:" سيأتي يوم يحتاج فيه الموظف الى أخذ سلفة من راتبه او قرض ليتمكن من شراء كيس من الخبز"! لا أظن أن أبي سيكرر تلك المقولة هذه الايام لو كان مايزال على قيد الحياة. فحتى الخبز طالته يد الغلاء الفاحش! ربما يجب أن اجد بديلا لعبارة أبي. فكرت ان من الافضل للانسان أن يفكر في بديل اخر يأكله غير الخبز! فلعله تتحقق رؤية ماري انطوانيت ويكتشف الفرنسيون أنهم ارتكبوا خطأ في اعدامها!

كنت أختلس النظر الى السرير الاخر وأنا أرى آثار انسان متكوم هناك .. لم اشعر برغبة في التعرف اليه .. لم أكتسب هذه الصفة وراثياً! كانت طبيعة ابي اجتماعية للغاية. كان من النوع الذي يحب التعرف بالناس وزيارتهم ومعرفة تفاصيل حياتهم. كان لديه قدرة هائلة على تكوين المعارف والاصدقاء ومعرفة أدق التفاصيل عنهم. ولو ذهب الى مدينة غريبة عنه لاول مرة، فانه سيعرف كل سكان الحي الذي يسكن به خلال شهر واحد .. اذكر أنني سكنت في أماكن مختلفة، ولفترات طويلة ولم أكن أعرف اسم جاري! لو كان أبي حيا لاعتبر ذلك تقصيراً ما بعده تقصير .. كنت اتفاجأ باستمرار وانا أسير معه انه يعرف قصة حياة كل واحد من جيراننا! كان يسجل اسماءهم وارقام هواتفهم وأحيانا تفاصيل أعمالهم في سجل يدوي من اعداده بخط يده. كان لديه دفاتر وسجلات عديدة يسجل فيها كل مصاريفه وما حصل معه واسماء من يلقاهم. ولم يكن يرمي منها شيئاً .. كان مثل أمي في المطبخ .. كانت عنده حقائب عديدة يضع فيها دفاتره ومغلفاته ذات اللون البني وأوراقه وكل شيء كتبه بيده .. لم يكن يرمي حتى مسودات الرسائل والملاحظات واقصوصات الورق والعناوين .. لم تكن سجلاته تغادر اية صغيرة او كبيرة مرت به.. كان أحيانا ينادي علينا كي نقف امامه مثلما يقف الشاهد امام القاضي .. يسألنا عن تفاصيل ما مر بنا ذلك اليوم أو درسناه أو اشتريناه في غيابه!

ونحن صغار كان أبي يشتري من البقالة التي بجانب بيتنا ويدفع له اخر الشهر كل حسابه .. كانت أمي ترسلنا أحيانا لنشتري منه .. وقد أدركت أنا وأختي السر فصرنا كلما ذهبنا لشراء ما تحتاجه أمي للبيت لا ننسى أنفسنا! ونسأله ان يسجل في الدفتر العتيد. وذات ليلة عاد أبي وهو غاضب ومحتد .. بقي طوال تلك الليلة يؤنبنا على فعلتنا السوداء تلك!! لا أدري كيف كنا نظن أنه لن يعرف عنها .. كان من المفروض أن نعرف انه سيكتشف الامر قريباً .. وفعلا لم يمض أكثر من نهاية الشهر حتى عرف بالامر! من الغريب كيف غاب عن بالنا اهتمام أبي بالتفاصيل!

لم يكن يبدد صمت الغرفة الا أصوات السيارات التي تمر بين حين وأخر .. ويبدو أن أنفي قد ألف الرائحة فلم أعد أحس بها! كنا في بداية العطلة الدراسية الصيفية. كنا نكره أكثر ما نكره العطلة الصيفية . فبعد ثلاثة ايام بالتمام والكمال من انتهاء الامتحانات وبدء الاجازة، كان أبي يطلب منا أن نحضر كتب الصف التالي الذي سنترفع اليه في بداية الخريف القادم. كان يحتفظ بمكتبة تضم بعضا من الكتب المدرسية لكل المراحل، فكان يطلب منا كل يوم في الصباح أن نقرأ درسا جديدا. وبعد العصر كان يراجع لنا ما درسناه. كنا نجلس الى جانبه ونحن نكاد نموت خوفا وهلعا.. كان يستبد بنا خوف من غضبه اذا لم نتمكن الاجابة على سؤال ما. كان يتوتر بسرعة اذا لم نعرف الاجابة على سؤال بدهي بنظره! كان ينرفز ويتحول لون وجهه الى الاحمر كالدم .. واذا استمر وجومنا كانت يده تنزل على وجوهنا كالصاعقة! كنت أحس ان الدنيا انقلبت أمامي من صدى الضربة في أذني! كنا نكره العطلة المدرسية كرها شديدا بعكس الاخرين! ولو أن أمي كانت تجعل كل صباح فيها شيئا جميلاً. أذكر أن أمي كانت تصحو باكراً لتشتري لنا أصابع كرابيج حلب او الحليب الطازج او اللبن المخيض لنشربه بمجرد ان نصحو من النوم.. كانت تملأ البيت أزهارا وورودا ونباتات خضراء من مختلف الاشكال والالوان وتضعها في علب او قناني زجاجية صغيرة وتعلقها بالحبال في زوايا البيت لتمتد وتكبر اوراقها في كافة ارجاء البيت .. كان أول شيء تفعله عندما تصحو من النوم ان تتفقد ابناءها من النباتات والازهار! كانت تحبهم كثيرا وترعاهم برش الماء وسقايتهم .. وكان لكل نبتة موعد محدد للسقي! كانت تحب الريحان والسجدة العطريه وفم السمكة والزنبق والياسمين والمدادة وغيرها الكثير!

نظرت الى ساعتي لكن الظلام كان مطبقاً .. حاولت أن أعرف الوقت ، فلم أتمكن .. شعرت أن تلك الليلة طويلة أكثر من العادة .. كان النائم في السرير الاخر في غاية السكون فلم يبد منه طوال الليل أية حركة .. استرجعت وانأ أحملق في الظلام تلك الامسيات التي كنا نتحلق فيها حول التلفاز. كان أبي يحب سماع الندوات وبرامج الحوار. كان هناك تفاهم عجيب حول تقاسم الوقت لحضور برامج التلفاز. كان جهازنا العتيد ذي اللونين الابيض والاسود ألمانياً. كان أبي يحبه كثيرا ويشيد بنوعيته وصناعته .. لاول مرة اكتشفت من خلال كلامه ان الالمان ماهرون في صناعة اجهزة التلفاز! كانت أمي وأخواتي يحبون متابعة مسلسل السهرة بعد الاخبار. كنت أحس بالضجر الكبير من الانتظار! لم أكن أحب هذه البرامج. لذلك كان أبي واخوتي يذهبون للنوم ويتركوني مع التلفاز وحدي اشاهد برنامجا أو فيلماً أجنبياً. كنت أمدّ فراش النوم في غرفة الجلوس وأتمدد وأشاهد التلفاز على ضوء القمر في ليالي الصيف. لم يكن لي غرفة للنوم. كنا نعيش في بيت صغير بالكاد يتسع لنا. وأنا كنت المحظوظ بين أخوتي الذي ينام في غرفة لوحده!

بقيت طوال الليل مستيقظا قلقاً .. أتقلب في فراشي وانا ادقق في تفاصيل الغرفة .. لو كان الامر لي لما كان يستحق ذلك المكان ان يسمى فندقاً .. شعرت أن المكان غريب عني .. كنت أحاول أن انسى الافكار التي كانت تزدحم في رأسي .. ولكن يبدو أنني من شدة التعب والسهر والقلق نمت من غير وعي مني .. في الصباح استيقظت على صوت السيارات في الشارع .. كانت تطلق زواميرها بسبب وبلا سبب .. كانت المنطقة مزدحمة بالسيارات والبشر وكل شيء .. نظرت الى ساعتي كانت تشير الى العاشرة صباحاً .. تطلعت حولي الى السرير الاخر كان فارغاً .. لم أحس به كيف استيقظ وخرج .. ولم أدر من كان هنا اصلاً! تفقدت محفظتي وهويتي .. شعرت بالارتياح قليلاً .. بعد قليل كنت أخرج من الفندق واسير في الشارع .. استغرب الموظف من هذه السرعة في الرحيل .. لكنه لم يقل شيئاً .. خرجت لا أعرف أين أذهب. بقيت أسير في شوارع المدينة بلا هدف او اتجاه .. كانت الدنيا قد أصبحت بعد العصر وانا اشعر بالتعب والجوع والارهاق .. أخذت أقنع نفسي بعدم جدوى الهروب أو التمرد! عند المساء كان التعب والارهاق قد نالا مني فلم استطع الصمود أكثر! فغيرت الخطة!

دخلت البيت بتردد وترقب .. كنت اتوجس خيفة من ردة الفعل .. صارت أمي تبكي لما رأتني .. روت لي القلق طوال ليلة أمس وكيف أن ابي لم يترك أحدا يعرفه إلا واتصل به ليسأل عني بدموع صامته .. بقيت اشعر في داخلي بالرهبة من ردة فعله حينما يعود .. بقيت قلقاً متوتراً حتى ذكرت أمي فجأة أن أبي ذهب لمحل اجهزة التلفاز ليشتري جهازاً جديداً! أحسست ساعتها كأن جبلا قد انزاح عن كاهلي. زال القلق قليلا ولكني بقيت أخشى ردة فعله .. حينما عاد أبي ومعه الجهاز نظر الي وهو بالباب نظرة غضب وبقي واقفا ينظر الي برهة من الوقت. ولكنه بعد ذلك فتح ذراعيه وهجم علي يعانقني!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف8:09 م

    السلام عليكم
    استاذي القدير المتميز اياد
    بدات اقرا قصتك فوجدتنى داخلها اعيش تفاصيلها خطوة بخطوة لان طريقة وصفك وسردك لذكريات البطل سلسة ومحيطة بكل ما يدور فى الواقع فعلا حتى افراد الاسرة وصفاتهم والتطرق لمستواهم الثقافي والاقتصادي يجعل القارىء يطلع على المجتمع وفوارقه الطبقية ويطلع ايضا على نماذج اسرية تشكل الاغلبية وسط كل هذا امتعتنا بجولة لطيفة فى نفسية البطل وبعد ان عشنا قلقه اخيرا شاركاناه الفرحة بتلفازه الجديدة وبالاحرى بامله الجديد بالمستقبل
    شكرا لك ايها الاستاذ الرائع اياد بما جدت به علينا من متعة واطلاع مع فائق التقدير من تلميذتك عفاف

    ردحذف
    الردود
    1. قارئتي الرائعة المتميزة والدؤوبة عفاف
      لا تكفي كل الكلمات لشكرك وتقديرك على هذه القراءات الجميلة بامعان واهتمام بكتاباتي وخاصة القصص القصيرة منها. أنت فعلا وكما يتضح من تعليقك الجميل قد نفدت الى صميم العمل وتفاصيله الحياتية والاجتماعية وعشت معاناة البطل الشاب الذي يرمز الى معاناة الكثيرين في ظل مجتمع ابوي بطريركي ذكوري يصادر حق الحلم وحق الاختيار وحق البحث عن الجديد باسم الحرص والخوف والحنان. ابدعت كثيرا وقدمت قراءة رائعة اعجبتني تدل على صبرك وعمق استبصارك.
      واذا كان يحق لي أن انتقد هذه القصة التي جاءت الاولى في مجموعتي الاولى. وكل الاوائل دائما عزيزة أثيرة لا تنسى، فقد أسهبت في تفاصيل الحياة اليومية للشخصية باسلوب سردي روائي أكثر منه قصصي. أشكرك على تحمل هذا الاسهاب وربما اصابك الملل منه، ولكن انفتحت شهيتي لتسجيل الكثير من صور معاناة الأسر في ظل واقع معيشي واجتماعي وقيمي بائس
      مع كل مودتي واحترامي

      حذف