قراءة في مجموعة "المستهدف" لجمال ناجي
بانوراما واقعية لأزماتنا المعاصرة
اياد نصار
*نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الأردنية يوم الجمعة 1/7/2011
في هذه الايام التي يشهد العالم فيها طفرة غير مسبوقة في كتابة الرواية، ونشرها، والاحتفاء بها، تثبت القصة القصيرة أنها تظل ذات جاذبية وحيوية وتجدد، تغري كتابها بالعودة اليها. ورغم قصرها إلا أنها ملكة الرشاقة التي تختبر موهبة القص لدى الكاتب. والقصة ليست مجرد حكاية، بل هي ابداع فني كامل من تقديم خلاصة تجربة الحياة وتحليل الشخصية ورسم معالم اللوحة الانسانية في تفاعلها الذي ينطوي على المفارقات والدهشة، بلغة مكثفة موحية، تنعكس على القارىء في هيئة متعة فنية وفكرية، واكتساب خبرة، وازدياد وعي، ومعايشة لحظات من تأملٍ في معاني الحياة التي لا تنضب.
وهكذا يعود الروائي والقاص جمال ناجي الذي وضع بصمته على صعيد الابداع السردي في الاردن والعالم العربي مرة أخرى الى القصة القصيرة، بعد أن قدّم لها ثلاث مجموعات هي "رجل خالي الذهن"، و"رجل بلا تفاصيل"، و"ما جرى يوم الخميس" ليضيف مجموعة جميلة أخرى هي "المستهدف" التي صدرت عن دار فضاءات. تشكل المجموعة حلقة أخرى في مشروع ناجي الذي يحمل رؤاه الفكرية والانسانية منذ أن بدأ مشواره قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً حين كتب روايته المدهشة "الطريق الى بلحارث" التي لفتت الانظار اليه منذ بواكير كتاباته، ونال عنها جائزة رابطة الكتاب الاردنيين مبكراً، وحتى روايته الاخيرة "عندما تشيخ الذئاب" التي حققت حضورا لافتاً محلياً وعربياً، ووصلت نهائيات الجائزة العالمية للرواية العربية في العام 2010.
يتميز جمال ناجي أنه حين يكتب القصة يخلع عنه رداء الرواية، ويلقي بأدواتها وأجوائها وأساليبها جانباً، ويتقمص القصة لغة وروحاً وأسلوباً. يتقن ناجي فن التنقل والابحار بين الرواية والقصة، كربّان يعرف مراكبه وأدواته التي لا يخطىء متى يستخدم أياً منها. تؤكد المجموعة أن ناجي قاص متمرس له أسلوبه الذي يميز عالمه القصصي.
تطرح المجموعة الجديدة طيفاً متعدداً من اشكاليات الحياة الاجتماعية والنفسية التي صارت سمة الحياة المعاصرة، في إطار واقعي ناعم يحافظ على جماليات البناء ولغة السرد، وتعبر عن التفاتات نبيهة بعين القاص الحاذقة، وتفتح أفق القارىء على معان جديدة للاشياء والمواقف من حوله، وتجسد الصراعات، وامتزاج الحقائق بالاوهام، ونكوص الوعي المتمثل في ارتداد الانسان الى الخرافة والتصورات الشعبية في تحليل الدوافع ومواجهة التحديات. وشخصياته في أغلب قصصه واقعية تنتمي الى الطبقة المتوسطة.
تقدم قصص المجموعة في مجملها لوحة بانورامية لمظاهر أزمات الانسان والهموم اليومية للحياة في المدينة التي تورث القلق وغياب التواصل الانساني وفقدان الحب. وتمتاز، ككل قصص ناجي، بالحفر في الهواجس النفسية للشخصيات التي تعيش لحظات الخوف والترقب، فينقل هذه الاجواء المشحونة بالتوتر الى القارىء الذي يشعر بمدى التوجس المسيطر على الشخصية.
تعكس بعض القصص جوانب معاصرة من أنماط حياة الناس في عمان، وتقيم مقارنات تشتمل على مفارقات بين قاع المدينة وغربها لتشير الى تغير عادات الناس تحت ضغوطات النفاق والتمسك الشكلي بالمفاهيم وتبدل استراتيجيات العيش، مثلما تعكس التغير في أنماط التدين الاجتماعي حيث عمل الخير يصبح مصدر همٍّ وقلق لا بد من القيام به بطريقة نزقة تكشف عن كثير من طرق الخداع كما في قصة "لهاث ليلة العيد".
في كل قصص ناجي هناك عنصر التشويق الآسر الذي لا يتخلى عنه الكاتب وصار سمة أسلوبه. كما يبتعد عن التهويمات اللغوية، أو الاسهاب في الوصف، أو في رسم معالم المشهد الى وضع القارىء في قلب الحدث مباشرة، وخلق الايحاء بالجو العام من خلال لغة مكثفة موجزة. قصة جمال ناجي تحكي أكثر مما تصف، وتتحاور مع شخصياتها وقارئها أكثر مما تغرقه في التأملات التي تفتقر الى الحدث. "المستهدف" توظف الحوار والتشويق والشخصيات التي نرى فيها أنفسنا لتفتح لنا نافذة لفهم دواخلنا.
ترسم قصة ناجي ملامح الشخصية مركزاً على ابراز الجانب النفسي المعنوي في صفاتها من خلال حيوية الوصف المعبر والموجز في الوقت نفسه، والذي يبتعد عن الاغراق في رسم الملامح الخارجية، اذا لم تكن هذه الملاح تضيف شيئاً ذا معنى عن طبيعة الشخصية ودوافع تصرفاتها ونوازعها. جاء في قصة صديقي الأحمر: "فقسمات وجهه المكللة بملامح براءة أصيلة، تؤكد على نقاء سريرته... من يدقّق في أعماقه التي تطفو على قسماته، لا بد له من أن يشعر بوجود مؤامرة ما ضده، جسدية أو نفسية، لكنها نابعة من كيانه هو، وتهدف، ربما، الى استلاب خاصية الحياة من بدنه".
لعل من أهم ما يميز أدب جمال ناجي هو التركيز على القضايا المرتبطة بتحرر الانسان من ربقة القيم الموروثة والتصورات، لكنه في الوقت الذي لا تنسى فيه المجموعة طرح قضايا المرأة كونها جزءاً من قضايا المجتمع، فإنها لا تدب الصوت في طرح قضايا النسوية لأنها ليست بمعزل عن وقوع الانسان ضحية للقيم الاجتماعية، ومن هنا تجد في قصصه اضطهاد المرأة للمرأة وخلافاتهما ومناكفاتهما.
تستهل المجموعة بقصة "الكحلاء" التي تختزل مخاوف الانسان وهواجسه وصراعاته الباطنية في حكاية نبتة لطيفة وادعة. تجسد "الكحلاء" ترسبات تجاربنا الفاشلة التي تأسرنا فنظل نعيش أوهام البؤس، وحين نتحرر منها ونقلع عن شتاء الحياة الى صيفها تموت الكحلاء. تفتتح المجموعة بموضوعة الموت، وتلجأ الى تجسيد المفاهيم التجريدية التي تتلبسنا بعض الاحيان في تكوينات مادية مرعبة تظهر مدى براعة القاص في التعبير عن الاجواء واعطاء الافكار بعداً ملموساً. وتختتم بقصة ذات نزعة صوفية حول معنى الموت أيضاً. إنها قصة رجل يتأمل أمواج البحر، فيثير منظر نورس يقع ميتاً على الصخور شهية الراوي على الاسئلة الوجودية في معاني الموت وجدوى الحياة وعبثيتها. تكمن أهمية القصة في توظيف المستوى الرمزي للحدث واسقاطه على مصير الانسان، وهكذا يتحول مشهد دفن النورس الجنائزي الى احساس الراوي بالموت وأن المكان صار قبره هو.
تبرز في المجموعة اللغة القصصية المؤثرة والمنسابة بكل سلاسة. في قصة "الموت شخصياً" يحتال رجل عجوز على الموت، فيراه في كل شيء حوله، وفي كل صوت يسمعه. قصة تضع قارئها في خضم مشاعر الخوف، حتى يموت الانسان قبل الموت. إنها قصة نفسية بالغة التأثير بفضل الجو المشحون المثقل بالترقب والاساطير التي تملأ دواخلنا. "سار نحو غرفة نومه، استلقى على سريره، فأحس بحركة جسم غير مرئي في الغرفة، أدار عينيه باحثاً عن ذلك الجسم الذي لم يره". توظف القصة الاحساس والرائحة والاصوات والريح وكائنات الليل ـ وكما يقول الراوي "للاشياء روائحها ومنطقها وتوقيت دخولها".
تلجأ قصص "المستهدف" الى الرمز على نحو مكثف لاعطاء بعد أكثر عمقاً فلسفياً للمعنى، يقول الصوت في قصة الحلاق: "هو الوحيد الذي اسلمه رأسي من دون كل الناس ما يدل أن سلطته وسطوته أكبر مما اعتقدت"، كما توظف البعد الاجتماعي لاستخدامات اللغة الشعبية في فهم نوازع البشر وتحليل شخصياتهم. في أغلب قصصه، يوظف ناجي السخرية اللماحة والكوميديا على لسان الراوي في وصف شخصياته أو اثناء الحوار للفت انتباه القارىء الى الجوانب التي يحفزه لادراكها. ويوظف النهايات الغامضة المفتوحة لدفع القارىء الى التفكير ملياً في دوافع البشر الخفية التي تحكم تصرفاتهم الظاهرة كما في قصة "زيارة متأخرة". قصص ناجي من النوع السهل الممتنع التي لا تعرف الملل والاسهاب والزوائد اللفظية، وتحترم ذكاء القارىء في تقديم حبكة تسير كل تفاصيلها في اتجاه الموضوع الاساس. وبهذا المعنى لا يفقد ناجي زمام السرد من يديه، فلا تحس في لحظة أنه ابتعد عن فضاء القصة.
تدين المجموعة ممارسات الاضطهاد على اختلاف مستوياتها السياسية والاجتماعية، مثلما تنتقد الانتهازية السياسية التي حولت العمل الوطني الى مصدر للتكسب. وتتناول المجموعة بشيء من السخرية هذا النموذج الذي يقف بشراسة أمام قمع السلطة في حين أنه يمارس أبشع أنواع الاذلال لمن حوله.
يميل جمال ناجي الى استخدام ضمير الأنا المتكلم في معظم قصصه، ففي قصتين فقط يسرد الراوي الاحداث بضمير الغائب. يخلق ضمير المتكلم احساساً بمدى الصدق، وفي الوقت نفسه يعكس براءة التجربة أو سذاجتها أو سخريتها.
تتناول قصة "المستهدف" أزمة رجل يجد نفسه ضحية غريزة نسائية من نوع غريب بين سذاجة الام النابعة من حنانها، ودهاء الزوجة النابع من خبرتها ليكتشف أن هذه الغريزة الخطيرة في المرأة هي سبب احساسه بأهميته وهامشيته في آن معاً. تختبر القصة النظرة المتبادلة بين الام والابن، وتعزز مفهوم فجوة الاجيال. قصة "المستهدف" مثال على مفهوم تعدد الابعاد في القصة الواحدة لدى جمال ناجي. في "المستهدف"، تنتقل القصة الى مستوى أعلى من الفهم الذي يفتح وعي القارىء على حقائق الحياة غير الظاهرة، إن خضوع البطل لرغبات أمه في لبس ملابس اخوته مرده الرغبة في النضوج سريعاً، وهكذا تبدو رغبة الانسان في تجاوز مراحل التجربة الانسانية سخيفة وغير مضمونة. "هنا ، هنا بالذات، تصيب مقتلاً في نفسي، فقد كنت في عجلة من أمري، اريد ان أكبر بسرعة، ويبدو أنها أدركت الرغبة الملحة لدي فاستثمرتها لاقناعي بقبول ما يصعب القبول به من ثياب اخوتي الكبار". ثم تنتقل القصة مع القارىء الى مستويات أخرى لتطرح مفهوم غريزة الاحتفاظ بالاشياء القديمة لدى النساء، وتأتي نهاية القصة وكما هي نهايات قصص ناجي مثقلة بعناصر الدهشة والمفاجأة وكشف الرؤية ليدرك الراوي البطل أن هذه الغريزة هي سبب الاحتفاظ به كزوج رغم أنه لم يعد نافعاً!
يوظف ناجي الكثير من تقنيات القصة مثل عنصر المفاجأة، والسخرية أثناء السرد أو الوصف، وخلق جو من الغموض الذي يتكشف تدريجيا للقارىء، ولجوء الشخصية الى وضع الاقنعة وإدعاء البطولة، والحديث الى مرآة الشخصية ونقيضها، فكأن البطل يتحدث الى ذاته الأخرى كما في قصة "صديقي الأحمر"، والجمل السريعة الملونة بظلال المعاني الفلسفية والنفسية الخاطفة، والسذاجة الظاهرية للشخصية في سبيل نقد الافكار التي تمثلها.
تواكب قصص ناجي عالم الاتصال الحديث والعوالم الالكترونية لتعكس التغيرات التي أصابت السلوك الانساني وتعكس صدمة الانسان أمام تغيرات المفاهيم الحياتية، الموت بالنسبة للام في قصة "طموح محلي" هو تأخير زمني لا طائل منه، وبالنسبة لابنها هو خسارة لعبة التحدي التي تمنحه ثلاث فرص، وبالنسبة للحمّال فهو جريمة بلا رحمة لا بأس من أن يستغله لتحقيق مآرب شخصية.
رابط المقالة بجريدة الرأي
رابط الصفحة الكاملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق