الجمعة، أبريل 1

توماس ترانسترومر.. الشعر ذلك اللغز الكبير


توماس ترانسترومر.. الشعر ذلك اللغز الكبير

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الأردنية بتاريخ 25/3/2011

كانت هناك توقعات كبيرة أن يفوز الشاعر السويدي الكبير توماس ترانسترومر Tomas Tranströmer بجائزة نوبل للأدب في العام الماضي. لا بل إن موقع لادبروكس الذي يتيح المراهنات على جائزة نوبل قد ذكر أن فرصته في الفوز بها كانت واحداً الى خمسة، متقدماً على الشاعر السوري الكبير أدونيس، والشاعر البولندي آدم زاجاجيفسكي والشاعر الكوري الجنوبي كو أون. وكان الظن بأن شاعراً سيفوز بها مبعثه أن نوبل قد غابت عن الشعر مدة ستة عشر عاماً عندما منحت لآخر مرة في عام 1996 للشاعرة البولندية فيسلافا شيمبورسكا. والى جانب ترانسترومر، كانت هناك توقعات أن يفوز بها الشاعر الدنماركي انجر كريستنسن، لكنه توفي قبل موعد الجائزة.


ولا أعرف إن كان ترانسترومر البالغ من العمر ثمانين عاماً (1931) سيظل على قيد الحياة ليدخل المنافسة مرة أخرى، فهو مريض للغاية نتيجة الجلطات التي أصيب بها منذ عام 1990، وفقد القدرة على النطق وعلى تحريك يديه. وقد ألف عدد من الموسيقيين السويديين مقطوعات موسيقية وأهدوها له كي يعزفها على البيانو، علها بذلك تساعده على استرداد القدرة على تحريك أطرافه. وفي السنوات الأخيرة صار يؤلف مقطوعات شعرية قصيرة "هايكو"، والتي تأخذه عدة أيام وبمساعدة زوجته حتى يؤلف قصيدة قصيرة منها. ولذلك يبدو أنها فرصة اللحظة الأخيرة. وسواء أحصل على نوبل أم لا، وسواء أبقي على قيد الحياة حتى يحين موعدها، أم لا، فإن تجربته الشعرية الحداثية الطويلة التي تمتد أكثر من نصف قرن، والتي قدم خلالها خمسة عشر ديواناً، قد رسخت مكانته في الشعر العالمي. وستبقى أوراقه معلقة بذاكرة الشعر، وكما قال في إحدى قصائده النثرية: إنني شجرة قديمة ذات أوراق ذابلة لكنها تبقى معلقة ولا تسقط على الأرض".

يعد ترانسترومر المولود في استكهولم والذي فرض حضوره على مشهد الشعر السويدي منذ خمسينيات القرن الماضي، أشهر شاعر الآن يمثل اسكندنافيا في شمال أوروبا. وقد ترجمت أشعاره الى خمسين لغة. وصدرت أعماله الكاملة في تسع عشرة لغة. يتسم شعره بالصور السوريالية، حيث جموع الناس تصبح مرآة ذات سطح خشن، وظلال الأشجار أرقاماً سوداء، وحيث شحاد يحمل شحاداً آخر بلا قدمين على ظهره، وسيارت تمر في الظلام فتتحول الى أطباق طائرة.

يسير ترانسترومر على تقاليد شعراء سويديين آخرين من أمثال جونار ايكيلوف، وفيرنر آسبنستروم، بالإضافة الى شعراء الحداثة الفنلنديين الذين يكتبون بالسويدية مثل ايديث سودرغران وجونار يورلنغ، وقد قال ناشره البريطاني نيل آستلي بأن شعره رغم بساطته إلا أنه ليس سهلاً على الترجمة بما يتضمنه من طبقات الصوت والمعنى، وبما يعكس مشاهد الطبيعة الاسكندنافية، ولهذا لم يكن الشاعر راضياً عن ترجمات شعره الى الانجليزية الا تلك التي قام بها روبين فولتن. وفولتن متخصص بترجمة شعر ترانسترومر منذ ثلاثين عاماً، وترجم كل مجموعاته لغاية الآن. أما الآخرون من المترجمين فقد مزجوا في ترجماتهم بين ما يترجمونه وأصواتهم وأحاسيسهم الشعرية أو أضافوا عناصر لم تكن في الأصل وهو ما شوه شعرية قصائده.

وفي السنة التي أصيب فيها بجلطة لأول مرة، قد أصدر كتابه النثري الذي يتضمن مذكراته "للأحياء والموتى"، وقد مرّ نتيجة المرض بعدها بفترة من الصمت، استمرت حتى عام 1996 حينما عاد بمجموعته "الجندول الحزين". وقد أصدر منذ ذلك الحين عددأ من المجموعات الشعرية، من أشهرها "اللغز الكبير" في عام 2004، والذي ضم خمس قصائد قصيرة، وعدداً كبيراً من قصائد الهايكو القصيرة جداً. ومن ديوانه "اللغز الكبير" اخترت وترجمت مقاطع الهايكو التالية:

-1-


دير

ذو حدائق معلقة

صورُ معركة

الأفكار تقف بلا حراك

مثل قطع الفسيفساء

في ساحة القصر.

على طول المنحدرات

وتحت الشمس – كانت الماعز

ترعى النار.

واقفاً على شرفة

في قفص من أشعة الشمس -

مثل قوس قزح.

مثل طنين في السديم.

هناك، زورق صيد بعيد -

تذكار يطفو على المياه.

-2-


أكمة باردة من الصنوبر

على الأرض المأساوية ذاتها

دائماً وأبداً.

يحملها الظلام.

رأيت ظلاً هائلاً

بعيني الاثنتين.

هذه المعالم

قد انطلقت في رحلة.

اسمع صوت يمامة الغابة.

-3-

يستريح كتاب الموعظة

على رف في مكتبة الحمقى

لم يمسسه أحد.

زادت سعادتي

وغنت الضفادع في مستنقعات

بوميرانيا*.

إنه يكتب، يكتب...

وطفحت القنوات بالصمغ.

البارجة تسير عبر نهر ستايكس**

اذهب بهدوء مثل المطر

قابل الاوراق الهامسة

اسمع صوت جرس الكرملين.

-4-

فُتح السقف

يرانى الميت

هذا الوجه.

حدث شيء ما.

أضاء القمر الغرفة.

عرف الله به.

اسمع أنين المطر

إنني أهمس سراً ليصل

إلى هناك.

مشهد على المسرح

يا له من هدوء غريب –

الصوت الداخلي.

* مقاطعة في شمال غرب بولندا كانت جزءا من ألمانيا

** نهر في العالم السفلي الى حيث تحمل أرواح الموتى

ولد توماس في استكهولم عاصمة السويد لأب صحافي وأم تعمل مدرسة لم يلبثا أن انفصلا. قضى الشاعر جزءاً من طفولته مع أمه على جزيرة رنمارو، وقد عكس مشاهدها الطبيعية الخلابة في أشعاره وخاصة مجموعته المسماة "البلطيق" في عام 1974. كان توماس يحب دراسة الآثار والاكتشافات في صباه، غير أنه سرعان ما تحول اهتمامه الى علم النفس والشعر والموسيقى وخاصة البيانو، وقد تخرج في جامعة استكهولم في عام 1956 في تخصص علم النفس. وقد عمل بعدها أخصائياً نفسياً في مؤسسة لرعاية الأحداث المنحرفين.

تفتحت موهبته الشعرية في سن الثالثة والعشرين حينما أصدر مجموعته الأولى "سبع عشرة قصيدة" في عام 1954. وقد تحول من شعر الطبيعة التقليدي في سن العشرينيات الذي كان يتسم به الشعر السويدي بنزعته الجمالية إلى شعر أكثر ذاتية وسوداوية. ومنذ مرحلة مبكرة في مشواره الأدبي أخذ يميل الى التجريب في الأوزان والصور، وأغلب أعماله من الشعر الحر. وقد تتابعت مجموعاته الشعرية بعد ذلك بأجوائها السوريالية التي تركز على الصورة وخاصة المستوحاة من الطبيعة في إطار غير مألوف كمفتاح الى الفكرة الفلسفية التي تظهر كومضة مثل "أسرار على الطريق" في عام 1958، و"نصف سماء منتهية" في عام 1962، و"النوافذ والحجارة" في عام 1966 و"المسالك" في عام 1973، وقد تأثرت دواوينه اللاحقة وخاصة "نصف جنة منتهية" الذي أصدره في عام 2001 بأسفاره الكثيرة الى دول البلطيق وإسبانيا وإفريقيا والولايات المتحدة. وآخر أعماله التي صدرت في العام الماضي 2010 كان بعنوان "صوت يقول أن الحرية موجودة".

وظف الشاعر تجاربه الذاتية ودراسته في علم النفس ومشاهداته في شعره، حيث يبني القصيدة حول صورة تبدو خادعة لكنها تفتح الباب أمام التأملات النفسية واستبطان العالم الداخلي والتفسيرات الميتافيزيقية كما في ديوانه "رؤية ليلية" الذي أصدره في عام 1970. وصار ينحو شعره نحو إدراك سر الموت والحياة والمجهول والعدم والتسامي الى عالم الفكر، وكان يأمل دائماً في الوصول الى ما سماه "السلام الكوني". يقول في قصيدة "فيرمير":

السماء الأثيرية قد أخذت مكانها

مستندة الى الجدار

إنها مثل صلاة للفراغ

والفراغ يدير وجهه الينا

ويهمس

"أنا لست فارغاً، أنا مفتوح".

تبدو في شعره صور البيئة المحيطة بالمكان في حركة وتغير وصراع كأنما تصبح آلهة ورموزاً من الأساطير الاسكندنافية، حيث البحر والبر في صراع دائم، يأخذها الشاعر الى آماد أبعد من الرمزية في الصراع بين الحرية والكبت، والطبيعة والوجود الانساني، وخاصة في قصائده في مرحلة السبعينيات عندما كانت دول البلطيق جزءاً من الاتحاد السوفياتي. يقول في إحدى قصائده:

"أنا المكان

حيث يصنع الوجود نفسه من هناك"

وفي قصيدة "شوارع في شنغهاي" فإن نشوة الجموع تعكس عالماً داخلياً من الحزن الأسود:

نبدو كأننا سعداء تحت الشمس

بينما ننزف حتى الموت

من الجروح التي لا نعرف عنها شيئاً

وفي قصيدة الجندول الحزين التي قدمها كنوع من التقدير لمعزوفات البيانو للموسيقار الهنغاري (ليست)، فقد صوّر "البرودة الخضراء للمحيط التي تغمر أرض القصر" والتي لها ذلك "العمق الذي يحب أن يغزو البشرية دون أن يظهر وجهه". في أعماله اللاحقة بدأ الشاعر بتوظيف الموسيقى في الشعر والمزج بينهما، حيث شعر بأن التعبير الإنساني بالكلمات له حدود يقف عندها، وهنا يأتي دور الفنون الاخرى وخاصة الموسيقى، وهذا ما نلحظه في أغلب مجموعاته التالية.

أخذ بعض النقاد على شعر ترانسترومر قلة اهتمامه بالقضايا السياسية التي شغلت شعراء جيله وتركيزه على القضايا التأملية الكونية ذات النزعة الغنائية بتأثير واضح في الأسلوب والمضمون من المذهبين التعبيري والسوريالي.

ومن الجدير ذكره أن الشاعر تربطه علاقة صداقة قوية بالشاعر الأمريكي روبرت بلاي، وقد نشرت رسائلهما في عيد ميلاده السبعين في كتاب تحت اسم "بريد جوي". وفي فترة السبعينات انتشر في أمريكا اتجاه شعري يدعى "الصورة العميقة". وقد اشتق الاسم الشاعران جيرومي روثنبيرغ وروبرت كيلي متأثرين بالصور التي اشتمل عليها شعر الاسباني لوركا والاتجاه الرمزي في الشعر. وقد كان شعر ترانسترومر المترجم الى الانجليزية أحد العناصر المهمة التي لعبت دوراً في تشكيل ذلك الاتجاه، حيث انتشر شعره على نطاق واسع في أمريكا. يقول ترانسترومر في كتابه "للأحياء والموتى": "يمشي الناس خلال غابات الرموز، والتي تنظر هي الأخرى بدورها اليهم وفي عينيها نظرة تحديق عارفة بكل شيء". وفي قصيدته "شوارع في شنغهاي" التي يدل عنوانها على حيرة الرموز يقول: "إنني محاط بالإشارات التي لا أستطيع تفسيرها". هذا هو عالم توماس ترانسترومر الشعري الذي تتجسد فيه عصارة تجربته وفكره، وكأني به يؤكد أن الشعر يبقى ذلك اللغز الكبير.

رابط المقال بصحيفة الرأي

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلا ريثما يتم تحميل الصفحة)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق