الجمعة، مايو 6

ترجمة السونيتات بين الشعر والنثر


ترجمة السونيتات بين الشعر والنثر
إياد نصار

نشرت في صحيفة الدستور الأردنية بتاريخ 6/5/2011
لم تحظ قصيدة بالترجمة إلى العربية مثلما حظيت به القصيدة، أو بالأحرى السونيت رقم 18 لوليم شكسبير (1564 - 1616) من بين سونيتاته المئة والأربع والخمسين. ولا أعتقد أن الترجمات ستتوقف يوماً ما. وقد بادر إلى ترجمتها كتاب وشعراء وباحثون ونقاد، كان آخرهم كاتب هذه السطور.

مثلما لمسرحيات شكسبير خلود أدبي كرست مكانته بوصفه أعظم شاعر ومسرحي إنجليزي عبر العصور، فإن لسونيتاته سحراً خاصاً، ومذاقاً أدبياً، وجمالاً لغوياً لا يحس بها إلا من نفذ إلى أعماق السونيتات، متأملاً فيها، ليكتشف عبقرية شكسبير التي سكبها في هذه القصائد، ويتلمس مظاهرها ـ فنياً، ولغوياً، وعاطفياً، واجتماعياً، وانسانياً ـ والتي ملأها بمعاني الحب والحزن والفخر والندم والحكمة والسخرية والجمال والبشاعة، وكل ما يخطر بالبال. وقد طرح فيها شكسبير خلود الأدب، خاصة الشعر، بوصفه وسيلة لتخليد صورة الجمال الحسي الزائل تحت تأثير الطبيعة القاسية المتقلبة، كما طرح فكرة انتهاء الأشياء، فلا الجمال باق ولا الحب دائم ولا متعة الإنسان مستمرة.

نُشرت سونيتات شكسبير خلال حياته عام 1609، ويبدو أنها نشرت من دون إذنه؛ فقد كانت النسخة المطبوعة سيئة ومن غير إهداء، بل كان هناك إهداء من الناشر نفسه إلى رجل غامض أشار إليه بالسيد و. هـ. وهناك من يقول بأنها ترمز إلى السيد وليام هيربرت، نبيل منطقة بمبروك، الذي كان من مقدري إبداع شكسبير، وساهم ـ هو وأخوه ـ في دعم نشر مسرحياته، علماً أنه كان رئيس جامعة أكسفورد، آنذاك، ومؤسس كلية بمبروك فيها. هناك ظن كبير أن يكون وليام هيربرت هو الرجل الذي وردت حوله إشارات في سونيتات عدة، بكونه “الشاب الجميل”، كما تؤكد أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد، والمتخصصة في الأدب الإليزابيثي، الناقدة كاثرين دنكن جونز، التي حققت السونيتات في طبعة آردن، عام 1997. ومن المعروف أن وليام هيربرت لم يتزوج، ولذا ترد إشارات ـ في السونيتات ـ إليه بأن يتزوج، غير أن شكسبير عوضه عن خلود اسمه ـ من خلال ذريته، بالزواج ـ بتخليده في قصائده. تثير فكرة إيمان الشاعر بخلود قصائده، في مقابل جمال الإنسان الزائل، الحيرة؛ فكيف يظل شسكبير يردد هذه الفكرة في السونيتات وهو لم يسع إلى نشرها، بل تم بمحض الصدفة؟

يخمّن النقاد أن السونيتات كتبت، على الأغلب، بين عامي 1595 و1596. ولا يوجد مصدر موثوق يمكن الركون إليه في ترتيب السونيتات، بيد أن الدارسين يقولون إن السونيتات المئة والست والعشرين الأولى، حيث المخاطب فيها، وعلى عكس ما قد توحي به القراءة الأولى، أو الترجمات، ليس امرأة بل شاباً ذا جمال ووسامة، ومحبوباً من الشاعر، ولكن أخلاقه محل تساؤل. في السونيتات الأولى، هناك دعوة له من الشاعر ليتزوج وينجب أولاداً، ما يثير التساؤل أن السونيتات تنطوي على عاطفة من الإعجاب والحب من قبل شكسبير تجاه هذا المخاطب. وأما السونيتات الأخرى، بدءاً من المئة والسابعة والعشرين، فإن المخاطب فيها هو "السيدة الغامضة"، وهي عشقية للشاعر، وذات جمال شهواني، يتوجس منها حذراً بعد نشوء علاقة بينها وبين صديقه، رغم أنه لا يخفي رغبته الجسدية تجاهها.

إن البناء الشعري للسونيت الشكسبيري ليس شيئاً متفرداً أو ذا بناء خاص بشكسبير، بل استخدم فيه بناء القصيدة الإنجليزية، الشائع في عصره، وهو ثلاثة أدوار (كل دور يتألف من أربعة أبيات) ذات قافية مزدوجة تبادلية في كل دور، وقفل يتكون من بيتين لهما قافية واحدة، ولكن شكسبير طور السونيت الإنجليزي من واقع اطلاعه على الشعر الإيطالي، في عصر النهضة، وبالذات قصائد فرانشيسكو بترارك الغنائية، في الحب والغزل، تجاه امرأة تدعى لورا.

ليس هناك اتفاق على أن هذه السونيت (18) هي أجملها على الإطلاق، أو أكثرها عمقاً وبعداً جمالياً وفنياً، لكنها تندرج ضمن ثماني سونيتات تعد متميزة، ولو أن بعض النقاد عدَّ سونيتات أخرى، مثل 55 و60، تظهر فيها عبقرية شكسبير ومهاراته اللغوية بشكل واضح.

وقد صادفتُ، خلال قراءاتي المتعددة للسونيتات، عبر أوقات مختلفة، ترجمات متعددة، وبالذات لهذه السونيت العجيبة، ما يدل على أنها محط اهتمام الأديب العربي ـ ترجمة، وتذوقاً ـ وفيها الكثير مما يمكن أن يقدم للقارئ العربي إضاءة حول سونيتات شكسبير وجوانب الإبداع فيها. وإذا كانت هذه السونيت قد حظيت بكل هذه الترجمات العربية، فللمرء أن يتخيل كم حظيت السونيتات بترجمات لا تعد ولا تحصى إلى لغات العالم الأخرى.

اختار شيخ المترجمين العرب، جبرا إبراهيم جبرا، أربعينَ من السونيتات التي استعذبها وترجمها بلغة أدبية جميلة أظهرت عمق فهم جبرا لمعاني شكسبير، وقدرته على فهم الخاص الثقافي المرتبط ببيئة الشاعر ومنابعه الفكرية، واستجلى فيها حلاوة العربية وتأثيرها وقدرتها على تقديم قصيدة في إيقاع فني عذب. وقد كانت هذه السونيت من بينها.

كما قام الشاعر المصري بدر توفيق بإصدار ترجمة كاملة للسونيتات، عام 1988، ونشرها بنصها الأصلي متبوعة بالترجمة، فكانت ترجمة موفقة تنم عن براعة أدبية ولغوية، وقدرة على فهم المعاني العميقة للسونيتات، والتي لا تتبدى لقارئ أو مترجم عابر. كما اطلعتُ على ترجمات شعرية للسونيت من قبل شعراء عرب حاولوا فيها تقديم معاني السونيت ولكن بقالب شعري عربي. كانت الترجمات شاعرية، لكن المعنى الأصلي ابتعد ـ في بعض الأحيان ـ عن متناول المترجم الشاعر، والقارئ على السواء. لقد حافظ المترجمون شعراً على روح السونيت، ووظفوا لغة عربية إيقاعية جميلة، ولكنهم تصرفوا بالنص بشيء من الحرية، بل حتى غيروا في استعمال بعض الكلمات، لأنهم، من أجل إيصال المعنى ـ وإن كان مهماً، عندهم ـ حكمتهم ضرورات الترجمة الشعرية. فشكسبير، مثلاً، شبه المخاطب بيوم من أيام الصيف بروعته واعتداله، وأشار في ذلك إلى شهر أيار، وهذه الفترة تعد الأجمل والألطف، خلال السنة، في بريطانيا ذات الطقس الشتائي الضبابي البارد، بينما استبدل المترجمون، شعراً، الصيف بالربيع، ولعل دافعهم في ذلك أن الصيف ـ في الذاكرة العربية ـ يرتبط بالحر اللاهب، والقيظ والجفاف بسبب اختلاف المناخ.

من الترجمات الشعرية تلك التي قامت بها الشاعرة العراقية فطينة النائب (كانت تكتب باسم مستعار هو صدوف العبيدية)، التي توفيت عام 1993، ونشرت في كتاب "فن الترجمة" للدكتور صفاء خلوصي، عام 1986. ومن الترجمات الشعرية، أيضاً، تلك التي قامت بها الشاعرة المصرية ياسمين محمد مسلم. أما من الترجمات النثرية البديعة، تلك التي قام بها أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة والمترجم والناقد، د.محمد عناني، ونشرت في جريدة المساء، عام 1962.

وآخر هذه الترجمات هو ترجمة الشاعر والمترجم والناقد المعروف، د. كمال أبو ديب، في كتابه الذي صدر عن مجلة دبي الثقافية، في شهر كانون الثاني، 2010، في إطار كتابها الشهري الذي يوزّع مع المجلة. واللافت أن د. أبو ديب، الذي يدرّس الأدب العربي في جامعة لندن، والذي سبق أن عمل أستاذاً للأدب العربي الحديث والنقد في جامعة اليرموك في الثمانينات (من القرن الفائت)، ترجم السونيتات إلى العربية في صيغتيها النثرية والشعرية. لكن ترجمة أبو ديب فيها تصرف، أيضاً، وتميل إلى الجانب التفسيري في الترجمة. فالشطر الرابع في السونيت يذكر أن فترة الصيف ما أقصر أجلها، في حين أن أبو ديب يضيف إليها: "ووجيز أجل الصيف يمر كحلم يتراءى". أطلق أبو ديب على السونيت كلمة توشيحة، وربط بينه وبين الموشحات الأندلسية، وأرجع نشوء السونيتات ـ في الآداب الأوروبية ـ إلى أصل الموشحات، حيث انتشر الحب الملكي، أو الحب في بلاط الخلفاء والقصور، وهناك دراسات سابقة كتلك التي نشرها أستاذ الأدب الإنجليزي والناقد العراقي، د. عبد الواحدة لؤلؤة، وأشار فيها إلى أن الموشحات وأجواءها كانت السبب في نشوء وازدهار ما يسمى بالشعراء الجوالين (التروبادورز)، في أوروبا، في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة.

ورغم جمال السونيت وغنائيتها وموضوعها حول الحب وزوال الجمال وتصاريف القدر وتحولات الطبيعة ورغبة الإنسان المستحيلة في الخلود، إلا أننا لا نعرف عن "المخاطب" أي شيء سوى أنه بجمال الصيف الإنجليزي ذاته، بل أكثر جمالاً ولطفاً وثباتاً منه.

وكل القصيدة ـ ما عدا ذلك ـ تتحدث عن تأثير الزمن والطبيعة في قهر الجمال. فكل جمال عن الجمال سيزول، وكل اشتعال سيقابله خمود وانطفاء، في يوم ما. غير أن الشعر هو الوسيلة للخلود؛ الشعر هو الذي سيخلد جماله طالما بقي بشر يرددون كلمات شكسبير. ويبدو لي أن القصيدة هي عن الافتنان بالجمال ذاته أكثر مما هي عن جمال المخاطب، رغم أن من يقرأ الترجمات العربية كلها ـ بلا استثناء ـ وفي غياب أية إشارة توضيحية من المترجم، سيظن أن المخاطب فيها، لأول وهلة، هو امرأة، جرياً على عادة الشعر العربي في الغزل، وإظهار الفتنة والإعجاب بجمال الشكل الخارجي للإنسان.

وينبغي أن أشير إلى أن بعض النقاد في حيرة لماذا خص شكسبير كل هذه السونيتات لهذا الشاب الجميل، وهل هي دليل ـ كما أشار بعض النقاد الأميركيين ـ على ميول شكسبير المثلية، أم إنها كانت ـ في حقيقتها ـ تورية ذكية لامرأة لم يود أن يذكرها، أو يكشف عن علاقته بها؟

كنت، وما زلت، دائماً، من محبي سونيتات شكسبير، وكثيراً ما أعود لقراءتها بلغتها، وتذوقها واستجلاء معانيها وبراعتها في مصادر شروحاتها التاريخية. وقد لمست أنه كان لكتاب جبرا "سونيتات شكسبير"، الذي ذاع وانتشر كثيراً، أثر كبير في تذوق القارئ العربي روعة هذه القصائد، وفي الوقت ذاته الإحساس بروعة اللغة العربية حينما يطوعها كاتب ذو قلم جميل.

رابط المقالة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق