الجمعة، مارس 26

زهر الشرفات لرفعة يونس



زَهرُ الشرفات لرفعة يونس
لوحات لطقوس الفصول وأغاني الشهداء

بقلم: اياد ع. نصار

في ديوانها الثاني "زهرُ الشرفات" الذي أصدرته دار أزمنة في العام 2008 تفتتح رفعة يونس المشهد الشعري على شرفة حزينة تطل على ذكرى مجزرة قانا وتختتمه على مشهد من سجن ما، وما بينهما تغلب على الديوان روح شعرية وطنية في أغلب قصائده الخمس والعشرين. وتروي قصائده الملونة بألوان الارض حكايات الحنين ومواويل العشق وآهات الالم والدم التي تبحث عن وطن هارب في الغياب، بينما يقتات المنتظرون أحزانهم، ويشربون دموعهم تحت نجوم ليل يعذبهم، وفوق حقول نهار قد مات.


تقارب الشاعرة قصيدها كفنان تشكيلي يرسم معالم اللوحة باحتراف تدريجياً، ولهذا تجيء معظم قصائدها كلوحات ترسم مشاهداً لطقوس الفصول ولكنها تكتمل وتتكامل عبر مقاطع القصيدة التي تستمد ألوانها وخطوطها وتشكيلاتها ومعانيها من معالم الارض والبحر والقمر والشمس والرياح ومن أصوات الطبيعة ومواسمها. وتوظف القصائد في بعض الاحيان لغة حوارية ولكنها أقرب للمناجاة مع النفس. وحتى عندما توجه الخطاب للآخر فهي ليست أكثر من بثّ شكوى أو تقديم اعتراف.


ويمكن بكثير من اليقين القول أن الديوان تنظمه ثلاثة معالم تحدد هويته الشعرية: أولها روح الشهيد الحاضرة دائماً بطولةً وعشقاً للوطن ومعاناةً في سبيله في وجدان وخيال المعذبين الذين ينتظرون المصير بقليل من الامل وكثير من القلق، وتصبغ هذه الروح معظم مضامين القصائد، وثانيها معجم مفردات يصبغ لغة الديوان من قاموس الارض وأزهارها وعطورها ونداها وعوسجها وعصافيرها وأمواج بحرها ونوارسها ..الخ مما يضفي عليه سمة رومانتيكية ممتزجة بالقضايا الوطنية الكبرى، وثالثها حنين متأصل متوطن بعمق التاريخ للمكان الذي يأسرنا بتفاصيله وحكاياته وشرفاته ورفوف حمامه وذكرياته التي لم تزل تملأ الصدور، حنين يتنقل بنا بين دمشق وبردى وبغداد والجليل وحيفا ويافا وعيبال وعمان فيشعل فينا نار الحيرة والانتظار في ظل خراب الامكنة واحتضار المدن المنسية.


تبدو الشاعرة مسكونة بهمّ الوطن وصور الشهيد التي تتكرر في عدد من قصائدها. ولكن قصائد الشهادة تبتعد عن المشهد البكائي الرثائي التقليدي، وتهجر لغة الندب والنحيب والافتخار بالبطل، إذ تسيطر على المجموعة لغة ذاتية رومانسية مثقلة بصور الطبيعة ومفرداتها، وهي ملأى بالصفصاف والدحنون والبنفسج والاقحوان والعبير والعبق وبخور الارض والعشب، حتى لتكاد تشم العطر خارجاً من القصيدة، وترى العالم في شرفات من طراز بيوتنا في المدن القديمة كدمشق. ويصبح الشهيد عبير الارض ومواويلها وأهداب السنابل في الجليل. وفي غمرة أحزاننا وانكسارنا يأتي الينا باقات نجوم وأقماراً ليطهرنا ويحيل حاضرنا المتعب الى أسطورة فرح.


في قصيدة "من أنتَ؟" تحتفي رفعة يونس بايحاءات جميلة بالشهداء ونبلهم وتضحيتهم فهم بذور الحلم الجميل وسر الخميرة في الخبز، وهم تعويذة الحب التي تصنع الحاضر والمستقبل. وتبقى الاسئلة تدور: منْ أنتَ؟ وتبقى الاجابات تقول ضمناً الشهيد. وفي "خيط الدم" تعود صور الضحايا الابرياء الذين اغتالتهم يد سوداء في عمان في تلك الليلة الدامية من العام 2005. وفي قصيدة "لوحات" تهدي رفعة يونس كلماتها الى شهيدات الارض: آية الاخرس ووفاء ادريس ودارين. تقدم القصيدة مشاهد للبراءة التي اغتالها الرصاص. في تلك الليلة اعتلى القمر صهوة السماء ولم يجد أجمل من أجساد الشهيدات رداءً. وفي قصيدة "من وحي الالوان: في الاحمر" توظف القصيدة الاسطورة ودلالات اللون الاحمر وهي ترسم صورا شتى في مقاطع منفصلة من المشهد الفلسطيني، وتشكل هذه المقاطع لوحة يصبح فيها دم الشهيد غزالات في الافق ترسم معالم الطريق الى الوطن، وخيولاً تطل على كل سفح وسهل مثل طائر الفينيق الذي يبعث حياة في رماد الضمائر.


في الأحمرِ
جسرُ حدائقَ يحمِلُنا

كرزٌ في الشِّفاه

وعرسُ بلابل... الحانَ الأرجوانِ

تكلَّل في فجرِنا

......

في الأحمرِ

زهرُ حريرٍ في ثوبِ أمي

تشرقُ أنجمُهُ ...في كلِّ مساءٍ

دحنوناً حينَ تزهو بهِ


تنقّب القصائد في مفرادت الارض ومكوناتها؛ فلا تترك شجرة أو زهرة أو بحراً أو تلة أو غزالات أو حساسين أو بنفسجاً ولا توردهم، وتحلق في السماء فلا تترك فيها نجمة أو شمساً أو قمراً أو طائراً وهي تحتفي بطقوس الفصول ما بين أمل بالحياة يجسده الربيع فيصبح رمز الانبعاث من بعد موات، ورمز النصر من بعد انكسار. وبين عواصف وليل ورياح وشتاء قاسٍ تشي بالموت البارد في ليل التشرد والمخيم وأنات المعذبين. ومن القصائد ذات النكهة المميزة التي توظف طقوس الفصول وأسلوب تشكيلات معالم اللوحة وألوانها قصيدة "مناجاة" التي تستخدم هذه التقنيات في محاولة للولوج الى عوالم محمود درويش. وبرغم صور الجمال والسناء والاشراق وتفتح الزهر المنتشي بالعطر على دروب الحياة، التي تملأ ثنايا الديوان حتى لتشعر للوهلة الاولى أنه مغرق في الرومانسية الذاتية، إلا أنك سرعان ما تكتشف وهمَ تصوراتك، فالقصائد تحاكي طقوس الفصول على شكل تأملات تقرأ واقع المرحلة حيث يصبح الانسان وقوداً في أتون الحقد وقرابين للموت. وتسترجع القصائد تواريخ القهر والموت في فلسطين ولبنان والعراق ، وتمعن القصائد في رسم صور السواد والسكون والقبور والحزن.


إلا أنت وحدَك...قيثارة للرّبيعِ

نشيدُ المواسمِ

رحمُ الحقولِ

واسعُ النبيذِ وسرُّ الخميرةِ

مهرُ الغريزة.. شحذُ الخطوةِ في دربِنا

إلا أنت وحدكَ في صحراء الوهم تسيرُ

فقد خاصمَتكَ النجومُ وخانَتكَ كلُ سماءٍ

عَلَت فوقَنا

لا شيء سوى

ذرٍّ للرملِ

جنونٍ للعوسج الغافي.. في العينينِ


يبرز الصوت الانثوي في القصائد بشكل واضح، فالحديث عن الذات الانثى في هذيانها وتساؤلاتها واعترافاتها وأغانيها وبوحها الشفيف تبرز نبراته في صور وأشكال شتى. فالتساؤلات المفترضة على لسان المرأة التي تتخيل أن الاخر يسائلها ، وأسلوب مخاطبة المذكر، والتعبير عن معاناة الذات الانثى تملأ القصائد. وحينما يختفي الصوت الانثوي أو يخفت، يبرز الصوت الجمعي فينا ومنا والينا، و"نحمل جمر الرجوع... ونلملم في الصمت أحداقنا". ويبدو الصوت الأنثوي في هذا الديوان غير معني بطرح قضايا المرأة كما جرت العادة في دواوين الشاعرات المعاصرات، فالهموم الوطنية وذكريات المآسي والحنين الى الارض قد غطت على أي صوت آخر.


وحين تؤوب عصافير حُزني اليَّ

وتنشرُ ألحانَها قصةً عنْ:

فضاءاتِ عُمْرٍ ذوى

سأعلن: أنِّي

مع الريح أغنيةٌ

مع الموت قهرٌ

مع الليل بدرٌ... شهيُّ

وأحمل كلَّ ذبالاتِ شمعي

وأمضي... لأزرع كلّ الدوربِ

حقولَ ضياء.


تقف قصيدة "شرفة دمشقية" شاهدة على المعلم الثالث للديوان، ألا وهو الحنين للمكان الذي يأتي للوجدان محملاً بكل روائح التاريخ ويثير فينا الشوق والاسى، ونحن نرى مدن الخراب الصامتة تنظر الى عذاباتنا. قصيدة جميلة تقطر حنيناً لدمشق بياسمينها وقاسيونها وبرداها وحكاياتها وعمق تاريخها، وتنتقل القصيدة من مجرد حنين الى ذكريات في المكان الى تصوير المكان وتجسيده كروح عليا نهفو اليها. وتصبح المدينة ملهمة الابداع والاحتراق والجنون. وحين تحس الذات بالالم والغربة والحيرة، وتشقى وتنشطر على صدى أنات التعب، تمد المدنية يديها وتلملمنا. وتصبح دمشق، كما يافا والجليل، رمز بقاء الحلم برغم طول الفجيعة، وتتحول دمشق من مجرد مدينة الى ملاذ مقدس يمنحنا الحنان والطمأنينة والالهام ويسمو بنا. وتصبح المدينة نقيض مدن الخراب والصمت. وهذا التحول شبيه بتحول الشرفات التي تطل على المشهد كله أو على الفضاء العربي برمته الى مستوى تجريدي أكثر، فتصبح الشرفات محطات عمرنا الضائع التي تطل على ذكريات الماضي، و يصبح الزهر حكاياتنا التي كتبناها في تلك المحطات.


ديوان زهرُ الشرفات هو الثاني لرفعة يونس بعد "أغانٍ لزمن معافى" يمتاز بعذوبة رومانتيكية رقيقة برغم الظلال الوطنية الحزينة ، وايقاعات موسيقية وتكوينات بصرية جميلة توظف كل الحواس في تقديم صور ملونة ذات روائح عابقة من روائح الارض والطبيعة وتكوينات فنية ناعمة وأصوات تعلو وتنخفض كصهيل خيول في براري أو كتغريد بلابل.


ونأتي

نحمل جمرَ الرُّجوع

اليكِ... نعود نجوماً

تشعُّ عذاباً

سراباً.. وطهرَ خشوع

* اللوحة أعلاه بعنوان "أحبك أكثر" للفنان التشكيلي الفلسطيني يوسف كتلو
* نشرت المقالة في جريدة الدستور الاردنية / الملحق الثقافي في عدد يوم الجمعة 26/3/20101. يمكنك عزيزي القاريء الاطلاع على الصفحة الكاملة وتنزيلها على الرابط التالي:
 
صفحة المقالة - جريدة الدستور
 
 

هناك 3 تعليقات:

  1. وصلتني الرسالة التالية من الشاعرة رفعة يونس التي أفتخر بنشرها هنا، واعتز بكلماتها التي عبرت عنها على ضوء قراءتها لما كتبت عن ديوانها الثاني "زهر الشرفات"

    أخي الأديب المبدع" إياد نصّار" أسعدَ اللهُ أوقاتكَ بالخيرِ والصّحةِ والعافية ...

    كمْ هوَ جميلٌ ما كتبتَ عن ديوان "زهرِ الشُّرُفات" في الدستور الثّقافي لهذا اليوم .. وكمْ هوَ جميلٌ أنْ يكونَ هنالكَ وقعٌ وصدىً لِما تكتبُ في النّفوسِ، والأجملُ.. سَفرُكَ في الأفكارِ والصّورِ والمفرداتِ الشعريّةِ المستخدمةِ لتوضيح تلكَ الأفكار..
    وأقولُ دائِماً لابدَّ أنْ نضَعَ أصابعنا على الجراحِ فيما نكتبُ.. ولابدَّ أنْ نتحسّسَ العتباتِ عندَ الوقوفِ أو المرور.. ولابدَّ أيضاً أنْ نغرَقَ في حنّاءِ الأرضِ كيْ يظلَّ لدماءِ الشّهداءِ أعظم معنىً وتقديرٍ..

    هيَ الكلماتُ أخي تحمِلُنا على أجنحتِها .. تَطوفُ بنا على شُرُفاتِ الماضي والواقعِ والمستقبل..آمَلُ أن أكونَ على قدرِ المسؤوليةِ فيما كتَبتُ في هذا الديوان, وأشكرُكَ على إعجابكَ وعلى تحليلاتكَ الرّائعة لقصائِدهِ وأنتَ تشجّعني أكثر أنْ أدفعَ بديواني الثالث وعنوانهُ (أصداءٌ في المنفى) للنشرِ وسأحاول مع أمانة عمّان لِدعمِهِ.. وأتمنّى أن يحظى بإعجابكَ أيضاً عندَ الصّدورِ ..
    مع تحيّاتي وتقديري دائِماً
    أختك :رفعــة يونــس
    26/3/2010

    ردحذف
  2. عزيزي إياد نصار

    تحية ود

    أنطلق من مقولة أن للقراءة الفاعلة دور في ولادة النصوص لأتحول إلى مقولة خرجتُ بها فور الإنتهاء من مقالك أعلاه: أن للنصوص الجميلة دور في ولادة القراءات النقدية أو المقاربات الجميلة

    فقد قرأتُ ذات يوم مقالاً عن قصيدة للشاعرة رفعة يونس لكاتب لا يحضرني أسمه الآن قال فيه... (أن "أنين العراق" قد تحول إلى زئير في وجه الغزاة)... كان ذلك ما قاله الكاتب تحت تأثير تلك القصيدة، وما لفت نظري ايضاً ذلك الشبه في قولك -وهو نثر يقترب من بوح شعري تحت تأثير مماثل ولنفس الشاعرة- (تنقّب القصائد في مفرادت الارض ومكوناتها؛ فلا تترك شجرة أو زهرة أو بحراً أو تلة أو غزالات أو حساسين أو بنفسجاً ولا توردهم، وتحلق في السماء فلا تترك فيها نجمة أو شمساً أو قمراً أو طائراً وهي تحتفي بطقوس الفصول ما بين أمل بالحياة يجسده الربيع فيصبح رمز الانبعاث من بعد موات، ورمز النصر من بعد انكسار) في المثالين تكريس لمقولة: ولادة النقد الاجمل تحت تأثير النصوص الجميلة...

    تحياتي لك
    دمت بخير

    ناصر الريماوي

    ردحذف
  3. صديقي ناصر الريماوي قاصاً مبدعاً وقارئاً دائماً ،

    كلماتك الجميلة قناديل تنير أروقة المكان.

    لقد أثرت قضية نقدية في غاية الاهمية حول العلاقة الجدلية بين النص والنقد، وبين المؤلف والناقد. درج الانسان منذ عهود طويلة على اعتبار النقد قولاً على قول يأتي بعد ولادة النص، لكي يبرز للقاريء مضامين النص وأساليب التعبير عنها، ولكن النقد الحديث يقدم صورة مغايرة، فالنقد فن مستقل بذاته يسعى لاستكشاف العلاقة بين محيط النص الخارجي ومعالمه ومكوناته التي وجدت قبل ولادة النص وبين فضاءات النص الداخلية، وليس الاكتشاف المقصود بالابانة، بل توسيع الروابط الى آفاق من البوح والغموض، ومن التعبير الى الرمز.

    إن اختيار نص وإخضاعه للعملية النقدية يستحثه الادراك أن هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذه العلاقات والروابط، وأن هناك مسألة التوافق بين الذائقة الفنية وبين الرغبة في إقامة العلاقات وتوسيعها باتجاه مستويات قد لا نلحظها دون هذا النقد، مما يمنحنا شعوراً باللذة الفكرية.

    لك مني التقدير كله

    ردحذف