"زيارة من الزمرة الحمقاء" لجينيفر ايجان
تحطيم الشكل التقليدي للرواية
إياد نصار
نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الأردنية بتاريخ 26/8/2011
فازت الروائية الأميركية الشابة جينيفر إيجان بجائزة بوليتزر الأميركية لهذا العام عن روايتها "زيارة من الزمرة الحمقاء" التي تقع في 288 صفحة وصدرت العام 2010، وكانت روايتها فازت، قبل ذلك بأسبوعين، بجائزة حلقة نقاد الكتاب الوطني الأميركية.
يثير عنوان الرواية تساؤلات حول ماهية هذه "الزمرة الحمقاء"، وطبيعة الزيارة التي تقوم بها ولمن. كما تعد الرواية محيرة، لأنها عصية على التصنيف المريح ضمن فنون السرد، فهل هي رواية؟ أم مجموعة من القصص المترابطة على نحو فضفاض في فصول مستقلة؟ إنها في كل الاحوال ليست رواية بالمعنى التقليدي للرواية، من حيث الحبكة والشخصيات والزمن والانتقال الزمكاني عبر مسرح الأحداث. ويمكن تصنيفها ضمن الأدب التجريبي الذي يوظف التقنية في بنية العمل. فلا حبكة فيها بالمعنى الاعتيادي، ولا بطل معين، والزمن في حركة انتقال دائم، والشخصيات في تبدل مع كل فصل.
تبدو نصوص الرواية ذات اللغة الشعبية السهلة البعيدة عن التأنق الأدبي، كما لو أنها كُتبت لأغراض المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال تحطيم البناء الروائي والحبكة والزمن وحتى الشخوص، إذ لا تركز الرواية على شخصية واحدة أو قصة واحدة، أو حتى على عدد قليل منها.
تتناول الرواية تراجع العلاقات الإنسانية وانتشار ميل الإنسان إلى العزلة نتيجة التطورات التقنية، وتؤشر على قضية مهمة هي المفارقة نتيجة اعتماد الإنسان بشكل متزايد على التقنية وشعوره في الوقت نفسه بالاغتراب، إذ أصبح الناس مثل جزر متباعدة؛ يتواصلون بلا معنى أو هدف، كما تبين أن الموسيقى أصبحت سلعة، والشباب الذين يشترون الأغاني عبر الأجهزة اليدوية الحديثة هم سوقها المستهدفة.
الرواية التي تطرح تأثير الموسيقى في المجتمع الإنساني، تبدو من الناحية الشكلية ألبوماً موسيقياً من قصص الحياة الفاشلة، والنرجسية، والعلاقات التي تنتهي بالخيبة، ومحاولات الانتحار. وتنقسم الرواية إلى جزأين: (أ) و(ب)، يضم كل منهما مجموعة من القصص المتداخلة، لكنها في الوقت نفسه منفصلة بعضها عن بعض. ويحمل كل فصل في الرواية وجهة نظر مختلفة، يرويه راوٍ، وهناك شخصية مركزية في كل فصل تسرد قصص الآخرين معها. تعد الرواية، باختصار، حكايات مجموعة من الشخصيات التي تتأثر حياتها بالظروف المحيطة بها، فتصبح مشهورة أو تبقى مغمورة، لكنها جميعها تصبح ضحايا.
تمتد أحداث الرواية عبر خمسين عاماً منذ طفرة موسيقى الروك في سان فرانسيسكو في سبعينيات القرن الماضي وتنتهي في العام 2020 في مستقبل مليء بالبؤس والفقر. تنسج المؤلفة القصص حول زمن غير واضح المعالم ولا يسير خطّياً، وتظل تقفز بالزمن من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل.
تركز الرواية على سبر تأثير الزمن في حياة البشر أكثر من اهتمامها بالحبكة. وتستخدم إيجان كلمة "حمقاء" أو "بلهاء" لتعني الزمن. يقول الراوي: "الزمن أحمق. أليس كذلك؟ هل ستدع ذلك الأحمق يتغلب عليك؟" (ص 96). لا يوجد في الرواية أبطال بالمعنى التقليدي، إنما هناك بطل لا إنساني مشترك؛ إنه الزمن، ذلك "الأبله" أو "الأحمق"، كما يشير العنوان، لأنه يغيرنا ولا يبقى لنا من الماضي سوى ألم الذكريات الذي نتجرعه كلما أحسسنا ببؤس الواقع. والشخصيات التي كانت تمتلئ حيوية في شبابها، تبدو مصدومة من الحال التي انتهت إليها بعد سنوات. يسأل أحد شخصيات الرواية بعد أن كان ذات يوم أحد نجوم الموسيقى: "السؤال الذي أريد أن أصل إليه: كيف تغيرت حالي من نجم موسيقي إلى شخص بدين تافه لا يسأل عنه أحد؟ دعونا لا نتظاهر أن ذلك لم يحدث".
تطرح الرواية مفهوم مارسيل بروست للزمن، والذي يلمح إلى إمكانية إعادة معايشة الذات التي كنا عليها منذ وقت طويل، وتبدأ باقتباس من رائعة بروست "البحث عن الزمن الضائع": "يزعم الشعراء أنه يمكننا أن نستعيد في لحظة ذكرى ذاتنا التي كنا عليها في ماضي الأيام عندما ندخل بيتاً أو حديقة اعتدنا أن نعيش فيهما في شبابنا. لكن هذه الاستعادة تعد أكثر أنواع الحج خطورة والتي قد تنتهي بخيبة الأمل بالقدر نفسه الذي قد تنتهي فيه بالنجاح".
تظل فصول الرواية تتنقل بين صيغ الزمن المختلفة من خلال الانتقال في الحديث عن أناس في حياة نجم موسيقى الروك الشهير الذي تحول إلى رجل أعمال يدير شركة تنتج الأسطوانات الموسيقية في نيويورك، واسمه "بيني سالازار"، ومساعدته المريضة نفسياً "ساشا". والقصة التي تسردها الرواية معقدة ومتشابكة، لأنها تروي بداخلها الكثير من القصص لعدد كبير من الناس.
تبدأ الرواية بقصة "ساشا"، وهي شابة في أواسط الثلاثين من العمر نلتقي بها في جلسة معالجة نفسية في مدينة نيويورك لمساعدتها على التخلص من عادتها في سرقة أشياء الآخرين، بل نراها في فصل لاحق يدعى "العثور على الأشياء" وهي تسرق محفظة رجل قابلته على "النت" وتخرج معه في موعد غرامي! تكشف "ساشا" عن ميولها الغريبة في سرقة الأشياء من الأشخاص الذين تصادفهم كوسيلة لتخليد اللحظات.
يتعرف القارئ لاحقاً على الخلفية المضطربة التي عاشت فيها "ساشا"، ويبدو بشكل واضح أن "دليل متاعب" هذه الفتاة كما تسميه الرواية، هو اختصار لمتاعب جيل بأكمله. كانت "ساشا" الطفلة ضحيةَ زواج عنيف، وتهرب بعد ذلك من أسرتها لتعيش في إيطاليا وتمارس الدعارة، ثم تدخل الجامعة وتسعى بكل جهدها كي تساعد صديقتها في التغلب على نوبات التفكير بالانتحار التي تنتابها. كما ندخل عالم الرغبات الخفية لعمها "تيد"، وهو مؤرخ لتاريخ الفن يعاني من زواج فاشل، ويسافر إلى إيطاليا لتخليص "ساشا" من العالم السفلي للمدينة.
في الفصل الثاني من الرواية نلتقي "بيني". تعمل "ساشا" مساعدة لـ"بيني" منذ سنوات، وفي إحدى المرات يحاول التحرش بها، لكنها تصده بطريقة حكيمة، ورغم علاقتهما القوية إلا أن أيّاً منهما لا يعرف الكثير عن حياة الآخر. كما نلتقي بشخصية "بيني" مرة أخرى وهو كبير يعاني الاكتئاب، ويحاول أن يجد صلة للتواصل بمن حوله، وعندما يعود بنا السرد إلى الماضي نراه في عنفوان شبابه، يعيش صخب طفرة موسيقى الروك.
يشعر "بيني" بتوتر أمام زحف التقنية، إذ تصبح الموسيقى أقل لمسة شخصية وأكثر برمجة حاسوبية، فيشعر أنه ليس ذا قيمة أو أهمية. تعد الرواية إدانة للعصر الرقمي التي تصفه بأنه "سريع، نزق، فوري، لكنه مليء بالفجوات والتوقفات".
تتراوح القصص الأخرى في الرواية بيم المغامرات الجنسية لشباب سان فرانسيسكو إلى ديكتاتور إفريقي يبحث عن جهة إعلامية لتلميع صورته. وينتقل ضمير السرد بين الغائب والمتكلم، ومرة يصبح بضمير المخاطب. وتتراوح نبرة السرد بين التراجيديا والسخرية.
يمتاز أسلوب الرواية بتوظيف التقنية في العمل كمضمون وكأسلوب، فهناك فصل غير تقليدي هو في حقيقته مقالة لها هوامش في مجلة! أما الفصل الأطول في الرواية الذي يزيد على سبعين صفحة ويحمل عنوان "وقفات عظيمة للروك آند رول"، فهو عبارة عن شرائح عرض "بوربوينت"، فيها رسوم توضيحية وأشكال ونقاط. تحكي الشرائح أفكاراً غريبة لاثنين من المراهقين الذي يتضح في ما بعد أنهما ابنا "ساشا"، وتوحي أفكارهما عن المستقبل أن الرواية تقترب من أسلوب الخيال العلمي، فترى أنه بعد خمسة عشر عاماً من الحرب، تأتي فترة تشهد طفرة في كثرة المواليد، كما عملت التقنية على اختراع آلات تحب الأطفال، ويصبح مستقبل نجوم الموسيقى تحت رحمة الأطفال الذين يملكون القوة الشرائية.
تستعيد الرواية الزمن الحاضر من خلال حفلة موسيقية قرب موقع الحادي عشر من أيلول في منهاتن، ويقدم أحد عازفي موسيقى الروك من العصر ما قبل الرقمي "مقطوعات غنائية للخوف وغياب التواصل اللذين يخرجان من صدر رجل تعرف من مجرد النظر إليه أنه لم يكن له حضور.. لم يكن جزءاً من تاريخ أحد، رجل عاش في الشقوق طوال هذه السنوات، منسي ومليء بالغضب بطريقة توحي أنه نقي، لم يلمس".
المستقبل في الرواية الذي يمتد حتى العام 2020، يقول الراوي عته: "بعد جيلين من الحرب والمراقبة التي تركت الناس تتوق إلى تجسيد قلقها في صورة رجل وحيد ضعيف يتكئ على جيتار مائل".
من أكثر فصول الرواية إمتاعاً ذلك الذي يصف المواجهة بين "بيني" و"سكوتي هاوسمان" الذي كان زميلاً لها في الفرقة الموسيقية، لكنه لم ينجح في شيء بعد ذلك، إذ عمل بوّاباً في مدرسة ابتدائية وتحول إلى شخصية عدوانية بسبب الفشل.
يسرد "سكوتي" في هذا الفصل المسمى "نكرات ومعارف" قصة علاقته بـ"بيني" وكيف بدأ الاثنان معاً، وفي حين ظل "سكوتي" يراوح مكانه فقيراً بلا اسم، صار "بيني" غنياً ناجحاً يعمل في مكتب وثير في إحدى البنايات العالية في نيويورك. يكشف حوارهما الكثير من مظاهر الزيف في العلاقات، كما يكشف طبائع الناس.
تقول جينيفر إيجان في مقابلة معها في شهر نيسان 2010: "أظن أن كل واحد يكتب بشكل منتقد ساخر عن مستقبل الحياة الأميركية سيبدو كأنه يكتب نبوءة.. أعتقد أننا كلنا جزء من روح الزمن، ونحن نستمع إلى الأشياء نفسها ونستوعبها بوعي أو من دونه".
"زيارة من الزمرة الحمقاء" رواية حزينة ومضحكة وغير تقليدية في الوقت نفسه. وكما تساءلت صحيفة "نيويوركر الأدبية" في تعليقها: "رواية غير خطية وذات رواة متعددين، ومواقع متباعدة للغاية، وحبكة ترتبط بالموسيقى الصاخبة الغريبة في المظهر واللباس والألوان والشعر، وتحدي المظاهر الاجتماعية التقليدية، هل تستطيع أن تصنع الفرق؟".
رابط الموضوع بجريدة الرأي الاردنية
رابط الصفحة الكاملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق