الجمعة، مايو 21

"المصلحون" لبول هاردنغ.. ولجان التحكيم العربية




 

فازت بجائزة بوليتزر للسرد للعام 2010
"المصلحون" لبول هاردنغ.. ولجان التحكيم في المسابقات العربية

اياد ع. نصار

فازت رواية قصيرة "نوفيلا" تتألف من 191 صفحة بعنوان "المصلحون" Tinkers، وهي الرواية الاولى لقارع نحاسيات كان يعمل مع فرقة روك موسيقية تسمى "شقة المياه الباردة"، بجائزة بوليتزر للسرد للعام 2010. نشرت الرواية مطبعة صغيرة شبه مجهولة تدعى دار بيلفو، وهي ناشر حديث العهد لا تعمل على أسس ربحية، ومرتبطة بمستشفى بيلفو في مدينة نيويورك. تأسست دار النشر هذه على اعتبارها جزءاً من مستشفى بيلفو للامراض النفسية لطباعة الكتب الطبية، وتقع ضمن مبنى كلية الطب بجامعة نيويورك. ولكن السيدة القائمة على ادارتها أخذت على عاتقها طباعة بعض الكتب القصصية التي تتناول مسائل نفسية أو حالات مرضية. وقد مرّر لها ناشر من معارفها هذه الرواية كونه لا ينشر مثل هذه الاعمال. لم يبع من الرواية منذ صدورها في شهر كانون الثاني من العام الماضي وحتى التاريخ الذي سبق الاعلان عن فوزها سوى خمسة عشر ألف نسخة، وهي كمية قليلة جدا بمقاييس دور النشر العالمية المعروفة. ولا يتوقف مسلسل المفاجآت عند هذا الحد؛ فقد أصيب المؤلف بالدهشة عندما سمع بخبر فوزها، ولم يصدق عينيه، فبقي ينظر الى موقع الجائزة الذي أعلن عن فوزه، ويعيد تحديث الصفحة ليتأكد! وإذا كان هذا غير كاف لاثارة العجب، فقد أفاد المؤلف بأنه احتفظ بها في درج مكتبه لمدة ثلاث سنوات، وحينما أراد نشرها لم يجد أحدا يشتريها أو يهتم بها!


يبرز فوز رواية "المصلحون" أهمية دور النقد والناقد في تسليط الضوء على الرواية التي حظيت باهتمام عدد من النقاد في الصحف والمجلات مثل النيويوركر ولوس انجليس تايمز وبوسطن غلوب. وقد بدأت الحكاية عندما أهدت الناشرة نسخة من الرواية الى محرر زاوية اسبوعية تهتم في أخبار النشر والناشرين، فقدّم بدوره مراجعة نقدية حولها. وفي الوقت ذاته اشترى صاحب مكتبة خمس نسخ منها، وقدم إحداها الى محرر يدعى جون فريمان، والذي عدها أهم كتاب صدر خلال العام. وهكذا لم يكن فوز الرواية نتيجة حملات دعائية أو حفلة توقيع كتاب، أو علاقات صحفية عامة، أو تكريس صفحة على الشبكة المعلوماتية لاشهارها. لم يكن السبب أياً من هذه، وانما كان اهتمام عدد قليل من الناس لا يزيدون عن عدد أصابع اليدين بها، والذين وجدوا فيها نصاً غنائياً غنياً بلغته وأفكاره. وتساءلت فعلاً، هل يمكن أن يحدث هذا في مسابقات القصة والرواية العربية؟ أحببت أن أضع هذه الحكاية أمام لجان التحكيم العربية لعلها تجد فيها حكمة!


أما المؤلف بول هاردنغ Paul Harding، والبالغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، والذي أصبح مشهوراً بين ليلة وضحاها، فقد خامرته الشكوك في مرحلة ما نتيجة إعراض الناشرين عن كتاباته. كان هاردنغ يعيش على مدفوعات الضمان ضد البطالة، ولم يكن هناك من دخل سوى راتب زوجته التي تعمل مدرسة في مدرسة ثانوية عندما اتصلت به الناشرة، ووافقت أن تعطيه الف دولار وأن تطبع ثلاثة آلاف وخمسمائة نسخة كبداية. كانت لحظة سرور لا توصف بالنسبة له! وفيما بعد عاد المؤلف للتدريس ضمن برنامج الكتابة لطلبة اللغة الانجليزية في جامعة أيوا. وبعد فوزه بالجائزة، تعاقدت معه دار راندوم هاوس الشهيرة للحصول على حقوق نشر وبيع كتابيه القادمين. هل يغامر الناشرون العرب بعقد مثل هذه الاتفاقيات مقدماً؟!


تعد الرواية كما قالت لجنة التحكيم احتفاءً قويا بالحياة في ولاية نيوانجلند على الشاطيء الشرقي للولايات المتحدة، وتصور الايام الاخيرة لأب يصارع الموت ومن حوله ابنه، حيث يتأملان في معنى حياتيهما اللتين بقيا أسيرين لهما. وتقدم الرواية نظرة جديدة لرؤية العالم والموت. وتمتاز بقدرة المؤلف على تمثيل الاحاسيس والمشاعر والافكار وما يدور في العالم الجواني للشخصيات من خلال صور واستعارات نابضة بالحياة.


وصل المرحلة النهائية من المسابقة الى جانب هذه الرواية، مجموعة قصصية بعنوان "الحب بين القردة الصغار" لمؤلفتها ليديا مليت، وتبرز مواجهة لا تنسى بين شخص مشهور وحيوان، مما يعزز المفارقة في مسعى الانسان الذي يتوق الى تحقيق أمور عظيمة في حياته، بينما ينشغل بمطاردة اهتمامات تافهة ليست ذات قيمة. كما تأهلت أيضا للمرحلة النهائية مجموعة قصصية بعنوان "في غرف أخرى، عجائب أخرى" للباكستاني دانيال معين الدين، وتمتاز بأسلوب جميل وفريد، وتعرف القاريء الغربي بأحلام ومآسي عدد من الشخصيات التي تعيش في باكستان.


ذكرت إيريكا غولدمان ناشرة الرواية بأنها عندما قرأت مخطوطها ذات ليلة، فقد تأثرت بها كثيرا الى درجة البكاء. وقالت: "إنها شعر في هيئة نثر". وقد أعطت الناشرة الرواية الى أحد أصدقائها ليقرأها ويعطيها رأيه فيها. فتأثر بها وأخبرها إنه رأى في هاردينغ خليفة لجون أبدايك - القاص والروائي الامريكي المشهور. أجمع عدد ممن قرؤوا الرواية أنها شدتهم باسلوبها المؤثر منذ لحظة القراءة الاولى حتى نهايتها. يكتب هاردنغ بلغة مليئة بالشاعرية حول أشياء يومية، ولا يمل من وصف أدق التفاصيل في حياة الانسان العادي. وقد قدم رواية ذات بعد روحاني ونفسي ميتافيزيقي.


يشير عنوان الرواية الى الحرفيين الذين يتولون اصلاح الالات والادوات حينما تتلف أو تتعطل عن الحركة، وتحكي قصة والد يعيش أيامه الاخيرة. ومع تداعي الذكريات، فإنه يرحل بعيداً في الماضي، حيث يلتحق بأبيه ويتخيل أنه يعيش شبابه مرة أخرى. تعد الرواية مرثاة تأملية تدور أحداثها حول الحب، والفقدان، وقوة الطبيعة الجميلة القاسية.


تمثل الرواية في بنيتها التي توظف أسلوب التداعيات والهلوسات الاقوال الاخيرة التي يبوح بها أب مريض على وشك الموت وقد أحاطت به عائلته. تبدو الرواية للوهلة الاولى سهلة وبسيطة، ولكننا نكتشف بعد ذلك ابعادها وفنياتها الجمالية. يعمل البطل، واسمه جورج واشنطن كروسبي، بمهنة تصليح الساعات بعد أن تقاعد من مهنة التدريس والارشاد. يتذكر جورج طفولته المضطربة كونه الابن الاكبر لأب مصاب بالصرع ويعمل بائعاً متجولاً يدعى هوارد. وحينما يتولى صوت هوارد السرد، فإنه يتذكر حياة أبيه -هو أيضاً- من قبل، واصابته بالصرع العصبي. يبدأ هوارد أيضاً بالمعاناة، بعد وفاة والده نتيجة اصابته بنوبات صرع، وتسعى زوجته لأن تضعه في مصحة عقلية. لكنه يفسد خططها ويتركها وأولادها الاربعة، ويتزوج مرة أخرى، ويبدأ حياة جديدة. أما جورج الذي حاول الهروب في اليوم الذي اختفى فيه والده، فيرقد على السرير في غرفة المعيشة ومن حوله عائلته، كما تبدأ الرواية.


يتميز الوصف المتعلق بمرض الاب والحالات التي ألمت به قبل اصابته بنوبة صرع بالبراعة والانسيابية والبساطة، ويعكس مشاهد الكآبة التي يرزح جورح تحت تأثيرها. إن البطل الحقيقي في الرواية هو لغة المؤلف المذهلة في الوصف، سواء وصف الساعات وأجزائها وأنواعها، أو وصف مشاهد من الطبيعة، أو وصف جوانب الشخصيات في الرواية.


تفتتح الرواية بمشهد الاب جورج وهو على فراش الموت في غرفة المعيشة في بيته، وقد أحاطت به الساعات القديمة التي أصلحها. يرى جورج أن جدران الغرفة تتداعى من حوله، والشبابيك تخرج من مكانها، والسقف ينهار، ويقع الركام فوق رأسه، محطماً معه أشياء تلخص كل سني حياته: قصاصات صحف، صور قديمة، معاطف صوف، أدوات صدئة، وساعات نحاسية قديمة. ثم لا يلبث أن يتخيل أن غيوماً من السماء تقع عليه، وتتبعها النجوم، حتى يغطيه الليل كالكفن. وعندها يبدأ جورج بالهذيان، في نوبات تستحضر صور الموت. ورغم أنه مصلح للساعات، إلا أنه قد أصبح الان حراً من قيود الزمن والذاكرة المألوفة، كي يلتحق بوالده الميت الذي كان بائع متجولاً ومصاباً بالصرع العصبي، والذي انقطعت أخباره قبل سبعة عقود. وفي عودته الى ذكريات وآلام طفولته البائسة الفقيرة، يستعيد عالماً يبدو غير مبالٍ به، بل يبعث فيه الاحساس بالقلق والخوف.



"المصلحون" رواية حول الوعي وتمزق الهوية بين جيل وآخر. وتتحدث عن تأثير عامل الزمن في حياتنا، وحتمية الموت. يعكس حديث الراويان ثلاثة أجيال من التيه والفقدان وغياب التواصل بين الآباء والابناء. "صباحاتك الباردة مليئة بوجع القلب حول حقيقة أنه بالرغم أننا لا نشعر براحة في هذا العالم، إلا أنه هو كل ما لدينا. إنه ملكنا لكنه مليء بالصراع... وكما يشق الفأس الخشب، ابتهج لأن الالم في قلبك والحيرة في روحك تعني أنك ما زلت حياً، ما زلت انساناً، ما زلت قادراً على رؤية جمال العالم، على الرغم أنك لم تفعل شيئاً لتستحقه. وحينما تمقت الالم في قلبك فتذكر: لسوف تموت وتدفن قريباً".


يوظف الكاتب تقنية الزمن والساعات حينما يعود الاب بالذكريات الى الماضي، ليبقى يعيدنا الى الزمن الحاضر، واستخدام مؤقت الزمن يبقى يذكر القاريء بكم بقي من الساعات على وفاته. يلعب الزمن دورا مهما في الرواية من خلال ابعاده الفلسفية والرمزية والاسلوبية وذلك من خلال التنقل المفاجيء بين صيغ الزمن المختلفة. تطرح الرواية بأسلوب انساني رقيق مواضيع الخيانة والمرارة والاذلال في دراما سوريالية. "لقد اختفى البيت. توقفت كاثلين عن المشي ونظرت حواليها. وتحركت الغيوم التي لونت الفجر الرصاصي، وأصبحت فوق رأسها مثل غطاء من الحجر. تناثرت ذرور الثلج في الريح. وقفت كاثلين في المكان الصحيح".


أشار بعض القراء أن الرواية لم تراع أصول الترقيم كما ينبغي، فجاءت علاماته على نحو فظيع. كما أن هناك تكراراً لبعض العبارات فيها، واستخدام كلمات واسماء متخصصة فيما يتعلق بالساعات واجزائها مما لا يعرفها غير الساعاتي! وأخيراً وكما يقول المثل المصري العامي: "الحظ لمّا يواتي يخلي الاعمى ساعاتي"!

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور بتاريخ 21/5/2010.

رابط المقالة  بموقع الجريدة

رابط الصفحة الكاملة






هناك تعليق واحد:

  1. نقدك للرواية وما كتبته عنها جعلني متشوقة لقرأتها

    ردحذف