الاثنين، يوليو 20

أشياء في الذاكرة في "القدس العربي"



أشياء في الذاكرة

في "القدس العربي"

نشرت جريدة القدس العربي التي يرأس تحريرها الاستاذ عبدالباري عطوان والصادرة في لندن يوم الاحد 19/7/2009 مقالة نقدية حول كتابي أشياء في الذاكرة بقلم الاستاذ سليم النجار. وفي ما يلي نص المقالة (بالامكان الضغط على الصورة أعلاه لرؤية الصفحة التي نشرت فيها المقالة في جريدة القدس العربي):


أشياء في الذاكرة
سليم النجار

الفن القصصي هو تظهير دائم للاشارات التي يرسلها الشكل المعرف، وإذا ما تم نقل الشكل فقط تكون الكلمة القصصية عمياء، والتجريدي منها هو تظهير إشارات المجرد، مثلاً إشارات الزمن، القوة، الخلود، السحر، وخاصة الاسود منه، العدم، الغربة، العبث، الخ لأن التجريد لم يكن يوماً وفي كل الفكر تحطيم الشكل، بل استشفاف الاشارات المرسلة من المجرد.

الاستهداء بالمجرد للوصول الى الواقعي يشبه تحقيق القبل في أحلام اليقظة، فكيف إذا تحولت قُبَل اليقظة الى 'أشياء في الذاكرة' للقاص إياد نصار التي صدرت حديثاً في عمان عن دار فضاءات.

فالقاص، اياد نصار، اعتاد في نصه القصصي على تجريد المجرد الذي هو الصوت واللون واللغة باعتبارها من أكثر المجردات وضوحاً، إذ بها ومنها تتكون القصة التي هي الحالة المجردة لكل ما تعرفه، ولهذا تكتسي عملية إعادة صياغة اللغة أهمية عظمى، ولا نستطيع القيام بذلك دون استعدادنا لتقبل حالة النفي لكل ما تمت معرفته .. وإلا أين مساحة الحرية؟

في هذه اللحظات نستمع لصوت قصة 'هروب': 'كنت أقرأ تقريباً كل شيء! كانت الصحف المصفرة وسيلتي للمطالعة وقد أفادتني كثيراً! عرفت من خلالها أشهر أدباء العالم العربي وأشهر السياسيين. وعرفت تاريخ القضية الفلسطينية وأدركت أسباب الاحباط الذي يرزح تحته الانسان العربي!' إن تحول القص الى خطاب يفقد الحرية الكثير من حضورها، لأن الحرية هي الناموس المجرد للابداع، كما أنها المؤسس الاول والدائم لكل أشكال التجريد، فاللامكان الذي حدد نفسه أو حدده غيره يخرج من مساحة الحرية من خلال التكرار الذي صنعته الحدود، فكل ما هو محدد مسلوب من الحرية، وإذا ما اتخذ مكاناً ما في ذهن ما أفقد هذا الذهن المكان حريته عن السلب الكامن في حدوده، وهكذا يفقد القص حرية الوعي من خلال تدخله لتحديد ما يوعى، الى أن يتحول الوعي الى أداة تسرق قدرتها كلما سنحت الفرصة وغاب القص. وهذا ما حاول الابتعاد عنه القاص اياد نصار، الذي تبدى لنا، أنه يؤسس لوعي المكان، أكثر منه لوعي الجغرافيا، فالجغرافيا العربية بطبيعتها الحالية كافرة وطاردة.

(2)

الفروق الفردية بين البشر في كل شيء أحد أهم الاسباب لاستمرار عملية التوازن المفضلة فيهم، وفكرة إلغائها تشبه تماماً ما حلم به - كارل ماركس - حينما أعلن أنه سينزل الجنة الى الارض، ناسياً أن النار من أهم أسباب وجود الجنة، وإذا ما أنزلت الاثنتان بطل حلمه كما حدث ويحدث.

ولعل القاص اياد نصار صار على نفس المنوال، لكن برؤية جديدة، عندما اعتبر النار أساس التفرد، بغض النظر، عن نوعية هذا التفرد. ففي قصة 'النار' هنالك حالة استلاب لبطله - أياً كان اسمه، فالبطل هنا ليس الشخص بل الفكرة، التي تعالت على الجسد. ويقال عن بعض الذين فقدوا قدراتهم العقلية، أنهم مسلوبو الحكمة، بمعنى أنهم مأخوذون بواسطة القوى العليا، بينما الاستلاب الداخلي هو فقدان الانا أو ضياعها في الاخر، أو سلب هذا الاخر لها دون قصده. وهذا ما حاول التأشير عليه القاص نصار عندما روى:

- 'هل سبق أن رأيتم ناراً تشتعل هكذا؟

- كيف فعلت ذلك؟! هل هذا سحر؟!

- هل سبق أن رأيتم يداً لا تحترق بالجمر؟

- شيء غريب فعلاً!

- هل رأيتم أحدا من قبل يستطيع حمل النار بيديه؟

- كيف تقدر أن تحتمل الجمر من غير أن تحترق يداك؟'.

إن ما سعى اليه القاص هو إحداث علاقة بين الضوء والعتمة، بين الصوت والصمت، بين الانا والنحن، والهولاء والاخر، بين الزمن والآنية، والانسان بين هذه التراكمات من الأحداث يعيش وينمو، وفي أغلب الاعمال القصصية تتواجد - بشكل نسبي - هذه الحالات ولكن لا ينظر اليها عادة باعتبارها أهم المحاور التي تدور حولها القصة. ولم يكتف القاص نصار بذلك، بل ذهب الى أبعد من ذلك عندما حاول الاشارة الى أنه ثمة أمكنة في الفراغ المصنوع من غياب الدهشة لا يمكن دخولها دون منقوع الكسل أو خمر الذاكرة المعتقة في القص. فهل بالامكان خلق قصص جديدة تمد الانسان بالزهو والبهجة؟

(3)

الفقد لا يعامل حدود القيم باحترام.. فمن يستطيع أن ينفي أو يؤكد ذلك؟ وذلك هو الوطن وقد ارتدى الصوت واختفى بين الكلمات المغيبة في الاصوات المرتدية ثوب الشكل.. فأنت مأخوذ دون احترام لأداة الموافقة لديك.. منهوب الشكل الذي تحلم به بخجل... ذلك هو الشباب الذي يمضي ويعود.

وتتجلى هذه الرؤى في قصة 'لقاء قصير':سعد: يافا.. آه على أيام يافا. لا تذكريني.. أتذكر يافا وعمري عشر سنوات قبل النكبة. كنت الهو على شاطئ يافا. وكان أبي يصطاد لنا السمك من بحرها بالمراكب.

هذا الشريط القصصي إذا تم إعداده للتصوير سيقدم فيلماً وثائقياً يؤكد ضرورة اعادة النظر في فكرة - اللاشعور - باعتبارها مفتاحا لأبواب السلوك البشري...

إذا كان اللاوعي حالة مفترضة، أو موجودة، من خلال فكرة الاستكمال لمنظومة التناقض المحققة للتوازن الفكري، فكيف نستطيع تعريف اللاوعي بواسطة الوعي؟ لنقرأ مقطعاً آخر من قصته 'لقاء قصير':

ناديا: والآن معقول أن عمرك صار سبعين سنة؟

سعد: كان عمري عشر سنوات وقد توقف عند تلك السن من ذلك الوقت.

ناديا: يعني عمرك الآن عشر سنوات؟

سعد: نعم!

اللاوعي واللاوجود واللاشعور حالات تلغيها معرفة أضدادها وهي ليست كائنات، والإشكال الاساسي متأتٍ عن الخطأ في استعمال اللغة، فالكلمة إشارة وليست كينونة، فلم التخطي لحدودها وادخالها ضمن الكينونة العامة؟

(4)

الطريق الى يافا محفوف بالقبلات والذكرى.. و'أشياء في الذاكرة' مراكب الحكاية التي سيأتي يوم 'ينزل' منها الركاب الذين بقوا صامدين نهاية الحكاية.. ليصيدوا ليافا بحرها وسمكها وعشقها... ومن ذاك اليوم... تبقى 'أشياء في الذاكرة' وثيقة قصصية أقرب الى الرؤيا من تجريب المألوف.

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف3:35 م

    حية للاستاذ المبدع
    لايزال الأدب الادبي العربي بخير مادام هناك اشخاص مبدعون يصرون على نقش حروف اسمائهم و اغناء الساحة بجميل كتاباتهم
    و لعالم النت الفضل الكبير حيث و رغم بعد المسافات نلنا نصيبنا في قراءة قصصك و قصائدك و مقالاتك الزاخرة بالاحاسيس المرهفة الرقيقة و الكلمات المعبرة
    أحييك يا موسوعة الشعر الراقية

    ردحذف
  2. أعتز كثيراً وأفتخر بهذه الشهادة منك التي أرجو أن أبقى دائماً عند حسن ظنك بي. يسعدني إهتمامك الدائم الذي ينم عن قاريء ذواقة للقصة والشعر والنقد، وأعتز بمرورك المستمر الذي يجعل للكتابة معنى ويخلق التواصل الجميل بين الكاتب وقارئه. كل التحية والمحبة لك على كلماتك الرقيقة وتحياتك الصادقة وإطلاعك الموسوعي الجميل.

    ردحذف