ترجمة الادب العربي: مشكلات وآفاق
اياد نصار
*نشرت في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 17/6/2011
شهد العقدان الاخيران انعقاد عشرات الندوات والمؤتمرات واللقاءات حول ترجمة الادب العربي الى اللغات الاوروبية وخصوصاً الانجليزية، وقد كان هناك طفرة واسعة في ترجمة الاعمال الادبية من شعر وقصة قصيرة ورواية ومسرحية ونقد، ولم تقتصر اهتمامات المترجمين على الاعمال الأدبية، وإنما اجتذبتهم أيضاً المصادر والمؤلفات التراثية والدينية والجغرافية وغيرها، غير أن طفرة ازدهار الرواية عالميا انعكست على صعيد الاهتمام بالرواية العربية المعاصرة، وامتدت الى مجال ترجمتها، فانتشرت ترجمات الرواية العربية على نحو واسع.
والمترجمون هم من يقدمون أدبنا العربي الى القراء في العالم، وهم من يساهمون، وبدور لا يقل أهمية عن أدبائنا، في رسم معالم الصورة التي يحملها الآخر عنا وعن ثقافتنا. وفي هذا المجال، لعبت مطبعة الجامعة الامريكية في القاهرة، وما تزال، دوراً كبيراً في ترجمة الادب العربي الحديث ونشره. وأشيد في هذا المجال بجهود بعض المترجمين العرب الذين لقيت ترجماتهم انتشاراً واستحساناً مثل عايدة بامية، وابراهيم مهوي، وبولا حيدر، ورشيد العيناني، وسماح سليم، وأهداف سويف وغيرهم، وكانت لا تقل جودة وروحاً أدبية ابداعية عن ترجمات المترجمين الاجانب المعروفين وعلى رأسهم المترجم البريطاني "الاشهر في زماننا" كما وصفه ادوارد سعيد ذات يوم وهو دينيس جونسون ديفيز.
الترجمة لا تعني استبدال كلمة بأخرى، بل هي فن في الأساس. فن في ابراز جوهر الابداع ، وفن في اقامة علاقة انسانية مع صاحب العمل يستند اليها المترجم في فهم خفايا العمل ومقاصده. ينبغي على المؤلفين الانتباه الى ضرورة اقامة صلات مع المترجمين، فالمرء يستغرب من دواعي اختيارات المترجمين أحياناً، فمرة يترجمون رواية معروفة لكاتب مثل نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس، ومرة يختارون رواية أولى لكاتب جديد يعتقدون أن لها أهمية أدبية. وتحتاج العلاقة ما بين المؤلف والمترجم الى قدر كبير من الثقة المتبادلة، وخاصة اذا كان المؤلف لا يعرف شيئاً عن اللغة المستهدفة، فيحس بالعجز عن الحكم مباشرة على نجاح المترجم في نقل رؤيته وأسلوبه وأفكاره ومناوراته الفنية واللغوية ومقاصده الخفية. إن المسؤوليات الملقاة على عاتق المترجم كبيرة، وقد يحس المترجم أن المؤلف لا يقدّر مقدار الجهد المبذول في ترجمة كتابه، مما قد يصيبه بالاحباط، وإن لم يعبر عنه بشكل صريح. غير أن هناك دائماً ثنائية جدلية: الترجمة تتيح للعمل الأدبي الانتشار عالمياً، وقد ترفع من مكانته بين أقرانه من الأعمال الاخرى، لكن قد لا تتوفق في نقل روح العمل الاصلي وجمالياته وبلاغته اللغوية وأصالته الفكرية.
ذكر المترجم البريطاني الأصل روجر مايكل آلان الذي يعمل أستاذا للغة العربية والأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا منذ ما يزيد على أربعين عاماً في مقالة له في مجلة دراسات أدبية مقارنة، العدد 4 لعام 2010 بعنوان"الخائن السعيد: حكايات الترجمة" أن كلمة مترجم في الايطالية توحي بعض دلالاتها بمعنى الخائن.
وفي هذا الصدد أود أن أشير الى مصطلح أسميته الرتمجة؛ وهو ترجمة النص الى اللغة المستهدفة دون القدرة على ايصال المعنى الكامن في النص الذي أراده المؤلف أو فقدان القدرة على إدراك المعنى الحقيقي، فيترجم المترجم معنى آخر غير المقصود أو يختلف في روحه عن روح العمل الاصلي. وتبدو الترجمة في الظاهر ترجمة أدبية لكنها خاطئة أو غير دقيقة، أو تتصرف بالمعنى، فهي تحقق الترجمة شكلا لا موضوعا، فهي إذن نقل غامض غريب، وأحرى أن تسمى رتمجة، وفعلها رتمج ويرتمج.
في حوار مع صحيفة العرب نيوز السعودية بالانجليزية في عام 2006 تحت عنوان " لورنس الادب.. أنطوني كالدربانك مترجم للحب"، ذكرت الصحيفة أن كالدربانك لا يجد متعة في ترجمة الادب العربي الى الانجليزية وحسب، ولكن الرضى أيضاً. وبعد أن حصل على شهادة في اللغة العربية الكلاسيكية من مانشستر، فقد شعر بنزعة مثالية رومانسية الى الشرق، وبانجذاب الى الخط العربي، مما حدا به الى المجيء الى مصر، فكانت البداية التي ربطت مصيره بالادب العربي. وقد طلبت منه الجامعة الامريكية في القاهرة أن يبدي رأيه إن كانت الروايات المصرية جذابة للقارىء الغربي، وعندما أكد أنها كذلك، فقد عرضوا عليه القيام بالترجمة، فأنجز عدة أعمال لنجيب محفوظ وصنع الله ابراهيم وميرال الطحاوي. وعندما انتقل في عام 2000 للعمل في الرياض فقد راح يترجم من أعمال الكتاب السعوديين.
وحول مشاكل المؤلفين العرب مع الرقابة وما تفرضه على أعمالهم من حذف أجزاء منها أو تعديلها أو حتى مصادرتها، كتبت المترجمة الاسكتلندية الشهيرة كاثرين كوبهام في مقدمتها لترجمة رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، بأن المؤلف حاول بادىء الأمر أن يطبع روايته في العراق، لكن الرقيب طلب منه حذف الشخصية البعثية "عدنان" بالكامل من الرواية. فذهب الى بيروت حيث طبعت الرواية كاملة في عام 1980 من قبل دار ابن رشد، وبيعت في العراق دون أن يلحظ الرقيب ذلك! وفي عام 1993 صدرت طبعة ثانية بعد أن تم تبسيط الحوار باللهجة العراقية بناء على طلب الناشر لزيادة الانتشار.
كما ساهمت كوبهام بتحرير كتاب "قارىء قصص عربية قصيرة حديثة" بالاشتراك مع صبري حافظ، وصدرت عند دار الساقي في عام 1988 والذي ضم إحدى عشرة قصة مع تقديم عن مؤلفيها وتحليل نقدي وشروحات للعبارات العامية أو المصطلحات الدارجة بما يجعلها قادرة على تعريف الطالب الناطق بالانجليزية بالقصة العربية القصيرة.
وقد يستغرب القارىء العربي أن المترجمين والناشرين على السواء يفضلون الاعمال المغرقة في المحلية كما عبر عن ذلك المترجم دينيس جونسون ديفيز، وكما فعلت دار النشر المعروفة بلومزبري في لندن وهم ناشرو ترجمة مذكرات حنان الشيخ حول أمها التي تحمل عنوان "حكايتي شرح يطول" التي ترجمها روجر آلان بتأكيدها على ضرورة اظهار النزعة المحلية في الترجمة الانجليزية الموجهة لجمهور القراء في الغرب من خلال إعادة هيكلة الكتاب وتوضيبه وتغليفه تحت اسم جديد "الجراد والطير: قصة أمي".
تطرق المترجم دينيس جونسون ديفيز في كتابه "مذكرات في الترجمة: حياة بين سطور الأدب العربي"، الى بعض التحديات التي واجهها في ترجمة الأدب العربي الى الانجليزية. وقال: "ربما يكون الأمر طبيعياً لكوني عشت أغلب حياتي في مصر، أنني أبرزت قيمة المكان في ترجماتي لأعمال الكتاب المصريين". وأضاف أن "العالم العربي يتكون من دول عديدة، ومن الصعب الاحاطة بكل ما ينشر فيها، إلا أنه برغم ذلك فقد بذلت جهداً أن أقدم للقارىء الانجليزي عدداً كبيراً من الكتاب العرب من كل من المشرق والمغرب".
ومن طريف ما يُذكر في هذا الصدد أن دينيس كان من أوائل من ترجم لنجيب محفوظ، حيث ترجم قصة "زعبلاوي"، ونشرت في مجلد "قصص عربية قصيرة معاصرة" الصادر عن جامعة أكسفورد في العام 1967، ثم دخلت مختارات نورتن بوصفها النموذج الوحيد المتوفر آنذاك من الأدب العربي الحديث!
وفيما يخص المقارنة بين الترجمة من العربية واللغات الأخرى كالفرنسية والألمانية، يذكر دينيس أنه "في حالة اللغات الأخرى، فإن الأمر يتوقف على الناشرين الذين يختارون ما ينشرون، لكن هذا لا ينطبق على الترجمة من العربية. لا توجد دار نشر في لندن توظف اي مترجم مهتم بالأدب العربي الحديث أو قادر على القراءة بالعربية". لكنه في الوقت نفسه شدد على أن المترجمين من العربية يتمتعون بحرية أكبر من نظرائهم من الفرنسية في ترجمة ما يريدون ترجمته بناء على اختيارهم. وبخصوص مسؤولية دور النشر في دعم نشر الكتاب، يرى عدد من المترجمين مثل دينيس أن الناشرين اليوم قد صاروا أصحاب تجارة ويرفضون المخاطرة، وخصوصاً ما يتعلق بكتاب مترجم من العربية.
تطرق المترجم البريطاني روبرت نيل هيوسن الذي ترجم نوفيلا "قصة حب" ليوسف ادريس ـ حملت الترجمة عنوان "مدينة الحب والرماد" ـ ، ورواية ليلة عرس ليوسف أبو رية التي فازت بجائزة نجيب محفوظ لعام 2005 الى تجربته بالعمل في مطبعة الجامعة الامريكية بالقاهرة في الثمانينات حيث كان الاجنبي الوحيد آنذاك قال: "في تلك الايام لم يكن هناك حاسوب، ولكن كان لدينا حاسوباً واحدا في المطبعة، من طراز ما قبل ماك أبل وكان يحتوي على سواقتي أقراص مرنة، وكنا نستعملهما لحفظ سجل عام بالمطبوعات". وذكر أنه برغم التحديات الكامنة في صناعة الطباعة والنشر، إلا أن موظفي المطبعة آنذاك كانوا يشعرون بالرضى مع صدور كل كتاب يتم انجازه. وكانت الجائزة بنظرهم رؤية الكتاب صادراً وأن يحتفظوا بالنسخة الاولى منه.
وفي دراسة حول شعر الثورة نشرت في صحيفة المصري اليوم في نهاية شهر كانون ثاني يناير 2011 ، حلل المترجم المعروف ايليوت كولا الشعارات التي كانت تتردد خلال ثورة 25 يناير والتي بدت بالنسبة له مثل مقاطع شعرية ذات ايقاع موسيقي. ان توثيق هذه الشعارات الغنائية وترجمتها كان يدل على فهم عميق للهجة العامية المصرية ومدلولاتها واشاراتها ضمن السياق التاريخي العام. كما حلل دور الشعر الوطني خلال ثورات مصر السابقة التي قادها أحمد عرابي في 1881، وثورة 1919 بقيادة سعد زغلول وثورة الضباط الاحرار في يوليو 1952. غير أن ما يلفت النظر أن كولا يعد وفي أكثر من مقالة له ثورة يوليو 1952 ليست في حقيقتها أكثر من انقلاب مهد لظهور ثلاثة ديكتاتوريات: عبد الناصر والسادات ومبارك.
أما المترجم همفري ديفيز فيشير الى تجربته في الترجمة بقول: "أسعى أن أسمع الصوت الذي يتحدث من الرواية بعيداً عن الصفحة وأن أعيد انتاج ذلك الصوت". وعن الحاجة الى الرجوع الى المؤلف لسؤاله، يؤكد أن ذلك "أمر مفروغ منه، فهناك دائما أسئلة عن أخطاء طباعية، أو سوء فهم، أو شعور بعدم فهم المنطق الاساس لفقرة ما أو فكرة ما، لأنك اذا لم تفهمها فلن تستطيع ترجمتها". ويؤكد إن "الانطباع بأن المترجمين بلا خطايا، وخاصة فيما يتعلق بجانب اللغة، هو أمر سخيف". ويستشهد على ذلك بترجمة سكوت مونكريف لأعمال مارسيل بروست، فيذكر أنها تم إعادة تحرير الترجمة وتصحيحها في خمس نسخ مختلفة.
وحول سؤال عن تصوراته حول الجمهور الانجليزي قارىء الروايات المترجمة، أفاد همفري أن عنده افتراضاً بأن الجمهور مثقف ومتعلم وقارئ، ولا يستطيع أن يتخيل ردة فعل أفراده إزاء ما يقرأون. وحول ترجمته للمرأة أو بالأحرى الجارية نعمة السمراء في "واحة الغروب" الى نعمة الغسق أو الغروب، فقد دافع عن ذلك بأن كلمة سمراء في العربية قد تكون صفة عادية، ولكنها في الترجمة شاعرية ومثيرة جنسياً، وخصوصاً أنها خادمة عبدة.
وحول قضية الهوامش والشروحات في نهاية الترجمة كما فعل باضافة شروحات للقارىء الانجليزي حول ثورة أحمد عرابي التي قد لا يعرف عنها شيئاً، فقد أفاد أنه ليس ضدها أو معها إلا بالقدر اللازم. وقد ذكر مثالا طريفاً يتعلق بترجمة النارجيلة الشعبية المسماة الجوزة، وقد احتار كيف يترجمها وخاصة أن الشيشة (الأرجيلة) للطبقات المتوسطة والجوزة للطبقات الفقيرة، وأخيراً قرر استعمال الغليون المائي في تفريق لها عن الغليون الفرنسي المعروف!
وحول سؤال عن عدم انتشار ترجمة الادب العربي، فقد همفري ديفيز أنه يختلف مع هذا الانطباع، لأن هناك الكثير مما تمت ترجمته أكثر مما يظن الناس. وقد تعرض قطاع النشر باللغة الانجليزية الى انتقاد كونه لا يهتم بالادب العربي، أو الاهتمام بالادب العربي الخطأ، ويقول إن الاهتمام في ازدياد، وهناك مجموعة من المترجمين المحترفين، وهناك أعداد متزايدة ممن يدرسون العربية، مما يؤدي الى كثرة المترجمين. باختصار هناك زخم في الوقت الحاضر.
ومن المشكلات اللغوية الثقافية التي تواجه المترجم ما ذكره جوناثان رايت من عدم وجود مرادف للكلمة العربي في اللغة الانجليزية، وذكر على سبيل المثال صعوبة ايجاد الكلمة الانجليزية التي تعبر عن صوت حجر الرحى أثناء دورانه، مما اضطره الى سماعه عملياً ثم ابتكار كلمة تدل على ذلك الصوت.
أما المترجم روجر مايكل آلان فيذكر أنه عندما تعرض كتاب "تاريخ الادب العربي" الذي اصدرته جامعة كامبردج للنقد على الاخطاء التي اشتمل عليها، فقد عرضت عليه الجامعة مراجعته واعادة كتابه. وقد استغرق العمل فيه خمس سنوات وصدر تحت عنوان "التراث الادبي العربي" عام 1998.
اتفق اثنان من كبار المترجمين أن أصعب ما في الامر هو ايجاد ناشر على استعداد لتحمل المخاطرة ونشر كتاب مترجم عن الادب العربي. ذكر روجر آلان أن الترجمة من العربية ليست مهنة لها درجات علمية أو معايير أو مكآفات، ولا أحد يترجم العربية إلا إذا كان هاوياً ومحباً له. ومشكلة المشكلات بالنسبة للمترجم ، كما يؤكد، هي اقناع الناشر بأهمية العمل المترجم وطباعته وتسويقه. وفي هذا الاطار أكد أيضا دينيس جونسون ديفيز أنه كان يحب ما يقوم به من ترجمات، ويدرك أن نهضة قادمة تنتظر الأدب العربي، فلا بد إذن من القيام بشيء بخصوصها. وأنه عندما بدأ لم يكن هناك كثيرون يعرفون الترجمة ما أعطاه ميزة وحظوة لدى الكتاب، لكن صعّب من مهمته ايجاد ناشر يوافق على أعماله المترجمة.
أما عن ما يتوجب على المترجم فعله ومدى ارتباطه الروحي بالعمل الذي يشتغل عليه، فقد لخص المترجم الامريكي وليم هتشينز الذي ترجم عدداً من أعمال ابراهيم الكوني ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والمازني وغيرهم وفي لقاء نشر في عام 2008 في صحيفة الجامعة التي يعمل بها، فقد ذكر أنه "لكي أنجر الترجمة على نحو صحيح، يجب علي أن افهم تاريخ المنطقة وثقافتها بالاضافة الى لغتها".
رابط المقالة بجريدة الرأي
رابط الصفحة الكاملة
اياد نصار
*نشرت في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 17/6/2011
شهد العقدان الاخيران انعقاد عشرات الندوات والمؤتمرات واللقاءات حول ترجمة الادب العربي الى اللغات الاوروبية وخصوصاً الانجليزية، وقد كان هناك طفرة واسعة في ترجمة الاعمال الادبية من شعر وقصة قصيرة ورواية ومسرحية ونقد، ولم تقتصر اهتمامات المترجمين على الاعمال الأدبية، وإنما اجتذبتهم أيضاً المصادر والمؤلفات التراثية والدينية والجغرافية وغيرها، غير أن طفرة ازدهار الرواية عالميا انعكست على صعيد الاهتمام بالرواية العربية المعاصرة، وامتدت الى مجال ترجمتها، فانتشرت ترجمات الرواية العربية على نحو واسع.
والمترجمون هم من يقدمون أدبنا العربي الى القراء في العالم، وهم من يساهمون، وبدور لا يقل أهمية عن أدبائنا، في رسم معالم الصورة التي يحملها الآخر عنا وعن ثقافتنا. وفي هذا المجال، لعبت مطبعة الجامعة الامريكية في القاهرة، وما تزال، دوراً كبيراً في ترجمة الادب العربي الحديث ونشره. وأشيد في هذا المجال بجهود بعض المترجمين العرب الذين لقيت ترجماتهم انتشاراً واستحساناً مثل عايدة بامية، وابراهيم مهوي، وبولا حيدر، ورشيد العيناني، وسماح سليم، وأهداف سويف وغيرهم، وكانت لا تقل جودة وروحاً أدبية ابداعية عن ترجمات المترجمين الاجانب المعروفين وعلى رأسهم المترجم البريطاني "الاشهر في زماننا" كما وصفه ادوارد سعيد ذات يوم وهو دينيس جونسون ديفيز.
الترجمة لا تعني استبدال كلمة بأخرى، بل هي فن في الأساس. فن في ابراز جوهر الابداع ، وفن في اقامة علاقة انسانية مع صاحب العمل يستند اليها المترجم في فهم خفايا العمل ومقاصده. ينبغي على المؤلفين الانتباه الى ضرورة اقامة صلات مع المترجمين، فالمرء يستغرب من دواعي اختيارات المترجمين أحياناً، فمرة يترجمون رواية معروفة لكاتب مثل نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس، ومرة يختارون رواية أولى لكاتب جديد يعتقدون أن لها أهمية أدبية. وتحتاج العلاقة ما بين المؤلف والمترجم الى قدر كبير من الثقة المتبادلة، وخاصة اذا كان المؤلف لا يعرف شيئاً عن اللغة المستهدفة، فيحس بالعجز عن الحكم مباشرة على نجاح المترجم في نقل رؤيته وأسلوبه وأفكاره ومناوراته الفنية واللغوية ومقاصده الخفية. إن المسؤوليات الملقاة على عاتق المترجم كبيرة، وقد يحس المترجم أن المؤلف لا يقدّر مقدار الجهد المبذول في ترجمة كتابه، مما قد يصيبه بالاحباط، وإن لم يعبر عنه بشكل صريح. غير أن هناك دائماً ثنائية جدلية: الترجمة تتيح للعمل الأدبي الانتشار عالمياً، وقد ترفع من مكانته بين أقرانه من الأعمال الاخرى، لكن قد لا تتوفق في نقل روح العمل الاصلي وجمالياته وبلاغته اللغوية وأصالته الفكرية.
ذكر المترجم البريطاني الأصل روجر مايكل آلان الذي يعمل أستاذا للغة العربية والأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا منذ ما يزيد على أربعين عاماً في مقالة له في مجلة دراسات أدبية مقارنة، العدد 4 لعام 2010 بعنوان"الخائن السعيد: حكايات الترجمة" أن كلمة مترجم في الايطالية توحي بعض دلالاتها بمعنى الخائن.
وفي هذا الصدد أود أن أشير الى مصطلح أسميته الرتمجة؛ وهو ترجمة النص الى اللغة المستهدفة دون القدرة على ايصال المعنى الكامن في النص الذي أراده المؤلف أو فقدان القدرة على إدراك المعنى الحقيقي، فيترجم المترجم معنى آخر غير المقصود أو يختلف في روحه عن روح العمل الاصلي. وتبدو الترجمة في الظاهر ترجمة أدبية لكنها خاطئة أو غير دقيقة، أو تتصرف بالمعنى، فهي تحقق الترجمة شكلا لا موضوعا، فهي إذن نقل غامض غريب، وأحرى أن تسمى رتمجة، وفعلها رتمج ويرتمج.
في حوار مع صحيفة العرب نيوز السعودية بالانجليزية في عام 2006 تحت عنوان " لورنس الادب.. أنطوني كالدربانك مترجم للحب"، ذكرت الصحيفة أن كالدربانك لا يجد متعة في ترجمة الادب العربي الى الانجليزية وحسب، ولكن الرضى أيضاً. وبعد أن حصل على شهادة في اللغة العربية الكلاسيكية من مانشستر، فقد شعر بنزعة مثالية رومانسية الى الشرق، وبانجذاب الى الخط العربي، مما حدا به الى المجيء الى مصر، فكانت البداية التي ربطت مصيره بالادب العربي. وقد طلبت منه الجامعة الامريكية في القاهرة أن يبدي رأيه إن كانت الروايات المصرية جذابة للقارىء الغربي، وعندما أكد أنها كذلك، فقد عرضوا عليه القيام بالترجمة، فأنجز عدة أعمال لنجيب محفوظ وصنع الله ابراهيم وميرال الطحاوي. وعندما انتقل في عام 2000 للعمل في الرياض فقد راح يترجم من أعمال الكتاب السعوديين.
وحول مشاكل المؤلفين العرب مع الرقابة وما تفرضه على أعمالهم من حذف أجزاء منها أو تعديلها أو حتى مصادرتها، كتبت المترجمة الاسكتلندية الشهيرة كاثرين كوبهام في مقدمتها لترجمة رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، بأن المؤلف حاول بادىء الأمر أن يطبع روايته في العراق، لكن الرقيب طلب منه حذف الشخصية البعثية "عدنان" بالكامل من الرواية. فذهب الى بيروت حيث طبعت الرواية كاملة في عام 1980 من قبل دار ابن رشد، وبيعت في العراق دون أن يلحظ الرقيب ذلك! وفي عام 1993 صدرت طبعة ثانية بعد أن تم تبسيط الحوار باللهجة العراقية بناء على طلب الناشر لزيادة الانتشار.
كما ساهمت كوبهام بتحرير كتاب "قارىء قصص عربية قصيرة حديثة" بالاشتراك مع صبري حافظ، وصدرت عند دار الساقي في عام 1988 والذي ضم إحدى عشرة قصة مع تقديم عن مؤلفيها وتحليل نقدي وشروحات للعبارات العامية أو المصطلحات الدارجة بما يجعلها قادرة على تعريف الطالب الناطق بالانجليزية بالقصة العربية القصيرة.
وقد يستغرب القارىء العربي أن المترجمين والناشرين على السواء يفضلون الاعمال المغرقة في المحلية كما عبر عن ذلك المترجم دينيس جونسون ديفيز، وكما فعلت دار النشر المعروفة بلومزبري في لندن وهم ناشرو ترجمة مذكرات حنان الشيخ حول أمها التي تحمل عنوان "حكايتي شرح يطول" التي ترجمها روجر آلان بتأكيدها على ضرورة اظهار النزعة المحلية في الترجمة الانجليزية الموجهة لجمهور القراء في الغرب من خلال إعادة هيكلة الكتاب وتوضيبه وتغليفه تحت اسم جديد "الجراد والطير: قصة أمي".
تطرق المترجم دينيس جونسون ديفيز في كتابه "مذكرات في الترجمة: حياة بين سطور الأدب العربي"، الى بعض التحديات التي واجهها في ترجمة الأدب العربي الى الانجليزية. وقال: "ربما يكون الأمر طبيعياً لكوني عشت أغلب حياتي في مصر، أنني أبرزت قيمة المكان في ترجماتي لأعمال الكتاب المصريين". وأضاف أن "العالم العربي يتكون من دول عديدة، ومن الصعب الاحاطة بكل ما ينشر فيها، إلا أنه برغم ذلك فقد بذلت جهداً أن أقدم للقارىء الانجليزي عدداً كبيراً من الكتاب العرب من كل من المشرق والمغرب".
ومن طريف ما يُذكر في هذا الصدد أن دينيس كان من أوائل من ترجم لنجيب محفوظ، حيث ترجم قصة "زعبلاوي"، ونشرت في مجلد "قصص عربية قصيرة معاصرة" الصادر عن جامعة أكسفورد في العام 1967، ثم دخلت مختارات نورتن بوصفها النموذج الوحيد المتوفر آنذاك من الأدب العربي الحديث!
وفيما يخص المقارنة بين الترجمة من العربية واللغات الأخرى كالفرنسية والألمانية، يذكر دينيس أنه "في حالة اللغات الأخرى، فإن الأمر يتوقف على الناشرين الذين يختارون ما ينشرون، لكن هذا لا ينطبق على الترجمة من العربية. لا توجد دار نشر في لندن توظف اي مترجم مهتم بالأدب العربي الحديث أو قادر على القراءة بالعربية". لكنه في الوقت نفسه شدد على أن المترجمين من العربية يتمتعون بحرية أكبر من نظرائهم من الفرنسية في ترجمة ما يريدون ترجمته بناء على اختيارهم. وبخصوص مسؤولية دور النشر في دعم نشر الكتاب، يرى عدد من المترجمين مثل دينيس أن الناشرين اليوم قد صاروا أصحاب تجارة ويرفضون المخاطرة، وخصوصاً ما يتعلق بكتاب مترجم من العربية.
تطرق المترجم البريطاني روبرت نيل هيوسن الذي ترجم نوفيلا "قصة حب" ليوسف ادريس ـ حملت الترجمة عنوان "مدينة الحب والرماد" ـ ، ورواية ليلة عرس ليوسف أبو رية التي فازت بجائزة نجيب محفوظ لعام 2005 الى تجربته بالعمل في مطبعة الجامعة الامريكية بالقاهرة في الثمانينات حيث كان الاجنبي الوحيد آنذاك قال: "في تلك الايام لم يكن هناك حاسوب، ولكن كان لدينا حاسوباً واحدا في المطبعة، من طراز ما قبل ماك أبل وكان يحتوي على سواقتي أقراص مرنة، وكنا نستعملهما لحفظ سجل عام بالمطبوعات". وذكر أنه برغم التحديات الكامنة في صناعة الطباعة والنشر، إلا أن موظفي المطبعة آنذاك كانوا يشعرون بالرضى مع صدور كل كتاب يتم انجازه. وكانت الجائزة بنظرهم رؤية الكتاب صادراً وأن يحتفظوا بالنسخة الاولى منه.
وفي دراسة حول شعر الثورة نشرت في صحيفة المصري اليوم في نهاية شهر كانون ثاني يناير 2011 ، حلل المترجم المعروف ايليوت كولا الشعارات التي كانت تتردد خلال ثورة 25 يناير والتي بدت بالنسبة له مثل مقاطع شعرية ذات ايقاع موسيقي. ان توثيق هذه الشعارات الغنائية وترجمتها كان يدل على فهم عميق للهجة العامية المصرية ومدلولاتها واشاراتها ضمن السياق التاريخي العام. كما حلل دور الشعر الوطني خلال ثورات مصر السابقة التي قادها أحمد عرابي في 1881، وثورة 1919 بقيادة سعد زغلول وثورة الضباط الاحرار في يوليو 1952. غير أن ما يلفت النظر أن كولا يعد وفي أكثر من مقالة له ثورة يوليو 1952 ليست في حقيقتها أكثر من انقلاب مهد لظهور ثلاثة ديكتاتوريات: عبد الناصر والسادات ومبارك.
أما المترجم همفري ديفيز فيشير الى تجربته في الترجمة بقول: "أسعى أن أسمع الصوت الذي يتحدث من الرواية بعيداً عن الصفحة وأن أعيد انتاج ذلك الصوت". وعن الحاجة الى الرجوع الى المؤلف لسؤاله، يؤكد أن ذلك "أمر مفروغ منه، فهناك دائما أسئلة عن أخطاء طباعية، أو سوء فهم، أو شعور بعدم فهم المنطق الاساس لفقرة ما أو فكرة ما، لأنك اذا لم تفهمها فلن تستطيع ترجمتها". ويؤكد إن "الانطباع بأن المترجمين بلا خطايا، وخاصة فيما يتعلق بجانب اللغة، هو أمر سخيف". ويستشهد على ذلك بترجمة سكوت مونكريف لأعمال مارسيل بروست، فيذكر أنها تم إعادة تحرير الترجمة وتصحيحها في خمس نسخ مختلفة.
وحول سؤال عن تصوراته حول الجمهور الانجليزي قارىء الروايات المترجمة، أفاد همفري أن عنده افتراضاً بأن الجمهور مثقف ومتعلم وقارئ، ولا يستطيع أن يتخيل ردة فعل أفراده إزاء ما يقرأون. وحول ترجمته للمرأة أو بالأحرى الجارية نعمة السمراء في "واحة الغروب" الى نعمة الغسق أو الغروب، فقد دافع عن ذلك بأن كلمة سمراء في العربية قد تكون صفة عادية، ولكنها في الترجمة شاعرية ومثيرة جنسياً، وخصوصاً أنها خادمة عبدة.
وحول قضية الهوامش والشروحات في نهاية الترجمة كما فعل باضافة شروحات للقارىء الانجليزي حول ثورة أحمد عرابي التي قد لا يعرف عنها شيئاً، فقد أفاد أنه ليس ضدها أو معها إلا بالقدر اللازم. وقد ذكر مثالا طريفاً يتعلق بترجمة النارجيلة الشعبية المسماة الجوزة، وقد احتار كيف يترجمها وخاصة أن الشيشة (الأرجيلة) للطبقات المتوسطة والجوزة للطبقات الفقيرة، وأخيراً قرر استعمال الغليون المائي في تفريق لها عن الغليون الفرنسي المعروف!
وحول سؤال عن عدم انتشار ترجمة الادب العربي، فقد همفري ديفيز أنه يختلف مع هذا الانطباع، لأن هناك الكثير مما تمت ترجمته أكثر مما يظن الناس. وقد تعرض قطاع النشر باللغة الانجليزية الى انتقاد كونه لا يهتم بالادب العربي، أو الاهتمام بالادب العربي الخطأ، ويقول إن الاهتمام في ازدياد، وهناك مجموعة من المترجمين المحترفين، وهناك أعداد متزايدة ممن يدرسون العربية، مما يؤدي الى كثرة المترجمين. باختصار هناك زخم في الوقت الحاضر.
ومن المشكلات اللغوية الثقافية التي تواجه المترجم ما ذكره جوناثان رايت من عدم وجود مرادف للكلمة العربي في اللغة الانجليزية، وذكر على سبيل المثال صعوبة ايجاد الكلمة الانجليزية التي تعبر عن صوت حجر الرحى أثناء دورانه، مما اضطره الى سماعه عملياً ثم ابتكار كلمة تدل على ذلك الصوت.
أما المترجم روجر مايكل آلان فيذكر أنه عندما تعرض كتاب "تاريخ الادب العربي" الذي اصدرته جامعة كامبردج للنقد على الاخطاء التي اشتمل عليها، فقد عرضت عليه الجامعة مراجعته واعادة كتابه. وقد استغرق العمل فيه خمس سنوات وصدر تحت عنوان "التراث الادبي العربي" عام 1998.
اتفق اثنان من كبار المترجمين أن أصعب ما في الامر هو ايجاد ناشر على استعداد لتحمل المخاطرة ونشر كتاب مترجم عن الادب العربي. ذكر روجر آلان أن الترجمة من العربية ليست مهنة لها درجات علمية أو معايير أو مكآفات، ولا أحد يترجم العربية إلا إذا كان هاوياً ومحباً له. ومشكلة المشكلات بالنسبة للمترجم ، كما يؤكد، هي اقناع الناشر بأهمية العمل المترجم وطباعته وتسويقه. وفي هذا الاطار أكد أيضا دينيس جونسون ديفيز أنه كان يحب ما يقوم به من ترجمات، ويدرك أن نهضة قادمة تنتظر الأدب العربي، فلا بد إذن من القيام بشيء بخصوصها. وأنه عندما بدأ لم يكن هناك كثيرون يعرفون الترجمة ما أعطاه ميزة وحظوة لدى الكتاب، لكن صعّب من مهمته ايجاد ناشر يوافق على أعماله المترجمة.
أما عن ما يتوجب على المترجم فعله ومدى ارتباطه الروحي بالعمل الذي يشتغل عليه، فقد لخص المترجم الامريكي وليم هتشينز الذي ترجم عدداً من أعمال ابراهيم الكوني ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والمازني وغيرهم وفي لقاء نشر في عام 2008 في صحيفة الجامعة التي يعمل بها، فقد ذكر أنه "لكي أنجر الترجمة على نحو صحيح، يجب علي أن افهم تاريخ المنطقة وثقافتها بالاضافة الى لغتها".
رابط المقالة بجريدة الرأي
رابط الصفحة الكاملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق