الجمعة، مايو 15

العروس


العروس

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

أختنق في هذا الجو الفاسد. مصيري لعبة حظ بأيدي لصوص، والفرح صار حبة دواء انتهت صلاحيتها.. زمن غادر.. في لحظة ينهار كل شيء.. والمستقبلُ يصبح جثةً على درب المجهول.. عادت الى البيت واجمة. بدت لي ضائجة متعبة متوترة، والاعياء خطف وجهها مثل خفاش متشبث في كهف مظلم. لم تقل شيئاً، لكن عينيها قالتا كل شيء. لم يكن في الجو سوى لهاث أنفاسها بعد المشوار في عز الظهيرة. لم أرَ عينيها غائرةً بين تجاعيد وجهها من غير بريقٍ مثلَ اليوم.. خلعت منديلها عن رأسها بتأفف وضجر. راعني رؤية البياض في مؤخرة رأسها. انقبض صدري كأنني مستني صعقة كهرباء.. لم يكن الشيب واضحاً في شعرها بمثل هذا الوضوح من قبل. سمعت زفرات أنفاسها المتلاحقة. كانت تغلي وفي داخلها مرجل يوشك أن ينفجر. الصيف لاهب والحر لا يطاق. والسماء بدت بيضاء كالحة بالسراب من شدة الوهج. تهب الخماسين بين حين وآخر، فأختنق من الغبار.. أكره الصيف.. لم أحس به ثقيلاً مثل السنة. في النهار تنضح الجباه والرؤوس التي انحسر عنها الشعر بحبات العرق! وفي الليل تهب ريح يرتعش لها الجلد. لقد أنهك التقلب روحي وأعياها.

لم أتجرأ أن أبادرها بالسؤال. يقدح الشرر من عينيها. أرى الجواب في وجهها وأسمعه في أنفاسها اللاهثة. بعد قليل قالت بيأس المستسلم: "ماذا سنفعل الان؟" أطرقتُ وقد عقدت الحيرة لساني. مات الامل الذي راودني منذ الصباح. دعوت في سرّي كثيرا أن تجدها أمي. لو عرفتها لخنقتها بيدي. لا تعرف أنها سرقت أمل قلبي الميت في الحياة. وسرقت عزة نفس أمي التي رأيتها منكسرة. توشك أن تبكي أمي قهراً على صورتها التي ستتحطم.. تذهب كل يوم وتعود بخفي حنين. ولكن كان لدّي اليوم إحساس أنها ستجدها وأننا سنخرج من هذه الورطة. تبدد الامل. شعرت بالغيظ والقهر. ارتسمت خيبة كبيرة كأنها اصابع دامية على وجه مذعور. هل يمكن أن يضيع كل شيء في لحظة؟ أتحرّق أن أعرف من تكون. إزددت حقداً في صدري عليها. صار مصيري لعبة في يدها. كيف يمكن أن تكون إمرأة بهذه الجرأة وتبلد الاحساس؟

يتصل "جمال" بين حين وآخر ليطمأن أمي. أعرف أنه مجرد تسكين للألم بدواء انتهت صلاحيته. لم يحصل شيء منذ أسبوعين. كل يوم تذهب للفرع فلا تسمع سوى الوعود والتعاطف. تذهب للمركز الامني لتسأل عنها لعلهم وجدوها بلا فائدة. لم أكن أتخيل أن الشر يمكن أن يتحول الى ملاك بلباس أبيض.. يختفي بيننا ونحن لا ندري. تأثر جمال كثيراً بالقصة: اذا لم يجدوها، فسأدفع ذلك من جيبي.

أريد أن أصرخ.. لا أريد شفقة من أحد. أريد حقي.. منذ ثلاث سنوات وهو يشقى في سبيله، ويقاسي معاناة الغربة لاجل ذلك اليوم. أحاول أن أتخيل كيف يعيش وحده في مركز صحي على تخوم الربع الخالي. رسائله تفيض بالشوق ومرارة الوحدة وشظف العيش وحيداً. عندما اسمع رنة هاتفه أميزها.. اضطرب ويخفق قلبي.. أغلق الباب ورائي.. أخجل أن يسمعني أحد وأنا محمرة الوجه. يخبرني أنه يعدّ الايام يوماً بعد يوم وساعة بعد أخرى. هل ما زال ذلك اليوم قريباً أم صار بعيداً؟ أحس إنه صارأبعد من مركزه النائي في شرورة شرق نجران. كيف سنخبره؟ وماذا ستكون ردة فعله؟ ماذا سيظن بنا؟

تزوج إخوتي الاربعة الكبار ورحلوا عنا. لم يبق سوى أنا وأمي.. تعبت منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا. تفتحتْ على دنيا قاسية لم أر فيها أبي. قالت أمي إنه انفجر فيه لغم وهو على الحدود. عشت حسرة كبرت معي كل يوم. أثور على قدري بالبكاء والدموع كلما ذكرت أمي سيرته. لماذا حرمتني الايام أن أراه وأسمع صوته وأحس بحنانه؟ غدر بي الحظ أو القدر لا فرق. احتجت أمي ببساطتها: بل هو نصيبنا. لا يهم يا أمي.. لا يعرف معنى الحرمان سوى من جرحته أنياب الحياة. كنت أتمنى كأي فتاة أن ترى أباها الى جانبها في مثل ذلك اليوم. كلما رأيت ملامحه المبتسمة في الصورة على الحائط وهو يلبس لباسه العسكري، أحس بفجيعة القدر الذي حرمني منه قبل أن آتي للدنيا.. لكنني تصالحت مع قدري ودفنت حسرتي في أعماقي عندما أطل فارس. لمست في كلامه حناناً إفتقدته منذ زمن. أحسست بالامان الممزوج بخوف في دنيا قاسية. وجدت كثيراً من الشبه بيننا. تركت أمي ووقفت أحدق في ملامح أبي.. تنثال الذاكرة الحزينة بتخيلاتها.. أشعر أنه يوشك أن يتكلم.. أحدق فيه فينفجر شلال الالم في شراييني.. أكاد أختنق..

فارس حفر في الصخر بيديه وعلّم نفسه بنفسه. كان يعمل وهو في المدرسة، وعندما تخرج، حصل على بعثة ودرس التمريض. عندما جاء لبيتنا أول مرة مع أمه، إختلستُ بعض النظرات اليه. رأيت في وجهه وهيئته شقاء الايام، ولكن ابتسامته كانت تتوشح بالتفاؤل.. وكلامه يزرع بذرة الامل في نفسي. من أسرة فقيرة في حيّنا، ولكننا لم نكن نعرفهم. آمنة أم سعيد جارتنا وصديقة أمي هي التي أحضرته. ماذا سنقول له الان؟ ماذا يبقى من مستقبلي معه الان؟

رن الهاتف فأسرعت أمي. سمعتها تقول بنبرة انكسار: "لو لم تكن لهذه اليتيمة لما تأثرت الى هذا الحد". عرفت أنه جمال. سألتها ماذا يريد. قالت إنه قدم طلباً لتعويضنا، وهو ما يزال ينتظر الجواب من ادارته. شعرت بحزن له طعم حامض في أعماقي يوجعني.

عدت أعصر ذاكرتي علني أجد ابرة في كومة قش.. كان يوم خميس بعد العصر والمحلات مليئة بالبشر. في نهاية الاسبوع يأتي أناس كثيرون من كل مكان. يطوفون ويدورون من غير هدف. صارت الشوارع والمجمعات متنفسهم الوحيد. تصر أمي أن ترافقني في كل مشوار. تقول إنني لا خبرة لي في مساومة التجار وألاعيبهم. فكيف تتركني في هذا الموقف؟ بعد أسبوعين سيصل فارس، ويجب أن أشتري ملابسي الجديدة قبل أن يأتي. بالامس خرجنا لسوق الصاغة وأخذنا نتجول أمام محلات الذهب. أذهلني بريقه وأشكاله. ولكن أمي كعادتها تتريث في الشراء. "سنذهب لنتفرج على الذهب، ونعرف الاسعار ولكن لن نشتري". وافقت على مضض. لا أمل في مجادلتها. لم تأخذ معها سوى نقود قليلة كي لا تتهور بالشراء! تحملت أمي المسؤولية بعد وفاة أبي، ولكن قوة أمي قشرة خارجية تخفي ضعفها.. وصرامتها قناع تخفي به حنانها الذي لا تجيد التعبير عنه بالكلمات.

السوق في جبل الحسين مزدحم عن آخره.. بدأت العطلة الصيفية. دخلنا محلا للأحذية. جلست وجاء البائع وصار يحضر لي أحذية شتى، ولكن لم يعجبني شيء. رأيت تبرماً في عيني أمي. كثيراً ما نتناكف عند الشراء. لا تعرف أمي عن الطراز الدارج شيئاً. أحس أنها نسيت شبابها يوم أن توفي أبي.

دخلنا محلاً لملابس النوم. كان ضيقاً ومليئاً بالنسوة وأطفالهن. أعجبتني بعض القطع. لم تعجب أمي كثيراً. شفافة خفيفة قصيرة! حاولت إقناعها ولكنها بقيت متمسكة برأيها. ضقت ذرعاً وقلت: "أنا من ستتزوج لا أنت". اخترت قميصاً كحلي اللون من قماش حريري شفاف مطرزة حوافه بالساتان والفراء وعلى الصدر نوع من الدانتيل المخرم. قالت إنه فاضح! استنجدت بمكرٍ ببائعة المحل، فأخذت تقنع أمي حتى أذعنت لاصراري على مضض. أخذت أمي تساوم البائعة. أخذت ألكز أمي بطرف أصابعي حتى توافق وننتهي من الامر! استخرجت أمي محفظتها. كانت تنتزع الدنانير منها واحدة بعد الاخرى بصعوبة. برغم التعب ومناكفات أمي ومساوماتها الطويلة، فقد كنت في غاية السعادة. كنت أتخيل نفسي وأنا في تلك الملابس واقفة بين يدي فارس، فأحس بالخجل!

أرسل فارس مهري وثمن جهاز العروس طيلة الاشهر الماضية الى أمي.. حوالات عن طريق البنك. فتحت أمي حساباً بها وأودعتها لديهم. طلب فارس أن اشتري ما أحتاجه، فإجازته السنوية قصيرة ولا يريد أن تضيع في التحضير للعرس.

رجعنا للبيت. كنت سعيدة بما اشتريته وأنا أجربه آمام المرآة. فتحت أمي محفظتها وأخذت تعد نقودها الباقية. فجأة شهقت صارخة: هل أخذتيها؟ قلت لها ما هي؟ أخذت تبحث بنزق وانفعال عنها في داخل محفظتها. صاحت مرة أخرى وهي تنظر في عيني: لقد ضاعت. ارتبكت من المفاجأة.. هل أنت متأكدة؟ وانتزعتُ المحفظة من يدها وأخذت أنبش بداخلها. لم تكن هناك. إستبد بنا القلق. أخذنا نفتش في الخزانة وأدراجها. لم نترك مكانا في غرف البيت الا وفتشنا فيه. ولكنها لم تكن هناك. طمأنت أمي الا تقلق ، فالدنيا ليل. ثم تذكرت أنها ليلة الخميس وأن الفرع سيكون مغلقاً في نهاية الاسبوع. قلت لها سنكون صباح الاحد على باب الفرع للابلاغ عن فقدانها قبل أن يحدث شيء.

ليل طويل.. إستبد بأمي القلق وبقيت تشكو. كنت قلقة ولكنني تظاهرت بالهدوء، وحاولت التخفيف من قلقها. رأيت في عينيها جزعاً كبيراً. لم تهدأ وهي تتخيل أن أحدا وجد البطاقة وسحب كل المبالغ التي كانت في حسابها. قلت: "لا يمكنه ذلك فهو يحتاج للرقم السري". انتبهت كالمجنونة وأسرعت الى الخزانة ونبشت بين الاغراض. تنفست الصعداء. لكنها بقيت طيلة نهاية الاسبوع خائفة متشككة.. شعرت أنها كثيرة القلق من غير مبرر. في صباح الاحد نهضنا مبكرين وذهبنا. ما يزال الفرع مغلقاً فانتظرنا حتى فتحت الابواب.

دخلنا مباشرة لمكتب المدير. شرحت له أمي ما حصل. أخذ يضرب على لوحة المفاتيح أمامه. سأل أمي كم كان لديها في الحساب. قالت له ستة الاف دينار. أعاد ضرب المفاتيح. ارتسمت على وجهه بوادر مفاجأة. شعرنا بصدمة. وندت عن أمي صرخة كتمتها في آخر لحظة. قلت له: "لا يمكن أن يحدث ذلك. أضعنا البطاقة في السوق ليلة الخميس ، فهل يعقل أن يكون قد استطاع أحد استخدامها؟ البنك مغلق وهو لا يعرف الرقم السري. تأكد مرة أخرى". قال إن الإسم هو نفسه. أمسك الهاتف واتصل بشخص آخر وطلب منه أن يرسل له تقريراً في الحال. لم أفهم كثيراً ما قاله. ولكنه طلب منا الانتظار.

دخلت بعد قليل فتاة تحمل تقريراً وأعطته للمدير. أخذ ينظر فيه. رأيت على وجهة علامة تعجب كبيرة. وارتفعت حواجب عينيه للاعلى. شعرت بقلق شديد في أعماقي وأنا أرى ملامح الدهشة تكبر على وجهه. نظر الى أمي وقال لا يوجد به سوى ثلاثين دينارا وبضعة قروش. قالت بانكار مضطرب: لا يمكن. اشترينا بعض الملابس ودفعت نقداً للبائعين. بان ساعتها على وجهي ملامح صدمة غير متوقعة. أحسست في أعماقي أنني فهمت شيئاً لم أكن أريد إدراكه أو تصديقه. سألته أمي باضطراب: أخبرني ماذا حصل.

- لم يبق في حسابك سوى دنانير معدودة.

تفاجأت أمي ولم يحر لها جواب. كان وقع كلامه قوياً. تمالكت نفسها وقالت: "لا يمكن.. أنا لم أسحب أي شيء منه".

- يظهر في التقرير أنك جهزت لابنتك منها! ملابس وأحذية وعطور وحقائب بكميات كبيرة وحتى تحف تم شراؤها ليلة الخميس"!

وفجأة بدا عليه الانتباه والذهول. "يبدو أنك وقعت ضحية إمرأة مهووسة بالشراء! لقد اشترت بالبطاقة بكل الرصيد تقريباً في خلال ساعتين"! أفقت من كابوس، وأنا أرى أن أمي لم تستوعب الصدمة بعد. وضعت يدي على وجهي ونظرت للاسفل. فكرت في فارس وخطر لي ساعتها خاطر مريع، بينما كانت أمي ما تزال تصيح بانفعال.

* اللوحة أعلاه للفنان السلفادوري خوسيه فنتورا في جاليري رؤى للفنون / عمّان

هناك تعليقان (2):

  1. في كل مرة أقرأ فيها بعضاً من إبداعاتك الشعرية أو النثرية أقف عاجزة لا أعرف ما أقول ....
    دمت لنا زمزاً من رموز الأدب العربي الذي نفخر به.

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا على هذه الثقة التي أعتز بها وأرجو أن يستمر عطاء القلم وبوحه في الابداع الملتزم بالدفاع عن هموم الانسان العربي. أعمالي فضاؤها الذي تحلق به هو هذا الانسان وأوجاعه وانكساراته الانسانية والاجتماعية ومعالجة القوى القاهرة التي تصادر حقه في الحياة والاختيار والتي تحيل حياته الى صرخة ألم متواصلة. شكرا لمتابعتك وأهلا بحضورك واطلالتك على الموقع

    ردحذف