القصة النفسية وروح المدينة
بقلم سلطان الزغول*
نشرت في جريدة الرأي الأردنية- ملحق الثقافة يوم الجمعة 13/5/2011
تدفع قصص مجموعة "قليل من الحظ" لإياد نصار، القارئ إلى عوالم النفس الإنسانية، مظهرة احترافا في الحفر الداخلي، ما يجعله يظنّ أنه أمام القصة النفسية في أروع تجلياتها. لكنّ قصصا أخرى تعبّر عن روح مدينة عمان، وتبرز دقائق وتفاصيل من عالم المدينة النابض، مظهرة معاناة فقرائها عبر عقد المقارنات بين شرق عمان وغربها، وهي مقارنات غاصّة بالإشارات والإيماءات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الدالّة تجعل القارئ يعيد النظر في ظنّه الأول.
إننا أمام كاتب دائم القلق والبحث، مسكون بهموم إنسانية تبدأ من المحيط الاجتماعي، ولا تقف عند معاناة الصحفيين الباحثين عن الحقيقة في العراق تحت الاحتلال، أو الحيرة أمام الاحتفاء بالأديب وتقديره بعد موته، في حين يظلّ طوال حياته يعاني الإهمال والإقصاء. حتى إن نصار يفرد قصة تتناول مشكلة أموال "البورصة الوهمية" التي شهدها الأردن في نهايات العقد الأول من هذا القرن.
نحن إذن أمام خليط غنيّ يؤكد أنّ إياد نصار كاتب معنيّ بالهمّ العام عبر تجلياته المتنوعة، بقدر حرصه على التحليق الفني بتشكيل قصة غنية على مستوى "حسن الصياغة والحبك" بتعبير الناقد العربي القديم. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى براعته في استخدام تقنية القصة داخل القصة، وهي تقنية تراثية بامتياز، طالما ظهرت في روايات شهرزاد الليلية المتوالدة أبدا. لكن هذه المقالة تتناول جانبا نفسيا يتجلّى في القصتين الأولى والثانية في المجموعة، وهما تعبّران عن قلق وخوف في مواجهة عالم قاس يغدو فيه الشعور بالأمان مطلبا عزيزا.
تعرض القصة الأولى "المصير" حالَ رجل يقيم في إحدى دول الخليج العربي، أثناء حرب الخليج الثانية التي حملت خوفا كاسحا من استخدام السلاح الكيميائي. ونستكشف عالمه الداخلي المتقلب وهو يعاني الخوف والوحدة والترقب: "يجلس على سريره وحيدا في الغرفة، أغلق على نفسه كلّ شيء، أسئلة كثيرة تدور في رأسه بلا أجوبة، اختزل الماضي والحاضر والمستقبل في دوامة من الأفكار المضطربة" (ص 11). في حين أن القصة الثانية "الدرب السلطاني" تضعنا أمام فتى يرافق شيخه في رحلة من قريته القصيّة "على أطراف جبال جلعاد الجنوبية" إلى الجامع الأزهر في القاهرة، وهي رحلة توافق الفترة التي قام فيها إبراهيم باشا بحملته العتيدة على بلاد الشام. ويعيش الفتى أهوال الرحلة ومفاتنها وأشواكها حتى ينضج ويتغلب على خوفه، فيعود وحيدا إلى قريته.
يتملك الخوفُ بطلَ قصة "المصير" ويدفعه إلى الهرب بعيدا للاحتماء من رعب الموت غريبا عن أسرته، بينما تتغلّب الرغبة بالعودة إلى حضن القرية الدافئ على مشاعر الخوف من أهوال الطريق في القصة الثانية.
في قصة "المصير" -التي تجري أحداثها بداية تسعينيات القرن العشرين- نجد الراوي العليم الذي يتقصّى أدق التفاصيل الداخلية في حياة البطل، ويجلو أفكاره ووجهات نظره حول أصدقائه، كما يتلمّس مشاعر القلق والخوف من المجهول التي تسيطر عليه. أما في قصة "الدرب السلطاني" –وزمانها أكثر بعدا- فنجد الراوي المتكلم الذي يسرد تفاصيل رحلته مع الشيخ، أهوالها وبَدْوها وقطاع الطرق فيها، فإذا ما وصلا إلى القاهرة، وسكنا فيها ذكر بعض معارفهما الجدد وعلاقتهم بالشيخ... وتأتي إشكالية زاوية الرؤية من هذا القلب في استخدام صيغة السرد، فلعل الراوي المتكلم هو الصيغة الأنسب في القصة الأولى التي تتقصى العالم الداخلي لبطلها، خصوصا وهي تجلو أبعاد حدث الحرب على نفسه ومشاعره. أما الراوي العليم الذي يمكن أن يشير بوعي أكبر إلى زمن الحدث، وتفاصيل الرحلة، ومشاعر الفتى وتقلبها مقارنة بمشاعر الشيخ، خصوصا مع نشوء شبكة علاقات متجددة عبر الطريق وفي القاهرة، فلعله مناسب أكثر في قصة "الدرب السلطاني".
تتركز معاناة بطل "المصير" داخل جدران غرفة يحتمي فيها من رعب الموت، رعب مجهول وغير ملموس يمكن أن ينفذ من أي شقّ يدخل منه الهواء. إن بطل القصة يواجه وحشا كاسحا بلا معالم محددة، يمكنه أن يحصد البشر جماعات دون أن يرفّ له جفن. بينما يتخيّل الفتى في القصة الثانية الموت على يد لصّ أو قاطع طريق أو وحش من وحوش البرية في أسوأ الأحوال. وهو موت يمكن مواجهته بالحيلة أو الشجاعة أو حتى الهرب، ما يعطي للقدرة الفردية مكانة أولى. وهذا ما يبرّر سيطرة الخوف، وامتداد الرعب على أدقّ تفاصيل قصة "المصير"، بينما يظهر الخوف عنصرا مؤثرا، ومثيرا من مثيرات بطل القصة الأخرى، لكنه عنصر يمكن لبطل القصة التغلب عليه ولجمه في سبيل تحقيق هدفه.
تنطلق قصة "المصير" عند لحظات مفصلية في حياة بطلها الذي بدأ يتذوّق طعم الموت، ويحسّ باقترابه منه. لقد سبق له أن واجه ضعف الآخرين وخوفهم بابتسامة سخرية، بل إنه قد رفض مغادرة الخليج مع من غادر في البداية، لكنه الآن –في النقطة التي يبدأ السرد منها- يتملكه الخوف والقلق، ويسيطر عليه الشعور بالوحدة والغربة عن رمال الصحراء. وسرعان ما يتحوّل القلق والرعب من القادم إلى ممارسات هستيرية لا يتفهّمها إلا من عاش أحداث حرب الخليج الثانية: "قفز عن السرير فجأة. تناول منشفة قماش قديمة... بلّلها بالماء. وضعها على حافة الباب الخشبي. أطفأ التلفاز كي لا يبقى في الغرفة أي نور حوله. أدار مفتاح المذياع. شعر بالقلق، وتوجّس قلبه خوفا من الآتي... لقد مرّت عدة ليال وهو على هذه الحالة. أعصابه مشدودة وفكره يحاول أن يتخيّل حجم الكارثة" (ص 12).
مقابل هذه الحال، تبدأ قصة "الدرب السلطاني" في لحظة الوصول إلى برّ الأمان، بعد الانعتاق من رعب الصحراء وهول الرحلة: "وصلت شبه ميت من الإعياء، والدنيا عند المغيب. هجموا كلّهم عليّ يعانقونني واحدا بعد الآخر ويحدّقون النظر بي" (ص 23).
لعل في البدايتين ما يؤشر على الفرق في منطلقات الخوف ومبرراته ومآله في الحالين؛ فإذا كانت القصة الأولى تمضي عبر دهاليز الخوف الذي يجعل نوم البطل عصيّا، وصولا إلى نومه بين مقاعد الانتظار، في المحطة التي ستنطلق منها الحافلة مغادرة المدينة، فإن القصة الثانية تنطلق من لحظة الوصول والأمان لتسترجع خوف الفتى الذي مهما بلغ أوجه فإن نتيجته محسومة، وهي الانجلاء، بدليل لحظة انطلاق السرد، وهي لحظة تدفع النهاية إلى تخوم الشعور بالاطمئنان. حيث ينهي الفتى سرد قصته التي تنتهي بنهايتها قصة "الدرب السلطاني" قائلا: "في صباح اليوم التالي استيقظت باكرا وتسللت دون أن أودعهم وأنا أحلم بالعودة إلى تل النوار! شعرت بجرأة غير مألوفة. وأحسست بنضوج لم أختبره من قبل" (ص 32).
يتفاقم الخوف في قصة "المصير" مع حركة الحدث؛ فالبطل الذي وضع منشفة مبللة على حافة الباب الخشبي نجده مع سماعه صوت صفير أثار في نفسه الرعب يمسك منشفة مبللة ويضغطها على أنفه وفمه. كأنما الخطر يقترب ويشتدّ حتى يعتصر جسده ويحاول الدخول إلى مجرى النَفَس. أما في القصة الثانية فمفاصل الخوف يجري التعبير عنها باقتصاد. وعدا مقطع قصير في بدايتها، وإشارة خاطفة في نهايتها، فإن بطلها الفتى ظلّ في كنف الشيخ وحمايته، فلما قرّر أن يرجع وحده إلى القرية تاركا شيخه في القاهرة كانت رحلة الذهاب قد أنضجته وجعلته يتغلب على خوفه. في بداية القصة يأتي المقطع المعبّر عن الخوف في سياق أقرب إلى الكابوس: "أتذكر أنني استيقظت وسط ظلام دامس والعرق يتصبّب من جبيني. كان حلقي جافّا متشققا من الظمأ كالأرض اليباب بعد موسم جفاف. أردت القيام، لكن الإنهاك نال منّي فعدت إلى حضن الظلام. أحسست بدوار غريب. كانت الدنيا تدور من حولي، والصور والأحلام تتداخل في رأسي. أمسكت جانب السرير لأوقفها دون فائدة" (ص 23-24).
ثم ينتظم السرد عبر استذكار البطل رفقته للشيخ في الطريق إلى القاهرة وصولا إلى نهاية القصة حيث يصارح الشيخ الفتى بقراره بالبقاء في القاهرة. عندها فقط يشعر الفتى بالخوف من العودة وحيدا، لكنه شعور سرعان ما تمكن من التغلب عليه: "ثار بداخلي إحساس بالخوف وأنا أفكر بالعودة وحيدا عبر الصحراء. في صباح اليوم التالي استيقظت باكرا... شعرت بجرأة غير مألوفة" (ص 31-32).
إننا أمام نموذجين من التعبير عن القلق والخوف، وهو تعبير قد تجلى وتوضّح في القصة الأولى حتى صارت له البطولة المطلقة، والهيمنة الكاملة على سير الحدث. أما في القصة الثانية فقد تراجع عن الواجهة لصالح إظهار تفاصيل أخرى. ويمكن القول إنّ ملامح الخوف في القصة الأولى أكثر بروزا لتركيزها على جلاء العالم الداخلي للبطل، وإن عبر استخدام الراوي العليم. بينما هي في القصة الثانية تتوارى عبر جلاء تفاصيل علاقات البطل الخارجية بالشيخ أولا، وباكتشاف العالم المحيط ثانيا، وإن عبر استخدام الراوي المتكلم. حتى إذا خفت وهج الخارج لصالح الداخل –كما هي الحال في البداية المذهلة للقصة، أي قبل بدء الفتى برواية ما حدث له عبر استخدام تقنية القصة داخل القصة- ظهرت ملامح الخوف وتجلّت طاغيةً على المشهد.
* ناقد وكاتب أردني
رابط المقالة
رابط الصفحة الكاملة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق