الشاعر بين فهرس أخطائه وقمصانه الشعرية
إياد نصار
* نشرت في الملحق "شرفات ثقافية" بصحيفة الدستور الأردنية بتاريخ 25/3/2011
تمتد تجربة الشاعر العراقي ، عبود الجابري ، فوق ديوانين من الشعر ، وعدد من الإلقاءات الشعرية في عمان. أصدر ديوانه الأول "فهرس الأخطاء" ، في عام 2007 ، عن دار أزمنة ، ثم أصدر ديوانه الثاني "يتوكأ على عماه" ، في عام 2009 ، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يحاول الجابري أن يجد له موطئ قدم بين الأسماء العراقية الكثيرة التي تمتلئ بها ساحة الشعر العربي الحديث. لم تكن مسيرته سهلة ، فقد انطلقت موهبته بعيداً عن أرض الوطن الذي خرج منه في العام 1993 ، ولم يعد بعدها ، حيث استقر به المقام في عمان وتزوج من أردنية. ولم تكن سهلة: لأن شعره نثري في إطار سوريالي ، يعيد تشكيل علاقات الأشياء ودلالاتها السيميائية ، ويقيم علاقات جديدة ، توظّف معانيْ وصوراً غير مألوفة ، وتعتمد أسلوب الدهشة في مجانسة الكلمات غير المتجانسة ، في وقت هيمن فيه الشعر السياسي على الفضاء الشعري العراقي ، وفي وقت استطاعت فيه الرواية أن تسجل حضوراً بارزاً لتناولها قضايا العراق الكبرى ، كمآسي الاحتلال ، والطائفية ، والموت العبثي ، وصراعات الأحزاب السياسية بعد الفوضى التي خلّفها الغزو.
يحتوي الديوان الأول على خمس وعشرين قصيدة ، تتوزع فوق ثمانْ وستين صفحة ، ما يعطي انطباعاًً أن معظم قصائد الجابري تنزع إلى القصر عموماً ، إذ يميل إلى الاقتصاد في جملته الشعرية ، بينما يحتوي الديوان الثاني على عشر قصائد. بيد أنه لا بد من الإشارة إلى وجود باقة من القصائد الفرعية الأخرى فيه ، والتي تنظمها ثيمة مشتركة ، ألا وهي القميص ، وقد أوردها ضمن ما سمّاه "كتاب القمصان"، الذي يشكل الجزء الأكبر من الديوان الثاني.
إن إحدى أبرز ميزات شعر الجابري هو لجوءه ، بشكل دائم ، إلى توظيف النص القرآني ، أو مأثور القول العربي ، في صورة حداثية جديدة تقوم على إعادة توظيف النص الأصلي ، شعرياً ، في إطار فني وسياق جديدين بما يناسب الجو العام للقصيدة ، والحالة النفسية التي تعبر عنها ، وكذلك مضامينها ومعانيها ، وبما يوحي بقدرة اللغة على أن تستوعب مأزق الفوضى في مشهد الواقع ، وأن تعبر ـ بدقة ـ عن تعقيدات حياتنا واضطراباتها ، مثلما تنم عن رغبة الشاعر في البحث عن هدوء النفس من خلال استرجاع الماضي الجميل ، وإعادة ترتيب أحلامنا المنهارة وآمالنا ، بما يشبه تشكيل اللوحة الفنية ، كقوله: "يقلب كفيه ذات اليمين.. وذات الخواء" ، وقوله "ويسعين بين الصفا.. والمرارة". ولا يقف الأمر عند مجرد استخدام مفردة في إطار جديد ، بل إنه يتعدى ذلك إلى توظيف الصورة التراثية ، أحياناً ، بكلّيتها المركبة ، وإن كان في سياق تأويلي أدبي عصري بما يحافظ على بلاغة النص الأصلي ، وينقل روحه إلى القصيدة ، ويضمن سلاستها وقربها إلى نفس القارئ. يقول في قصيدته "لم يمهله طويلاً" ، من ديوانه الثاني:
وإذ قلتُ لهُ:
ما ذلك بمرآتك؟
قالَ: هو عمايَ
أتوكّأُ عليه
وأهشُّ به على ما أرى
من الظلام.
ورغم أن جملته الشعرية مكثفة للغاية ، إلا أنها تنحو إلى الأسلوب السردي ، الذي يروي ـ بكلمات موجزة مثقلة بالمعاني والإسقاطات ـ قبسات من قصة إنسانية كبيرة بكل أبعادها النفسية. ويتسم شعره بالابتعاد كثيراً عن الوصف ، والميل إلى التحرش الفلسفي في إثارة الفكر لدى القارئ ، ودفعه إلى إدراك المفارقات التي تنطوي عليها حياتنا ، وإلى التحليل بعمق أكثر من مجرد التلذذ بإدراك الصورة. ولذلك لا ينشغل شعره بإثارة ارتباط القارئ بالقصيدة بصرياً ، أو بجمالياتها اللغوية التي تثير شهية الحواس ، بل في تقديم صور تأملية تركز على الأصوات وتأثيراتها في الإنسان أكثر من تركيزه على الألوان:
يجرحك قميصي المتغضن
وصلوات الورد في كل الجهات
وتجرحك البوصلة
وأنا أمير البسملات
التي أقشرها على جهاتك الطاغية
أحمل رعويتي
وبدائية الخزف المتكسر في صوتي:
أحمل عصاي
وأقود قطيع انكساراتي.
يسيطر على قصائد الجابري هاجس البحث عن المرأة الحلم ، التي لا يجدها في الواقع ، ولا في الشعر الذي فقد رقته في أجواء الخراب والخواء ، ويفتش عنها في بقايا المدن المنهكة ، ويحلم أن يجد المرأة التي تسمو فوق الشكل ، أو الظاهر ، لتدرك المعاني الدفينة في إلهامه:
وأحلمُ بامرأة
لا تجادلُ في النحو أو في البلاهة.
يعكس حضور الأم في عدد من القصائد إحساس الشاعر بالألم من صخب الحياة ، وبفقدان الأمل ، وينقل المعاناة من فضائها الشخصي إلى الفضاء العام:
فاحمليني ،
فقد تعبت هذه الأرض من صخبي
وجرّحها خيزران الطغاة..
لم تكوني هناك
فكوني هنا ،
عند مفترق الدرب ،
وامنحيني صلاتك
أو هدهديني..
يوظف الجابري ، في قصائده ، شخصيات أسطورية ذات دلالات ، من مثل "بينيلوب" زوجة أوديسيوس ملك إيثاكا ، التي ارتبط اسمها بالوفاء في الأسطورة اليونانية ، والتي تقول إنها انتظرت عودة زوجها عشرين عاماً ، غير أن الجابري يعيد تقديم الأسطورة بايحاء مكثف ، تماماً ، في صورة جديدة تعتمد وعي القارئ بالأسطورة ، كي يرسم إخلاص المرأة النموذج التي تعيش على أحلامها الذهبية.
عالم الجابري الشعري عالم من شظايا الحلم ، وبقايا الذكريات ، وصور الموت ، والخراب ، والقتل ، والخسارات التي لم تترك سوى أطلال من البشر. وهو
عالم يعتمد الصور المركبة المتلاحقة ، التي لا تمنح نفسها بسهولة ، وإعادة تكوين العلاقات بين الأشياء كقوله: "مقهى من أجل تكرير الجنون" ، وغيرها مما تمتلئ بها القصائد.
يتشكل عالمه الشعري من مفردات تتردد في أغلب قصائده ، وتمثّل ثيمات أساسية يعود إليها مراراً. وقد وجدت أنه كثير الارتباط بجزئيات من واقع حياة الناس اليومية ، وفضاءات مساكنهم ودروبهم ، كالجدار ، والنافذة ، والسور ، والنهر ، والمرآة ، والشوارع ، والريح ، والغيم ، والحرب ، والليل ، والسماء بأقمارها ونجومها.
رغم البعد الذاتي ، الذي يبرز في كثير من قصائده ، إلا أن البعد الجمعي حاضر دائماً ، ويتمثل في الإسقاط السياسي الرمزي ، الذي ينطوي على نقد شديد للواقع العربي ، وإحساس مرّ بسقوط الذرائع ، ودائماً يبدو الشاعر غير قادر عن الانفكاك من تأثير الجو السياسي العام ، حتى في قصائده الوجدانية ، فترى الحرب والدم والظلم والقمع ساكنة في زوايا قصائده ، مستفيداً من ظلال المناسبة ورمزيتها وألوانها في إعادة تقديمها في إطار عراقي سياسي إنساني أشمل. يقول في قصيدة "فالانتين":
بيننا...
شحوب الورد...
بانتظار حمرة الربيع المؤجل
منذ ثلاث حروب...
فلا تحزني....
كلّ شيء حولنا أحمر...
عيون الأمهات
ونشرة الأخبار
والشفق الذي كان قرمزياً.
يقدم الشاعر في قصائده ، من خلال إشارات عابرة ، أو وقفات متأنية ، تمثيلات شتى من فصول المأساة العراقية ، التي تنتهي ـ كما يراها ـ بالغربة والنفي ، وقد حمل العراقي معه إلى مدن غريبة بعيدة حزنه على الوطن ، وحزن الوطن المقتول على أبنائه. قصيدة "بلاد تضيق بأهلها" مسكونة بعشق الوطن الممتزج بالألم والإحساس القاسي بالضياع. تقدم القصيدة لقطات معبرة للوداع المر ، حيث يرحل العراقيون عن وطن توقف عنده الزمن ، يحملون معهم "مروحة سوداء من سعف محترق" ، ووتراً مراً ، وذاكرة امتلأت بحروب شبعت من الدماء ، و"قتيلاً يشاطر قاتله حزنه على البلاد".
يتسم شعر الجابري باستخدام البرقيات الشعرية ، التي تحمل صوراً من النقد لجوانب ثقافية واجتماعية من حياتنا ونفاقها الاجتماعي. كتب في قصيدة "ما تساقط من منقار العصفور":
تكريم
أيها الشاعر.. مت
مت.. فقط
لكي نسمي شارعاً يحمل اسمك..
يسعى الشاعر إلى توظيف الأساليب الحوارية والمسرحية في إطار من الرمز والغموض ، ولا يبذل أي جهد في توضيح الفكرة ، مفترضاً أن جمالية الشعر في غموضه وإيماءاته. وأعتقد أن القارئ يلمس في شعر الجابري شيئاً من المدرسة الأدونيسية ، التي تؤمن بأن الشعر عالم يستمد مبرراته وجمالياته من رمزيته ، وقابليته للتأويل ، التي تبتعد به عن التعبيرية العاطفية. تعكس قصيدة "تحولات الغرفة" جوانب من فلسفته الشعرية. تقدم القصيدة تحولات الواقع العربي في مشهد رمزي ثلاثي عند الصباح والمساء ومنتصف الليل. تجتمع أصوات شتى في الغرفة التي نكتشف أنها تتحول إلى ما يشبه السجن ، تتداخل الأصوات وتتقاطع ، حيث يعبر كل منها عن أزمة ، تجسد غياب تواصل الإنسان العربي مع الآخرين من حوله ، فكأنما تغتال الجدرانُ الأحلامَ ، وتحيل البشرَ إلى جزر متنافرة متباعدة.
تكتسب قصيدة "فهرس الأخطاء" أهمية كبيرة ، في الديوان ، لما تختزله من أسلوبه وهواجسه ، ولعل هذا ما يبرر تسمية الديوان باسمها. ترد كثيراً ، في شعر الجابري ، مسألة التحولات والصور العديدة التي يقدم بها الأشياء ، والتي تحمل معها معاني متعددة حسب زاوية النظرة ، وهذه إحدى أهم ميزات الشعر الحديث ، الذي يقارب الحقيقة بمنهج التأويل ، ومحاولة الفهم ، ورصد الاحتمالات ، وتعدد زوايا الرؤية ، والاختلاف في النظرة إلى الشيء ذاته ، فلا مقدس ولا حقيقة ثابتة أو مطلقة في الشعر سوى حقيقة الإبداع ذاتها ، التي لا يحكمها قالب أو منهج أو أسلوب واحد أو نظرة أو فلسفة بعينها. ولهذا جاء عنوانها الفرعي "احتمالات".
اذا كانت أغلب قصائد الديوان الأول قد كتبت خلال العام 2006 ، فإن أغلب قصائد الديوان الثاني قد كتبت في العام ,2009 لقد طرأت بعض التطورات على شعر الجابري ، من مثل الاستعانة بنصوص نثرية حكائية تستلهم أجواء التراث ، وتخصيص جزء كبير من الديوان في فصل سمّاه "كتاب القمصان" ، والذي جاء في حوالي ثلاثين صفحة. تقوم فكرة كتاب القمصان على إعادة توظيف المعاني التي ارتبطت بالقميص في التراث العربي واستلهامها ، من مثل: قميص يوسف ، وقميص عثمان ، وقميص الشهيد ، والتوسع في استثمار المعاني المرتبطة بالقميص ، واستخدامه في معان سياسية واجتماعية وأدبية معاصرة ، فصار هناك قميص فلسطين ، وقميص العراق ، وقميص مانديلا ، وقميص بغداد ، وقميص الحلاج ، وقميص المتنبي ، وقميص أبي ، وقميصي.. إلخ.
نلاحظ رغبة الجابري في ديوانه الثاني ، "يتوكأ على عماه"، في استكناه الدلالات المختلفة للمفردات وسبرها ، خاصة تلك التي ترتبط بالتفسيرات والتأويلات والتوظيفات اللغوية والمعرفية في عالم الإبداع ، وهذه احدى التحولات التي طرأت على تجربته الشعرية. في قصيدة "غيوم ورقية"، يلجأ الشاعر إلى تركيب استعارات شعرية متوالية تنطوي على النقد السياسي والاجتماعي من خلال استغلال المعاني ، التي قد ترتبط بالغيم في الذاكرة الجمعية العربية:
وحده الألم
نتمنى أن يكون غيمة عابرة
**
غيمة غاضبة...
أمطرتنا بوابلْ... من الرصاص
**
ما الذي سنراه
لو صارت الغيوم مرايا؟
رابط المقال بصحيفة الدستور
رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلا ريثما يتم تحميل الصفحة)
إياد نصار
* نشرت في الملحق "شرفات ثقافية" بصحيفة الدستور الأردنية بتاريخ 25/3/2011
تمتد تجربة الشاعر العراقي ، عبود الجابري ، فوق ديوانين من الشعر ، وعدد من الإلقاءات الشعرية في عمان. أصدر ديوانه الأول "فهرس الأخطاء" ، في عام 2007 ، عن دار أزمنة ، ثم أصدر ديوانه الثاني "يتوكأ على عماه" ، في عام 2009 ، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يحاول الجابري أن يجد له موطئ قدم بين الأسماء العراقية الكثيرة التي تمتلئ بها ساحة الشعر العربي الحديث. لم تكن مسيرته سهلة ، فقد انطلقت موهبته بعيداً عن أرض الوطن الذي خرج منه في العام 1993 ، ولم يعد بعدها ، حيث استقر به المقام في عمان وتزوج من أردنية. ولم تكن سهلة: لأن شعره نثري في إطار سوريالي ، يعيد تشكيل علاقات الأشياء ودلالاتها السيميائية ، ويقيم علاقات جديدة ، توظّف معانيْ وصوراً غير مألوفة ، وتعتمد أسلوب الدهشة في مجانسة الكلمات غير المتجانسة ، في وقت هيمن فيه الشعر السياسي على الفضاء الشعري العراقي ، وفي وقت استطاعت فيه الرواية أن تسجل حضوراً بارزاً لتناولها قضايا العراق الكبرى ، كمآسي الاحتلال ، والطائفية ، والموت العبثي ، وصراعات الأحزاب السياسية بعد الفوضى التي خلّفها الغزو.
يحتوي الديوان الأول على خمس وعشرين قصيدة ، تتوزع فوق ثمانْ وستين صفحة ، ما يعطي انطباعاًً أن معظم قصائد الجابري تنزع إلى القصر عموماً ، إذ يميل إلى الاقتصاد في جملته الشعرية ، بينما يحتوي الديوان الثاني على عشر قصائد. بيد أنه لا بد من الإشارة إلى وجود باقة من القصائد الفرعية الأخرى فيه ، والتي تنظمها ثيمة مشتركة ، ألا وهي القميص ، وقد أوردها ضمن ما سمّاه "كتاب القمصان"، الذي يشكل الجزء الأكبر من الديوان الثاني.
إن إحدى أبرز ميزات شعر الجابري هو لجوءه ، بشكل دائم ، إلى توظيف النص القرآني ، أو مأثور القول العربي ، في صورة حداثية جديدة تقوم على إعادة توظيف النص الأصلي ، شعرياً ، في إطار فني وسياق جديدين بما يناسب الجو العام للقصيدة ، والحالة النفسية التي تعبر عنها ، وكذلك مضامينها ومعانيها ، وبما يوحي بقدرة اللغة على أن تستوعب مأزق الفوضى في مشهد الواقع ، وأن تعبر ـ بدقة ـ عن تعقيدات حياتنا واضطراباتها ، مثلما تنم عن رغبة الشاعر في البحث عن هدوء النفس من خلال استرجاع الماضي الجميل ، وإعادة ترتيب أحلامنا المنهارة وآمالنا ، بما يشبه تشكيل اللوحة الفنية ، كقوله: "يقلب كفيه ذات اليمين.. وذات الخواء" ، وقوله "ويسعين بين الصفا.. والمرارة". ولا يقف الأمر عند مجرد استخدام مفردة في إطار جديد ، بل إنه يتعدى ذلك إلى توظيف الصورة التراثية ، أحياناً ، بكلّيتها المركبة ، وإن كان في سياق تأويلي أدبي عصري بما يحافظ على بلاغة النص الأصلي ، وينقل روحه إلى القصيدة ، ويضمن سلاستها وقربها إلى نفس القارئ. يقول في قصيدته "لم يمهله طويلاً" ، من ديوانه الثاني:
وإذ قلتُ لهُ:
ما ذلك بمرآتك؟
قالَ: هو عمايَ
أتوكّأُ عليه
وأهشُّ به على ما أرى
من الظلام.
ورغم أن جملته الشعرية مكثفة للغاية ، إلا أنها تنحو إلى الأسلوب السردي ، الذي يروي ـ بكلمات موجزة مثقلة بالمعاني والإسقاطات ـ قبسات من قصة إنسانية كبيرة بكل أبعادها النفسية. ويتسم شعره بالابتعاد كثيراً عن الوصف ، والميل إلى التحرش الفلسفي في إثارة الفكر لدى القارئ ، ودفعه إلى إدراك المفارقات التي تنطوي عليها حياتنا ، وإلى التحليل بعمق أكثر من مجرد التلذذ بإدراك الصورة. ولذلك لا ينشغل شعره بإثارة ارتباط القارئ بالقصيدة بصرياً ، أو بجمالياتها اللغوية التي تثير شهية الحواس ، بل في تقديم صور تأملية تركز على الأصوات وتأثيراتها في الإنسان أكثر من تركيزه على الألوان:
يجرحك قميصي المتغضن
وصلوات الورد في كل الجهات
وتجرحك البوصلة
وأنا أمير البسملات
التي أقشرها على جهاتك الطاغية
أحمل رعويتي
وبدائية الخزف المتكسر في صوتي:
أحمل عصاي
وأقود قطيع انكساراتي.
يسيطر على قصائد الجابري هاجس البحث عن المرأة الحلم ، التي لا يجدها في الواقع ، ولا في الشعر الذي فقد رقته في أجواء الخراب والخواء ، ويفتش عنها في بقايا المدن المنهكة ، ويحلم أن يجد المرأة التي تسمو فوق الشكل ، أو الظاهر ، لتدرك المعاني الدفينة في إلهامه:
وأحلمُ بامرأة
لا تجادلُ في النحو أو في البلاهة.
يعكس حضور الأم في عدد من القصائد إحساس الشاعر بالألم من صخب الحياة ، وبفقدان الأمل ، وينقل المعاناة من فضائها الشخصي إلى الفضاء العام:
فاحمليني ،
فقد تعبت هذه الأرض من صخبي
وجرّحها خيزران الطغاة..
لم تكوني هناك
فكوني هنا ،
عند مفترق الدرب ،
وامنحيني صلاتك
أو هدهديني..
يوظف الجابري ، في قصائده ، شخصيات أسطورية ذات دلالات ، من مثل "بينيلوب" زوجة أوديسيوس ملك إيثاكا ، التي ارتبط اسمها بالوفاء في الأسطورة اليونانية ، والتي تقول إنها انتظرت عودة زوجها عشرين عاماً ، غير أن الجابري يعيد تقديم الأسطورة بايحاء مكثف ، تماماً ، في صورة جديدة تعتمد وعي القارئ بالأسطورة ، كي يرسم إخلاص المرأة النموذج التي تعيش على أحلامها الذهبية.
عالم الجابري الشعري عالم من شظايا الحلم ، وبقايا الذكريات ، وصور الموت ، والخراب ، والقتل ، والخسارات التي لم تترك سوى أطلال من البشر. وهو
عالم يعتمد الصور المركبة المتلاحقة ، التي لا تمنح نفسها بسهولة ، وإعادة تكوين العلاقات بين الأشياء كقوله: "مقهى من أجل تكرير الجنون" ، وغيرها مما تمتلئ بها القصائد.
يتشكل عالمه الشعري من مفردات تتردد في أغلب قصائده ، وتمثّل ثيمات أساسية يعود إليها مراراً. وقد وجدت أنه كثير الارتباط بجزئيات من واقع حياة الناس اليومية ، وفضاءات مساكنهم ودروبهم ، كالجدار ، والنافذة ، والسور ، والنهر ، والمرآة ، والشوارع ، والريح ، والغيم ، والحرب ، والليل ، والسماء بأقمارها ونجومها.
رغم البعد الذاتي ، الذي يبرز في كثير من قصائده ، إلا أن البعد الجمعي حاضر دائماً ، ويتمثل في الإسقاط السياسي الرمزي ، الذي ينطوي على نقد شديد للواقع العربي ، وإحساس مرّ بسقوط الذرائع ، ودائماً يبدو الشاعر غير قادر عن الانفكاك من تأثير الجو السياسي العام ، حتى في قصائده الوجدانية ، فترى الحرب والدم والظلم والقمع ساكنة في زوايا قصائده ، مستفيداً من ظلال المناسبة ورمزيتها وألوانها في إعادة تقديمها في إطار عراقي سياسي إنساني أشمل. يقول في قصيدة "فالانتين":
بيننا...
شحوب الورد...
بانتظار حمرة الربيع المؤجل
منذ ثلاث حروب...
فلا تحزني....
كلّ شيء حولنا أحمر...
عيون الأمهات
ونشرة الأخبار
والشفق الذي كان قرمزياً.
يقدم الشاعر في قصائده ، من خلال إشارات عابرة ، أو وقفات متأنية ، تمثيلات شتى من فصول المأساة العراقية ، التي تنتهي ـ كما يراها ـ بالغربة والنفي ، وقد حمل العراقي معه إلى مدن غريبة بعيدة حزنه على الوطن ، وحزن الوطن المقتول على أبنائه. قصيدة "بلاد تضيق بأهلها" مسكونة بعشق الوطن الممتزج بالألم والإحساس القاسي بالضياع. تقدم القصيدة لقطات معبرة للوداع المر ، حيث يرحل العراقيون عن وطن توقف عنده الزمن ، يحملون معهم "مروحة سوداء من سعف محترق" ، ووتراً مراً ، وذاكرة امتلأت بحروب شبعت من الدماء ، و"قتيلاً يشاطر قاتله حزنه على البلاد".
يتسم شعر الجابري باستخدام البرقيات الشعرية ، التي تحمل صوراً من النقد لجوانب ثقافية واجتماعية من حياتنا ونفاقها الاجتماعي. كتب في قصيدة "ما تساقط من منقار العصفور":
تكريم
أيها الشاعر.. مت
مت.. فقط
لكي نسمي شارعاً يحمل اسمك..
يسعى الشاعر إلى توظيف الأساليب الحوارية والمسرحية في إطار من الرمز والغموض ، ولا يبذل أي جهد في توضيح الفكرة ، مفترضاً أن جمالية الشعر في غموضه وإيماءاته. وأعتقد أن القارئ يلمس في شعر الجابري شيئاً من المدرسة الأدونيسية ، التي تؤمن بأن الشعر عالم يستمد مبرراته وجمالياته من رمزيته ، وقابليته للتأويل ، التي تبتعد به عن التعبيرية العاطفية. تعكس قصيدة "تحولات الغرفة" جوانب من فلسفته الشعرية. تقدم القصيدة تحولات الواقع العربي في مشهد رمزي ثلاثي عند الصباح والمساء ومنتصف الليل. تجتمع أصوات شتى في الغرفة التي نكتشف أنها تتحول إلى ما يشبه السجن ، تتداخل الأصوات وتتقاطع ، حيث يعبر كل منها عن أزمة ، تجسد غياب تواصل الإنسان العربي مع الآخرين من حوله ، فكأنما تغتال الجدرانُ الأحلامَ ، وتحيل البشرَ إلى جزر متنافرة متباعدة.
تكتسب قصيدة "فهرس الأخطاء" أهمية كبيرة ، في الديوان ، لما تختزله من أسلوبه وهواجسه ، ولعل هذا ما يبرر تسمية الديوان باسمها. ترد كثيراً ، في شعر الجابري ، مسألة التحولات والصور العديدة التي يقدم بها الأشياء ، والتي تحمل معها معاني متعددة حسب زاوية النظرة ، وهذه إحدى أهم ميزات الشعر الحديث ، الذي يقارب الحقيقة بمنهج التأويل ، ومحاولة الفهم ، ورصد الاحتمالات ، وتعدد زوايا الرؤية ، والاختلاف في النظرة إلى الشيء ذاته ، فلا مقدس ولا حقيقة ثابتة أو مطلقة في الشعر سوى حقيقة الإبداع ذاتها ، التي لا يحكمها قالب أو منهج أو أسلوب واحد أو نظرة أو فلسفة بعينها. ولهذا جاء عنوانها الفرعي "احتمالات".
اذا كانت أغلب قصائد الديوان الأول قد كتبت خلال العام 2006 ، فإن أغلب قصائد الديوان الثاني قد كتبت في العام ,2009 لقد طرأت بعض التطورات على شعر الجابري ، من مثل الاستعانة بنصوص نثرية حكائية تستلهم أجواء التراث ، وتخصيص جزء كبير من الديوان في فصل سمّاه "كتاب القمصان" ، والذي جاء في حوالي ثلاثين صفحة. تقوم فكرة كتاب القمصان على إعادة توظيف المعاني التي ارتبطت بالقميص في التراث العربي واستلهامها ، من مثل: قميص يوسف ، وقميص عثمان ، وقميص الشهيد ، والتوسع في استثمار المعاني المرتبطة بالقميص ، واستخدامه في معان سياسية واجتماعية وأدبية معاصرة ، فصار هناك قميص فلسطين ، وقميص العراق ، وقميص مانديلا ، وقميص بغداد ، وقميص الحلاج ، وقميص المتنبي ، وقميص أبي ، وقميصي.. إلخ.
نلاحظ رغبة الجابري في ديوانه الثاني ، "يتوكأ على عماه"، في استكناه الدلالات المختلفة للمفردات وسبرها ، خاصة تلك التي ترتبط بالتفسيرات والتأويلات والتوظيفات اللغوية والمعرفية في عالم الإبداع ، وهذه احدى التحولات التي طرأت على تجربته الشعرية. في قصيدة "غيوم ورقية"، يلجأ الشاعر إلى تركيب استعارات شعرية متوالية تنطوي على النقد السياسي والاجتماعي من خلال استغلال المعاني ، التي قد ترتبط بالغيم في الذاكرة الجمعية العربية:
وحده الألم
نتمنى أن يكون غيمة عابرة
**
غيمة غاضبة...
أمطرتنا بوابلْ... من الرصاص
**
ما الذي سنراه
لو صارت الغيوم مرايا؟
رابط المقال بصحيفة الدستور
رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلا ريثما يتم تحميل الصفحة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق