الأربعاء، يونيو 22

قراءة للبطل في "الخيط الأسود" لجمال القيسي


قراءة للبطل في "الخيط الاسود" لجمال القيسي


* نشرت في جريدة النهار يوم الاربعاء 22/6/2011

تنقسم رواية جمال القيسي، "الخيط الأسود"، أربعة أجزاء هي: "صوت"، "صدى"، "صوت" و"آخر الصدى"، ويشتمل كل منها على فصول قصيرة، وتتميز بتعدد الرواة، حيث يسرد الرواية راوٍ رئيسي بصيغة الغائب العليم، بالإضافة إلى السرد على لسان اثنين بصيغة الأنا: البطل واصل ، والشيخ يوسف، صديقه وابن حارته. تعتمد الرواية على أسلوب تداخل الزمنَين الماضي والحاضر، واستدعاء الذكريات، ونلمح أنها تدخل عالم الشباب المتدين، وتطرح صراعات الجماعات والأحزاب الإسلامية، ومشكلاتها من الداخل. يروي الجزء الأول من الرواية الصادرة عن "الدار العربية للعلوم" في بيروت، والدار الأهلية في عمان، قصة الشيخ يوسف وأسرته. ويظهر البطل واصل صبيا صغيرا يحضر جلسات صديقه الشاب، بينما تسرد الأجزاء الثلاثة الأخرى سيرة حياة واصل، وتفاصيل طفولته ودراسته في المدرسة، ورحيل والده، وسفر أخيه إلى روسيا لدراسة الطب، وجو المناكفة بينهما، وكل ما يتصل بعد ذلك بتحولاته الفكرية وانتماءاته الحزبية. تُبرز الرواية سيرة حياة بطلها كجزء من التغيرات التي طرأت على المجتمع الأردني، وذلك من خلال علاقاته، وصداقاته، ومناكفاته، وانتماءاته الدينية، وتقلباته من جماعة "الإخوان المسلمين" إلى حزب التحرير، إلى طلاقه النهائي لهما وهو كبير، وقد نضجت تجربته واستقرت اقتناعاته على ضوء ما شاهده من التباين بين التنظير والممارسة، وبين الحقائق والواقع.


تؤسس الرواية مسرح أحداثها عبر المكان والزمان، من خلال تطور حبكتها، وتفاعلات شخصياتها منذ بداية الثمانينات، حينما كان واصل فتىً في الرابعة عشرة، حتى وقتنا الحاضر، حيث صار كبيراً ولديه عائلة. وينتقل مسرح الأحداث من منطقة سحاب قبالة المقبرة الإسلامية، حيث يسكن الشيخ يوسف، وحي الشعيلية في شارع مأدبا، حيث يعيش واصل في بداية الرواية، إلى المدينة الرياضية حيث تنتهي الرواية بمشهد واصل جالساً على شرفة منزله، غارقاً في تأمل حصاد تجربة حياته بحلوها القليل ومرها الكثير.


يشكل استغلال الدين منذ الصغر نقطة خلاف جوهرية بين واصل ويوسف برغم علاقتهما الوطيدة، ويصبح مفتاحاً لفهم شخصيته. يلمح الشيخ جبريل منذ البدء عقل واصل النابه الشرود، مما يؤدي إلى اقصائه من المشاركة. لم يكن السؤال غير عادي، إلا أن الموقف برمته ينطوي على نقد ثقافة دينية لا تسمح بالاختلاف معها. وبرغم أن الرواية لا تنطوي على أحداث مأسوية أو مواقف كبيرة غير متوقعة، وبرغم مألوف شخصياتها وأحداثها، إلا أنها تشد القارئ بلغتها وأجوائها التي تثير النوستالجيا لكونها ترصد الكثير من ملامح الحياة في عمان قبل ثلاثة عقود، حينما كان بريد سكان الحي يوزّع عند البقالة، وحينما كانت هناك صحيفة أسبوعية اجتماعية تدعى "أخبار الأسبوع"، تخرج على خط الصحافة اليومية ذات التوجهات الرسمية، وتملأ فسحة من اهتمامات الناس الاجتماعية والأقاويل في تلك المرحلة.


تطرح الرواية مسألة استلاب الوعي لدى الشباب من جانب الجماعات الدينية قبل أن يتفتح وعيهم. ويشير الراوي إلى بداية وعي واصل بجماعة "الإخوان المسلمين" التي يشير إليها تورية باسم "الإخوان المستقلين"، وإلى وصايا مؤسسها حسن البنا الذي لا يذكره صريحاً بالاسم، بل يلمح اليه باسم الشهيد الإمام حسن. أهمل دروسه وصار يقرأ منشورات الجماعة وكتبها التي تدعو إلى أسلمة المجتمع، ما يشي بأن ما تقدمه من حلول لا يرى في الدنيا نشاطات إنسانية تستحق الاهتمام سوى الدين.


طرحت الرواية موضوع الدين بوصفه مكوّناً مهماً من مكوّنات ثقافة المجتمع الذي هيمن عليه الإسلاميون، خصوصا "الجماعة"، لفترة طويلة من الزمن تجاوزت خمسة عقود. غير أن الرواية تشير إلى تمرد البطل على الفكر الذي حاول تدجين عقله، وسخر من قراءاته المستقلة وعدّها "أشكالاً فارغة حمقاء"، وصادر انتقاداته، بل وصل الامر إلى حد تشبيهه بـ"القوارض" لقيامه بقرض الشعر. تمثل ثورة واصل نقداً للأحزاب التي تسعى إلى مصادرة حق الإنسان في التفكير الحر.


برز تطور الشخصية في حالة واصل، حيث غدا من أكثر الشخصيات جاذبية نتيجة النضج والمؤثرات التي مرّ بها. فلم يعد تلك الشخصية البسيطة المسطحة، بل تطورت تدريجياً، عاكسة التحولات التي طرأت على فكره، الذي بدأ يثور على المفاهيم التي نشأ عليها في بيئته الاجتماعية التقليدية، ويتمرد على الفكر الحركي. ولعل ما قاله له غسان الذي ينتمي إلى "حزب التغيير"، في تورية تشير إلى حزب التحرير، يعبّر عن ذلك بوضوح: "أنت لا تصلح لهم، ولا هم يصلحون لك". بدا أن تطور الشخصيات الأخرى كان بحاجة إلى اشتغال أكبر، حيث جرى تجميد شخصيات رئيسية وإبعادها عن مسار الأحداث، مثل الشيخ يوسف وشقيقه المسافر، فتحول الراوي عنهما كلياً ولم نعد نسمع عنهما شيئا، وركز على معالجة شخصية واصل حتى النهاية.


تنتقد الرواية، من خلال توظيف أسلوب المفارقة والتناقض بين القول والفعل وازدواجية معايير الرجل، الثقافة الذكورية القامعة التي يمارسها المجتمع ضد النساء. بل لعل عدم ذكر اسم الأخت الكبرى هو نوع من التهميش يمارَس ضد المرأة إلى الحد الذي تبقى معه بلا اسم أو هوية. ومما يلفت أن الرواية ليس فيها بطلة أنثى أو شخصية نسائية رئيسية! هناك البنت الكبرى لأبي سليمان (الظريفة) التي توصف بأنها جسورة وشرسة وذات حيلة، لكنها تبقى شخصية ثانوية. وهناك نيفين المصرية التي جاء زوجها للعمل في الأردن، وقد استحوذت على عقل واصل، وعقل أخيه الأكبر. وهناك شقيقة واصل الكبرى التي أنقذته من الاحتراق، وهناك فتاة المدرسة التي يدعوها "الغريبة"، في إشارة إلى توقيعها كتابها باسم "غريبة الديار". نشأ بينها وبين واصل حب مراهق نتيجة الجفاف العاطفي في بيئة قاسية، ثم لا نراها بعد ذلك إلا وهي في أواخر الأربعينات وقد تزوجت وصار عندها أولاد.


نجح القيسي في تجسيد تجارب البطل الأولى في التعرف الى الجانب الجنسي في الإنسان من خلال رصد تفاصيل العلاقة بين الفتى الصغير ونيفين الزوجة المصرية العشرينية الجميلة، التي أثارت نوازعه، فاشتعلت ثورة الجسد. كما نجح في نقل أجواء اللقاء الحميم الأول بين نيفين وواصل، الذي سمّته وهي تضمّه، "شيطاناً صغيراً".


في الجزء الأخير من الرواية تتسارع النهايات، حيث نلاحظ حرقاً للمراحل كما سمّاها الراوي، إذ يعقد مقارنات إزاء مقولات حزب "التغيير"، ما يدعو للحيرة والتشظي، كما يعبّر عن الصراع الداخلي الذي أحس به إزاء "الإخوان"، حيث يتذكر مقولة "أسلمة المجتمعات لاستعادة الحضارة"، ويتذكر قول ابن خلدون إن الحضارات إذا انطوت لا تعود.


تنتهي الرواية بفصل "ما يشبه الخريف"، وهو حصاد العمر المر. لقد استنفد البطل طاقاته في الصراعات الفكرية التي مرّ بها مع الحزبين بحثاً عن "المنهج الصحيح المؤدي إلى الحياة الفضلى". كما نرى واصل متزوجاً وقد حاصره السأم والوحشة، بعدما ولت أيام "الشباب والعنفوان والطيش".


من داخل الجزء الأخير يفسح الراوي المجال لواصل كي يسرد بنفسه عبر تداعي الذكريات خاتمة الرواية، التي تعد أجمل فصولها، بلغة تأملية مثقلة بالتلوينات النفسية والفكرية، وفيها يعرّج بالتحليل على أحداث سيرته ومصائر الآخرين الذين شاركوه التجربة ليصل إلى استيعاب دروس الحياة. وتنتهي بإدراك البطل المنكسر حقيقة وجودية مغرقة في التشاؤم.

 رابط المقالة بصحيفة النهار



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق