الأحد، يناير 23

نخب النهايات السعيدة لعبد الستار ناصر


لماذا قضى عبد الستار ناصر ليلته الاخيرة بعمان في العتمة؟
نخب النهايات السعيدة
قصص طافحة بالحزن

إياد نصار

قبل سفره من عمان بثلاثة أيام ، وصلت الى عبدالستار ناصر ، من دمشق ، ثلاث نسخ فقط من مجموعته القصصية الاخيرة ، التي صدرت للتوّ عن دار المدى في سورية. وكان من حسن حظي أن خصّني بواحدة منها ، بعد أن وشّحها بخط يده بالكلمات التالية: "هذه آخر ما كتبت من قصص ، ولا أظنني سأكتب شيئاً بعدها.. كنت صديقاً وفيّاً في رحلة عمان ، وستبقى كذلك في خاطري وأنا تحت سماء تورنتو.. لك المحبة والتقدير". لم أكن محظوظاً أنني عرفت عبد الستار ناصر عن قرب خلال السنوات الثلاث الماضية وحسب ، بل كنت محظوظاً أن كنت معه ، ومع زوجته القاصة والروائية هدية حسين ، في وداعهما في بيتهما في صويلح في الليلة الاخيرة ، التي سبقت سفرهما ، وربما الى الابد ، الى كندا بعد أن حصلا على اللجوء هناك.


لم أكن أحب أن تودّع عمان ضيفها العراقي الجميل الذي أتعب قلبه هوى المدن والنساء والقصة القصيرة في آخر ليلة على العتمة. لقد قطعت الشركة عنه الكهرباء في آخر ليلة بسبب اجراء بيروقراطي ، فقضينا الليلة على ضوء الشموع الخافت. أعطى عبد الستار ناصر الكثير من حبه وقلمه وذكرياته وكتبه لعمان ، وبادلته المدينة حباً بحب. سافر عبد الستار وهو يحمل في قلبه هوى لا ينضب من شوق الى ربة عمون ، والى حاناتها والى شطائرها اللذيذة من الفلافل التي أصر أن يتناولها تقريباً في كل ليلة من لياليه الاخيره هنا.

كان عبد الستار يجمع من حوله الاصدقاء بصدقه ، وصراحته المعهودة الجريئة ، وصلابته في التعبير عن آرائه رغم ضعف جسده المنهك ، وقصور الارادة أمام الرغبة ، وخفوت لذة الحياة ، بعد أن خرج سالماً ضعيفاً هشاً من حادث سيارة وجلطة قلبية وجلطة دماغية ، حدثت كلها بتواريخ صادفت أن احتوت الرقم 9 فيها ، حتى صار عبد الستار لا يغادر بيته في اليوم التاسع من كل شهر تشاؤماً من الرقم.

كنا نجتمع دائماً في بيت الصديق العراقي عواد علي ، رفقة الاستاذ محمود الريماوي والصديق الاديب محمود منير والكاتب الصحفي العراقي شاكر الجبوري ، وأحياناً نلتقي في مقهى ، وتمتد سهرتنا حتى وقت متأخر ، وتأخذنا الاحاديث في كل واد ، بدءا بالقصة وليس انتهاء بالشبكة العنكبوتية. وكما هو معروف لأصدقائه ، فإن عبد الستار لا يعرف من العالم الرقمي شيئاً ، وكان يقول بحسرة أن أمامه الكثير ليتعلّمه. وكان يبدو عليه الذهول كلما سمعنا نتحدث عن الانترنت والفيس بوك والهوتميل وغيرها من هذه المفردات اليومية ، التي صارت عناويننا وساحات ملاعبنا ودواوين تواصلنا. وأظنه كان يود كثيراً أن يتعلم الانجليزية كي تكون البوابة التي يدخل بها الى عوالم الطلاسم الرقمية هذه.

أمضى عبد الستار ، أو ستّار كما اعتاد أصدقاؤه العراقيون أن ينادوه ، الاسابيع الاخيرة منشغلاً بتوزيع مكتبته على أصدقائه. وامتدّ الامر الى توزيع أوسمته وتذكارات تكريمه عليهم. كان لدى عبدالستار الكثير مما جمعه في رحلة العمر الطويلة التي امتدت عبر اثنين وخمسين كتاباً ، ما بين مجموعاته القصصية ، وكتبه في السيرة الذاتية ، مثل ثلاثية "الهجرة نحو الامس" ، أو في المسرح ، أو في التراجم الادبية ، مثل كتابه "الاردن ومبدعوه". بل لقد أسرّ اليّ أنه اضطر الى التخلص من كثير من شهادات التكريم لأنه لا يستطيع أن يحمل معه كل شيء ، ولم تعد تلزم ذاهباً مثله الى عالم العزلة الهادئة في كندا، منذ أن حصل عبد الستار على الموافقة على الهجرة ، صار يردد أنه يريد الاستقرار هناك للعلاج والاستمتاع بالحياة فيما تبقى له من عمر في هدوء ورقة عيش ، بعد أن ذاق في حياته كل أنواع المرارات ، وشظف العيش ، ومشاق الترحال والغربة ، وغضب السلطة. وكان يردد أنه سيهجر الكتابة الى الابد ، فما أنجزه يكفي ، بل ويكفي كثيراً، وأظن أن هذا يفسر لماذا كتب في الاهداء على مجموعته الاخيرة ، أنه لا يظن أنه سيكتب شيئاً بعدها. والحقيقة أن عبد الستار ، ومنذ أن أصيب بالجلطة الدماغية الاخيرة في صيف العام 2009 ، فقد القدرة على السيطرة على القلم ، ولم يعد بامكانه الكتابة ، فكانت هدية حسين تكتب له ما يمليه عليها من قصص ، بل إن كتابة إهداء على كتاب كان يأخذ منه وقتاً طويلاً كي يفرغ منه بأناة شديدة.

ولهذا كثيراً ما كان يهدي مجموعاته القصصية الى أصدقائه دون كتابة إهداء عليها ، وعندما كانوا يطلبون منه أن يوشحها بكلماته ، كان يضغط على نفسه ليكتب بضع كلمات. لقد حدث هذا أمامي عدة من مرات ، وكان آخرها في تلك الامسية الجميلة ، التي اقامتها الصديقة والاديبة ليلى نعيم ، التي أحبت أن تودع هدية حسين وعبدالستار ناصر على طريقتها ، فدعتنا نحن مجموعة من أصدقائه جميلة عمايرة ، وزهير أبو شايب ، وبتول الخضيري ، ولطفية الدليمي ، ومريم الصيفي الى بيتها على مأدبة وداعية جميلة تمتليء بكل الاطايب الشامية اللذيذة ، وفيها وزع عبد الستار ما تبقى من كتبه وحتى أرشيفه ، الذي خصني بجزء من أجزائه الثلاثة. كما حرص بعض الاصدقاء على وداع عبد الستار ، تقديراً له ولمكانته ، ولما أضافه وجوده الى رصيد عمان الابداعي ، وأذكر أن صديقنا الشاعر موسى حوامدة استضافه على عشاء قبيل سفره ، الى درجة أن ظل اسبوعاً بأكمله ، وهو يذكّرنا بلذة الاكل في ذلك المطعم الذي لم يذق مثل طعمه من قبل،.

كان عبدالستار انساناً عظيماً رائعاً ، يجذب مستمعيه بأحاديثه الممتعة ، التي لا تخلو من طرافة ، أو جرأة في التصريح ، أو درجة عالية من الصدق مع الذات والاخرين ، وكان جميلاً في حديثه مثلما كان في قصصه ، التي ملأها دائماً بمواقف السخرية المضحكة أو الكوميديا السوداء. وكان طيب النفس نبيل الخصال وكريم ذات اليد. كان وفياً ومحباً ، لا يحب أن يثقل على أحد شيئاً مهما كان. وبرغم ما مر به من ظروف صعبة ومرض ، إلا أنه بقي عاشقاً لعمان يهيم في حب أدراجها ومحلاتها ومقاهيها وطقسها. لكنه كان يشكو من كثير من الزيف في علاقات بعض أدبائها معه ، ومع بعضهم بعضاً ، وكان يحس بطبعه المرهف تلك المفارقة التي صار يعرفها ، وصرح بها أكثر من مرة في جلساتنا ، وهي تلك المودة التي كان ظاهرها الحب وباطنها اللاأبالية. ولم ينبس الرجل بكلمة عتب واحدة. قال ذات مرة أنه حضر عشرات الندوات والامسيات والنشاطات والمهرجانات وحفلات توقيع الكتب التي دعي اليها وشارك بها ، سواء في رابطة الكتاب أو في مركز الحسين الثقافي ، أو المركز الثقافي الملكي أو تايكي أو غيرها ، ولم يفكر أحد أن يخصص ندوة عنه أو يستضيفه للحديث عن أدبه أو مجموعاته التي جعلت منه أهم أديب وقاص في العراق حالياً ، وربما في العالم العربي. وكنت أقول له يا ستّار شدة القرب حجاب، أعتقد أنني كنت أقرب الناس الى عبد الستار في السنوات الثلاث الاخيرة من اقامته في عمان التي امتدت اثني عشر عاماً ، ولم يكن ينقطع الاتصال بيننا ، وكنا نلتقي بشكل شبه أسبوعي. وقد حظيت من خلال ذلك بتواصل أدبي ونقدي أعتز به مع زوجته هدية حسين ، التي كنت أتبادل واياها الحديث اسبوعياً حول مواد الملاحق الثقافية الاردنية. كما حظيت برفقة عبد الستار الى حضور عدد من الندوات واللقاءات والمعارض. كنت معه معظم الوقت ونحن نتجول بين أجنحة دور النشر في يوم افتتاح معرض عمان الاخير للكتاب. وحينما توقفنا عند زاوية مكتبة مدبولي المصرية كان سعيداً عندما وجد كتابه "مقهى الشاهبندر" معروضاً. وما زلت أذكر عبارته المعبّرة: "لست مضطراً لشرائه من أجلي". بل إنه ورغم انشغاله بالسفر ، إلا أنه لم ينقطع وحتى آخر يوم عن المشاركة في نشاطات عمان الثقافية بمختلف ألوانها ، فقد حضرنا معاً ندوة في مؤسسة شومان حول روايات الصديق صبحي فحماوي ، في الليلة الاخيرة التي سافر فيها. لقد كانت لديه طاقة غريبة على التحمل والحركة والسهر. في تلك الليلة استذكر عبدالستار بعض أصدقائه مثل عزمي خميس والصديق الناقد زياد أبو لبن ، الذي قال إنه فاجأه ذات يوم مفاجأة سعيدة باقتباس كان يعني الشيء الكثير بالنسبة له وهو: "لو أنهم قالوا ما قالوه عني بعد موتي في حياتي لكانت تكفيني أن أبقى بينهم عشرة أعوام أخرى".



"نخب النهايات السعيدة".. قصص طافحة بالحزن

لا أعرف لماذا اختار عبدالستار ناصر عنوان "نخب النهايات السعيدة" لمجموعته الاخيرة ، لكنّ الامر يستحق عناء البحث عن تفسير مناسب. كان عبد الستار مولعاً بالعناوين الغربية المشتقة من مألوف العبارات مع التحوير ، أو تلك التي تقول شيئاً وتعنى آخر. ولهذا تجد بين عناوينه "أسعد رجل في العالم" ، و"على فراش الموز" ، و"قشور الباذنجان" ، و"ملائكة الزحمة"، ولابد أنه كان في ذهنه أنه قد وصل نهاية الشوط في كتابة القصة ، فلا أقل من أن يقطع الشريط ويحتسي نخب النهاية السعيدة ، لأنه بقي حياً بعد أن صار ، وكما أطلق على نفسه ، أخطر قاص في العالم العربي ، لأنه ثبت له أن قصة واحدة كفيلة أن ترسلك وراء الشمس ، أو تودي بك الى زنزانة انفرادية تحت الارض لمدة عام كامل، كما أنه عنوان قصة في المجموعة ذاتها ، وربما وجد أنه الانسب الذي راقه لكي يكون العنوان.

كتبَ عبد الستار قصص المجموعة ما بين عام 2008 والنصف الاول من عام 2009 قبل مرضه ، وهي تضم ستاً وعشرين قصة ، وتفتتح بقصة فانتازية من وحي الخيال الافتراضي ولا أقول العلمي ، فلم يكن هذا المجال يستهويه ، تدعى "عام "2057 ، حول استحالة انتهاء مفهوم التفرقة العنصرية ، وتنتهي بواحدة تدعى "آخر القصص". وقد شدني عنوان الاخيرة اليها وقرأتها أولاً ، وقد تمكن من خداعي ، فاكتشفت أنها ليست آخر ما كتب ، رغم أن نبرتها اعتذارية انسحابية من راوْ يعتذر عن تعب قلبه ، فلم يعد يستطيع الكتابة بعد أن كان فارساً جموحاً ، وصار يحس أنه آن أوان الرحيل ، الذي لم يأت بعد. وأظن أن القاريء سيجد فيها روح عبد الستار المهزومة ، التي اثقلها الداء والغربة ومصير الأديب في العالم العربي. كان عبد الستار يضحك عندما أخبره أن أديباً ما في الغرب نال كذا وكذا من عوائد مادية وتكريم بسبب كتاب أو رواية ، فيقول لي حسبنا هنا ألا ندفع للناشر بعد هذا المشوار، وأذكر أنه أحصى لي كل ما حصل عليه من ريع كتبه ، فكانت شيئاً مضحكاً مقارنة بكتبه الاثنين والخمسين ، الى درجة أنه كان يشتري من الناشر بعض النسخ التي يحتاجها من كتابه على سبيل الاهداء.

في هذه المجموعة عدة من قصص لا تنسى. أهمها وأخطرها قصة "سيدنا الخليفة" التي انتقد فيها خال نائب الرئيس يومها ووالد زوجته ومحافظ بغداد ، خيرالله طلفاح ، على إثر قرار اتخذه المحافظ بأن يقص رجال الشرطة شعر أي رجل يرونه في الشارع إن بدا لهم أنه أطول مما ينبغي، وكان من سوء عبد الستار تلك الايام أن كان خارجاً متأنقاً ممشطاً شعره الناعم ، وخاصة أنه كان شديد الوسامة في شبابه للقاء خطيبته ، فوقع في أيدي رجال شرطة يحملون مقصاً ، فأطلقوا لمقصهم في شعره العنان ، ورسموا فيه أشكالاً ودروباً بطريقة مؤلمة مضحكة ، أصابته في الصميم، ولم يكتف المحافظ بذلك ، بل أصدر تعليماته لرجال الشرطة بدهن سيقان النساء بالاصباغ اذا خرجن غير متسترات ، ما ينتهك - في عرفه - الاحتشام، فكتب تلك القصة على إثرها في نقد السلطة الفردية الديكتاتورية المفرطة التي تتصرف بعقلية قراقوشية تستبيح خصوصية الناس ، وفي الاحتجاج على الظلم والقتل وجو الرعب السائد. ومما جاء فيها: "فقد قنعنا برغبة مولانا في أن يقص شعورنا الطويلة ، وضحكنا معه لما شق بنطلوناتنا في الشوارع العامة ، بل مددنا اليه أيدينا وهو يصبغ أفخاذ بناتنا في الجامعة والأسواق وتحت نصب الحرية". وكان نصيب عبد الستار ، بعد أن نشرتها مجلة الموقف الادبي السورية ، أن أعتقل انفراديا في زنزانة تحت الارض ، لم ير فيها الشمس مدة عام كامل ، وفصل من عضوية اتحاد الأدباء في العراق. والقصة لا تخلو من قوة عبارة ، أو جرأة عالية في النقد ، أو تصوير ساخر لاذع لواقع الحال: "وفي شوارعنا العتيقة التي تتبخر منها روائح السمك البائت والأجساد المعذبة في السجون ، أغلقوا علينا كل شيء..".

في "معراج الابدية" نقد حزين مرير لواقع الثقافة العربي ، حيث لا يلتفت أحد الى الكاتب الا عندما تصعد روحه الى السماء في معراجها الابدي ، وعندها تصبح كتبه محل تقدير ، بعد أن كنت مهملة لأعوام. تتسم القصة ، مثل كثير من قصص عبد الستار ، بأسلوبه الساخر الذي يمزج بين الواقع والخيال ، ويجمع ما بين أسماء حقيقية لأشخاص أو كتب أو أماكن ، وما بين شخصيات قصصه. بل إن اسم بطل قصته سيدنا الخليفة هو عبدالستار ناصر، في هذه المجموعة يقترب عبد الستار أكثر من السرد الحركي المواكب للأحداث ويبتعد عن الوصف والتأملات الرتيبة.

أما قصة "البحث عن الذهب" التي يتذكّر فيها الراوي شخصية البطلة في فيلم شارلي شابلن "البحث عن الذهب" والتي تذكره بحبيبته المفقودة ، فهي زاخرة ، كعادته في قصصه ، بالاسماء ، لكنها تجري في فضاء المكان العماني ، فهناك أسماء شوارع وأدراج وأحياء وحتى صيدليات في عمان ، من أبو نصير الى ماركا ، ومن درج الكلحة الى عراق الأمير. قصة عاشق ساذج يظن أنه يحب امرأة التقاها في موقف عابر ، ويظل يبحث عنها ، كمن يبحث عن إبرة في كومة قش ، بلا طائل. وحينما يجدها بعد جهد مضنْ ، رغم أنها كانت قريبة منه طيلة أشهر لا تعيره اهتماماً. إنها قصة حب من طرف واحد لرجل يطارد أوهاما يسميها الحب ، وتنتهي بكل حزن وذهول وبلادة.

أما قصة "لماذا ينهق الحمار" والتي نشرت منذ مدة في "الدستور" ، فتنتقد بأسلوب ساخر لاذع شديد التهكم والنقد الذاتي واقع الخلافات الطائفية والمذهبية في العراق ، التي صارت تفرض واقعها على الناس وتمنع تواصلهم. قصة حب تنتهي بالحزن ، لأن أبطالها بقوا أسرى تصوراتهم الطائفية ، وقبلوا أن يظلوا خاضعين للارهاب المذهبي. قصة توظف أسلوب الأمثولة الرمزي على ألسنة الحيوانات ، ولكن ليس لأجل الحكمة والموعظة ، بل لأجل السخرية من الافكار التي تلغي انسانية الانسان. أما "أدغال الامازون" ، فتحكي عن سوء الفهم الثقافي بين الشعوب ، وتنتهي بضحكات ساخرة تدفع البطل الافريقي الى الهروب حزناً.

أما قصة "آخرة الوحشة" فيرويها رجل هامشي ثمل لا يميز المكان ويخلط بين المقاهي والحانات والعواصم ، تارة يظن نفسه في دمشق ، وتارة في بغداد ، وتارة في القاهرة. تنتقد القصة واقع الحال العربي: "مع أن المسافة بين القاهرة وبغداد والشام تحتاج الى طائرات وأجنحة وتأشيرات وألف سؤال وسؤال". إنها قصة المواطن العربي المسحوق ماسح الاحذية ، وغاسل الأطباق ، والشحاذ في الطرقات. "وهل من أحد يعبأ ببقايا انسان يزحف في الطابق السفلي من المدينة بحثاً عن طعام حتى يتمكن من البقاء يوما آخر؟". ومرة أخرى إنها قصة الحزن اليومي للمواطن العربي المهمش المنبوذ.

في قصة "الافعى والدرويش" ، يدخل عبدالستار عالم السرقات الادبية بأسلوبه الفكاهي الساخر ، الذي يتحول فيه بعض الكتاب الى مبدعين في نظر الصحافة والناس ، بفضل مهاراتهم في فن السطو. تطرح القصة بأسلوب لا يخلو من الطرافة كيف يسطو كاتب على أعمال أجنبية وعربية من هنا وهناك ليصنع منها قصة. ويرمز العنوان الى هذا الجمع الغريب بين متناقضات ، فكأنما يخلطون الافعى بالدرويش ، حتى لتبدو الامور عفوية وهي بحد ذاتها تنطوي على دهاء خبيث.

يميل عبد الستار ناصر في قصصه عادة الى استخدام الراوي بضمير الأنا. في قصة "صباح الخير غداً" ، يحكي الراوي عن نفسه وعن عالم الوحدة والجنون الذي يعاني منه. مريض في مستشفى لا يعرف أين هو ، ولا ماذا يعمل ، لكنه يعيش على ذكريات وأوهام صنعها لنفسه. وفي قصة "بيت كبقية البيوت" نكتشف في نهاية القصة أنه قبر ، وأن الراوي هو الميت الذي لم يعد يفكر في الخروج من قبره ، فقد صار يجد فيه من الهدوء والراحة ما لا يجده الاخرون خارجه. قمة السخرية والنقد أن يصبح القبر الجنة التي يحلم بها الإنسان. ومرة أخرى يدخل عبد الستار عوالم الحزن والموت والنهايات البائسة.

أما القصة التي أعطت المجموعة اسمها ، فتتّبع في الحقيقة أسلوب القصة داخل قصة ، وتشد القارىء من أول جملة فيها. انتهت القصة التي كتبها حمدان أبو الدبس في أول الليل ، وبغداد تحت المطر والثلج. ينطوي عنوان القصة داخل قصة على سخرية واضحة "الاقامة في العسل". إنها قصة تقليدية ذات نهاية سعيدة تحكي عن بطلة تنتقل من ذئاب أذاقوها الذل والمرارة الى سعادة زوج اسمه السيد حسون. يذكرنا الاسم ببطل القصة الطويلة الشهيرة "رجل ملامحه الطفولة" في مجموعته قبل الاخيرة "السيدة التي دخلت" والتي صدرت منتصف العام 2010 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. واذا كانت قصة حمدان لا تستحق الالتفات اليها ، فإن قصة عبد الستار ناصر مختلفة ، وأجمل، صار المؤلف حمدان مشهوراً تأتيه الدعوات من بيروت والقاهرة والدار البيضاء ، ويملأ اسمه الصحف ، وتنهمر الجوائز عليه ، بينما أقرانه الذين لا يقل ابداعهم عنه أصبحوا فريسة الاهمال والتهميش في بغداد. المفارقة أن قصصه لا تمت للواقع بصلة. فهي لا تعرف سوى الفرح والنهايات السعيدة ، بينما تطرح قصصهم مؤامرات السياسة وعوالم الشر. ويستمر الحظ مبتسماً له بفوزه بجائزة الدولة التقديرية وجائزة تونس التي أُطلق عليها النهايات السعيدة. غير أنه في الصباح حينما يذوب الثلج ويظهر ما تحته ، يستيقظ حمدان على صدمة الحقيقة: ترفض الصحيفة قصته التي لا تعني لأحد شيئاً. واضح أسلوب المفارقة والسخرية والتضاد لفضح الممارسات الوصولية في عالم الادب ، وتعزيز فكرة غياب العدالة ، والمحاباة ، وانقطاع الادب عن هموم الناس ، بينما الادب الحقيقي في الظل لا يلتفت اليه أحد.

زواج الفن من الحقيقة
في مجموعته قبل الاخيرة التي ذكرتها آنفاً ، يحدد عبد الستار ناصر بعض ملامح مفهوم فن القصة بالنسبة له ، وهو الابداع الذي يتمكن من "زواج الفن من الحقيقة". فبرأيه أن كل قصة تخفي قصة حقيقية خلفها ، وتعبر عن غضب مكتوم في نفس الكاتب ينقله الى قرائه. ولكن قراءة القصة لم تعد مجرد متعة سهلة في هذا العصر ، الذي صارت وسائل الاعلام والترفيه تنافس الكتاب ، فقد صارت قراءة مجموعة قصصية عملاً عظيماً وصعباً للغاية ، بل وأصعب من أي نشاط آخر. وهنا تظهر قدرة الكاتب على كسب قلوب الناس ، لأنه "بدون الانسان ليس ثمة معنى للقصة أو الشعر أو الرسم أو الفلسفة".

في قصة "رائحة شيء يتوارى" يعود عبد الستار الى طرح مفهوم لطالما طرحه في قصصه السابقة بصور شتى. إنه مفهوم الميت الذي يرفض أن يموت ، ويعود الى الحياة ليروي القصة ، لكنه يرى ما لا يراه الاخرون ، ويتصرف كما لو أنه حي ، غير أن سرعان ما يدرك حقيقته المرة وهو أنه صار غير مرئي. شعور متناقض من الفرح والبؤس ، ومن القدرة على تحدي الفناء ، واحساس طاغْ بالعزلة والوحدة. وفي قصة "الحب رمياً بالرصاص" يعيدنا الى أجواء رواية "الطاطران" وثيماتها وأمكنتها ، وما يكتنفها من تنقل وسفر ونساء ومدن لا تنام. وكان دائماً يردد أن "الطاطران" من أقرب الروايات الى قلبه ، التي ظُلمت كثيراً. كان حزيناً لأن ناشرها لم يراهن على فوزها بجائزة البوكر للرواية ، فلم يشترك بها في الاساس. وكان دائماً يردد باللهجة العراقية في ثقة إنها "رواية "كلّش رائعة" ، لو شاركت بالبوكر ، لا أقول ستفوز ، لكنها ستصل الى القائمة القصيرة بسهولة"، في قصص عبد الستار التي تجري خارج المكان العراقي ، يميل الى ايراد الكثير من أسماء المدن والاحياء والأزقة والشوارع والمحلات ، وحتى الخفايا ، التي لا يعرفها سوى سكانها. هكذا فعل في قصة "خلوة الغلبان" التي تجري أحداثها في حواري القاهرة ، وهكذا فعل في القصص كلها التي تجري أحداثها في عمان ودمشق ، وحتى المدن والموانيء الاوروبية وخاصة الايطالية التي عرفها عن قرب أو مر بها. وله قدرة مذهلة على تذكر تفاصيل المكان. بل ويذهب الى القارة القطبية الشمالية بحثاً عن مكان لأبطاله بين الفقمة والدببة القطبية ، كما في قصة "رجل من تمبولاتا".

في "نخب النهايات السعيدة" مفارقات لا تنتهي. ففي حين تسيطر أجواء الحزن وخيبة الامل والسخرية والنهايات الحزينة الطافحة بالألم والمعاناة على المكان العربي وتحيله الى فضاء يقتل روح انسانه ، ويحوله الى وصولي أو فاسد أو مجرم أو مهمش ، فإنه في المقابل نجد بريق الحياة في المدن الاوروبية التي تتنفس وتفوح برائحة الحب والنبيذ والمتعة والجمال مثل قصة "موت المؤلف". والطريقة التي يتحدث بها رواة قصصه عن المكان تكاد تتطابق مع حديثه في سيرته عن المكان الذي عرفه في رحلاته وسفراته ، ما يعيدنا الى مقولته بأن خلف كل قصة هناك قصة حقيقية. ويبدع عبد الستار في رسم نهايات قصصه بطريقة احترافية ذكية توقع القارىء في حبائلها. في كثير من الاحيان يغلف نهاياتها بالغموض ، ولا يترك للقارىء سوى بضعة أدلة خفية شفيفة لكي ينقذ نفسه ويصل الى فكرته الجميلة ، ولعل هذا ما يشير اليه ضمناً ذلك الاقتباس عن بنجامين فرانكلين الذي يطالعك في أول صفحات المجموعة: "تعلمنا النملة أشياء كثيرة دون أن تنبس بكلمة"، وبعد ، فقد أحببت أن تكون كلماتي عن مجموعته الاخيرة كلمة وداع للمهاجر الانسان.

رابط المقالة بصحيفة الدستور الأردنية

رابط الصفحة الكاملة (الرجاء الانتظار قليلا ريثما يتم التحميل)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق