الثلاثاء، أغسطس 5

كابوس



كابوس

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

- يا مجنون لا تقف هناك
- تعال معنا
- ستبقى وحدك هنا
- يجب أن نعود للحاضر. لا مكان أجمل من الوطن
-لا ، سأبقى هنا. أية أوطان تنام وتصحو على لون الدم؟ مللت عالمكم المتوحش. قرفت من العنف والكراهية. أريد أن أنسى الحروب. أريد أن أجوب البحر. سأبحث عن جزيرة بعيدة نائية لأنسى فيها كل شيء ..
- سينساك الزمن هنا. ستشعر بالوحدة ، ولن تستطيع تغيير الأشياء.
- هيا لم يبق لدينا وقت .. اللحظات حرجة
- هنا لن أرى الدماء. لن أرى جيوشاً. لن أسمع أنّات المعذبين. ولن أرى أناساً يموتون من الجوع.
- تعال معنا وعش في عالمك الذاتي كما تريد. لون سماءك بلون أخضر وأرضك بلون أزرق! سيكون جميلاً
- أنا لا أتوهم. لا سعادة بدون ألم. والألم يغمرنا كالمد في يوم صيفي. لا نستطيع الهروب من الذاكرة. يجب الغاءها!
- الالهام والسلام ينبعان من داخل النفس .. هيا لا وقت للفلسفة الآن
- تعال معنا .. لقد عشت حياتك كلها معنا
- هذا سهل عليكم أن تقولوه من غير إحساس. ما أسهل أن نعظ الاخرين!
- إذا لم يأت الحظ مواتياً ، فيجب أن نصنعه. هيا تعال معنا
- لا لا أستطيع. لا يستطيع القط تغيير لون جلده. لقد كرهت عجزي. لا بد من الرحيل.

ابتعدَ في الفضاء الأزرق. صار يبتعد أكثر وأكثر. صار صغيراً. بدأ يتلاشى. ساد صمت ..
بدأ الضوء يعتم وتسدل الستارة. تصفيق انطلق من المقاعد.
* * *
صمت يلف المكان إلا من صوت السرير. بين فينة وأخرى يتقلب بلا وعي. بالكاد تتحرك الجفون. ترتسم بوادر إبتسامة على الوجه. يتمدد على السرير هادئاً. يتحرك الصدر قليلاً للأعلى. يفتح جفنيه. يبتسم. ثم يعود للحلم والسكون. تصدر عن شفتيه همهمات غير مفهومة.

تفتح الستارة. قمر فضي كبير يملأ الافق. بقعة برتقالية تغرق خلف المياه. سفينة شراعية ضخمة تتهادي في مياه المحيط. كتل من الغيوم الرمادية العالية تتحرك بعكس الاتجاه. بدأت العتمة تحل قليلا قليلا.

- بقي يومان على الوصول
- هل سبق أن وصلت الجزيرة؟ يبدو كأننا نبحر في مجهول بلا نهاية.
- أعرفها. فيها سجن كبير. ما تزال بقع الدم السوداء متحجرة على جدرانه منذ زمن بعيد
- كيف كان يعيش من يسكنون فيها؟
- كان يأتيها المؤن كل ستة أشهر
- هل هي جميلة؟
- موحشة ومملة. لا تبيت فيها حتى الطيور
- ولماذا ذهبوا إليها؟
- جاؤوا بالعبيد على السفن لبناء السجن. مات بعضهم من المرض ورموهم في مياه البحر
- إلى هذه الدرجة؟
- رأيت امرأةً مصلوبة. قالوا كانت تمارس السحر واستحضار الارواح الشريرة
- لماذا جئت إلى هنا من قبل؟
- يحب الانسان أن يتملك كل شيء. كم من البشر الذين أفنوا بعضهم على ذات المكان منذ بدء الحياة. أليس هذا مدعاة للضحك والسخرية؟
- ولكن الصورة التي دفعتنا للمجيء معك لم تكن هذه.
- لم يتوقف البشر يوماً عن تزييف الحقائق وتزوير التاريخ. سمعت أنات السجناء في الزنازين وأنا ما أزال في عرض البحر. كثيرون هلكوا بسبب وحشية الانسان!
- ومن كان يقيم هنا؟
- لم تخل طقوس البشر من الدم والقرابين. ما أتعس حظك عندما تكون إنساناً بسيطاً. تصبح حجراً في أهرامات الآخرين!
- كم سنمكث هنا؟ هل سنبقى للأبد؟
- أقداركم حيث تأخذكم أقدامكم.
بدأ الضوء يعتم وتسدل الستارة. ابتعدت السفينة في عرض المحيط حتى تلاشت. تصفيق انطلق من المقاعد.
* * *
صمت يلف المكان إلا من صوت السرير. بين فينة وأخرى يتقلب بلا وعي. بالكاد تتحرك الجفون. ترتسم بوادر نظرات حزن على الوجه. يتقلب على السرير بعصبية. يتحرك الصدر قليلاً للأعلى. يفتح جفنيه. تبدو ملامح صرخة مكتومة على وجهه. ثم يعود للسكون. تصدر همهمات متوترة تتحول إلى صرخات مكتومة بين حين وآخر.

منذ أيام وهو يحاول أن يضع خاتمة لمسرحيته لكنه لم يستطع. لقد استولت على تفكيره. في كل مرة تأتيه صور مريعة وهواجس أخرى تجعله لا يعرف كيف يوقفها. لقد تحولت إلى كابوس.


* اللوحة أعلاه بعنوان "كابوس" للفنان السويسري هنري فوسيلي (1741-1825)

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف6:57 م

    جميل أن يجد الانسان من يستطيع التعبير بهذا الشكل الرائع
    إلى الأمام يا أبا عبود
    h.shamma

    ردحذف
  2. غير معرف1:21 ص

    شكرا لك على قصتك المتميزة لا تحرمنا من جديدك الرائع...لك تحيتى

    ردحذف