الأربعاء، يوليو 23

قناع


قناع

قصة قصيرة
بقلم : اياد نصار

أجلس في المقهى على طاولة وحدي أنتظر صديقي الشاعر. شرفة المقهى تطل على المدينة الصاخبة التي لا تعرف الهدوء! الجو جميل بعد العصر وفي الهواء نسمة عليلة. لا أتوقع وصول محسن على الموعد، فله سيرة معروفة بالتأخير. وقد يصل متأخراً ساعتين ولا يفكر بالاعتذار بكلمة! لقد تعوّدت عليه. ودائما أردد يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره! فكيف إذا كان محسن هو ذلك الشاعر؟! أقول له دائماً: الوقت من ذهب! فيقول لي: ما قيمة الوقت في حياة الشعوب أمثالنا؟! أنظر في الاسفل إلى سيل السيارات الذي لا ينقطع، وأسمع أصوات أبواقها التي لا تهدأ! أطوف ببصري بين حين وآخر في الجالسين حولي على الشرفة بدافع الفضول! أسرح بفكري وأنا أتأمل مباني المدينة القديمة ولوحاتها التي تملأ واجهات محلاتها وتحكي تاريخها. تروي خطوط اللوحات وأشكالها أعواماً من عمر المدينة. كم تبدو لي التغييرات هائلةً. أخذت أفكر كيف تغيرت الكلماتُ وحتى ألوانُها! وكيف تغيرت الصورُ والأشكال! تملأ روائح الأرجيلة المكان وتخرج أصوات فقاعات الماء في زجاجاتها متناغمة كالموسيقى. تتمدد نفثات الدخان الكثيف كالسحب البيضاء فتشم معها روائح التبغ المعطر بالتفاح! أرتشف الشاي بالنعناع الأخضر وأتلذذ برائحته وطعمه كي أنسى غصة الانتظار!

لم يكن هناك أمامي سوى مراقبة المدينة وسماع أحاديث الجالسين حولي على الشرفة! في الزاوية اليسرى القريبة مني شابان يتحدثان منذ فترة بكل جدية! كان صوتهما عالياً. لم أصغِ لحديثهما باديء الأمر. ولكنني عندما مللت من رؤية الشارع وتأمل اللوحات على واجهات المحلات، فقد أخذت أنصت إلى حديثهما! وضع كل منهما مجموعة من الكتب والصحف المطوية المتجعدة أمامه. ركّزت في سحابة دخان أبيض حتى تلاشت في الهواء. لم أعرف عمّا كانا يتحدثان ولكني وجدت نفسي أصغي إلى الحوار الدائر:

- الكذب حبله قصير
- هل قسته؟! هل مشيت عليه ولم تصل مرادك فانقطع بك في منتصف الطريق؟!
- لا ، ولكن هذا خلاصة تجربة الناس.
- وما أدراك أنه قصير؟ أعرف أناساً يكذبون طوال حياتهم!
- ولكن هذا المثل لم يأت من فراغ!
- وهل هو رأيك أنت كذلك؟
- بالطبع. إن رأيي من رأي الآخرين.
- وهل تصدق كل ما يقوله الاخرون؟
- لا. ولكن ليس معقولا أن يردد الاخرون دائماً هذه العبارة لو لم تكن صحيحة، أو لو لم تكن من تجربة حياتية فعلية!
- وهل تسلّم رأيك للآخرين بهذه السهولة؟
- لا بالطبع، ولكن المثل يقول "حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس"! أو يقولون أحيانا "الموت مع الجماعة رحمة"!
- ولكن خلاصة تجربة الناس تقول أيضاً: لا تكن إمّعة! فتصبح تابعاً في كل شيء لا قيمة لرأيك!
- ولكن الكذب قناع لا يدوم طويلاً.
- وهل رأيت أقنعة سقطت؟ لا تقل لي إن محمود درويش قد قال سقط القناع! فأنا أرى أن أصحاب الاقنعة في ازدياد!
- ولكن الامثال هي خلاصة تجربة حياة الشعوب. وهي لم تأتِ من فراغ! كل الشعوب في الدنيا لها أمثال ترددها.
- ولكن أمثالنا تحيّرني دائماً!
- لماذا؟ بالعكس إنها جميلة وموجزة وذات عبارة بليغة.
- هل جمال عبارتها يعطيها مصداقية! أم مضمونها هو الأساس؟
- ولكن صياغتها في قمة البلاغة.
- وهل تبحث عن البلاغة أم البلاغ؟! هل تهتم بالشكل أم بالمحتوى؟ وكما غنت ماجدة الرومي: فلماذا تهتم بشكلي ولا تهتم بعقلي؟!
- ما العيب في جمال الشكل؟
- لا عيب. ولكن أمثالنا تعلّمك الشيءَ وضدّه!
- كيف؟
- ألم تقل لي أن الكذب حبله قصير؟
- بلى
- والكذب ملح الرجال! وأنا لا أكذب بل أتجمّل! وكذبة بيضاء! هل تعرف متى يقول السياسي العربي كذبة بيضاء أم سوداء أم ملونة؟!
- طبعا الكل يعرف أنهم أكثر الناس كذباً! ولهذا لا نصدّق ما يقولون!
- ولكن المثل يقول أيضا السياسة هي فن الكذب والخداع! فلماذا نقبل تعريف السياسة ولا نقبل ممارستها؟!
- لأننا لا نقبل أن يضحك علينا أحد.
- وهل من لا يقبل أن يضحك عليه أحد يقول: اليد التي لا تقوى عليها بوسها وأدعُ عليها بالكسر؟! أليس هذا خلاصة تجربة البشر أيضاً؟!
- قد تضطرك الظروف أحيانا للانحناء للعاصفة! ألا يقول المثل: إنحن ِ للعاصفة ريثما تمر؟!
- ولكننا نقول دائما يا جبل ما يهزك ريح! فهل ينحني الجبل للعاصفة؟!
- ولكن هذا يدل على مدى تنوع وعمق تجربتنا العربية التي تعبر عنها أمثالنا.
- لدرجة أننا نقول الشيء وضده!!
- لكل مقام مقال.
- وأين ذهب قل الحق ولو على قطع رأسك؟! لم أر سوى رؤوس قليلة قد قطعت منذ أيام الحجاج!! إن قطع الرؤوس والرقاب الذي شاهدناه مؤخراً لا ينطبق عليه المثل. لم يتفوه أصحابها بكلمة واحدة. بل قطعت رؤوسهم بحسب النوايا!
- يبدو أنك ستتعبني! فما قلت لك شيئاً وأعجبك! أنت لا يعجبك العجب ولا الصيام في رجب!
- ولكن من يعجبهم كل شيء لا يرون الأشياء على حقيقتها!
- ولكن أين هي الحقيقة؟ الحقيقة غائبة!
- ما دامت الحقيقة غائبة، فقد حل الكذب محلها! فكيف يكون حبله قصيراً؟!
- لم أفكر بهذا الأمر هكذا من قبل!
- الكلمات الجميلة ليست دائما صادقة!
- ولكن الكلمات الصادقة ليست دائماً جميلة.
- هل سنعود مرة أخرى؟!

قطع إنصاتي فجأة صوتُ قادمٍ من مدخل الشرفة. كان ينادي إسمي حينما انتبهت اليه. وصل محسن أخيراً. سلّم عليّ وجلس. أخذ يعدد لي أسباب تأخره. خاب ظني.. فهذه أول مرة في حياته يعتذر! ابتسمت وقلت له لا عليك. لم أطلب منك اعتذاراً مرة واحدة أبداً! لا أريدك أن تعتذر كي لا تكذب، فالكذب حبله قصير. وضحكنا معاً!

* اللوحة أعلاه للفنانة الصينية الامريكية المعاصرة ديانا أونغ Diana Ong بعنوان قناع

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:13 م

    السلام عليكم استاذ/اياد اهنيك على القصة واقول على غراراقاويل زمان(كان زمان الحق والباطل ماشين على الطريق سوا..لحد مافيوم لقواحمارفاختلفوا مين يركب عليه؟قالوا نسأل الناس(الحق يمشى ولا الباطل؟)الناس ردت وقالت طبعاًالحق يمشى...!وكل الناس اصرت على كده...ففضل الحق ماشى لحد مارجليه تعبت وورمت وفضل الباطل راكب ومكملين المشوار!فمفيش استغراب ماللى بيحصل في العرب وفى اى شئ طالما الباطل لسا راكب (والحق يمشى!!!)وعجبى

    ردحذف
  2. غير معرف12:56 ص

    احياناًما تكون الحقيقة مؤلمة ومرة لذلك يلجأ بعض الناس لأرتداء القناع لكى يخفو هذه الحقيقة !اما نحن فمن جانبنانفضل أن نرى هذا الوجه المقنع ونحن نعلم ماقد يكون وراءه ولكن نخشى دائماً من نزعه فربما قسوة ما سوف نراه تقتلنا ...فاذا استطاعنا نزع القناع لابد من تحمل العواقب واخيراًوليس اخراً اشكرك على قصصك الجميله واتمنى لك المزيد والمزيد من الروائع.من التى تنتظر كل جديد(امال)

    ردحذف