نصار يقرأ ثنائيات النار والنور عند (أبو صبيح)
عمان- الرأي- في ورقة بعنوان (قصيدة الجمر لجميل أبي صبيح: البحث عن الخلاص بين ثنائيات النار والنور)، قال الناقد إياد نصار إنّ عبارات أبي صبيح الشعرية تنساب لتنسج حكاية أو سرداً في موضوعها العام، وتتردد موسيقى بإيقاعها، وتتكدس فيها الصور والرموز والإشارات والتلميحات التاريخية المكثفة لتقدم نصاً غنياً يضع القارىء أمام عمل يمتاز بالنفس الطويل في تجسيد الأفكار المجردة في صور مركبة تجمع ما بين مكون حسي منحوت من البيئة الصحراوية وتابع شعوري.
وأضاف نصار، مساء أمس في رابطة الكتاب الأردنيين، إنه، وبالرغم من صغر حجم الديوان الذي يقع في حوالي السبعين صفحة، إلا أنه ينطوي على بناء فني ذي جماليات لغوية وشعرية تنم عن رؤية متأنية واعية أشبه ما تكون بعمل النحات المتأمل الصبور الذي يرى عالمه متجسداً في وعيه قبل أن ينحته في الحجر، مضيفاً أنه بناء يقوم على إبراز جماليات الصورة الشعرية وتوظيفاتها وإيقاعاتها الحركية وظلالها اللونية لتقديم رؤية فكرية تتناول ما يشغل تفكير الإنسان من معاني تجربة العيش والألم ومكابدة المعاناة داخلياً وخارجياً وانكسار الأحلام والوحدة والرغبة في قهر يباب البيئة المحيطة التي لا تورّث غير الاحتراق بلا طائل، والهروب من سطوة المكان الذي يقتل الروح الى الخلود الفني المتمثل في البحث عن الحرية في الإبداع والتسامي فوق إشكاليات اللغة المعاندة.
وقال إنّ قصيدة الجمر كتاب ينقل متلقيه إلى عالم دانتي في الجحيم، مستدركاً أنه جحيم أرضي منذ بدايته وحتى نهايته، ويمور بالعاطفة والأحاسيس، بل يؤكد سيطرة الشاعر على النص ووعيه بالفكرة التي يأخذها الى آماد أبعد من الاستكشاف.
وشرح نصار أنّ الديوان تسيطر عليه بحكم إقامة الشاعر لسنوات طويلة في الخليج وخصوصاً في قطر أجواء البيئة الصحراوية التي تستحضر صور النار والجمر والحمم والجراد والمضارب والخيام، ولم يتعجب نصار من أن تظل مفردة الجمر والنار تتردد كثيراً، مبيناً أنها بلغت، على سبيل المثال ما يزيد عن ثلاثين مرة في الجزء الأول ، في حين لم ترد صور الماء والبحر والثلج إلا نادراً، وغاب عنها صور الأشجار والأمطار.
وقال نصار إنّ الجزء الأول من «جمر الطريق» تغلب عليه الذاتية ويعنى بإبراز قسوة الحياة وسط الجحيم بمعناه المكاني والإنساني، ولذا تخلو من وجود البشر وخصوصاً المرأة أو مظاهر حياة الإنسان الأخرى، فكل ما حول المتكلم الذي تحترق يداه على المقود وسط حريق الطريق الطويل يستدعي في وعيه صور معاناته المختلفة. وتمثل نصار بالنص: (يقفز ملتهباً في الطريق/ الطريق الطويل الطويل الطويل.. الطريق المدى/ حممٌ من مضاربِ بدوٍ، خيامٌ من الجمر تُشْرِعُ/ أبوابَها تحت جمر الجراد الزّحوف/ في لظى البيدِ يوقدُ رمضاءَها ويَهلُّ رفوفاً تحطُّ عليها رفوف..).
وقال: (لئن كانت «جمر الطريق» تعبيراً عن معاناة العيش في حر الصحراء، إلا أنها ترمز إلى رحلة الإنسان في طريق الحياة حيث الجدب الذي يشير إليه الجراد، وحيث العذاب الذي يفوق الاحتمال الذي ترمز إليه النار)، مضيفاً أنّ هذا الإنسان الذي يحترق ليصنع الفن المتمثل في الشعر، تعلو من حواليه قصور، كأنما يتحول موته إلى حياة بالنسبة الى الآخرين.
وبيّن نصار أن أبا صبيح في الجزء المسمى «جمر الظل»، يبني مشهده على زاوية أوسع من الرؤية التي تخرج عن التجربة الذاتية الى مشهد يمور بكل صور الحياة والحركة والآخرين، مضيفاً أن الشاعر في هذا الجزء قدم تنويعاً على صور الحياة المختلفة، وخرج الى فضاء مجازي تأملي يتجاوز حدود الصحراء، فلم تعد مقتصرة على الإحساس الذاتي الداخلي بمعاناة العيش، بل رأينا- كما قال نصار- القصيدة تنحو الى تقديم رؤية كونية تعنى بكل تفاصيلها من قارات وجزر وشواطيء وبراكين وأنهار وبحار وأشجار وطيور وسماء ونجوم وليال وغيرها، مضيفاً أن الشاعر وظّف ثنائيات متضادة: كالظلال والضوء، النور والعتمة، الحياة والموت، النهار والليل، النار والثلج، الروح والجسد، مبيناً أنّ توظيفات معاني النار والجمر بقيت طاغية على النص. وقال إنّه رأى في هذا الجزء الظل يصبح رمز الخلاص المفقود الذي لا يجيب.
وقال إنه إذا كان الصوت في «جمر الطريق» يصف الأشياء ويعبر عن الحالات النفسية بضمير الغائب للدلالة على غياب الصوت الإنساني، فإن المتكلم في «جمر الظلال» يحكي بضمير المخاطب ويبدو أكثر إحساساً بالأمل، حيث يفتتح الجزء الثاني بمناداة الظل ليكون مانح الحياة في غابة الموت.
وتذكر نصار القصيدة المشهورة للشاعر روبرت فروست الذي توفي في العام 1963 بعنوان «النار والجليد»، مبيناً أنه بالرغم من قصر تلك القصيدة التي تتكون من تسعة أبيات، إلا أنها طرحت قضية مصير الإنسان والكون ضمن إطار فلسفي يستند الى تصورات دينية.
وقارب نصار بين القصيدتين، واجداً في قصيدة فروست ما في قصيدة أبي صبيح من الثنائيات المتضادة للرغبة والكراهية والنار والجليد والحياة والدمار، مضيفاً: لكننا نرى توظيف قصة الطوفان التي تقول إن الله دمر الأرض في المرة الأولى بالماء خلال الطوفان، ولكنه في الوقت ذاته أحيا فيها الإنسان، وكما فعل أبو صبيح في الجزء الأخير من الديوان، فقد استوحى فروست فكرة الحياة من قلب الموت، والثلج وسط الحريق من الجزء المسمى الجحيم في ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي، حيث يبقى أكثر الخاطئين وهم الخائنون في قوالب من الجليد حتى أذقانهم وهم وسط جهنم. وقال نصار: مثلما ربط فروست نهاية الكون ونهاية الحياة بالنار، عبّر أبو صبيح عن تخوف مماثل، فالنار رمز الفناء والتلاشي وفقدان الوجود والألم والاحتراق، إلا أنها التجسيد المتقد العنيف للرغبة الخفية، إنها قوة التدمير والفناء والجدب، وهي رمز العاطفة والانتشاء. وتوخى نصار من ذلك رسم تشابه بين نهاية الحياة بالماء كما أرادها فروست عند سكون العاطفة لتكون مانحة الحياة مرة أخرى، ورغبة أبي صبيح في أن يمنحنا الظلُّ بعضَ الخلاص.
وقال: في ظل هذه الصور يبدو أهل الخليج بلا هوية سوى البياض الذي هو لون ثيابهم، لكنهم خارج الفعل والتاريخ مثل صخور كلسية ويرحلون الى شواطيء مختفية على سفن نخرات كما يصفها والنار تزحف الى عالمهم تريد تدميره من أول الماء حتى آخره. برغم هذه الصور المشحونة بالعاطفة والحرقة، إلا أنها لا تحمل أية مشاعر سلبية أو ضغائن حين يعد نفسه واحدا منهم لكنه يحمل همومهم ويسعى أن يدافع عنهم ، كأنما يرجو أن يصير صقراً ينفض عنهم غبار الزمن.
وشرح نصار أنّ الشاعر يوظف في القصيدة تقنيات مختلفة تتنوّع ما بين الوصف والمناجاة والتساؤل، وتعكس نبرة متقلّبة بين الإحساس بالتحدي والانكسار والعبثية، وتنطوي على تلميحات وتأملات فلسفية تتناول معنى الحياة والشعور بالخواء والوحدة.
وقال إنّ شعر أبي صبيح يعتمد أكثر ما يكون على الخيال في تكوين صور شعرية تقوم على توظيف الغرائبية والفنتازيا والسريالية وإقامة علاقات غير مألوفة بين الدلالات، ومجاورة ما لا يتجاور في الواقع، وتصبح المشاهد الغرائبية المستمدة من البيئة الخارجية مجرد انعكاس للعالم الباطني، وهو لا يكتفي بتكوين تشكيلات بصرية سريالية منفردة بل تتكدس الصور حتى تصبح القصيدة مثل لوحات فنية متتالية تنم عن رغبته اللامتناهية في توظيف قدرة المخيلة على الابتكار.
وأضاف نصار إنّ الجزء الثالث المسمى «جمر الشمس» يفتتح وعلى خلاف الجزئين السابقين بتقديم رؤيا وتنبؤات مهّد لها بأمنيات ورغائب في نهاية الجزء الثاني، وهنا نرى تحولاً بارزاً في التحول من الصور المحسوسة التي تعكس حالات العالم النفسي الداخلي الى مستوى تجريدي يقوم على توظيف صور معنوية غير محسوسة. وقال نصار إن الشاعر في هذا الجزء يبحث عن الخلاص في كلماته وعن حريته في الشعر الذي يستطيع إعادة بناء العالم المنهار ما يمنح الإنسان حريته، وأضاف نصار: يبحث الشاعر عن الأمل فيدرك أنه ليس سوى في نبض حروفه التي تستطيع أن تجعل البحر جليدا وأمواجه غابة كريستال. وهكذا يشرع في بناء ما يسميه مملكته من النور والكريستال.
وقال نصار: يقدم الجزء الأخير رؤية خلاص الإنسان على هيئة ثنائية تتمثل في الشمس والشعر، الشمس منبع النور والضياء تمطر بأنوارها كل جمر يأتي به الأفق، وتمحو من النار عنصرها ومن الجمر جمرته، وأما الشعر فيمحو قلق الكلمات ويتسامى بالإنسان كأنما يصعد الى السماء نحو الحرية والنور. وما يلفت الانتباه كما قال نصار أن خاتمة الديوان تفيض بلغة شعرية إيقاعية تتجسد في مناجاة صوفية تستلهم إشارات تراثية.
وكانت الورقة دللت بنصوص شعرية حلل فيها نصار أسلوباً ولغة وظلالاً أرادها الشاعر أبو صبيح الذي تمتد مسيرته مع الشعر عبر ما يزيد عن ثلاثين عاماً احترمها نصار وقال إن الشاعر قدّم خلالها تسعة دواوين وعدداً كبيراً من اللقاءات والأمسيات والندوات الشعرية، رافقها حضور تجلى في الحوارات الصحفية التي تلقي الضوء على تجربته الشعرية، وفي عدد من الدراسات والتأملات النقدية حول منجزه الإبداعي من قبل عدد من الأقلام في الأردن والعالم العربي في الصحف والمجلات الثقافية العربية.
رابط الموضوع
رابط الصفحة الكاملة
عمان- الرأي- في ورقة بعنوان (قصيدة الجمر لجميل أبي صبيح: البحث عن الخلاص بين ثنائيات النار والنور)، قال الناقد إياد نصار إنّ عبارات أبي صبيح الشعرية تنساب لتنسج حكاية أو سرداً في موضوعها العام، وتتردد موسيقى بإيقاعها، وتتكدس فيها الصور والرموز والإشارات والتلميحات التاريخية المكثفة لتقدم نصاً غنياً يضع القارىء أمام عمل يمتاز بالنفس الطويل في تجسيد الأفكار المجردة في صور مركبة تجمع ما بين مكون حسي منحوت من البيئة الصحراوية وتابع شعوري.
وأضاف نصار، مساء أمس في رابطة الكتاب الأردنيين، إنه، وبالرغم من صغر حجم الديوان الذي يقع في حوالي السبعين صفحة، إلا أنه ينطوي على بناء فني ذي جماليات لغوية وشعرية تنم عن رؤية متأنية واعية أشبه ما تكون بعمل النحات المتأمل الصبور الذي يرى عالمه متجسداً في وعيه قبل أن ينحته في الحجر، مضيفاً أنه بناء يقوم على إبراز جماليات الصورة الشعرية وتوظيفاتها وإيقاعاتها الحركية وظلالها اللونية لتقديم رؤية فكرية تتناول ما يشغل تفكير الإنسان من معاني تجربة العيش والألم ومكابدة المعاناة داخلياً وخارجياً وانكسار الأحلام والوحدة والرغبة في قهر يباب البيئة المحيطة التي لا تورّث غير الاحتراق بلا طائل، والهروب من سطوة المكان الذي يقتل الروح الى الخلود الفني المتمثل في البحث عن الحرية في الإبداع والتسامي فوق إشكاليات اللغة المعاندة.
وقال إنّ قصيدة الجمر كتاب ينقل متلقيه إلى عالم دانتي في الجحيم، مستدركاً أنه جحيم أرضي منذ بدايته وحتى نهايته، ويمور بالعاطفة والأحاسيس، بل يؤكد سيطرة الشاعر على النص ووعيه بالفكرة التي يأخذها الى آماد أبعد من الاستكشاف.
وشرح نصار أنّ الديوان تسيطر عليه بحكم إقامة الشاعر لسنوات طويلة في الخليج وخصوصاً في قطر أجواء البيئة الصحراوية التي تستحضر صور النار والجمر والحمم والجراد والمضارب والخيام، ولم يتعجب نصار من أن تظل مفردة الجمر والنار تتردد كثيراً، مبيناً أنها بلغت، على سبيل المثال ما يزيد عن ثلاثين مرة في الجزء الأول ، في حين لم ترد صور الماء والبحر والثلج إلا نادراً، وغاب عنها صور الأشجار والأمطار.
وقال نصار إنّ الجزء الأول من «جمر الطريق» تغلب عليه الذاتية ويعنى بإبراز قسوة الحياة وسط الجحيم بمعناه المكاني والإنساني، ولذا تخلو من وجود البشر وخصوصاً المرأة أو مظاهر حياة الإنسان الأخرى، فكل ما حول المتكلم الذي تحترق يداه على المقود وسط حريق الطريق الطويل يستدعي في وعيه صور معاناته المختلفة. وتمثل نصار بالنص: (يقفز ملتهباً في الطريق/ الطريق الطويل الطويل الطويل.. الطريق المدى/ حممٌ من مضاربِ بدوٍ، خيامٌ من الجمر تُشْرِعُ/ أبوابَها تحت جمر الجراد الزّحوف/ في لظى البيدِ يوقدُ رمضاءَها ويَهلُّ رفوفاً تحطُّ عليها رفوف..).
وقال: (لئن كانت «جمر الطريق» تعبيراً عن معاناة العيش في حر الصحراء، إلا أنها ترمز إلى رحلة الإنسان في طريق الحياة حيث الجدب الذي يشير إليه الجراد، وحيث العذاب الذي يفوق الاحتمال الذي ترمز إليه النار)، مضيفاً أنّ هذا الإنسان الذي يحترق ليصنع الفن المتمثل في الشعر، تعلو من حواليه قصور، كأنما يتحول موته إلى حياة بالنسبة الى الآخرين.
وبيّن نصار أن أبا صبيح في الجزء المسمى «جمر الظل»، يبني مشهده على زاوية أوسع من الرؤية التي تخرج عن التجربة الذاتية الى مشهد يمور بكل صور الحياة والحركة والآخرين، مضيفاً أن الشاعر في هذا الجزء قدم تنويعاً على صور الحياة المختلفة، وخرج الى فضاء مجازي تأملي يتجاوز حدود الصحراء، فلم تعد مقتصرة على الإحساس الذاتي الداخلي بمعاناة العيش، بل رأينا- كما قال نصار- القصيدة تنحو الى تقديم رؤية كونية تعنى بكل تفاصيلها من قارات وجزر وشواطيء وبراكين وأنهار وبحار وأشجار وطيور وسماء ونجوم وليال وغيرها، مضيفاً أن الشاعر وظّف ثنائيات متضادة: كالظلال والضوء، النور والعتمة، الحياة والموت، النهار والليل، النار والثلج، الروح والجسد، مبيناً أنّ توظيفات معاني النار والجمر بقيت طاغية على النص. وقال إنّه رأى في هذا الجزء الظل يصبح رمز الخلاص المفقود الذي لا يجيب.
وقال إنه إذا كان الصوت في «جمر الطريق» يصف الأشياء ويعبر عن الحالات النفسية بضمير الغائب للدلالة على غياب الصوت الإنساني، فإن المتكلم في «جمر الظلال» يحكي بضمير المخاطب ويبدو أكثر إحساساً بالأمل، حيث يفتتح الجزء الثاني بمناداة الظل ليكون مانح الحياة في غابة الموت.
وتذكر نصار القصيدة المشهورة للشاعر روبرت فروست الذي توفي في العام 1963 بعنوان «النار والجليد»، مبيناً أنه بالرغم من قصر تلك القصيدة التي تتكون من تسعة أبيات، إلا أنها طرحت قضية مصير الإنسان والكون ضمن إطار فلسفي يستند الى تصورات دينية.
وقارب نصار بين القصيدتين، واجداً في قصيدة فروست ما في قصيدة أبي صبيح من الثنائيات المتضادة للرغبة والكراهية والنار والجليد والحياة والدمار، مضيفاً: لكننا نرى توظيف قصة الطوفان التي تقول إن الله دمر الأرض في المرة الأولى بالماء خلال الطوفان، ولكنه في الوقت ذاته أحيا فيها الإنسان، وكما فعل أبو صبيح في الجزء الأخير من الديوان، فقد استوحى فروست فكرة الحياة من قلب الموت، والثلج وسط الحريق من الجزء المسمى الجحيم في ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي، حيث يبقى أكثر الخاطئين وهم الخائنون في قوالب من الجليد حتى أذقانهم وهم وسط جهنم. وقال نصار: مثلما ربط فروست نهاية الكون ونهاية الحياة بالنار، عبّر أبو صبيح عن تخوف مماثل، فالنار رمز الفناء والتلاشي وفقدان الوجود والألم والاحتراق، إلا أنها التجسيد المتقد العنيف للرغبة الخفية، إنها قوة التدمير والفناء والجدب، وهي رمز العاطفة والانتشاء. وتوخى نصار من ذلك رسم تشابه بين نهاية الحياة بالماء كما أرادها فروست عند سكون العاطفة لتكون مانحة الحياة مرة أخرى، ورغبة أبي صبيح في أن يمنحنا الظلُّ بعضَ الخلاص.
وقال: في ظل هذه الصور يبدو أهل الخليج بلا هوية سوى البياض الذي هو لون ثيابهم، لكنهم خارج الفعل والتاريخ مثل صخور كلسية ويرحلون الى شواطيء مختفية على سفن نخرات كما يصفها والنار تزحف الى عالمهم تريد تدميره من أول الماء حتى آخره. برغم هذه الصور المشحونة بالعاطفة والحرقة، إلا أنها لا تحمل أية مشاعر سلبية أو ضغائن حين يعد نفسه واحدا منهم لكنه يحمل همومهم ويسعى أن يدافع عنهم ، كأنما يرجو أن يصير صقراً ينفض عنهم غبار الزمن.
وشرح نصار أنّ الشاعر يوظف في القصيدة تقنيات مختلفة تتنوّع ما بين الوصف والمناجاة والتساؤل، وتعكس نبرة متقلّبة بين الإحساس بالتحدي والانكسار والعبثية، وتنطوي على تلميحات وتأملات فلسفية تتناول معنى الحياة والشعور بالخواء والوحدة.
وقال إنّ شعر أبي صبيح يعتمد أكثر ما يكون على الخيال في تكوين صور شعرية تقوم على توظيف الغرائبية والفنتازيا والسريالية وإقامة علاقات غير مألوفة بين الدلالات، ومجاورة ما لا يتجاور في الواقع، وتصبح المشاهد الغرائبية المستمدة من البيئة الخارجية مجرد انعكاس للعالم الباطني، وهو لا يكتفي بتكوين تشكيلات بصرية سريالية منفردة بل تتكدس الصور حتى تصبح القصيدة مثل لوحات فنية متتالية تنم عن رغبته اللامتناهية في توظيف قدرة المخيلة على الابتكار.
وأضاف نصار إنّ الجزء الثالث المسمى «جمر الشمس» يفتتح وعلى خلاف الجزئين السابقين بتقديم رؤيا وتنبؤات مهّد لها بأمنيات ورغائب في نهاية الجزء الثاني، وهنا نرى تحولاً بارزاً في التحول من الصور المحسوسة التي تعكس حالات العالم النفسي الداخلي الى مستوى تجريدي يقوم على توظيف صور معنوية غير محسوسة. وقال نصار إن الشاعر في هذا الجزء يبحث عن الخلاص في كلماته وعن حريته في الشعر الذي يستطيع إعادة بناء العالم المنهار ما يمنح الإنسان حريته، وأضاف نصار: يبحث الشاعر عن الأمل فيدرك أنه ليس سوى في نبض حروفه التي تستطيع أن تجعل البحر جليدا وأمواجه غابة كريستال. وهكذا يشرع في بناء ما يسميه مملكته من النور والكريستال.
وقال نصار: يقدم الجزء الأخير رؤية خلاص الإنسان على هيئة ثنائية تتمثل في الشمس والشعر، الشمس منبع النور والضياء تمطر بأنوارها كل جمر يأتي به الأفق، وتمحو من النار عنصرها ومن الجمر جمرته، وأما الشعر فيمحو قلق الكلمات ويتسامى بالإنسان كأنما يصعد الى السماء نحو الحرية والنور. وما يلفت الانتباه كما قال نصار أن خاتمة الديوان تفيض بلغة شعرية إيقاعية تتجسد في مناجاة صوفية تستلهم إشارات تراثية.
وكانت الورقة دللت بنصوص شعرية حلل فيها نصار أسلوباً ولغة وظلالاً أرادها الشاعر أبو صبيح الذي تمتد مسيرته مع الشعر عبر ما يزيد عن ثلاثين عاماً احترمها نصار وقال إن الشاعر قدّم خلالها تسعة دواوين وعدداً كبيراً من اللقاءات والأمسيات والندوات الشعرية، رافقها حضور تجلى في الحوارات الصحفية التي تلقي الضوء على تجربته الشعرية، وفي عدد من الدراسات والتأملات النقدية حول منجزه الإبداعي من قبل عدد من الأقلام في الأردن والعالم العربي في الصحف والمجلات الثقافية العربية.
رابط الموضوع
رابط الصفحة الكاملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق