السبت، مايو 3

رحلة

رحلة

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار


إلتقينا بعد غياب. كان لقاءً جميلا واحساساً رائعاً بتلك الذكريات التي تحلق فيها الارواح في سماء أخرى من معاني الجمال والابداع الذي تحس به في داخلك ولا تستطيع أن تصفه. كانت هادئة رقيقة وفي كلامها مسحة من الانطواء والتأمل الصوفي. كانت تستمع لموشحة أندلسية وتحس بالطرب يملأ عالمها فتردد كلماتها وتفكر في مفرداتها التي تعبر عن حالة الوجد والعشق التي يبدو انها تلاشت من عالم اليوم. أخبرتني انها صارت عندما تقرأ شعراً أو تستمع لغنائه تدرك بحسها وتستشف بإحساسها إن كان أندلسيا أم لا. صارت تربطها به علاقة روحية فريدة من نوعها. وتزيدها الموسيقى رونقاً والهاماً وتسامياً.

تعشق جمانة العود وألحانه عشقاً فريداً، وقد حاولت مراراً أن تتعلم العزف على العود ولكن الظروف لم تواتها قط، ولكنها تعشقه منذ أن تفتحت عيناها على الحياة وهي ترى العود في البيت ينتقل بين يدي عشاق يضمونه كما يضمون حبيبة، وكبرت وهي تسمع اغاني الزمن الجميل والطرب الاصيل. والان زاد حنينها لتلك الايام. عندما تفكر بها تكاد تهمي دمعة من الفرح والحزن في آن معاً. يملؤها الحزن. تشعر بقسوة القدر الذي حرمها من أعز الاشياء قبل اوانها. تتذكر الماضي الذي ضاع وتتذكر الذين رحلوا، وهل يعود الراحلون؟ قالت : كلما قرأت أبياتا من الشعر الاندلسي أو إستمعت للغناء كالموشحات أشعر أنها تحملني الى دنيا أخرى من البهجة والسحر والشعور اللذيذ الذي لا يخلو من احساس غامض بالحزن على شيء ما لن يعود. وأشعر بنشوة خاصة وحالة روحية لا تعرف الكلمات أن تصفها. كانت تتكلم بطريقة مؤثرة تجعلك ترى ما تصفه وتحس به كأنه يجري الان أمام ناظريك. ولعل هناك سببا اخر يدفعنا للحنين الى تلك الايام. ربما البحث عن عالم آخر غير هذا الذي نحس فيه بالالم من قيمة الانسان وواقعه البائس. لعله البحث عن شيء جميل وسط محيط من البشاعة والكآبة والفوضى.

شعرْتُ بولعها بهذه الاجواء وحنينها الذي يعيش بداخلها لتلك الفترة .. أحببت أن ادعها تعيش فيها وتشعر بتفاصيلها كما لو كانت هناك .. تذكرت فيلماً شاهدته واستهوتني فيه راوية للقصص كانت تجلس مع صديقها ذات مساءٍ حالمٍ حين قال لها سأبدأ الجملة الاولى وعليك أن تكملي. قال "كانت هناك فتاة جميلة ولكنها حزينة تعيش في حي من أحياء شنغهاي".. فابتدأت حكايتها من هناك واستمرت ساعات وهي تحكي وهو مصغ لها ويعيش بخياله مع قصتها. أردت أن أجعلها تعيش يوما واحدا من تلك الفترة التي تعشقها من غير أن تدري.

قلت لها تعالي نذهب لقصر الامير المنصور بن ابي عامر ونستمع لمجالس الطرب عنده. أنا أعرف كم تحبين كل ما يذكرك بالاندلس. فلطالما استهوتني حكايته وشدتني سيرته .. إنها صورة مصغرة عن الاندلس كلها. قصة تجمع بين حالاتها المتناقضة من ضعف وقوة وإنقسام وإزدهار وحروب ومكائد وسلام واستقرار وسياسة وأدب. حكايته تمثل هذا الفصل الغريب من التاريخ .. طوائف وإمارت .. انقسامات ومؤامرات .. وفي ذات الوقت إزدهار أدبي وعلمي وفكري. غريب كيف تحقق ذلك .. ربما يجب أن نعيد النظر بكثير من مفاهيمنا.

خطر لي أن أصطحبها الى القصر الكبير في ضاحية الزاهرة شرقي قرطبة. ذهبنا معا فأوقفنا الحراس وسألونا عن غايتنا، فلما أخبرتهم عن لقائنا رحبوا بنا وأذنوا لنا بالدخول . لا أعرف كيف اصف العظمة والمهابة والروعة التي رأيناها منذ اللحظة التي دخلنا فيها من بوابة القصر. ملأ العشب الاخضر والرياحين والورود والنرجس والنيلوفر حواف الممرات وحول صحن النافورة التي يتدفق منها الماء . ومررنا من تحت الاقواس والاعمدة البديعة الزاهية الالوان. آه من جمال قصورك ومنازلك البيضاء ذات السقوف الحمراء بين الرياض الخضراء وأشجار البرتقال واللوز والزيتون .. صرت أعرفك يا قرطبة. وآه من روعتك يا غرناطة .. وقبل أن يستبد بي الحنين مثل جمانة أسرعنا ودخلنا الى قاعة المجلس الكبرى والحراس يرافقوننا بكل ترحاب.

فلما دخلنا رأينا هناك مجموعة ً من العازفات والمغنيات والراقصات..

أسمع غناءهن الآن ، يغنين فنوناً من الطرب الاندلسي والموشحات .

القاعة جميلة ومهيبة ومزدانة بأجمل ما يكون على حسب الطراز الاندلسي بالمقرنصات والثريات والتحف والطنافس. جاء مضيف بلباسه الاندلسي الجميل وألوانه الملوكية الزاهية وهو يضع عمامة ً تعطي شعوراً بالدفء والمهابة مبتسما وهو يشير لنا ان نجلس، وجلسنا على المساند الوثيرة من الحرير والدمقس والرياش. إبتسمت جمانة وقالت: كأنك تروي قصة ً نعيشها الآن.

وأمر مضيفُنا الساقي أن يهتم بنا . فحضر وصار يدور علينا بأبرد الشراب من الماء الزلال والنبيذ، وجاءت جارية جميلة تشف عن ابتسامة كلها حياء ودفء وهي تتمتم بكلمات ترحب بنا، وهي تحمل صحناً واسعاً من الفاكهة من كل نوع وصنف مما تشتهي عيونك أن تراه.

انسجمنا في هذا الجو الرقيق الساحر وسمعتُ جمانة تغني مع المغنيات وتحرك يديها طربا فصرت أغني معها ونحن ننظر الى الراقصات بملابسهن البراقة المزركشة وهن يلبسن الخلاخيل في ارجلهن. كنا نجلس أنا وجمانة الى جانب بعضنا ونحن ننظر اليهم بكل إستمتاع وأحيانا تتلاقى عيوننا فنضحك ونشعر بالروعة والبهجة تملأ القاعة كلها.

ثم دخلت امرأة في غاية الحسن كالبدر من صفاء وجهها وجماله. انحنت لنا قليلا وفردت وشاحها بيدها علامة على الترحيب بنا وندت عنها ابتسامة. انبهرنا من روعة ملابسها ومن تناسق الوانها ومن الحلي والاحجار الكريمة التي كانت تزين جيدها وغطاء رأسها. ملت برأسي قليلاً الى مضيفنا وسألته عمن تكون هذه المرأة؟ قال هذه حمدونة ستغني شعراً لابن درّاج القسطلي. وأخبرنا أن إبن دراج هو شاعر الامير الذي يحضر مجالسه ويلقي الشعر في حضرته. كان صوتها جميلاً حنوناً راقياً. ومن حولها جلس رجال يعزفون على المعازف والدفوف والعود والناي وآلات أخرى لم نعرف اسماءها.

ثم دخل علينا حاجب بسيفه فوقف في هيبة وانضباط عند باب القاعة فصمت الكل لاستقباله. قال بصوت مرتفع إن الامير المنصور إبن أبي عامر قد شرّفنا بحضوره. ثم وإن هي الاّ لحظات حتى أطل الامير بلباسه الفاخر ومحياه وهو مبتسم فرحاً بحضورنا، فاردنا الوقوف فأشار الينا بيده أن نبقى جالسين. لم نكن نتوقع حضوره. كان شيئاً عظيماً أن يكون الامير في استقبالنا.

دارت في رأسي أفكار كثيرة وألحّت علي قراءاتي الكثيرة عنه وشعرت بوَجَلٍ من حضوره وحوله حراسه ومستشاريه وخاصة إنه كان دائماً مشغولاً بتدبير مؤامراته وحيله ليتولى الخلافة بعد أن حجب الخليفة الجديد هشام بن الحكم وألهاه بألعاب الصبيان كونه كان صغيراً ولم يكن هناك أحد تعتمد أمه "صبح" عليه لادارة شؤون الامارة غيره بعد وفاة زوجها الخليفة الحكم. وقد تخلص من كل منافسيه بحيلته وذكائه بدءاً من شقيق الخليفة الطامع في الامارة بمساعدة الحاجب وقائد الجيش حيث تخلص ثلاثتهم منه وعينوا ابن الخليفة الصبي ليكون ألعوبةً بأيديهم ثم تخلص هو منهم!! بل وصل به الامر أنه تخلص من إبنه الذي شكّ انه يدبر مؤامرة للاستيلاء على السلطة، وتخلص من كل المتآمرين معه. هذا المنصور بدأ مشواره كاتباً للعرائض عند بوابة قصر الخليفة، ثم أصبح الخليفة! ولكنه حكم فترة طويلة زادت عن ربع قرن توسعت فيها حدود دولته وأظهر فيها حباً للفنون والاداب والعمران!

نظرت الى جمانة فأحسست انها تفكر بذات الشيء. الصراعات والحروب الكثيرة .. الفنون والقصور.. روائع الشعر والمؤلفات .. اجواء الغزل والحب والتمتع بالطبيعة المتألقة .. الموشحات بموسيقاها وكلماتها ومجالسها .. محاورات الفلسفة. في كثير من لقاءاتنا كنا دائماً نتعجب من هذا الصراع الذي لا ينتهي بين الامراء والخلفاء والولاة ومنافسيهم، كما أذهلتنا الصراعات والحروب بين الطوائف والامارات المختلفة، فضلا عن حروبهم المتواصلة مع الاسبان بين كرٍ وفرٍ الى أن بدأت تتساقط هذه الممالك الواحدة تلو الاخرى، ولكنها كانت فترة غنية بالابداع في كل جوانب الفنون الانسانية. كانت دائما مصدرسعادة للقاء .. كم أبهجت امسياتنا بالغناء والشعر والاحاديث .. وكان لدى جمانة سبب اخر للاعجاب بها .. في تلك الفترة تعلمت المرأة البوح بهواها بجرأة شفافة وترنمت باشجانها الحانا وقصيدا .. كنا نعبر في أحاديثنا عن الاعجاب والعشق حينما يعشق التاريخ وتعشق المدائن .. وعشنا معها وتخيلنا أنفسنا نمشي في شوارعها ونتجول بين قصورها ومجالسها ونسمع الشعر والغناء والموشحات!

ابتسم الامير ورحب بنا اجمل ترحيب
وقال : لقد حللتم أهلاً بين أهلكم وظهرانيكم ووطئتم سهلاً من بلاد الاندلس الزاهرة ناحية قرطبة أنتم أحفادنا القادمون من وراء البحار.
واشار الى جمانة وقال ما هذا الجمال يا ست الحسن ؟ كم يطيب لنا ان نكون في استقبالك في قصرنا الزاهر. وأشار اليّ وقال وأنت أهلا بك أيها القادم من بلاد الزيتون والزعتر.

وقال لمن حوله: هولاء ضيوفنا الاعزاء أطربوهم فهم يعشقون غناءنا وشعرنا وفنوننا .. يموتون من شدة الوجد حبا في موشحاتنا .. ثم لا تنسوا أن تقدموا لهم طعام الغداء بعد جلسة الموسيقى .. قدّموا لهم أجمل الطعام والثريد والزعفران والارز والحساء المعطر بماء الورد .. وفي المساء اصطحبوهم الى جنة الرياض ليروا النوافير والازهار التي نبتت حول البركة .. وفي الليل خذوهم الى مجلس الشعر والزجل ليسمعوا شعراءنا ويستمتعوا بقصائدهم.

ثم خرج الامير وعادت النساء الى الغناء والرقص والعزف. كنا نستمع اليهن ونحن نشعر بالسعادة تملأ قلوبنا من شدة جمال وحسن كلماتهن وادائهن. نظرت الى ساعتي .. حان وقت إنصرافي .. شعرت أنني كمن فاق وعاد من الماضي .. كانت فيروز تغني بالذي أسكر من عرف اللمى ... إستأذنت من جمانة وودّعتها وقلت لها يكفي عودي للواقع!! أخذنا نضحك .. تركتها وهي مستغرقة بسماع فيروز تغني .. ضع على صدري يمناك فما أجدر الماء باطفاء اللهب...

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف7:47 ص

    قمر

    كتايتك جداً ررررررررائع أنالم أعرف أنك تكتب بهذاالروائع والابداع ....
    لماذا لا تعلن عن هذا الموقع فأنا لم أجدة الا مصادفة مع جزيل الشكر .....

    ردحذف