الجمعة، فبراير 15

انتظــار



إنتظــــار
قصة قصيرة
بقلم : ايــاد نصــار

حين وصلت لم يكن هناك سوى شابين .. كانت الشمس قد ودعت الافق .. والظلام بدأ يتسلل في الزوايا والطرقات. وزعت نظرات متفحصة حولي .. البناية غارقة في صمت مطبق يزيده السواد رهبة .. حفيف أوراق الاشجار المضطربة المنتشرة في المكان أسمعه بوضوح .. المكان خال الا من هذين الشابين اللذين جلسا تحت شجرة قريبة رغم البرد. كانا يتهامسان بصوت خفيض. نظرت الى ساعتي كانت تشير الى السادسة الا عشر دقائق.

أحسست للبرد دبيبا يقتحم مفاصلي، غير أني لم أعبء به .. تحركت خطوتين هنا .. خطوتين هناك .. تلفت في كل الاتجاهات .. نور خافت ما زال يضيء مدخل البناية .. الريح تهب بين الحين والاخر فأنكمش على نفسي من وخزاتها الباردة .. الاشجار تنتفض. لم أدر ان كانت تستعرض صمودها أم تحاول الهرب!

بدأت ملامح الافق البعيد تتلاشى تحت وطأة الظلام الذي ملأ كل شيء. الطريق خالية موحشة. كان يمزق ستار السكون وجلاله أحيانا بعض كلمات مبهمة تنفلت عاليا من حديث الشابين الهامس.

مشيت نحو البناية، وما زلت أتطلع حولي .. أحسست احساسا غريبا بالأنس والدفء. لعله المصباح الخافت على المدخل كان السبب. شعرت أنه نُسي مضاءً ليشاركني انتظاري. دلفت الى الداخل .. لم أتبين شيئا في هذا الظلام الحالك. شعرت برهبة حقيقية أول الامر ما لبثت ان تحولت في نفسي الى ادراك غامض بروعة الضجيج وصخب الحياة مع الناس. مرت برهة وجيزة وبدأت أميز الممر الطويل الخالي. تقدمت بضع خطوات، لكنني خفت أن يأتي وأنا هنا أبحث عنه .. تراجعت واسرعت خارجاً .. صعدت عدة ادراج ثم وقفت على الرصيف. وجدت انظاري تشرد بلا ارادة مني في كل اتجاه، لكنها كانت ترتد خائبة. نظرت الى الساعة. كانت العقارب تشير الى السادسة وخمس دقائق. بدأت أشعر بالقلق والانزعاج. عدت أتفحص الطريق الساكنة.. أتأمل مدققاً في نهاياتها البعيدة لعلي أميزه قادماً. فجأة أحسست كأن شيئا قد تغير .. حانت مني التفاتة الى الشجرة .. كان الصديقان قد ذهبا.

البرد يهاجمني في كل جزء من جسمي، وأنا ما زلت واقفاً .. وضعت الكتاب الذي أحمله على حافة الجدار المنخفض. بدأ القلق الممزوج بالامتعاض من وحشة الانتظار لهذا الذي لم يأت لغاية الان يثير أعصابي. أه ما اقسى الانتظار .. وتذكرت فيروز وهي تغني أحترف الحزن والانتظار..أرتقب الآتي ولا يأتي .. تبددت زنابق الوقت .. أمن الممكن أنه نسي؟ كلا .. كيف ينسى وهو الذي كرر علي بالامس رجاءه حتى تضايقت من الحاحه؟ فلم يكن بحاجة الى كل هذا التأكيد، فنحن صديقان منذ زمن . الساعة السادسة والربع الان .. إني أراقب حركتها البطيئة دقيقة بدقيقة .. لقد تأخر ربع ساعة..احس أنها ساعات طوال. فجأة سمعت اصوات خطوات مسرعة قادمة من بعيد .. حاولت أن أتبين ملامح هذا القادم .. كان بعيدا والظلام قد حصن وجوده. اشتعل في أعماقي بصيص من الامل .. شعرت بشيء من السرور الغامض .. لعله الاحساس بانتهاء هذا الانتظار القاسي. أسرعت الى الكتاب، تناولته بيد ترتجف وخطوت الى الطريق أراقبه. أقترب نحوي أكثر .. فأكثر .. تهللت أساريري .. اقترب اكثر .. ناديت: جمال .. لم يحول جريه نحوي .. تجاوزني .. آه .. وراح يبتعد عني قليلا حتى غاب جسمه في أحشاء الظلام.

اضطربت في مكاني توغل القلق في أعماقي .. لم أعد احتمل الانتظار .. قفز الغضب الى وجهي .. حنقت على صديقي .. قررت ألا ارحمه من تأنيبي .. أهكذا يتركني اذوق عذاب الوحدة؟! وليتها كانت الوحدة وحسب!

الحقيقة أنني منذ ثلاث سنوات لم اصبح دقيقا في شيء في حياتي مثل المواعيد.. لقد جعلتني تلك الحادثة اعيد النظر في اسلوب حياتي اليومي.. كأنما فتحت لي نافذة ارى من خلالها العالم بعيون اخرى .. وأن أفهم الناس من خلال الطريقة التي يعني لهم بها الوقت .. وعرفت أن الزمن هو محور الانسان والحياة وهو ساعة الحضارة التي اما ان تسير بانتظام او تتأخر او تتوقف عن الدوران نهائيا!

كان لي صديق جمعتني به الاقدار منذ سنوات عديدة. لم أكن قد تعرفت اليه جيدا في البداية، فاذا صدف أن التقيته، فلا يتعد الامر تحية مقتضبة وسلاما عابرا.. غير ان لقاءاتنا السريعة تطورت الى أحاديث وجلسات طويلة. كان يعمل بعد العصر في مكتبة يمتلكها أخوه.. كنت أتردد عليه أحيانا وأشعر بالارتياح لحديثه. كان يمتلك شهية لم أر مثلها في حياتي للكلام. اذا انطلق لا يعرف التوقف او الايجاز! فكنت لا أفهم هذا التناقض بين ثرثرته بدون حساب وبين سيف الوقت! وكنت اتساءل اية دراسة سيفلح بها لو لم يدرس الصحافة والاعلام؟! وربما قد نسي كل شيء درسه عنها بعد مرور هذه السنوات ولكنه لم ينس ان يبقى يعيد علينا نحن اصدقاؤه تلك الاسماء الكبيرة التي يحفظها ويروي لنا قصصاً عنها قرأها هنا وهناك المرات تلو المرات! وصرنا نحبه لثرثرته التي إعتدنا عليها أن تملأ الوقت حين لا يكون هناك موضوع اخر للحديث! وقد تصادف ذات مرة أن كنت عنده في المكتبة فدخل رجل يبدو عليه انه من علية القوم او من اولئك الذين يحبون ان يشعروك بأهمية وجودهم. وقال انه حضر على الموعد لرؤية صاحب المكتبة. كان حديثه ينم عن معرفة سابقة به وأن هناك عملاً يجمع بينهما. كانت عباراته تدل على انسان متعلم يعرف كيف يختار مفرداته بعناية، ورغم حرصه على الحديث بلغة رصينة وتكلف ظاهر، فقد وجدت في كلامه شخصية جذابة، وبينما كان ينتظر ، أخذ الرجل يتفحص العناوين والكتب في ملل ظاهر وحركة تنم عن السأم والاضطراب. وما هي الا لحظات قليلة حتى قطع حديثنا بصوت جازم يبدو عليه خيبة الامل: الساعة الان الثانية عشرة وخمس دقائق .. انني ذاهب .. رجاء أن تخبراه أنني حضرت .. ولنكن ولو مرة حريصين على وقت الاخرين ان لم نحرص على وقتنا نحن! وخرج وقد ارتسمت على وجه ملامح كدر وتجهم.

لقد فاجأتنا كلماته وتطلع احدنا بالاخر في استغراب. كل هذا بسبب خمس دقائق! يبدو ان الرجل غريب عن بيئتنا! وارتسمت على وجوهنا ملامح ابتسامة ساخرة!

عدت انظر الى ساعتي .. انها تدق الان الساعة السادسة والنصف .. لا اعرف لماذا أحس أنني غير قادر على مغادرة المكان. ورغم أن هناك أملا باهتا أن يأتي جمال في هذه اللحظات، فقد تسمرت في مكاني، فهو أكد لي انه سيحضر. وصارت تمر الدقائق ثقيلة كئيبة، وأنا اكاد اموت من البرد وارتجف ولكنني أمور بالغضب في داخلي. ولعنت الساعة التي قطع لي فيها وعده وصدقته!

صارت قدماي تهتزان وترتجفان من البرد. وازرقت يداي.. حاولت فركهما ببعض كي أعيد لهما بعض الحرارة.. الريح تعصف بأغصان الاشجار فأسمع لها صوت عراك حزين .. تناولت الكتاب مرة أخرى.. نظرت الى الساعة نظرة خاطفة .. لم انتبه كم كانت تشير. كانت أفكاري مضطربة موزعة. قررت أخيرا بعد تردد أن امضي وليذهب هو الى الجحيم! تذكرت عبارته المعهودة دائما حين يأتي متأخرا كالعادة أو حين يتصل في اليوم التالي: الصداقة المثقلة بالذكريات أثمن من أن تقاس بساعة او بيوم! لقد صارت شعارا معروفا عنه يستخدمه دائما لاسكات من يفكر في لومه او اظهار الغضب من أزمة علاقته بالوقت!

استيقظت من غمرة أفكاري فجأة على المصباح الخافت الذي انطفأ.. ساد الظلام كل شيء حولي.. شعرت برجل يخرج من البناية.. لاحقته ببصري حتى ابتلعته الطريق .. قطرة ماء أحسست بها تسقط على يدي .. ضممت الكتاب الى صدري.. ولم ألتفت الى الساعة وبسرعة وجدت نفسي أعدو أنا أيضا في الطريق تحت قطرات المطر الغزير.

بعد عدة ايام التقيت جمال صدفة. لم أدر ماذا اقول .. استرجعت ذاكرتي تفاصيل ذلك المساء الحزين. أخذ يعتذر وأنا صامت شارد الذهن. كان يعتذر بسرعة ولكني لم ادر تماما ماذا كان يقول .. وفجأة أيقظتني عبارته اللعينة. رفعت بصري .. نظرت في عينيه تركته ومشيت بعيداً .. قطرة ماء ذابت.

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف2:39 م

    السلام عليكم استاذي القدير المتمكن اياد
    يقول الشاعر الباهلي : ان قلت فى شيء نعم فاتمه-- فان نعم دين على الحر واجب -والوقت اغلى ما يملك الانسان فهو ان ضاع لا يعوض لذا كان من الحكمة وحسن الخلق احترام الوقت والمواعيد لان هذا من عوامل النجاح فى حياة البشر وله اهمية كبرى وقد تتوقف عليه حياة الاشخاص ومستقبلهم .
    لقد ابدعت فعلا استاذ اياد فى وصف حالة المنتظرمفردات ومعاني وجلت بخاطره والممت بكل هواجسه وجعلتنا نشاركه انتظاره باسلوبك الشيق كما شاركته الطبيعة ببرودتها وظلامها .لكن للاسف برودة الصديق اقسى بكثير ومع هذا كان درسا لا ينسى وعبرة لباقي حياته .
    موضوع القصة فعلا متميز انسانيا واجتماعيا اخلاقيا وعاطفيا مواقف تقتل الثقة قبل ان تولد وتزرع الاسى بفقدان امال جميلة فى تواصل افضل بين الناس.
    شكرا لك استاذ اياد على هذه القصة الشاملة التى لم تهمل اي جانب فى النفس البشرية وتطرقت لمشكلة عويصة من مشاكل العصر .دمت قلما جادا مخلصا متميزا ورائعا .مع تقدير وامتنان عفاف.




    ردحذف
    الردود
    1. سيدتي الاديبة عفاف صاحبة الفكر النير والعبارة الرشيقة والنظرة النقدية
      تفتح تعليقاتك القيمة الباب دائما على مختلف عناصر القصة، وتقدم نظرة عميقة بأسلوب أدبي جميل يثير الاعجاب في معالجات القصة لموضوعها وشخوصها ومكانها وزمانها وسيرورتها. التفاتك الرائعة للحالات النفسية للشخصية بما يعتريها من هواجس وأفكار وتصورات، وابراز جوانب النفس البشرية وهي تواجه احدى اهم مشاكل العصر كما قلت. تهتم هذه القصة بابراز انعكاسات الزمن على الانسان وانتظار المجهول والاحساس بالخيبة والحيرة وضياع مقومات النهضة التي تبدأ من تقدير قيمة الزمن وعلاقته بالفعل أو غيابه. أؤمن أن الادب يجب ان يبتعد عن المفاهيم التقليدية التي تسخره مصلحاً اجتماعيا او مؤدباً او مبلغ رسالة. الادب الابداعي يقدم نماذج انسانية بغض النظر عن البعد الاخلاقي من أساليب معايشة هموم الحياة ويترك لنا الفرصة لنتأملها. لك خالص تقديري ومودتي

      حذف